الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثمَّ التَّرْجِيح يكون تَارَة بِحَال الْأَسْبَاب أَيهَا أقوى، وَتارَة بِحَال الْآثَار المترتبة أَيهَا أَنْفَع، وبتقديم بَاب الْخلق على بَاب التَّدْبِير وَنَحْو ذَلِك من الْوُجُوه، فَنحْن أَن قصر علمنَا عَن إحاطة الْأَسْبَاب وَمَعْرِفَة الأحق عَن تعارضها نعلم قطعا أَنه لَا يُوجد شَيْء إِلَّا وَهُوَ أَحَق بِأَن يُوجد، وَمن أَيقَن بِمَا ذكرنَا استراح عَن اشكالات كَثِيرَة.
أما هيآت الْكَوَاكِب فَمن تأثيرها مَا يكون ضَرُورِيًّا كاختلاف الصَّيف والشتاء وَطول النَّهَار وقصره باخْتلَاف أَحْوَال الشَّمْس وكاختلاف الجزر وَالْمدّ باخْتلَاف أَحْوَال الْقَمَر، وَجَاء فِي الحَدِيث:
" إِذا طلع النَّجْم ارْتَفَعت العاهة " يَعْنِي بِحَسب جري الْعَادة لَكِن كَون الْفقر والغنى والجدب وَالْخصب وَسَائِر حوادث الْبشر بِسَبَب حركات الْكَوَاكِب فمما لم يثبت فِي الشَّرْع، قد نهى النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَن الْخَوْض فِي ذَلِك فَقَالَ:" من اقتبس شُعْبَة من النُّجُوم اقتبس شُعْبَة من السحر " وشدد فِي قَول: مُطِرْنَا بِنَوْء كَذَا وَلَا أَقُول نصت الشَّرِيعَة على أَن الله لم يَجْعَل فِي النُّجُوم خَواص تتولد مِنْهَا الْحَوَادِث بِوَاسِطَة تغير الْهَوَاء المكتنف بِالنَّاسِ وَنَحْو ذَلِك، وَأَنت خَبِير بِأَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم نهى عَن الكهانة وَهِي الْأَخْبَار عَمَّن الْجِنّ، وَبرئ من أَتَى كَاهِنًا وَصدقه، ثمَّ لما سُئِلَ عَن حَال الْكُهَّان أخبر أَن الْمَلَائِكَة تنزل فِي الْعَنَان فَتذكر الْأَمر قضي فِي السَّمَاء، فتسترق الشَّيَاطِين السّمع، فتوحيه إِلَى الْكُهَّان، فيكذبون مَعهَا مائَة كذبة وَأَن الله تَعَالَى قَالَ:
وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: " لن يدْخل أحدكُم الْجنَّة عمله " وَقَالَ: " إِنَّمَا أَنْت رَفِيق والطبيب الله " وَبِالْجُمْلَةِ فالنهي يَدُور على مصَالح كَثِيرَة وَالله أعلم.
(بَاب حَقِيقَة الرّوح)
قَالَ الله تَعَالَى:
{يَسْأَلُونَك عَن الرّوح قل الرّوح من أَمر رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم إِلَّا قَلِيلا} .
وَقَرَأَ الْأَعْمَش عَن رِوَايَة ابْن مَسْعُود (وَمَا أُوتُوا من الْعلم إِلَّا قَلِيلا) وَيعلم من هُنَالك أَن الْخطاب للْيَهُود والسائلين عَن الرّوح وَلَيْسَت الْآيَة نصافي إِنَّه لَا يعلم أحد من الْأمة المرحومة حَقِيقَة الرّوح كَمَا يظنّ، وَلَيْسَ كل ماسكت عَنهُ الشَّرْع لَا يُمكن مَعْرفَته الْبَتَّةَ، بل كثيرا مَا يسكت عَنهُ لأجل أَنه معرفَة دقيقة لَا يصلح لتعاطيها جُمْهُور الْأمة وَأَن أمكن لبَعْضهِم.
وَاعْلَم أَن الرّوح أول مَا يدْرك من حَقِيقَتهَا أَنَّهَا مبدأ الْحَيَاة فِي الْحَيَوَان وَأَنه يكون حَيا بنفخ الرّوح فِيهِ، وَيكون مَيتا بمفارقتها مِنْهُ، ثمَّ إِذا أمعن فِي التَّأَمُّل ينجلي أَن فِي الْبدن بخارا لطيفا متولدا فِي الْقلب من خُلَاصَة الأخلاط يحمل القوى الحساسة والمحركة والمدبرة للغذاء يجْرِي فِي حكم الطِّبّ، وَتكشف التجربة أَن لكل من أَحْوَال هَذَا البخار من رقته وغلظه وصفائه وكدرته أثرا خَاصّا فِي القوى والأفاعيل المنبجسة من تِلْكَ القوى وَأَن الآفة الطارئة على كل عُضْو وعَلى توليد البخار الْمُنَاسب لَهُ تفْسد هَذَا البخار، وتشوش أفاعيله ويستلزم تكونه الْحَيَاة، وتحلله الْمَوْت فَهُوَ الرّوح فِي أول النّظر، والطبقة السُّفْلى من الرّوح فِي النّظر الممعن، مثله فِي الْبدن كَمثل مَاء
الْورْد وكمثل النَّار فِي الفحم، ثمَّ إِذا أمعن فِي النّظر أَيْضا أنجلى أَن هَذَا الرّوح مَطِيَّة للروح الْحَقِيقِيَّة ومادة لتعلقها، وَذَلِكَ أَنا نرى الطِّفْل يشب، ويشيب، وتتبدل أخلاط بدنه وَالروح المتولدة من تِلْكَ الأخلاط أَكثر من ألف مرّة، ويصغر تَارَة، وَيكبر أُخْرَى، ويسود تَارَة ويبيض أُخْرَى، وَيكون جَاهِلا مرّة وعالما أُخْرَى إِلَى غير ذَلِك من الْأَوْصَاف المتبدلة والشخص هُوَ هُوَ، وَإِن نُوقِشَ فِي بعض ذَلِك فلنا أَن نفرض تِلْكَ التغيرات والطفل هُوَ هُوَ، أَو نقُول لَا نجزم بِبَقَاء تِلْكَ الْأَوْصَاف بِحَالِهَا، ونجزم بِبَقَائِهِ فَهُوَ غَيرهَا فالشيء الَّذِي هُوَ بِهِ هُوَ لَيْسَ هَذَا الرّوح، وَلَا هَذَا الْبدن، وَلَا هَذِه المشخصات الَّتِي تعرف، وَترى ببادئ الرَّأْي، بل الرّوح فِي الْحَقِيقَة حَقِيقَة فردانية ونقطة نورانية يجل طورها عَن طور هَذِه الأطوار المتغيرة المتغايرة الَّتِي بَعْضهَا جَوَاهِر وَبَعضهَا أَعْرَاض وَهِي مَعَ الصَّغِير كَمَا هِيَ مَعَ الْكَبِير وَمَعَ الْأسود كَمَا هِيَ مَعَ الْأَبْيَض إِلَى غير ذَلِك من المتقابلات، وَلها تعلق خَاص بِالروحِ الهوائي، أَولا وبالبدن ثَانِيًا من حَيْثُ إِن الْبدن مَطِيَّة النَّسمَة وَهِي كوَّة من عَالم الْقُدس ينزل مِنْهَا على النَّسمَة كل مَا استعدت لَهُ، فالأمور المتغيرة إِنَّمَا جَاءَ تغيرها من قبل