الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَإِن وجد الْجَواب فِيهَا، وَإِلَّا نظر إِلَى عُمُوم كَلَامهم، فأجراه على هَذِه الصُّورَة، أَو إِشَارَة ضمنية لكَلَام، فاستنبط مِنْهَا
…
، وَرُبمَا كَانَ لبَعض الْكَلَام إِيمَاء أَو اقْتِضَاء يفهم الْمَقْصُود، وَرُبمَا كَانَ للمسألة الْمُصَرّح بهَا نَظِير يحمل عَلَيْهَا، وَرُبمَا نظرُوا فِي عِلّة الحكم الْمُصَرّح بِهِ بالتخريج أَو باليسر الْحَذف، فأداروا حكمه على غير الْمُصَرّح بِهِ، وَرُبمَا كَانَ لَهُ كلامان لَو اجْتمعَا على هَيْئَة الْقيَاس الاقتراني أَو الشرطي أنتجيا جَوَاب الْمَسْأَلَة، وَرُبمَا كَانَ فِي كَلَامهم مَا هُوَ مَعْلُوم بالمثال وَالْقِسْمَة غير مَعْلُومَة بِالْحَدِّ الْجَامِع الْمَانِع، فيرجعون إِلَى أهل اللِّسَان، ويتكلفون، فِي تَحْصِيل ذاتياته، وترتيب حد جَامع مَانع لَهُ، وَضبط مبهمه وتمييز مشكلة، وَرُبمَا كَانَ كَلَامهم مُحْتملا بِوَجْهَيْنِ فَيَنْظُرُونَ فِي تَرْجِيح أحد المحتملين، وَرُبمَا يكون تقريب الدَّلَائِل خفِيا، فيبينون ذَلِك، وَرُبمَا اسْتدلَّ بعض المخرجين من فعل أئمتهم وسكوتهم وَنَحْو ذَلِك، فَهَذَا هُوَ التَّخْرِيج
وَيُقَال لَهُ القَوْل الْمخْرج لفُلَان كَذَا، وَيُقَال على مَذْهَب فلَان، أَو على أصل فلَان، أَو على قَول فلَان جَوَاب الْمَسْأَلَة كَذَا وَكَذَا، وَيُقَال لهَؤُلَاء: المجتهدون فِي الْمَذْهَب، وعنى هَذَا الاحتهاد على هَذَا الأَصْل من قَالَ من حفظ الْمَبْسُوط كَانَ مُجْتَهدا، أَي وَإِن لم يكن لَهُ علم بِرِوَايَة أصلا، وَلَا بِحَدِيث وَاحِد فَوَقع التَّخْرِيج فِي كل مَذْهَب، وَكثر، فَأَي مَذْهَب كَانَ أَصْحَابه مشهورين وسد إِلَيْهِم الْقَضَاء والافتاء، واشتهر تصانيفهم فِي النَّاس، ودرسوا درسا ظَاهرا انْتَشَر فِي أقطار الأَرْض، وَلم يزل ينتشر كل حِين، واي مَذْهَب كَانَ أَصْحَابه خاملين، وَلم يولوا الْقَضَاء والافتاء وَلم يرغب فيهم النَّاس اندرس بعد حِين.
(بَاب حِكَايَة حَال النَّاس قبل الْمِائَة الرَّابِعَة وَبعدهَا)
اعْلَم أَن النَّاس كَانُوا قبل الْمِائَة الرَّابِعَة غير مُجْمِعِينَ على التَّقْلِيد الْخَالِص لمَذْهَب وَاحِد بِعَيْنِه، قَالَ أَبُو طَالب الْمَكِّيّ فِي قوت الْقُلُوب: إِن الْكتب والمجموعات محدثة، وَالْقَوْل بمقالات النَّاس، والفتيا بِمذهب الْوَاحِد من النَّاس، واتخاذ قَوْله، والحكاية لَهُ من كل شَيْء، والتفقه على مذْهبه - لم يكن النَّاس قَدِيما على ذَلِك فِي القرنين الأول وَالثَّانِي انْتهى.
أَقُول وَبعد القرنين حدث فيهم شَيْء من التَّخْرِيج غير أَن أهل الْمِائَة الرَّابِعَة لم يَكُونُوا مُجْتَمعين على التَّقْلِيد الْخَالِص على مَذْهَب وَاحِد والتفقه لَهُ والحكاية لقَوْله كَمَا يظْهر من التتبع، بل كَانَ فيهم الْعلمَاء والعامة، وَكَانَ من خير الْعَامَّة أَنهم كَانُوا فِي الْمسَائِل الاجماعية الَّتِي لَا اخْتِلَاف فِيهَا بَين الْمُسلمين أَو جُمْهُور الْمُجْتَهدين لَا يقلدون إِلَّا صَاحب الشَّرْع، وَكَانُوا يتعلمون صفة الْوضُوء وَالْغسْل وَالصَّلَاة وَالزَّكَاة وَنَحْو ذَلِك من آبَائِهِم أَو معلمي بلدانهم، فيمشون حسب ذَلِك، وَإِذا وَقعت لَهُم وَاقعَة استفتوا فِيهَا أَي مفت وجدوا من
غير تعْيين مَذْهَب، وَكَانَ من خبر الْخَاصَّة أَنه كَانَ من أهل الحَدِيث مِنْهُم يشتغلون بِالْحَدِيثِ، فيخلص إِلَيْهِم من أَحَادِيث النَّبِي صلى الله عليه وسلم وآثار الصَّحَابَة مَا لَا يَحْتَاجُونَ مَعَه شَيْء آخر فِي الْمَسْأَلَة من حَدِيث مستفيض أَو صَحِيح
قد عمل بِهِ بعض الْفُقَهَاء، وَلَا عذر لتارك الْعَمَل بِهِ، أَو أَقْوَال متظاهرة لجمهور الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ مِمَّا لَا يحسن مخالفتها فان لم يجد فِي الْمَسْأَلَة مَا يطمئن بِهِ قلبه لتعارض النَّقْل وَعدم وضوح التَّرْجِيح وَنَحْو ذَلِك - رَجَعَ إِلَى كَلَام بعض من مضى من الْفُقَهَاء، فَإِن وجد قَوْلَيْنِ اخْتَار أوثقهما سَوَاء كَانَ من أهل الْمَدِينَة أَو من أهل الْكُوفَة، وَكَانَ أهل التَّخْرِيج مِنْهُم يخرجُون فِيمَا لَا يجدونه مُصَرحًا، ويجتهدون فِي الْمَذْهَب، وَكَانَ هَؤُلَاءِ ينسبون إِلَى مَذْهَب أحدهم فَيُقَال: فلَان شَافِعِيّ، وَفُلَان حَنَفِيّ، وَكَانَ صَاحب الحَدِيث أَيْضا قد ينْسب إِلَى أحد الْمذَاهب لِكَثْرَة مُوَافَقَته لَهُ، كَالنَّسَائِيِّ وَالْبَيْهَقِيّ ينسبان إِلَى الشَّافِعِي، فَكَانَ لَا يتَوَلَّى الْقَضَاء وَلَا الْإِفْتَاء إِلَّا مُجْتَهدا، وَلَا يُسمى الْفَقِيه إِلَّا مُجْتَهدا.
ثمَّ بعد هَذِه الْقُرُون كَانَ نَاس آخَرُونَ ذَهَبُوا يَمِينا وَشمَالًا، وَحدث فيهم أُمُور مِنْهَا الجدل وَالْخلاف فِي علم الْفِقْه، وتفصيله - على مَا ذكره الْغَزالِيّ - أَنه لما انقرض عهد الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين أفضت الْخلَافَة إِلَى قوم تولوها بِغَيْر اسْتِحْقَاق وَلَا اسْتِقْلَال بِعلم الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَام، فاضطروا إِلَى الِاسْتِعَانَة بالفقهاء وَإِلَى استصحابهم فِي جَمِيع أَحْوَالهم، وَقد كَانَ بَقِي من الْعلمَاء من هُوَ مُسْتَمر على الطّراز الأول وملازم صفو الدّين، فَكَانُوا إِذا طلبُوا هربوا، وأعرضوا فَرَأى أهل تِلْكَ الْأَعْصَار عز الْعلمَاء وإقبال الْأَئِمَّة عَلَيْهِم مَعَ إعراضهم، فاشر أَبُو بِطَلَب الْعلم توصلا إِلَى نيل الْعِزّ ودرك الجاه، فَأصْبح الْفُقَهَاء بعد أَن كَانُوا مطلوبين طَالِبين، وَبعد أَن كَانُوا أعزة الْأَعْرَاض عَن السلاطين أَذِلَّة بالاقبال عَلَيْهِم، إِلَّا من وَفقه الله.
وَقد كَانَ من قبلهم قد صنف نَاس فِي علم الْكَلَام وَأَكْثرُوا القال والقيل والإيراد وَالْجَوَاب وتمهيد طَرِيق الجدل، فَوَقع ذَلِك مِنْهُم بموقع من قبل أَن كَانَ من الصُّدُور والملوك من مَالَتْ نَفسه إِلَى المناظرة فِي الْفِقْه وَبَيَان
الأولى من مَذْهَب الشَّافِعِي وَأبي حنيفَة رحمه الله، فَترك النَّاس الْكَلَام وفنون الْعلم، وَأَقْبلُوا على الْمسَائِل الخلافية بَين الشَّافِعِي وَأبي حنيفَة رحمه الله على الْخُصُوص، وتساهلوا فِي الْخلاف مَعَ مَالك وسُفْيَان وَأحمد بن حَنْبَل وَغَيرهم، وَزَعَمُوا أَن غرضهم استنباط دقائق الشَّرْع وَتَقْدِير علل الْمَذْهَب وتمهيد أصُول الْفَتَاوَى، وَأَكْثرُوا فِيهَا التصانيف والاستنباطات، ورتبوا فِيهَا أَنْوَاع المجادلات والتصنيفات وهم مستمرون عَلَيْهِ إِلَى الْآن لسنا نَدْرِي مَا الَّذِي قدر الله تَعَالَى فِيمَا بعْدهَا من الْأَعْصَار انْتهى حَاصله.
وَمِنْهَا أَنهم اطمأنوا بالتقليد، ودب التَّقْلِيد فِي صُدُورهمْ دَبِيب النَّمْل وهم لَا يَشْعُرُونَ، وَكَانَ سَبَب ذَلِك تزاحم الْفُقَهَاء وتجادلهم فِيمَا بَينهم فانهم لما وَقعت فيهم الْمُزَاحمَة فِي الْفَتْوَى كَانَ كل من أفتى بِشَيْء نوقض فِي فتواه، ورد عَلَيْهِ، فَلم يَنْقَطِع الْكَلَام إِلَّا بميسر إِلَى تَصْرِيح رجل من الْمُتَقَدِّمين فِي الْمَسْأَلَة.
وَأَيْضًا جور الْقُضَاة فان الْقُضَاة لما جَار أَكْثَرهم، وَلم يَكُونُوا أُمَنَاء لم يقبل مِنْهُم إِلَّا مَا يريب الْعَامَّة فِيهِ، وَيكون شَيْئا قد قيل من قبل.
وَأَيْضًا جهل رُءُوس النَّاس واستفتاء النَّاس من لَا علم لَهُ بِالْحَدِيثِ، وَلَا بطرِيق التَّخْرِيج كَمَا ترى ذَلِك ظَاهرا فِي أَكثر الْمُتَأَخِّرين، وَقد نبه عَلَيْهِ ابْن الْهمام وَغَيره، وَفِي ذَلِك الْوَقْت يُسمى غير الْمُجْتَهد فَقِيها.
وَمِنْهَا أَن أقبل أَكْثَرهم على التعمقات فِي كل فن، فَمنهمْ من زعم أَنه يؤسس علم أَسمَاء الرِّجَال وَمَعْرِفَة مَرَاتِب الْجرْح وَالتَّعْدِيل، ثمَّ خرج من ذَلِك إِلَى التَّارِيخ قديمه وَحَدِيثه. .، وَمِنْهُم من تفحص عَن نَوَادِر الْأَخْبَار وغرائبها وَإِن دخلت فِي حد الْمَوْضُوع
…
، وَمِنْهُم من كثر القيل والقال فِي أصُول الْفِقْه، واستنبط كل لأصحابة قَوَاعِد جدلية، فأورد، فاستقصى، وَأجَاب، وتفصى، وَعرف، وَقسم، فحور طول الْكَلَام تَارَة وَتارَة أُخْرَى اختصر.،
وَمِنْهُم من ذهب إِلَى هَذَا بِفَرْض الصُّور المستبعدة الَّتِي من حَقّهَا أَلا يتَعَرَّض لَهَا عَاقل وبفحص العمومات والايماآت من كَلَام المخرجين فَمن دونهم مِمَّا لَا يرتضى استماعه عَالم وَلَا جَاهِل.
وفتنة هَذَا الجدل وَالْخلاف والتعمق قريبَة من الْفِتْنَة الأولى حِين تشاجروا فِي الْملك، وانتصر كل رجل لصَاحبه، فَكَمَا أعقبت تِلْكَ ملكا عَضُوضًا ووقائع صماء عمياء، فَكَذَلِك أعقبت هَذِه جهلا واختلاطا وشكوكا ووهما مَا لَهَا من أرجاء، فَنَشَأَتْ بعدهمْ قُرُون على التَّقْلِيد الصّرْف لَا يميزون الْحق من الْبَاطِل وَلَا الجدل عَن الاستنباط. .، فالفقيه يَوْمئِذٍ هُوَ الثرثار المتشدق الَّذِي حفظ أَقْوَال الْفُقَهَاء قويها وضعيفها من غير تَمْيِيز وسردها بشقشقة شدقية
…
، والمحدث من عد الْأَحَادِيث صحيحها وسقيمها وهذها كهذ الأسمار