الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(بَاب الْفرق بَين أهل الحَدِيث وَأَصْحَاب الرَّأْي)
اعْلَم أَنه كَانَ من الْعلمَاء فِي عصر سعيد بن الْمسيب وَإِبْرَاهِيم وَالزهْرِيّ، وَفِي عصر مَالك وسُفْيَان، وَبعد ذَلِك - قوم يكْرهُونَ الْخَوْض بِالرَّأْيِ، ويهابون الْفتيا والاستنباط إِلَّا لضَرُورَة لَا يَجدونَ مِنْهَا بدا، وَكَانَ أكبر هَمهمْ رِوَايَة حَدِيث رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، سُئِلَ عبد الله بن مَسْعُود عَن شَيْء، فَقَالَ: إِنِّي لأكْره أَن أحل لَك شَيْئا حرمه الله عَلَيْك، أَو أحرم مَا أحله الله لَك. وَقَالَ معَاذ بن جبل: يَا أَيهَا النَّاس، لَا تعجلوا بالبلاء قبل
نُزُوله، فَإِنَّهُ لم يَنْفَكّ الْمُسلمُونَ أَن يكون فيهم من إِذا سُئِلَ سرد، وَرُوِيَ نَحْو ذَلِك عَن عمر وَعلي وَابْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود فِي كَرَاهَة التَّكَلُّم فِيمَا لم ينزل. وَقَالَ ابْن عمر لجَابِر بن زيد: إِنَّك من فُقَهَاء الْبَصْرَة، فَلَا تفت إِلَّا بقرآن نَاطِق أَو سنة مَاضِيَة، فَإنَّك إِن فعلت غير ذَلِك هَلَكت، وأهلكت وَقَالَ أَبُو النَّصْر - لما قدم أَبُو سَلمَة الْبَصْرَة - أَتَيْته أَنا وَالْحسن فَقَالَ لِلْحسنِ: أَنْت الْحسن؟ مَا كَانَ أحد بِالْبَصْرَةِ أحب إِلَى لِقَاء مِنْك، وَذَلِكَ أَنه بَلغنِي أَنَّك تُفْتِي بِرَأْيِك، فَلَا تفت بِرَأْيِك إِلَّا أَن يكون سنة عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَو كتاب منزل. وَقَالَ ابْن الْمُنْكَدر: إِن الْعَالم يدْخل فِيمَا بَين الله وَبَين عباده، فليطلب لنَفسِهِ الْمخْرج. وَسُئِلَ الشّعبِيّ. كَيفَ كُنْتُم تَصْنَعُونَ إِذا سئلتم؟ قَالَ: على الْخَبِير وَقعت كَانَ إِذا سُئِلَ الرجل قَالَ لصَاحبه: أفتهم، فَلَا يزَال حَتَّى يرجع إِلَى الأول، وَقَالَ الشّعبِيّ: مَا حدثوك هَؤُلَاءِ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَخذ بِهِ، وَمَا قَالُوهُ برأيهم، فألقه فِي الحش أخرج هَذِه الْآثَار عَن آخرهَا الدَّارمِيّ، فَوَقع شيوع تدوين الحَدِيث والأثر فِي بلدان الْإِسْلَام، وَكِتَابَة الصُّحُف والنسخ حَتَّى قل من يكون أهل الرِّوَايَة إِلَّا كَانَ لَهُ تدوين أَو صحيفَة أَو نُسْخَة من حَاجتهم لموقع عَظِيم، فَطَافَ من أدْرك من عظمائهم ذَلِك الزَّمَان بِلَاد الْحجاز وَالشَّام وَالْعراق، ومصر واليمن وخراسان، وجمعوا الْكتب، وتتبعوا النّسخ، وأمعنوا فِي التفحص عَن غَرِيب الحَدِيث ونوادر الْأَثر، فَاجْتمع باهتمام أُولَئِكَ من الحَدِيث والْآثَار مَا لم يجْتَمع لأحد قبلهم، وتيسر لَهُم مَا لم يَتَيَسَّر لأحد قبلهم، وخلص إِلَيْهِم من طرق الْأَحَادِيث شَيْء كثير حَتَّى كَانَ يكثر من الْأَحَادِيث عِنْدهم مائَة طَرِيق فَمَا فَوْقهَا، فكشف بعض الطّرق مَا استتر فِي بَعْضهَا الآخر، وَعرفُوا مَحل كل حَدِيث من الغرابة والاستفاضة، وَأمكن لَهُم النّظر فِي المتابعات والشواهد، وَظهر عَلَيْهِم أَحَادِيث صَحِيحَة
كَثِيرَة لم تظهر على أهل الْفَتْوَى من قبل. قَالَ الشَّافِعِي لِأَحْمَد: أَنْتُم أعلم بالأخبار الصَّحِيحَة منا، فَإِذا كَانَ خبر صَحِيح، فأعلموني حَتَّى أذهب إِلَيْهِ كوفيا كَانَ أَو بصريا أَو شاميا، حَكَاهُ ابْن الْهمام، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كم من حَدِيث صَحِيح لَا يرويهِ إِلَّا أهل بلد خَاصَّة كأفراد الشاميين والعراقيين أَو أهل بَيت خَاصَّة كنسخة بريد عَن أبي بردة عَن أبي مُوسَى، ونسخة عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه
عَن جده، أَو كَانَ الصَّحَابِيّ مقلا خاملا لم يحمل عَنهُ إِلَّا شرذمة قَلِيلُونَ، فَمثل هَذِه الْأَحَادِيث يغْفل عَنْهَا عَامَّة أهل الْفَتْوَى، وَاجْتمعت عِنْدهم آثَار فُقَهَاء كل بلد من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَكَانَ الرجل فِيمَا قبلهم لَا يتَمَكَّن إِلَّا من جمع حَدِيث بَلَده وَأَصْحَابه، وَكَانَ من قبلهم يعتمدون فِي معرفَة أَسمَاء الرِّجَال ومراتب عدالتهم مَا يخلص إِلَيْهِم من مُشَاهدَة الْحَال وتتبع الْقَرَائِن، وأمعن هَذِه الطَّبَقَة فِي هَذَا الْفَنّ وجعلوه شَيْئا مُسْتقِلّا بالتدوين والبحث، وناظروا فِي الحكم بِالصِّحَّةِ وَغَيرهَا، فانكشف عَلَيْهِم بِهَذَا التدوين والمناظرة مَا كَانَ خافيا من حَال الِاتِّصَال والانقطاع، وَكَانَ سُفْيَان ووكيع وأمثالهما يجتهدون غَايَة الِاجْتِهَاد، فَلَا يتمكنون من الحَدِيث الْمَرْفُوع الْمُتَّصِل إِلَّا من دون ألف حَدِيث كَمَا ذكره أَبُو دَاوُد السجسْتانِي فِي رسَالَته إِلَى أهل مَكَّة.
وَكَانَ أهل هَذِه الطَّبَقَة يروون أَرْبَعِينَ ألف حَدِيث، فَمَا يقرب مِنْهَا بل صَحَّ عَن البُخَارِيّ أَنه اختصر صَحِيحه من سِتَّة آلَاف حَدِيث، وَعَن أبي دَاوُد أَنه اختصر سنَنه من خَمْسَة آلَاف حَدِيث، وَجعل أَحْمد مُسْنده ميزانا يعرف بِهِ حَدِيث رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَمَا وجد فِيهِ وَلَو بطرِيق وَاحِد مِنْهُ فَلهُ أصل وَإِلَّا فَلَا أصل لَهُ، فَكَانَ رُءُوس هَؤُلَاءِ عبد الرَّحْمَن بن مهْدي. وَيحيى بن سعيد الْقطَّان وَيزِيد بن هَارُون وَعبد الرَّزَّاق وَأَبُو بكر بن أبي شيبَة ومسدد وهناد وَأحمد ين حَنْبَل وَإِسْحَق بن رَاهْوَيْةِ وَالْفضل بن دُكَيْن وَعلي الْمَدِينِيّ وأقرانهم.
وَهَذِه الطَّبَقَة هِيَ الطّراز الأول من طَبَقَات الْمُحدثين، فَرجع الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُم بعد إحكام فن الرِّوَايَة وَمَعْرِفَة مَرَاتِب الْأَحَادِيث إِلَى الْفِقْه، فَلم يكن عِنْدهم من الرَّأْي أَن يجمع على تَقْلِيد رجل مِمَّن مضى مَعَ مَا يرَوْنَ من الْأَحَادِيث والْآثَار المناقضة فِي كل مَذْهَب من تِلْكَ الْمذَاهب، فَأخذُوا يتتبعون أَحَادِيث النَّبِي صلى الله عليه وسلم وآثار الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ والمجتهدين على قَوَاعِد أحكموها فِي نُفُوسهم - وَأَنا أبينها لَك فِي كَلِمَات يسيرَة -.
كَانَ عِنْدهم أَنه إِذا وجد فِي الْمَسْأَلَة قُرْآن نَاطِق، فَلَا يجوز التَّحَوُّل مِنْهُ إِلَى غَيره، وَإِذا كَانَ الْقُرْآن مُحْتملا لوجوه فَالسنة قاضية عَلَيْهِ، فَإِذا لم يَجدوا فِي كتاب الله أخذُوا سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم سَوَاء كَانَ مستفيضا دائرا بَين الْفُقَهَاء، أَو يكون مُخْتَصًّا بِأَهْل بلد أَو أهل بَيت أَو بطرِيق خَاصَّة، وَسَوَاء عمل بِهِ الصَّحَابَة وَالْفُقَهَاء، أَو لم يعملوا بِهِ، وَمَتى كَانَ فِي الْمَسْأَلَة حَدِيث فَلَا يتبع فِيهِ خلاف أثر من الْآثَار، وَلَا اجْتِهَاد أحد من الْمُجْتَهدين، وَإِذا فرغوا جهدهمْ فِي تتبع الْأَحَادِيث، وَلم يَجدوا فِي الْمَسْأَلَة حَدِيثا - أخذُوا بأقوال جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَلَا يتقيدون بِقوم دون قوم، وَلَا بلد دون بلد، كَمَا كَانَ يفعل من قبلهم، فَإِن اتّفق جُمْهُور الْخُلَفَاء وَالْفُقَهَاء على شَيْء فَهُوَ الْمقنع، وَإِن اخْتلفُوا أخذُوا بِحَدِيث أعلمهم علما وأورعهم ورعا أَو أَكْثَرهم ضبطا أَو مَا اشْتهر عَنْهُم، فَإِن وجدوا شَيْئا يَسْتَوِي
فِيهِ قَولَانِ فَهِيَ مَسْأَلَة ذَات قَوْلَيْنِ، فَإِن عجزوا عَن ذَلِك أَيْضا تأملوا فِي عمومات الْكتاب وَالسّنة وإيما آتهما واقتضا آتهما، وحملوا نَظِير الْمَسْأَلَة عَلَيْهَا فِي الْجَواب إِذا كَانَتَا متقاربتين بادى الرَّأْي لَا يعتمدون فِي ذَلِك على قَوَاعِد من الْأُصُول، وَلَكِن على مَا يخلص إِلَى الْفَهم، ويثلج بِهِ الصَّدْر، كَمَا أَنه لَيْسَ ميزَان التَّوَاتُر عدد الروَاة، وَلَا حَالهم، وَلَكِن الْيَقِين الَّذِي يعقبه فِي قُلُوب النَّاس - كَمَا نبهنا على ذَلِك فِي بَيَان حَال الصَّحَابَة، وَكَانَت هَذِه الْأُصُول مستخرجة عَن صَنِيع الْأَوَائِل وتصريحاتهم، وَعَن مَيْمُون بن مهْرَان قَالَ كَانَ أَبُو بكر
إِذا ورد عَلَيْهِ الْخصم نظر فِي كتاب الله، فَإِن وجد فِيهِ مَا يقْضِي بَينهم قضى بِهِ، وَإِن لم يكن فِي الْكتاب وَعلم من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِك الْأَمر سنة قضى بهَا، فَإِن أعياه خرج، فَسَأَلَ الْمُسلمين وَقَالَ: أَتَانِي كَذَا وَكَذَا، فَهَل علمْتُم أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قضى فِي ذَلِك بِقَضَاء؟ فَرُبمَا اجْتمع إِلَيْهِ النَّفر كلهم يذكر من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِيهِ قَضَاء فَيَقُول أَبُو بكر الْحَمد لله الَّذِي جعل فِينَا من يحفظ على نَبينَا. فَإِن أعياه أَن يجد فِيهِ سنة من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم جمع رُءُوس النَّاس وخيارهم، فاستشارهم فَإِذا اجْتمع رَأْيهمْ على أَمر قضى بِهِ.
وَعَن شُرَيْح أَن عمر بن الْخطاب كتب إِلَيْهِ إِن جَاءَك شَيْء فِي كتاب الله فَاقْض بِهِ، وَلَا يلفتك عَنهُ الرِّجَال، فَإِن جَاءَك مَا لَيْسَ فِي كتاب الله، فَانْظُر سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَاقْض بهَا، فَإِن جَاءَك مَا لَيْسَ فِي كتاب الله، وَلم يكن فِي سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَانْظُر مَا اجْتمع عَلَيْهِ النَّاس، فَخذ بِهِ، فَإِن جَاءَك مَا لَيْسَ فِي كتاب الله، وَلم يكن فِي سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وَلم يتَكَلَّم فِيهِ أحد قبلك، فاختر أَي الْأَمريْنِ شِئْت إِن شِئْت أَن تجتهد بِرَأْيِك، ثمَّ تقدم، فَتقدم، وَإِن شِئْت أَن تتأخر، فَتَأَخر وَلَا أرى التَّأَخُّر إِلَّا خيرا لَك، وَعَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ: أَتَى علينا زمَان لسنا نقضي ولسنا هُنَالك، وَإِن الله قد قدر من الْأَمر أَن قد بلغنَا مَا ترَوْنَ، فَمن عرض لَهُ قَضَاء بعد الْيَوْم فليقض فِيهِ بِمَا فِي كتاب الله عز وجل، فَإِن جَاءَهُ مَا لَيْسَ فِي كتاب الله فليقضى بِمَا قضى بِهِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَإِن جَاءَك مَا لَيْسَ فِي كتاب الله، وَلم يقْض بِهِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فليقض بِمَا قضى بِهِ الصالحون وَلَا يقل إِنِّي أَخَاف وَأَنِّي أرى " فَإِن الْحَرَام بَين، والحلال بَين، وَبَين ذَلِك أُمُور مشتبهة، فدع مَا يريبك إِلَى مَا لَا يريبك " وَكَانَ ابْن عَبَّاس إِذا سُئِلَ عَن الْأَمر فَإِن كَانَ فِي الْقُرْآن أخبر بِهِ، وَإِن لم يكن فِي الْقُرْآن وَكَانَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بِهِ
وَإِن لم يكن فَعَن أبي بكر وَعمر، فَإِن لم يكن قَالَ فِيهِ بِرَأْيهِ. عَن ابْن عَبَّاس أما تخافون أَن تعذبوا، أَو يخسف بكم أَن تَقولُوا قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَقَالَ فلَان عَن قَتَادَة، قَالَ: حدث ابْن سِرين رجلا بِحَدِيث عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ الرجل: قَالَ فلَان: كَذَا وَكَذَا فَقَالَ ابْن سِرين أحَدثك عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَتقول قَالَ فلَان كَذَا وَكَذَا. عَن الْأَوْزَاعِيّ قَالَ: كتب عمر ابْن عبد الْعَزِيز أَنه لَا رأى لأحد فِي كتاب الله وَإِنَّمَا رأى الْأَئِمَّة فِيمَا لم ينزل فِيهِ كتاب، وَلم
تمض فِيهِ سنة من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وَلَا رأى لأحد فِي سنة سنّهَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. عَن الْأَعْمَش قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيم يَقُول: يقوم عَن يسَاره، فَحَدَّثته عَن سميع الزيات عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَقَامَهُ عَن يَمِينه فَأخذ بِهِ عَن الشّعبِيّ، جَاءَهُ رجل يسْأَله عَن شَيْء فَقَالَ: كَانَ ابْن مَسْعُود يَقُول فِيهِ كَذَا وَكَذَا قَالَ: أَخْبرنِي أَنْت بِرَأْيِك، فَقَالَ أَلا تعْجبُونَ من هَذَا أخْبرته عَن ابْن مَسْعُود، ويسألني عَن رَأْيِي، وديني عِنْدِي أثر من ذَلِك، وَالله لِأَن أتغنى بأغنية أحب إِلَيّ من أَن أخْبرك برأيي، أخرج هَذِه الْآثَار كلهَا الدَّارمِيّ.
وَأخرج التِّرْمِذِيّ عَن أبي السَّائِب قَالَ: كُنَّا عِنْد وَكِيع، فَقَالَ لرجل مِمَّن ينظر فِي الرَّأْي: أشعر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وَيَقُول أَبُو حنيفَة: هُوَ مثله؟ قَالَ الرجل، فَإِنَّهُ قد رُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَنه قَالَ: الْإِشْعَار مثله قَالَ: رَأَيْت وكيعا غضب غَضبا شَدِيدا وَقَالَ: أَقُول لَك: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وَتقول: قَالَ إِبْرَاهِيم، مَا أحقك بِأَن تحبس، ثمَّ لَا تخرج حَتَّى تنْزع عَن قَوْلك هَذَا، وَعَن عبد الله بن عَبَّاس وَعَطَاء وَمُجاهد وَمَالك بن أنس رضي الله عنهم أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: مَا من أحد إِلَّا وَهُوَ مَأْخُوذ من كَلَامه ومردود عَلَيْهِ إِلَّا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم.
وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمَّا مهدوا الْفِقْه على هَذِه الْقَوَاعِد، فَلم تكن مَسْأَلَة من الْمسَائِل الَّتِي تكلم فِيهَا من قبلهم وَالَّتِي وَقعت فِي زمانهم إِلَّا وجدوا فِيهَا حَدِيثا مَرْفُوعا مُتَّصِلا أَو مُرْسلا أَو مَوْقُوفا صَحِيحا أَو حسنا أَو صَالحا للاعتبار، أَو وجدوا أثرا من آثَار الشَّيْخَيْنِ أَو سَائِر الْخُلَفَاء وقضاة الْأَمْصَار وفقهاء الْبلدَانِ، أَو استنباطا من عُمُوم أَو إِمَاء أَو اقْتِضَاء، فيسر الله لَهُم الْعَمَل بِالسنةِ على هَذَا الْوَجْه، وَكَانَ أعظمهم شَأْنًا وأوسعهم رِوَايَة وأعرفهم للْحَدِيث مرتبَة واعمقهم فقها أَحْمد بن مُحَمَّد حَنْبَل، ثمَّ إِسْحَاق بن رهوية، وَكَانَ تَرْتِيب الْفِقْه على هَذَا الْوَجْه يتَوَقَّف على جمع شَيْء كثير من الْأَحَادِيث والْآثَار حَتَّى سُئِلَ أَحْمد يَكْفِي الرجل مائَة ألف حَدِيث حَتَّى يفنى؟ قَالَ: لَا حَتَّى قيل خَمْسمِائَة ألف حَدِيث قَالَ: أَرْجُو كَذَا فِي غَايَة الْمُنْتَهى وَمرَاده الافتاء على هَذَا الأَصْل.
ثمَّ أنشأ الله تَعَالَى قرنا آخر، فراوا أَصْحَابهم قد كفوا مُؤنَة جمع الْأَحَادِيث وتمهيد الْفِقْه على أصلهم، فتفرغوا للفنون أُخْرَى كتمييز الحَدِيث الصَّحِيح وَالْمجْمَع عَلَيْهِ بَين كبراء أهل الحَدِيث كزيد بن هرون وَيحيى بن سعيد الْقطَّان وَأحمد وَإِسْحَق وأضرابهم،
وكجمع أَحَادِيث الْفِقْه الَّتِي بنى عَلَيْهَا فُقَهَاء الْأَمْصَار وعلماء الْبلدَانِ مذاهبهم، وكالحكم على كل حَدِيث بِمَا يسْتَحقّهُ، وكالشاذة والفاذة من الْأَحَادِيث الَّتِي لم يروها، أَو طرقها الَّتِي لم يخرجُوا من جِهَتهَا الْأَوَائِل مِمَّا فِيهِ اتِّصَال أَو علوا سَنَد أَو رِوَايَة فَقِيه عَن فَقِيه أَو حَافظ عَن حَافظ، وَنَحْو ذَلِك من المطالب العلمية، وَهَؤُلَاء هم البُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد وَعبد بن حميد والدارمي وَابْن مَاجَه وَأَبُو يعلى وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ والخطيب والديلمي وَابْن عبد الْبر وأمثالهم، وَكَانَ أوسعهم علما عِنْدِي وأنفعهم تصنيفا وأشهرهم ذكرا رجال أَرْبَعَة متقاربون فِي الْعَصْر.
أَوَّلهمْ أَبُو عبد الله البُخَارِيّ وَكَانَ غَرَضه تَجْرِيد الْأَحَادِيث الصِّحَاح المستفيضة الْمُتَّصِلَة من غَيرهَا، واستنباط الْفِقْه والسيرة وَالتَّفْسِير مِنْهَا، فصنف جَامعه الصَّحِيح، ووفى بِمَا شَرط، وبلغنا أَن رجل من الصَّالِحين رأى رَسُول صلى الله عليه وسلم فِي مَنَامه وَهُوَ يَقُول: مَالك اشتغلت بِفقه مُحَمَّد بن إِدْرِيس وَتركت كتابي، قَالَ: يَا رَسُول الله وَمَا كتابك؟ قَالَ: صَحِيح البُخَارِيّ ولعمري أَنه نَالَ من الشُّهْرَة وَالْقَبُول دَرَجَة لَا يرام فَوْقهَا.
وثانيهم مُسلم النَّيْسَابُورِي، توخى تَجْرِيد الصِّحَاح الْمجمع عَلَيْهَا بَين الْمُحدثين الْمُتَّصِلَة المرفوعة مِمَّا يستنبط مِنْهُ السّنة، وَأَرَادَ تقريبها إِلَى الأذهان وتسهيل الاستنباط مِنْهَا، فرتب ترتيبا جيدا، وَجمع طرق كل حَدِيث فِي مَوضِع وَاحِد، ليتضح اخْتِلَاف الْمُتُون، وتشعب الاسانيد أصرح مَا يكون وَجمع بَين المختلفات فَلم يدع لمن لَهُ معرفَة لِسَان الْعَرَب عذرا فِي الْأَعْرَاض عَن السّنة إِلَى غَيرهَا.
وثالثهم أَبُو دَاوُد السجسْتانِي، وَكَانَ همته جمع الْأَحَادِيث الَّتِي اسْتدلَّ بهَا الْفُقَهَاء، ودارت فيهم، وَبنى عَلَيْهَا الْأَحْكَام عُلَمَاء الْأَمْصَار، فصنف سنَنه، وَجمع فِيهَا الصِّحَاح وَالْحسن واللين والصالح للْعَمَل، قَالَ أَبُو دَاوُد: مَا ذكرت فِي كتابي حَدِيثا أجمع النَّاس على تَركه، وَمَا كَانَ مِنْهَا ضَعِيفا صرح بضعفه، وَمَا كَانَ فِيهِ عِلّة بَينهَا بِوَجْه يعرفهُ الخائض فِي هَذَا الشَّأْن، وَترْجم على كل حدث بِمَا قد استنبط مِنْهُ عَالم، وَذهب إِلَيْهِ ذَاهِب، وَلذَلِك صرح الْغَزالِيّ وَغَيره بِأَن كِتَابه كَاف للمجتهد.
ورابعهم أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ، وَكَأَنَّهُ اسْتحْسنَ طَريقَة الشَّيْخَيْنِ حَيْثُ بَينا وَمَا أبهما، وَطَرِيقَة أبي دَاوُد حَيْثُ جمع كل مَا ذهب إِلَيْهِ ذَاهِب، مجمع كلتا الطريقتين وَزَاد عَلَيْهَا بَيَان مَذَاهِب الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وفقهاء الْأَمْصَار
فَجمع كتابا جَامعا وَاخْتصرَ طرق الحَدِيث
اختصارا لطيفا، فَذكر وَاحِد، وَأَوْمَأَ إِلَى مَا عداهُ، وَبَين أَمر كل حَدِيث من أَنه صَحِيح أَو حسن أَو ضَعِيف، أَو مُنكر، وَبَين وَجه الضعْف، ليَكُون الطَّالِب على بَصِير من أمره، فَيعرف مَا يصلح للاعتبار عَمَّا دونه، وَذكر أَنه مستفيض أَو غَرِيب، وَذكر مَذَاهِب الصَّحَابَة وفقهاء الْأَمْصَار، وسمى من يحْتَاج إِلَى التَّسْمِيَة وكنى من يحْتَاج إِلَى الكنية، وَلم يدع خَفَاء لمن هُوَ من رجال الْعلم، وَلذَلِك يُقَال: إِنَّه كَاف للمجتهد مغن للمقلد.
وَكَانَ بِإِزَاءِ هَؤُلَاءِ فِي عصر مَالك وسُفْيَان، وبعدهم قوم لَا يكْرهُونَ الْمسَائِل، وَلَا يهابون الْفتيا وَيَقُولُونَ: على الْفِقْه بِنَاء الدّين، فَلَا بُد من إشاعته، ويهابون رِوَايَة حَدِيث رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَالرَّفْع إِلَيْهِ حَتَّى قَالَ الشّعبِيّ: على من دون النَّبِي صلى الله عليه وسلم أحب إِلَيْنَا، فَإِن كَانَ فِيهِ زِيَادَة أَو نُقْصَان كَانَ على من دون النَّبِي صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ إِبْرَاهِيم أَقُول: قَالَ عبد الله، وَقَالَ عَلْقَمَة: أحب إِلَيْنَا، وَكَانَ ابْن مَسْعُود إِذا حدث عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم تَرَبد وَجهه، وَقَالَ: هَكَذَا أَو نَحْو هَكَذَا وَنَحْوه وَقَالَ عمر حِين بعث رهطا من الْأَنْصَار إِلَى الْكُوفَة: إِنَّكُم تأتون الْكُوفَة، فَتَأْتُونَ قوما لَهُم أزيز بِالْقُرْآنِ فيأتونكم فَيَقُولُونَ: قدم أَصْحَاب مُحَمَّد قدم أَصْحَاب مُحَمَّد، فيأتونكم فيسألونكم عَن الحَدِيث فأقلوا الرِّوَايَة عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. قَالَ ابْن عون: كَانَ الشّعبِيّ إِذا جَاءَهُ شَيْء اتَّقى، وَكَانَ إِبْرَاهِيم يَقُول وَيَقُول: أخرج هَذِه الْآثَار الدِّرَامِي.
فَوَقع تدوين الحَدِيث وَالْفِقْه والمسائل من حَاجتهم بموقع من وَجه آخر وَذَلِكَ أَنه لم يكن عِنْدهم من الْأَحَادِيث والْآثَار مَا يقدرُونَ بِهِ على استنباط الْفِقْه على الْأُصُول الَّتِي اخْتَارَهَا أهل الحَدِيث، وَلم تَنْشَرِح صُدُورهمْ للنَّظَر فِي أَقْوَال عُلَمَاء الْبلدَانِ وَجَمعهَا والبحث عَنْهَا، واتهموا أنفسهم فِي ذَلِك
وَكَانُوا اعتقدوا فِي أئمتهم أَنهم فِي الدرجَة الْعليا من التَّحْقِيق، وَكَانَ قُلُوبهم أميل شَيْء إِلَى أصاحبهم كَمَا قَالَ عَلْقَمَة: هَل أحد مِنْهُم أثبت من عبد الله؟ وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِبْرَاهِيم أفقه من سَالم، وَلَوْلَا فضل الصُّحْبَة لَقلت: علقمه أفقه من ابْن عمر، وَكَانَ عِنْدهم من الفطانة والحدس وَسُرْعَة انْتِقَال الذِّهْن من شَيْء إِلَى شَيْء مَا يقدرُونَ بِهِ على تَخْرِيج جَوَاب الْمسَائِل على أَقْوَال أَصْحَابهم " وكل ميسر لما خلق لَهُ ".
{كل حزب بِمَا يهم فَرِحُونَ} .
فهمدوا الْفِقْه على قَاعِدَة التَّخْرِيج، وَذَلِكَ أَن يحفظ كل أحد كتاب من هُوَ لِسَان أَصْحَابه وأعرفهم بأقوال القَوْل وأصحهم نظرا فِي التَّرْجِيح، فيتأمل فِي كل مَسْأَلَة وَجه الحكم، فَكلما سُئِلَ عَن شَيْء، أَو احْتَاجَ إِلَى شَيْء رأى فِيمَا يحفظه من تصريحات أَصْحَابه،