الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(بَاب احكام الدّين من التحريف)
لَا بُد لصَاحب السياسة الْكُبْرَى الَّذِي يَأْتِي من الله بدين ينْسَخ الْأَدْيَان من أَن يحكم دينه من أَن يتطرف إِلَيْهِ تَحْرِيف، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يجمع أمما كَثِيرَة ذَوي استعدادات شَتَّى وأغراض مُتَفَاوِتَة، فكثيرا مَا يحملهم الْهوى أَو حب الدّين الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ سَابِقًا والفهم النَّاقِص حَيْثُ عقلوا شَيْئا، وَغَابَتْ مصَالح كَثِيرَة أَن يهملوا مَا نصت الْملَّة عَلَيْهِ، أَو يدسوا فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا، فيختل الدّين، كَمَا قد وَقع فِي كثير من الْأَدْيَان قبلنَا، وَلما لم يُمكن الِاسْتِقْصَاء
فِي معرفَة مدَاخِل الْخلَل فَإِنَّهَا غير محصورة وَلَا متعينة، وَمَا لَا يدْرك كُله لَا يتْرك كُله - وَجب أَن ينذرهم من أَسبَاب التحريف إِجْمَالا أَشد الانذار، ويخص مسَائِل قد علم بالحدس أَن التهاون والتحريف فِي مثلهَا أَو بِسَبَبِهَا دَاء مُسْتَمر فِي بني آدم فيسد مدْخل الْفساد مِنْهَا بأثم وَجه، وَأَن يشرع شَيْئا يُخَالف مألوف الْملَل الْفَاسِدَة فِيمَا هُوَ أشهر الْأَشْيَاء عِنْدهم كالصلوات مثلا.
وَمن أَسبَاب التحريف التهاون وَحَقِيقَته أَن يخلف بعد الحواريين خلف أضاعوا الصَّلَاة، وَاتبعُوا الشَّهَوَات لَا يهتمون باشاعة الدّين تعلما وتعليما وَعَملا، وَلَا يأمرون بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا ينهون عَن الْمُنكر، فَينْعَقد عَمَّا قريب رسوم خلاف الدّين، وَتَكون رَغْبَة الطباع خلاف رَغْبَة الشَّرَائِع، فَيَجِيء خلف آخَرُونَ يزِيدُونَ فِي التهاون حَتَّى ينسى مُعظم الْعلم
…
، والتهاون من سادة الْقَوْم وكبرائهم أضرّ بهم وَأكْثر إفسادا. وَبِهَذَا السَّبَب ضَاعَت مِلَّة نوح وَإِبْرَاهِيم عليهما السلام، فَلم يكد يُوجد مِنْهُم من يعرفهَا على وَجههَا، ومبدأ التهاون أُمُور.
مِنْهَا عدم تحمل الرِّوَايَة عَن صَاحب الْملَّة وَالْعَمَل بِهِ، وَهُوَ قَوْله صلى الله عليه وسلم:" أَلا يُوشك رجل شبعان على أريكته يَقُول عَلَيْكُم بِهَذَا الْقُرْآن، فَمَا وجدْتُم من حَلَال فأحلوه، وَمَا وجدْتُم مِنْهُ حرَام، فحرموه، وَإِن مَا حرم رَسُول الله كَمَا حرم الله " وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " أَن الله لَا يقبض الْعلم انتزاعا ينتزعه من النَّاس، وَلَكِن يقبض الْعلم بِقَبض الْعلمَاء حَتَّى إِذا لم يبْق عَالما اتخذ النَّاس رُؤَسَاء جُهَّالًا، فسئلوا فأفتوا بِغَيْر علم، فضلوا، وأضلوا ".
وَمِنْهَا الْأَغْرَاض الْفَاسِدَة الحاملة على التَّأْوِيل الْبَاطِل كَطَلَب مرضاة الْمُلُوك فِي اتباعهم الْهوى لقَوْله تَعَالَى:
وَمِنْهَا شيوع الْمُنْكَرَات وَترك عُلَمَائهمْ النَّهْي عَنْهَا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
وَقَوله صلى الله عليه وسلم لما وَقعت بَنو إِسْرَائِيل فِي الْمعاصِي: " نهتهم علماؤهم، فَلم ينْتَهوا، فجالسوهم فِي مجَالِسهمْ، وآكلوهم، وشاربوهم، فَضرب الله قُلُوب بَعضهم بِبَعْض، ولعنهم على لِسَان دَاوُد وَعِيسَى بن مَرْيَم ذَلِك بِمَا عصوا، وَكَانُوا يعتدون ".
وَمن أَسبَاب التحريف التعمق، وَحَقِيقَته أَن يَأْمر الشَّارِع بِأَمْر وَينْهى عَن شَيْء فيسمعه رجل من أمته، ويفهمه حَسْبَمَا يَلِيق بذهنه، فيعدي الحكم إِلَى مَا يشاكل الشَّيْء بِحَسب بعض الْوُجُوه أَو بعض أَجزَاء الْعلَّة أَو إِلَى أَجزَاء الشَّيْء ومظانه ودواعيه، وَكلما اشْتبهَ عَلَيْهِ الْأَمر لتعارض الرِّوَايَات الْتزم الأشد، ويجعله وَاجِبا، وَيحمل كل مَا فعله النَّبِي صلى الله عليه وسلم على الْعِبَادَة، وَالْحق أَنه فعل أَشْيَاء على الْعَادة، فيظن أَن الْأَمر وَالنَّهْي شملا فِي هَذِه الْأُمُور، فيجهر بِأَن الله تَعَالَى أَمر بِكَذَا، وَنهى عَن كَذَا، كَمَا أَن الشَّارِع لما شرع الصَّوْم لقهر النَّفس وَمنع عَن الْجِمَاع فِيهِ ظن قوم أَن السّحُور خلاف الْمَشْرُوع؛ لِأَنَّهُ يُنَاقض قهر النَّفس، وَأَنه يحرم على الصَّائِم قبْلَة امْرَأَته لِأَنَّهَا من دواعي الْجِمَاع، وَلِأَنَّهَا تشاكل الْجِمَاع فِي قَضَاء الشَّهْوَة، فكشف رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن فَسَاد هَذِه المقاملة وَبَين أَنه تَحْرِيف.
وَمِنْهَا التشدد وَحَقِيقَته اخْتِيَار عبادات شاقة لم يَأْمر بهَا الشَّارِع كدوام الصّيام وَالْقِيَام التبتل وَترك التَّزَوُّج، وَأَن يلْتَزم السّنَن والآداب كالتزام الْوَاجِبَات وَهُوَ حَدِيث نهي النَّبِي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عَمْرو وَعُثْمَان ابْن مَظْعُون عَمَّا قصدا من الْعِبَادَات الشاقة وَهُوَ قَوْله صلى الله عليه وسلم " لن يشاد الدّين أحد إِلَّا غَلبه " فَإِذا صَار هَذَا المتعمق أَو المتشدد معلم قوم وَرَئِيسهمْ ظنُّوا أَن هَذَا أَمر الشَّرْع وَرضَاهُ، وَهَذَا دَاء رُهْبَان الْيَهُود وَالنَّصَارَى.
وَمِنْهَا الِاسْتِحْسَان وَحَقِيقَته أَن يرى رجل الشَّارِع يضْرب لكل حِكْمَة مَظَنَّة مُنَاسبَة، وَيَرَاهُ يعْقد التشريع، فيختلس بعض مَا ذكرنَا من أسرار التشريع، فيشرع للنَّاس حَسْبَمَا عقل من الْمصلحَة. كَمَا أَن الْيَهُود رَأَوْا أَن الشَّارِع إِنَّمَا أَمر بالحدود زجرا عَن الْمعاصِي للاصلاح، وَرَأَوا أَن الرَّجْم يُورث اخْتِلَافا وتقاتلا بِحَيْثُ يكون فِي ذَلِك اشد الْفساد،
واستحسنوا تحميم الْوَجْه وَالْجَلد، فَبين النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه تَحْرِيف ونبذ لحكم الله الْمَنْصُوص بِالتَّوْرَاةِ بآرائهم. عَن ابْن سِيرِين قَالَ: أول من قَاس إِبْلِيس، وَمَا عبدت الشَّمْس وَالْقَمَر إِلَّا بالمقاييس. وَعَن الْحسن أَنه تَلا هَذِه الْآيَة:
{خلقتني من نَار وخلقته من طين} .
قَالَ: قَاس إِبْلِيس وَهُوَ أول من قَاس. وَعَن الشّعبِيّ قَالَ: وَالله لَئِن أَخَذْتُم بالمقاييس لتحر من الْحَلَال، ولتحلن الْحَرَام. وَعَن معَاذ بن جبل: يفتح الْقُرْآن على النَّاس حَتَّى يقرأه الْمَرْأَة وَالصَّبِيّ وَالرجل، فَيَقُول الرجل قد قَرَأت الْقُرْآن، فَلم أتبع، وَالله لاقومن بِهِ فيهم لعَلي أتبع، فَيقوم بِهِ فيهم، فَلَا يتبع، فَيَقُول: قد قَرَأت الْقُرْآن فَلم أتبع، وَقد قُمْت بِهِ فيهم، فَلم أتبع
لأحتظرن فِي بَيْتِي مَسْجِدا لعَلي أتبع، فيخظر فِي بَيته مَسْجِدا، فَلَا يتبع، فَيَقُول: قد قَرَأت الْقُرْآن، فَلم أتبع، وَقمت بِهِ فيهم، فَلم أتبع، وَقد احتظرت فِي بَيْتِي مَسْجِدا، فَلم أتبع، وَالله لآتينهم بِحَدِيث لَا يجدونه فِي كتاب الله وَلم يسمعوه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لعَلي أتبع قَالَ معَاذ: فاياكم وَمَا جَاءَ بِهِ فَإِن مَا جَاءَ بِهِ ضَلَالَة، وَعَن عمر رضي الله عنه قَالَ: يهدم الاسلام زلَّة الْعَالم وجدال الْمُنَافِق بِالْكتاب وَحكم الْأَئِمَّة المضلين، وَالْمرَاد بِهَذَا كُله مَا لَيْسَ استنباطا من كتاب الله وَسنة رَسُوله.
وَمِنْهَا اتِّبَاع الْإِجْمَاع وَحَقِيقَته أَن يتَّفق قوم من حَملَة الْملَّة الَّذين اعْتقد الْعَامَّة فيهم الْإِصَابَة غَالِبا أَو دَائِما على شَيْء فيظن أَن ذَلِك دَلِيل قَاطع عَن ثُبُوت الحكم، وَذَلِكَ فِيمَا لَيْسَ لَهُ أصل من الْكتاب وَالسّنة، وَهَذَا غير الْإِجْمَاع الَّذِي اجْتمعت الْأمة عَلَيْهِ فَإِنَّهُم اتَّفقُوا على القَوْل بِالْإِجْمَاع الَّذِي مُسْتَنده الْكتاب وَالسّنة أَو الاستنباط من أَحدهمَا وَلم يجوزوا القَوْل بالاجماع الَّذِي لَيْسَ مُسْتَندا إِلَى أَحدهمَا، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{وَإِذا قيل لَهُم أمنُوا بِمَا أنزل الله قَالُوا بل نتبع مَا ألفينا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} الْآيَة
وَمَا تمسكت الْيَهُود فِي نفي نبوة عِيسَى وَمُحَمّد عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام إِلَّا بِأَن أسلافهم فحصوا عَن حَالهمَا، فَلم يجدوهما على شَرَائِط الْأَنْبِيَاء، وَالنَّصَارَى، لَهُم شرائع كَثِيرَة مُخَالفَة للتوراة والأنجيل لَيْسَ لَهُم فِيهَا متمسك إِلَّا إِجْمَاع سلفهم.
وَمِنْهَا تَقْلِيد غير الْمَعْصُوم أَعنِي غير النَّبِي الَّذِي ثبتَتْ عصمته، وَحَقِيقَته أَن يجْتَهد وَاحِد من عُلَمَاء الْأمة فِي مَسْأَلَة، فيظن متبعوه أَنه على الْإِصَابَة قطعا أَو غَالِبا، فيردوا بِهِ حَدِيثا صَحِيحا، وَهَذَا التَّقْلِيد غير مَا اتّفق عَلَيْهِ
الْأمة المرحومة، فَإِنَّهُم اتَّفقُوا على جَوَاز التَّقْلِيد للمجتهدين مَعَ الْعلم بِأَن الْمُجْتَهد يُخطئ، ويصيب، وَمَعَ الاستشراف لنَصّ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ