الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَبِالْجُمْلَةِ فَكل من تولى لإِصْلَاح جم غفير مُخْتَلفَة استعدادهم، وَلَيْسوا من الْأَمر على بَصِيرَة وَلَا فِيهِ على رَغْبَة يضْطَر إِلَى تَقْدِير وتوقيت وَتَعْيِين أوضاع وهيئات يَجْعَلهَا الْعُمْدَة فِي الْمُطَالبَة والمؤاخذة.
وَأعلم أَن الله تَعَالَى لما اراد ببعثة الرُّسُل أَن يخرج النَّاس من الظُّلُمَات إِلَى النُّور، فَأوحى إِلَيْهِم أمره لذَلِك، وَألقى عَلَيْهِم نوره، وَنَفث فيهم الرَّغْبَة
فِي إصْلَاح الْعَالم، وَكَانَ اهتداء الْقَوْم يَوْمئِذٍ لَا يتَحَقَّق إِلَّا بِأُمُور ومقدمات وَجب فِي حِكْمَة الله أَن يلتوى جَمِيع ذَلِك فِي إِرَادَة بعثتهم، وَأَن يكون افتراض طَاعَة الرُّسُل وانقيادهم منفسحا إِلَى افتراض مُقَدمَات الْإِصْلَاح، وكل مَا لَا يتم فِي الْعقل أَو الْعَادة إِلَّا بِهِ فَإِنَّهُ جملَة بجر بَعْضهَا بَعْضًا، وَالله لَا يخفى عَلَيْهِ خافية، وَلَيْسَ فِي دين الله جزاف، فَلَا يعين شَيْء دون نَظَائِره إِلَّا بِحكم وَأَسْبَاب يعلمهَا الراسخون فِي الْعلم، وَنحن نُرِيد ان ننبه على جملَة صَالِحَة من تِلْكَ الحكم والأسباب، وَالله أعلم.
(بَاب أَسبَاب نزُول الشَّرَائِع الْخَاصَّة بعصر دون عصر وَقوم دون قوم)
وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى:
تَفْسِيرهَا أَن يَعْقُوب عليه السلام مرض مَرضا شَدِيدا، فَنَذر لَئِن عافاه الله ليحرمن على نَفسه أحب الطَّعَام وَالشرَاب إِلَيْهِ، فَلَمَّا عوفي حرم على نَفسه لحْمَان الْإِبِل وَأَلْبَانهَا، وأقتدى بِهِ بنوه فِي تَحْرِيمهَا، وَمضى على ذَلِك الْقُرُون حَتَّى أضمروا فِي نُفُوسهم التَّفْرِيط فِي حق الْأَنْبِيَاء إِن خالفوهم بأكلها، فَنزل التَّوْرَاة بِالتَّحْرِيمِ، وَلما بَين النَّبِي صلى اله عَلَيْهِ وَسلم أَنه على مِلَّة إِبْرَاهِيم قَالَت الْيَهُود كَيفَ يكون على مِلَّته وَهُوَ يَأْكُل لُحُوم الْإِبِل وَأَلْبَانهَا، فَرد الله تَعَالَى عَلَيْهِم أَن كل الطَّعَام كَانَ حلا فِي الأَصْل وَإِنَّمَا حرمت الْإِبِل لعَارض لحق باليهود، فَلَمَّا ظَهرت النُّبُوَّة فِي بني إِسْمَاعِيل وهم بُرَآء من ذَلِك الْعَارِض لم يجب رعايته.
وَقَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاة التَّرَاوِيح " مَا زَالَ بكم الَّذِي رَأَيْت من صنيعكم حَتَّى خشيت أَن يكْتب عَلَيْكُم، وَلَو كتب عَلَيْكُم مَا قُمْتُم بِهِ، فصلوها أَيهَا النَّاس فِي بُيُوتكُمْ " فكبحهم النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَن جعلهَا شَائِعا ذائعا بَينهم لِئَلَّا تصير من شَعَائِر الدّين، فيعتقدوا تَركهَا تفريطا فِي جنب الله، فتفرض عَلَيْهِم.
وَقَوله [صلى الله عليه وسلم] : " أعظم الْمُسلمين فِي الْمُسلمين جرما من سَأَلَ عَن شَيْء، فَحرم لأجل مَسْأَلته ".
وَقَوله [صلى الله عليه وسلم] : " إِن إِبْرَاهِيم حرم مَكَّة ودعا لَهَا وَإِنِّي حرمت الْمَدِينَة كَمَا حرم إِبْرَاهِيم مَكَّة ودعوت لَهَا فِي مدها وصاعها مثل مَا دَعَا إِبْرَاهِيم لمَكَّة ".
وَقَوله صلى الله عليه وسلم لمن سَأَلَهُ عَن الْحَج " أهوَ فِي كل عَام لَو قلت نعم لَوَجَبَتْ، وَلَو وَجَبت لم تقوموا بهَا، وَلَو لم تقوموا بهَا عذبتم ". وَاعْلَم أَنه إِنَّمَا اخْتلفت شرائع الْأَنْبِيَاء عليهم السلام لأسباب ومصالح، وَذَلِكَ أَن شَعَائِر الله إِنَّمَا كَانَت شَعَائِر لمعدات وَأَن الْمَقَادِير يُلَاحظ فِي شرعها حَال الْمُكَلّفين وعاداتهم.
فَلَمَّا كَانَت أمزجة قوم نوح عليه السلام فِي غَايَة الْقُوَّة والشدة كَمَا نبه عَلَيْهِ الْحق تَعَالَى - استوجبوا أَن يؤمروا بدوام الصّيام؛ ليقاوم سُورَة بهيميتهم، وَلما كَانَت أمزجة هَذِه الْأمة ضَعِيفَة نهوا عَن ذَلِك، وَكَذَلِكَ لم يَجْعَل الله تَعَالَى الْغَنَائِم حَلَالا للأولين، وأحلها لنا لما رأى ضعفنا، وَأَن مُرَاد الْأَنْبِيَاء عليهم السلام إصْلَاح مَا عِنْدهم من الارتفاقات، فَلَا يعدل عَنْهَا إِلَى مَا يباين المألوف إِلَّا مَا شَاءَ الله، وَأَن مظان الْمصَالح تخْتَلف باخْتلَاف الْأَعْصَار والعادات، وَلذَلِك صَحَّ وُقُوع النّسخ، وَإِنَّمَا مثله كَمثل الطَّبِيب يعمد إِلَى حفظ المزاج المعتدل فِي جَمِيع الْأَحْوَال، فتختلف أَحْكَامه باخْتلَاف الْأَشْخَاص وَالزَّمَان، فيأمر الشَّاب بِمَا لَا يَأْمر بِهِ الشائب، وَيَأْمُر فِي الصَّيف
بِالنَّوْمِ فِي الجو لما يرى أَن الجو مَظَنَّة الِاعْتِدَال حِينَئِذٍ، وَيَأْمُر فِي الشتَاء بِالنَّوْمِ دَاخل الْبَيْت لما يرى أَنه مَظَنَّة الْبرد حِينَئِذٍ.
فَمن عرف أصل الدّين وَأَسْبَاب اخْتِلَاف المناهج لم يكن عِنْده تَغْيِير وَلَا تَبْدِيل وَلذَلِك نسبت الشَّرَائِع إِلَى أقوامها، وَرجعت اللائمة إِلَيْهِم حِين استوجبوا بهَا بِمَا عِنْدهم من الاستعداد، وسألوها جهد سُؤَالهمْ بِلِسَان الْحَال، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{فتقطعوا أَمرهم بَينهم زبرا كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ} .
وَلذَلِك ظهر فضل أمة نَبينَا صلى الله عليه وسلم حِين استحقوا تعْيين الْجُمُعَة لكَوْنهم أُمِّيين بُرَآء من الْعُلُوم المكتسبة، واستحقت الْيَهُود السبت لاعتقادهم أَنه يَوْم فرغ الله فِيهِ من الْخلق وَأَنه أحسن شَيْء لأَدَاء الْعِبَادَة مَعَ أَن الْكل بِأَمْر الله ووحيه، وَمثل الشَّرَائِع فِي ذَلِك كَمثل الْعَزِيمَة يؤمرون بهَا أَولا، ثمَّ يكون هُنَالك أعذار وحرج، فتشرع لَهُم الرُّخص لِمَعْنى
يرجع إِلَيْهِم فَرُبمَا توجه بذلك بعض اللائمة إِلَيْهِم لكَوْنهم استوحبوا ذَلِك بِمَا عِنْدهم قَالَ الله تَعَالَى:
{إِن الله لَا يُغير مَا بِقوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم} .
وَقَالَ النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] : " مَا رَأَيْت من ناقصات عقل وَدين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن " وَبَين نُقْصَان دينهن بقوله " أَرَأَيْت أَنَّهَا إِذا حَاضَت لم تصل، وَلم تصم ".
وَاعْلَم أَن أَسبَاب نزُول المناهج فِي صُورَة خَاصَّة كَثِيرَة لَكِنَّهَا ترجع إِلَى نَوْعَيْنِ.
أَحدهمَا كالأمر الطبيعي الْمُوجب لتكليفهم بِتِلْكَ الْأَحْكَام، فَكَمَا أَن لأفراد الْإِنْسَان جَمِيعهَا طبيعة وأحوالا ورثتها من النَّوْع توجب تكليفهم بِأَحْكَام، كَمَا أَن الأكمه لَا يكون فِي خزانَة خياله الألوان والصور، وَإِنَّمَا هُنَالك الْأَلْفَاظ والملموسات وَنَحْو ذَلِك، فاذا تلقى من الْغَيْب علما فِي رُؤْيا أَو وَاقعَة أَو نَحْو ذَلِك، فَإِنَّمَا يتشبح علمه فِي صُورَة مَا اختزنه خياله دون غَيره، وكما أَن الْعَرَبِيّ الَّذِي لَا يعرف غير لُغَة الْعَرَب إِذا تمثل لَهُ علم فِي نشأة اللَّفْظ، فَإِنَّمَا يتَمَثَّل لَهُ فِي لُغَة الْعَرَب دون غَيرهَا، وكما أَن الْبِلَاد الَّتِي يُوجد فِيهَا الْفِيل وَغَيره من الْحَيَوَانَات سَيِّئَة المنظر يتَرَاءَى لأَهْلهَا إِلْمَام الْجِنّ وتخويف الشَّيَاطِين فِي صُورَة تِلْكَ الْحَيَوَانَات دون غير تِلْكَ الْبِلَاد، وَالَّتِي يعظم فِيهَا بعض الْأَشْيَاء، وَيُوجد فِيهَا بعض الطَّيِّبَات من الْأَطْعِمَة والألبسة - تتراءى لأَهْلهَا النِّعْمَة وانبساط الْمَلَائِكَة فِي تيك الصُّور دون غير تِلْكَ الْبِلَاد، وكما أَن الْعَرَبِيّ المتوجه إِلَى شَيْء ليفعله أَو طَرِيق ليسلكه إِذا سمع لَفْظَة رَاشد أَو نجيح كَانَ دَلِيلا على حسن مَا يستقبله دون غير الْعَرَبِيّ وَقد جَاءَت السّنة بِبَعْض هَذَا النَّوْع - فَكَذَلِك يعْتَبر فِي الشَّرَائِع عُلُوم مخزونة فِي الْقَوْم واعتقادات كامنة فيهم وعادات تتجارى فيهم كَمَا يتجارى الْكَلْب.
وَلذَلِك نزل تَحْرِيم لُحُوم الابل وَأَلْبَانهَا على بنى إِسْرَائِيل دون بني إِسْمَاعِيل، وَلذَلِك كَانَ الطّيب والخبيث فِي المطاعم مفوضا إِلَى عادات الْعَرَب، وَلذَلِك حرمت بَنَات الْأُخْت علينا دون الْيَهُود، فانهم كَانُوا يعدونها من قوم أَبِيهَا لَا مُخَالطَة بَينهم وَبَينهَا، وَلَا ارتباط، وَلَا اصطحاب، فَهِيَ كالأجنبية بِخِلَاف الْعَرَب، وَلذَلِك كَانَ طبخ الْعجل فِي لبن أمه حَرَامًا عَلَيْهِم دُوننَا، فان علم كَون ذَلِك تغييرا لخلق الله ومصادمة لتدبير الله حَيْثُ صرف
مَا خلقه الله لنشء الْعجل ونموه إِلَى فك بنيته وَحل تركيبه كَانَ راسخا فِي الْيَهُود متجاريا فيهم، وَكَانَ الْعَرَب أبعد خلق الله عَن هَذَا الْعلم حَتَّى لَو ألْقى عَلَيْهِم لما فهموه، وَلما أدركوا المناط الْمُنَاسب للْحكم،
وَالْمُعْتَبر فِي نزُول الشَّرَائِع لَيْسَ الْعُلُوم والحالات والعقائد المتمثلة فِي صُدُورهمْ فَقَط، بل أعظمها اعْتِبَارا، وأولاها اعتدادا مَا نشأوا عَلَيْهِ واندفعت عُقُولهمْ إِلَيْهِ من حَيْثُ يعلمُونَ وَمن حَيْثُ لَا يعلمُونَ، كَمَا ترى ذَلِك فِي علاقات تمثل شَيْء بِصُورَة غَيره كتمثل منع النَّاس عَن السّحُور فِي صُورَة الْخَتْم على الأفواه، فان الْخَتْم شبح الْمَنْع عِنْد الْقَوْم استحضروه أم لَا.
وَحقّ الله على عباده فِي الأَصْل أَن يعظموه غَايَة التَّعْظِيم، وَلَا يقدموا على مُخَالفَة أمره بِوَجْه من الْوُجُوه، وَالْوَاجِب فِيمَا بَين النَّاس أَن يقيموا مصلحَة التَّأْلِيف والتعاون، وَلَا يُؤْذى أحد أحدا إِلَّا إِذا أَمر بِهِ الرأى الْكُلِّي وَنَحْو ذَلِك، وَلذَلِك كَانَ الَّذِي وَقع على امْرَأَة يعلم أَنَّهَا أَجْنَبِيَّة - قد أرْخى بَينه وَبَين الله حجاب، وَكتب ذَلِك من اجترائه على الله، وَإِن كَانَت امْرَأَته فِي الْحَقِيقَة لِأَنَّهُ أقدم على مُخَالفَة أَمر الله وَحكمه، وَالَّذِي وَقع على أَجْنَبِيَّة وَهُوَ يعلم أَنَّهَا امْرَأَته لَا يألوا فِي ذَلِك مَعْذُورًا فِيمَا بَينه وَبَين الله، وَكَانَ الَّذِي نذر الصَّوْم ماخوذا بنذره دون من لم ينذر، وَكَانَ من تشدد فِي الدّين شدد عَلَيْهِ، وَكَانَت لطمة الْيَتِيم للتاديب حَسَنَة، وللتعذيب سَيِّئَة، وَكَانَ الْمُخطئ والناسى معفوا عَنْهُمَا فِي كثير من الْأَحْكَام، فَهَذَا الأَصْل يتلقاه عُلُوم الْقَوْم وعاداتهم الكامنة مِنْهَا والبارزة، فيتشخص الشَّرَائِع فِي حَقهم حسب ذَلِك.
وَاعْلَم أَن كثيرا من الْعَادَات والعلوم الكامنة يتَّفق فِيهَا الْعَرَب والعجم وَجمع سكان الأقاليم المعتدلة وَأهل الأمزجة الْقَابِلَة للأخلاق الفاضلة. كالحزن لميتهم واستحباب الرِّفْق بِهِ. وكالفخر بِالْأَحْسَابِ والأنساب.
وكالنوم إِذا مضى ربع اللَّيْل أَو ثلثه. أَو نَحْو ذَلِك. والاستيقاظ فِي تباشير الصُّبْح إِلَى غير ذَلِك مِمَّا أَو مَا نَا إِلَيْهِ فِي الارتفاقات. فَتلك الْعَادَات والعلوم أَحَق الْأَشْيَاء بِالِاعْتِبَارِ ثمَّ بعْدهَا عادات وعقائد تخْتَص بالمبعوث إِلَيْهِم. فَتعْتَبر تِلْكَ أَيْضا وَقد جعل الله لكل شَيْء قدرا.
وَاعْلَم أَن النُّبُوَّة كثيرا مَا تكون من تَحت الْملَّة كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {مِلَّة أبيكم إِبْرَاهِيم} .
وكما قَالَ: {وَإِن من شيعته لإِبْرَاهِيم} .
وسر ذَلِك أَنه تنشأ قُرُون كَثِيرَة على التدين بدين. وعَلى تَعْظِيم شعائره. وَتصير أَحْكَامه من المشهورات الذائعة اللاحقة بالبديهيات الأولية الَّتِي لَا تكَاد تنكر. فتجيء نبوة أُخْرَى لإِقَامَة مَا اعوج مِنْهَا: وَصَلَاح مَا فسد مِنْهَا بعد اخْتِلَاط رِوَايَة نبيها، فتفتش عَن الْأَحْكَام
الْمَشْهُورَة عِنْدهم، فَمَا كَانَ صَحِيحا مُوَافقا لقواعد السياسة الملية لَا تغيره، بل تَدْعُو إِلَيْهِ، وتحث عَلَيْهِ، وَمَا كَانَ سقيما قد دخله التحريف، فَإِنَّهَا تغيره، بِقدر الْحَاجة، وَمَا كَانَ حريا أَن يزْدَاد، فَإِنَّهَا تزيده على مَا كَانَ عِنْدهم، وَكَثِيرًا مَا يسْتَدلّ هَذَا النَّبِي فِي مطالبه بِمَا بَقِي عِنْدهم من الشَّرِيعَة الأولى، فَيُقَال عِنْد ذَلِك هَذَا النَّبِي فِي مِلَّة فلَان النَّبِي أَو من شيعته، وَكَثِيرًا مَا تخْتَلف النبوات لاخْتِلَاف الْملَل النَّازِلَة تِلْكَ النُّبُوَّة فِيهَا.
وَالنَّوْع الثَّانِي بِمَنْزِلَة طَارِئ عَارض، وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى وَإِن كَانَ
متعاليا عَن الزَّمَان، فَلهُ ارتباط بِوَجْه من الْوُجُوه بِالزَّمَانِ والزمانيات، وَقد أخبر النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَن الله يقْضِي بعد كل مائَة بحادثة عَظِيمَة من الْحَوَادِث، وَأخْبر آدم وَغَيره من الْأَنْبِيَاء عليهم السلام فِي حَدِيث الشَّفَاعَة بِشَيْء من هَذَا الْبَاب حَيْثُ قَالَ كل وَاحِد مِنْهُم:" إِن رَبِّي تبارك وتعالى قد غضب الْيَوْم غَضبا لم يغضبه قبله مثله، وَلنْ يغْضب بعده مثله " فَإِذا تهَيَّأ الْعَالم لإفاضة الشَّرَائِع وَتَعْيِين الْحُدُود، وتجلى الْحق منزلا عَلَيْهِم الدّين، وامتلأ الْمَلأ الْأَعْلَى بهمة قَوِيَّة حسب ذَلِك يكون حِينَئِذٍ أدنى سَبَب من الْأَسْبَاب الطارئة كَافِيا فِي قرع بَاب الْجُود، وَمن دق بَاب الْكَرِيم انْفَتح، وَلَك عِبْرَة بفصل الرّبيع يُؤثر فِي أدنى شَيْء من الْغَرْس وَالْبذْر مَا لَا يُؤثر فِي غَيره أَضْعَاف ذَلِك، وهمة النَّبِي صلى الله عليه وسلم، واستشرافه للشَّيْء، ودعوته لَهُ، واشتياقه إِلَيْهِ، وَطَلَبه إِيَّاه سَبَب قوي لنزول الْقَضَاء فِي ذَلِك الْبَاب، وَإِذا كَانَت دَعوته تحيي السّنة الشَّهْبَاء، وتغلب فِئَة عَظِيمَة من النَّاس، وتزيد الطَّعَام وَالشرَاب زِيَادَة محسوسة، فَمَا ظَنك فِي نزُول الحكم الَّذِي هُوَ روح لطيف إِنَّمَا يتَعَيَّن بِوُجُود مثالي، وعَلى هَذَا الأَصْل يَنْبَغِي أَن يخرج أَن حُدُوث حَادِثَة عَظِيمَة فخيمة فِي ذَلِك الزَّمَان يفزع لَهَا النَّبِي صلى الله عليه وسلم، كقصة الْإِفْك، وسؤال سَائل يُرَاجع النَّبِي صلى الله عليه وسلم ويحاوره فيهم لَهُ صلى الله عليه وسلم كقصة الظِّهَار يكون سَببا لنزول الْأَحْكَام، وَأَن يكْشف عَلَيْهِ فِيهَا جلية الْحَال، وَأَن استبطاء الْقَوْم عَن الطَّاعَة وتبلدهم عَن الانقياد، وإخلادهم عَن الْعِصْيَان، وَكَذَا رغبتهم فِي شَيْء، وعضهم عَلَيْهِ بالنواجذ، واعتقادهم التَّفْرِيط فِي جنب الله عِنْد تَركه - يكون سَببا لِأَن يشدد عَلَيْهِم بِالْوُجُوب الأكيد وَالتَّحْرِيم الشَّديد، وَمثل ذَلِك كُله فِي استمطار الْجُود كَمثل الْإِنْسَان الصَّالح قوي الهمة يتوخى سَاعَة انتشار
الروحانية وَقُوَّة السَّعَادَة، فَيسْأَل الله فِيهَا بِجهْد همته، فَلَا تتراخى إجَابَته، وَإِلَى هَذِه الْمعَانِي وَقعت الْإِشَارَة فِي قَوْله تبارك وتعالى:
وأصل المرضى أَن يقل هَذَا النَّوْع من أَسبَاب نزُول الشَّرَائِع لِأَنَّهُ يعد لنزول مَا يغلب