المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ضوابط وقواعدلموضوعات خطبة الجمعة - دليل الواعظ إلى أدلة المواعظ - جـ ١

[شحاتة صقر]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌مكانة يوم الجمعة في الإسلام:

- ‌مكانة خطبة الجمعة وأهميتها:

- ‌صفة خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌اشتمال الخطبة على الآيات القرآنية

- ‌اشتمال الخطبة على الأحاديث النبوية

- ‌ أثر الأحاديث الضعيفة في الابتداع في الدين:

- ‌ لا يجوز استحباب شيء لمجرد حديث ضعيف في الفضائل:

- ‌ معنى العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال:

- ‌ لا يجوز التقدير والتحديد بأحاديث الفضائل الضعيفة:

- ‌ شروط العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال عند القائلين به:

- ‌ هل هناك إجماع من العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال

- ‌اشتمال الخطبة على ضرب الأمثال

- ‌الاستشهاد بالشعر في الخطبة

- ‌الاستشهاد بالقصة في الخطبة

- ‌الاستشهاد بواقع الآخرين

- ‌فقه الخطيب

- ‌ ماذا تقرأ في صلاة الجمعة

- ‌ قطع الخطبة للتنبيه والإرشاد:

- ‌ ما الحكم فيمن دخل المسجد لصلاة الجمعة والمؤذن يؤذن الأذان الثاني

- ‌ رفع اليدين للدعاء في الخطبة:

- ‌ هل يصلي بالناس الجمعة غير الخطيب

- ‌ إذا قرأ الخطيب آية تشتمل على سجدة وهو يخطب فهل يسجد سجود التلاوة

- ‌كيف تختار موضوع الخطبة

- ‌ضوابط وقواعدلموضوعات خطبة الجمعة

- ‌وصايا للخطيب

- ‌الخطيب وجمهوره

- ‌وصايا أثناء الخطبة

- ‌همسات في أذن خطيب الجمعة

- ‌عيوب الخطبة

- ‌ عيوب في أصل الخطبة

- ‌تنبيه:

- ‌ عيوب في الخطيب

- ‌ عيوب نسبية

- ‌أدعية

- ‌موضوعات عامة

- ‌1 - الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌2 - التحذير من ترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌3 - كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعناها

- ‌4 - اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم دليل محبة الله عز وجل

- ‌5 - التواضع وذم الكبر

- ‌6 - فضائل الصحابة رضي الله عنهم

- ‌7 - فضائل الصحابة رضي الله عنهم في السنة المطهرة

- ‌8 - اتق الله حيثما كنت

- ‌9 - أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمحُهَا

- ‌10 - خَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ

- ‌11 - احفَظِ الله يَحْفَظْكَ

- ‌12 - إذا سَأَلْتَ فاسْألِ اللهوإذا اسْتََعَنْتَ فاستَعِنْ باللهِ

- ‌13 - شروط الدعاء وموانع الإجابة

- ‌14 - رُفِعَتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصُّحُفُ

- ‌15 - القناعة

- ‌16 - فوائد القناعة والسبيل إليها

- ‌17 - الإصلاح بين الناس

- ‌18 - الإصلاح بتن الناس وآداب المصلح

- ‌19 - الأمانة

- ‌20 - السعادة الوهمية

- ‌21 - أسباب السعادة وصفات السعداء

- ‌22 - نحن والمزاح

- ‌23 - إنَّ الله كَتَبَ الإحسّانَ على كُلِّ شيءٍ

- ‌24 - المستقبل لهذا الدين رغم مرارة الواقع

- ‌25 - المستقبل لهذا الدين ولكن ما السبيل إليه

- ‌26 - لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ

- ‌27 - وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌28 - موتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌29 - إذا لَم تَستَحْيِ، فاصْنَعْ ما شِئْتَ

- ‌30 - عَظيمٌٍ ولَكِنّه يَسيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ الله عليه

- ‌31 - قُلْ: آمَنْتُ باللهِ، ثمَّ استقِمْ

- ‌32 - كُلُّ النَّاسِ يَغْدُوفَبائعٌ نَفْسَهُ، فمُعْتِقُها أو مُوبِقها

- ‌33 - كثرة النعم وكثرة طرق الشكر

- ‌34 - أكل الميراث بالباطل

- ‌35 - إنَّ الله طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلَاّ طيِّبًا

- ‌36 - لا تَحَاسَدُوا

- ‌37 - كُونُوا عِبادَ اللهِ إِخْوانًا

- ‌38 - لا تَظالموا

- ‌39 - إنَّما هي أعمالُكُم أُحصيها لكم

- ‌40 - لا تَغْضَبْ

- ‌خطب مناسبات

- ‌41 - الزكاة

- ‌42 - الامتحانات، كل منا ممتحن

- ‌43 - عاشوراء وشهر الله المحرّم

- ‌45 - استقبال رمضانيا باغي الشر…أقصر

- ‌46 - رمضان شهر الجهاد

- ‌47 - خطبة عيد الفطر

- ‌48 - الحج: عبر وعظات

- ‌49 - قصة الذبح…دروس وعبر

- ‌50 - خطبة عيد الأضحى

الفصل: ‌ضوابط وقواعدلموضوعات خطبة الجمعة

‌ضوابط وقواعد

لموضوعات خطبة الجمعة

• أولاً: حسن اختيار الموضوع:

إن موضوع الخطبة هو لبُّها وروحها وبحسب الموضوع يكون أثر الخطبة، والخطيب الذي يقدر سامعيه ويحترمهم ويقدر أوقاتهم ويضن بها أن تضيِع في غير فائدة يحرص غاية الحرص على موضوع الخطبة ويجتهد غاية الاجتهاد في أن يكون موضوعها نافعًا للناس ويتبدى فقه الخطيب وحسن اختياره للموضوعات في الملامح التالية:

1 -

استحضار الهدف: إن من فقه الخطيب أن يكون مستحضرًا الهدف الذي يريد أن يتوصل إليه بخطبته ويكون ذلك الهدف مشروعًا وبحسب ذلك الهدف يبني خطبته وينظم عقدها، ويكون مقتنعًا بذلك الهدف فيكون اختياره للموضوع نابعًا من صلاحيته للعرض على الناس ومقدار النفع المتوقع لهم منه، لا أن يكون ناتجًا عن اندفاع عاطفي أو رغبة في إرضاء جمهور الناس فبعض الخطباء ـ شعروا أو لم يشعروا ـ يهتمون بطرح ما يرضي الناس وما يرغبون فيه، فيكون المؤثر في الخطيب الناس، بينما المفترض العكس.

ويمكن أن يِكون هناك نوعان من الأهداف:

أ - أهداف بعيدة المدى: بحيث يجعل الخطيب في الحي أو البلدة أو القرية مجموعة من الأهداف يسعى لتحقيقها في حيِّه أو بلدته فيرسم معالم للتغيير الذي ينشده وطرائق لمعالجات الواقع في مجتمعه مراعيًا في ذلك الموازنة من جلب المصالح ودرء المفاسد، ويكون وضع هذه الأهداف في ضوء دراسته للبيئة التي يعيش فيها.

ص: 41

ب - الأهداف الخاصة بكل خطبة: بحيث يكون الخطيب قاصدًا لأهداف يريد تحقيقها وغايات وأغراض يريد الوصول إليها.

2 -

أن تكون الخطبة صادرة من شعور قلبي صادق: إن أحسن الخطب وأفضلها وأكثرها نفعًا وفائدة ما كان صادرًا من شعور الخطيب وإحساسه بأهمية الموضوع وبمقدار حاجة الناس إليِه، فالداعية رحيم بالناس مشفق عليهم.

3 -

اختيار الوقت المناسب للموضوع:

إن من المداخل الجيدة للموضوعات الخطابية يوم الجمعة أن يكون السياق الزمني داعيًا لها وإذا استغل الخطيب ذلك الظرف كان لخطبته أثر كبير مثال ذلك: لو كانت الأمة في حالة خوف وفي خضم أمر عظيم دهمها فركنت إلى القوى المادية فخطب الخطيب عن التوكل على الله وأهميته وأن اتخاذ الأسباب لا ينافي ذلك لَوَقع الموضوعُ في نفوسهم موقعه، ولَرَسخ في الأذهان ورَدّ الناس إلى الموقف الرشيد.

ومن مراعاة الوقت أن يختار لكل موسم ما يصلح له، فلرمضان من الخصائص ما ليس لغيره من الشهور، وفيه من الوظائف الشرعية ما ليس في غيره فتكون الخطب في جُمَعه مراعية للظرف، وليس من الحكمة في شيء أن يخطب الإنسان بعد نهاية الظرف المناسب للموضوع عن الموضوع (فقد خطب أحد الخطباء عن ليلة القدر يوم الثلاثين من رمضان، وليس هناك أمل بإدراك هذه الليلة في تلك السنة).

4 -

التركيز على الأساسيات والقضايا الكلية: ومن فقه الاختيار التركيز على الأساسيات والقضايا الكلية، وعدم تضخيم الجزئيات على حساب الكليات الأصول.

ومع أن هناك بعض الجزئيات أو الفروع التي قَد يرى الخطيب وجوب بيانها للناس، إلا أنه لابد من التأكيد على ربط تلك الجزئية بالكليات العامة، وهذا الربط له أثره في بيان حكم الأمر والنهي والحض على الالتزام بالأمر، واجتناب النهي، وإذا جعل الخطيب مدخله إلى الجزئيات أمورًا كلية كان ذلك أدعى لقبول القول.

ص: 42

مثال ذلك: تكلم خطيب عن حلق اللحية وحرمة ذلك بالنصوص، ونقل أقوال أهل العلم، وتكلم آخر عن نفس الموضوع جاعلًا المدخل من خلال قضيتين:

الأولى: وجوب تعظيم السنة والتزام أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

الثانية: حرمة التشبه بالكفار، وعزة المسلم بمظهره ودينه وشعائره الظاهرة، ودلف إلى موضوع اللحية بعد أن أصَّل هذين الموضوعين فكان لخطبة الثاني من الأثر والقبول ما ليس لخطبة الأول.

وهذا الربط موجود في النصوص ذاتها فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في أمر اللحية: «خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ، أَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَأَوْفُوا اللِّحَى» ، «جُزُّوا الشَّوَارِبَ وَأَرْخُوا اللِّحَى خَالِفُوا الْمَجُوسَ» (رواهما مسلم). فأكد على موضوع المنع من التشبه.

5 -

الحرص على عدم التكرار إلا لحاجة: ينزع بعض الخطباء إلى تكرار خطبهم كل سنة، ميلًا إلى الدَعَة ورغبةً عن البحث والاطلاع؛ فيقع أسيرًا لبضعة مواضيع قد تكون هامة وقد لا تكون، ليطلع بها علي الناس كل أسبوع مما يحدث الملل لدى الجمهور الذي يعاني من تكرار الخطب التي لا جديد فيها، ويؤدي إلى إهدار قيمة هذا المنبر الخطير.

ومن التكرار: أ- تكرار الخطبة الثانية: إذ يلتزم البعض خطبة واحدة محفوظة لا تتغير ولا تتبدل طوال العام وهذا لم يَرِدْ في السُّنَّة، فهو أخذ لوقت الناس بدون فائدة، بل يسمعون كلامًا حفظوه لكثرة ترداده.

نعم من المشروع أن يذكر في خطبه بعض الجمل الجامعة التي كان يكررها النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثل قوله: «فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ الله، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» (رواه مسلم).

ولكن ذلك لما تحويه هذه الجمل من الوصايا الجامعة الشاملة وأما ترديد غيرها مما لم تَرِدْ به السُّنَّة فغير محمود.

ص: 43

ب- تكرار الخطب في المناسبات: ففي رمضان يخطب الخطيب في الأول عن البشارة برمضان، ثم يُثَنّي بالكلام عن أحكام الصيام، ثم يُثَلّث بالكلام عن العشر الأواخر وفضلها ويختم بالكلام عن أحكام صدقة الفطر.

وكل ذلك خير ولكن يمكن أن يُنوّع الإنسان بين السنين فيخطب مثلًا عن القرآن ورمضان، وعن غزوات الرسول في رمضان، وعن استثمار رمضان في إصلاح الذات، وعن استثمار رمضان في إصلاح الآخرين، فيُنوع في خطبه ليتحقق بذلك استفادة الناس، خصوصًا أنهم يسمعون الكلام عن الأحكام من خلال أحاديث بعد صلاة العصر في المساجد.

6 -

التبكير بالاختيار: إن الخطيب إذا بكر في الاختيار كان ذلك أدعى لضبط الموضوع، حيث يصبح همًا للخطيب طوال الأسبوع، يبحث عن مراجعه، ويدوّن بعض الملاحظات عنه، ويستفهم، ويسأل أهل العلم عن جوانبه المستغلقة، فيخرج الموضوع وقد تم نضجه واستوى على سوقه.

ويزداد الأمر جودة إذا كان الخطيب قد وضع سُلّمًا لأولويات ما يخطب عنه، وحرص على إيجاد دفتر ملاحظات خاص يدون فيه ما يأتي على باله من موضوعات يراها جديرة بالطرح.

7 -

الشمولية: إن الإسلام دين شامل ينظم الحياة كلها، وهذا الشمول سمة من سماته الرئيسة، وخطيب الجمعة حين يختار موضوعاته للناس يجب أن يراعي هذه السمة فلا يكون موغلا في بيان جانب من الجوانب يركز عليه ويغفل ما سواه.

إن الناس يحتاجون إلى بيان أمور الاعتقاد، ويحتاجون إلى تعليم الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية، كما يحتاجون للوعظ والرقائق، بل وإلى بيان أحوال الأمم السابقة وما جرى بيِنهم وبيِن أنبيائهم واستخلاص عبر تلك الأحداث {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (يوسف: 111).

ص: 44

والله عز وجل ساق قصصهم في القران الكريم ليكون في ذلك العبرة والذكرى للمؤمنين، وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يذكر الناس بأيام الله فقال:{وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ} (إبراهيم: 5).

ومن الملاحظ أن الخطيب قد يكون متخصصًا في أمر أو مهتمًا بأمر فيركز عليه، كأن يكون متخصصًا في الفقه فتكون خطبه كلها فقهية، أو واعظًا فتكون جل خطبه عن المنكرات، وقَد تكون نفسه مائلة إلى جانب فيركز عليه، فتجد من الخطباء من هو دائم الترهيب والتخويف ومن هو دائم الترغيب، ومن حكمة الخطيب أن يجمع في خطبة بين الترغيبِ والترهيب، وبين التعليم والوعظ، وبين الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

• ثانيًا: حسن الإعداد:

إن الخطيب الذي يقدر العمل الذي يقوم به، هو ذلك الرجل الذي يعتني بما يقول ويحضر لما يقول.

مراحل العمل في إعداد الخطبة في:

1 -

القراءة في الموضوع: بعد اختيار الموضوع الذي يوَدّ الخطيب طرحه يحسن به أن يقرأ ما كتب عن الموضوع، أو بعض ما كتب، فمن شأن تلك القراءة أن تثري الخطبة وتجعل الخطيب مُلِمًّا بجوانب الموضوع، إذ ليس الأمر قاصرًا على مجرد الخطبة بل ربما سُئل عن جوانب من الموضوع.

2 -

جمع النصوص: إن الخطيب حين يخطب عن موضوع إنما يريد بيان حكم الله عز وجل فيه، أو يريد بيان ما أعد الله عز وجل لأوليائه وما أعد لأعدائه، أو يريد بيان صفات الله عز وجل أو أسمائه، أو غير هذه الموضوعات التي قيامها على معرفة ما قال الله عز وجل وقال رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

ويبدأ الخطيب بجمع الآيات القرآنية الكريمة المتعلقة بهذا الموضوع، ويستعين على ذلك بالمعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم أو ببرامج الحاسب

ص: 45

الآلي، فمثلًا إذا أراد أن يخطب عن التقوى رجع إلى المعجم ليستخرج الآيات الدائرة حول هذا الموضوع.

ثم يجمع الأحاديث النبوية المتعلقة بالموضوع.

ولا يعني جمع هذه النصوص أن يذكرها كلها في الخطبة ولكن اطلاعه علبها يجعله مُلِمًّا بأطراف الموضوع ليطرحه من الجهة الأكثر تأثيرًا في نفوس الناس.

3 -

الرجوع إلى أقوال أهل العلم: وتبدأ هذه المرحلة بالرجوع إلى أقوال المفسرين للآيات التي اختارها الخطيب، والتي تعالج الموضوع الذي يطرحه، ثم الرجوع إلى شُرّاح الحديث أيضًا.

وبعد ذلك يراجع كتب أهل العلم في مظان الموضوع الذي يطرحه، فعلى سبيل المثال إذا كان الموضوع عقديًا رجع إلى كتب العقيدة، واستفاد من فهارس تلك الكتب للاهتداء لما يريد، وإذا كان الموضوع فقهيًا رجع إلى كتب الفقه. وإذا كان الموضوع في الآداب رجع إلى كتب الآداب، وقد يكون في الموضوع كتاب مفرد، فإن كان فذلك أفضل وأنفع للخطيب.

ثم إذا كان الموضوع عن ظاهرة معاصرة حسن بالخطيب أن يراجع كلام المعاصرين، ويذكر بعض الإحصائيات التي تزيد الموضوع ثراءً والسامع إقناعًا.

4 -

ضم الموضوع في نسق واحد: وبعد مرحلة الجمع هذه يضم الخطيب زبدة ما جمع في نسق واحد، فيضع مخططًا للأفكار التي يريد طرحها، ويكتب خطبته بناء على هذا المخطط ويراعي تسلسل الأفكار، وترابط الجمل والعبارات.

• ثالثًا: وحدة الموضوع وترابطه:

1 -

وحدة الموضوع: إن مما يساعد على الفهم لما يُقال في خطبة الجمعة توحيد الفكرة التي يدور عليها موضوع الخطبة؛ إذ من الملاحظ: أن بعض الخطباء يجعلون الخطبة مسحًا لجملة من الموضوعات وهذا خطأ إلا في المناسبات العامة التي يُراد فيها التذكير كالأعياد وخطبة عرفة ونحوها، وتعدد موضوعات الخطبة

ص: 46

والاستطرادات الكثيرة فيها بالخروج من موضوع إلى موضوع له عدة مساوئ من ضمنها:

أ - تشتيت ذهن السامع وجعله في حيرة من أمره، فلا يستطيع التركيز في الفهم فيخرج بدون فائدة واضحة قيمة مما سمع.

ب - ازدحام الموضوعات في ذهن السامع وكثرتها بحيث يُنسي بعضها بعضًا.

جـ - أن من شأن الخطبة التي تعالَج فيها موضوعات عدة أن تكون المعالجة لما يطرح فيها معالجة سطحية مسحية عاجلة لا تضع كما يقال (النقاط على الحروف) فتوجد إشكالات في ذهن السامع لا يجد إجابة لها بعكس التركيز على فكرة أو موضوع، فمن شأن ذلك أن يجعل الخطيب يوفي الموضع حقه.

2 -

ترابط أجزاء الخطبة: إن تنافر جزئيات الخطبة ينفر السامع وترابطها يربط على قلب السامع وعقله فيتحقق له الفن، ومما يحقق ذلك الترابط ما يلي:

أ - أن يقسم الخطيب الخطبة بشكل منظم فإذا طرح القضية التي لها جوانب عدة فصلها بحسب تلك الجوانب ورقمها فيقول: الجانب الأول

الجانب الثاني

وهلم جرا.

وإذا استدل بجملة أدلة رقمها فقال: الدليل الأول .. الدليل الثاني.

ب - أن تكون الخطبة متسلسلة تسلسلًا علميًا يسهل على الناس الفهم، فإذا تكلم الخطيب عن ظاهرة اجتماعية شخّصها قبل بيان الحكم.

جـ - أن ينتقل من الحقائق المعلومة عن الجميع إلى ما يريد الحديث عنه، ولا يطيل الوقوف عند ما يتفق عليه الناس، فإذا تكلم عن الموت فإنه لا يحتاج إلى مزيد كلام حول أن الموت واقعُ لا محالة، ولكنه يحتاج إلى حث الناس على العمل لما بعد الموت، فتذكيرهم به إنما هو من أجل الحث على العمل.

ص: 47

د - أن يجعل الموضوع الطويل مقسمًا على جُمَع متعددة ليعالج الموضوع من جميع جوانبه ولا يكون ذلك إلا للموضوعات التي لابد من علاج جميع جوانبها والتي تَكتسب أهمية خاصة.

• رابعَا: مراعاة القدرة:

1 -

مراعاة قدرة الخطيب على البيان: إن العلم درجات {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلم عَلِيمٌ} (يوسف: 76)، والله عز وجل قد أمر نبيه أن يسأله أن يزيده علمًا فقال:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلما} (طه: 114)، وليس الخطيب قادرًا على كل الموضوعات التي يريد طرحها إما لقلة علمه في الجملة وإما لقلة علمه في موضوع معين، فإذا رأى الخطيب من نفسه ذلك فعليه ألا يتكلم في موضوع هو غير قادر على بيانه وتوضيحه أو غير عالم بجوانبه التي يجب طرحها على الناس.

وحين يوجد ذلك فالأفضل أن يستعين الخطيب بكتاب فيه خطب لعالم موثوق فيخطب بما فيه، ولا ينشئ كلامًا في موضوع لا يحسن هو الكلام فيه والله عز وجل يقول:{فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: 16) هذا إذا لم يكن ثمة قادر على الخطابة، وإلا فالقادر أحق بالخطابة.

2 -

مراعاة قدرة الناس على الفهم: إن الناس تتباين عقولهم، وتختلف فهومهم، فهم على درجات في الفهم، والخطيب يخاطب أناسًا كثرًا، فكان واجبًا عليه مراعاة قدرة الناس على فهم ما يقول لئلا يصير ذلك القول فتنة لهم، مثال ذلك: تكليم الناس في دقائق العلوم وصعاب المسائل التي لاتصل إليها أفهامهم ولا تدركها عقولهم، كمن يحدث عوام الناس بدقائق المسائل في القضاء والقدر وهي مسائل لا يصلح ذكرها لعوام الناس ولا يدركها إلا خواصهم.

فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ؛ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللهُ وَرَسُولُهُ» (رواه البخاري).فنهى عن تحديت الناس بما لا يعقلون حتى لا يؤدي ذلك إلى تكذيب اللهِ عز وجل ورسولِه صلى الله عليه وآله وسلم.

ص: 48

وعَنْ عُبَيْدِ الله بْنِ عَبْدِ الله بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ الله بْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: «مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً» (رواه مسلم).

إن تحديت الناس بما لا يعقلون ولا يدركون يؤدي إلى نتائج سيئة منها:

أن يفهم السامع الكلام على غير وجهه فيفتن بأحد أمرين:

أ - التكذيب بالحق.

ب - العمل بالباطل.

• خامسًا: مراعاة الأحوال:

إن من الحكمة المأمور بها في قول الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالموْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (النحل:125). مراعاة الحال والمقام.

ويحسن بالخطيب:

1 -

مراعاة أحوال الأمة العامة:

إن الأمة تمر بأحوال مختلفة كل حال تستدعى من الخطابة ما يناسبها، فإن حالة الحرب تستدعي من التركيز على موضوعات معينة ما لا يستدعيه حال السلم، فيركز الخطيب على الصبر، وجمع الكلمة، والجهاد، والتوكل على الله، وعدم الركون للكافرين.

كما أن حال الأمن والرغد تستدعي التذكير بالنعم والأمر بالشكر والتحذير من كفران النعم، وبيان قصص السابقين الذين بدلوا نعمة الله كفرًا وأحلوا قومهم دار البوار.

2 -

مراعاة حال المصلين في المسجد:

إن المساجد يختلف روادها باعتبارات كثيرة وعليه فإن المسجد الذي يرتاده مدرسو الجامعات غير الذي يرتاده طلابها والمسجد الذي يرتاده العمال غير المثقفين غير الذي يرتاده المتعلمون، والمسجد الذي يرتاده الزراع غير المسجد الذي يرتاده الصناع.

ص: 49

فمن الحكمة أن يختار الخطيب من الموضوعات ما يتناسب مع المصلين، بل قد يكون موضوع واحد يُعالَج من أوجه عدة بحسب حال المصلين، فالزكاة يركز فيها عند المزارعين على زكاة الزروع والثمار، وعند التجار على زكاة الأثمان وعروض التجارة وهكذا.

• سادسًا: الموازنة بين المتقابلات:

1 -

الموازنة بين البشارة والنذارة:

إن بعض الناس يكون ذا طبيعة نفسية مائلة إلى جانب التبشير أو جانب التخويف، فيؤثر ذلك على خطبه، فيميل مثلًا إلى جانب الإنذار والتخويف دومًا، فنراه يشيع في الناس ـ على سبيل المثال ـ الكلام عن فساد الناس وضياع الدين واندراس السنن، وإن مستقبل الناس يزداد شرًا وأن الأعداء يملكون زمام العالم

إلخ.

وهذا الاقتصار يبعث اليأس في النفوس ويحطم حيوتيها ونشاطها للعمل الإسلامي، والحكمة أن يوازن الإنسان بين البشارة والنذارة، ولذلك جمع الله للرسول بين هذين العملين فقال:{فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} (البقرة: 213){رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} (النساء آية213). فهم يبشرون في مواضع البشارة، وينذرون في مواضع النذارة، ويجمعون بينهما في مواضع الجمع.

إن حالات الإنذار يحتاجها الناس عندما يركنون إلى الدنيا وحظوظها فهو أسلوب تخويف مع من لم يرفع بدين الله رأسًا، وأما التبشير فإنه يتوجه للمتقين الطائعين.

ويحتَاج الناس للتبشير وبعث الأمل في النفوس حين الاضطراب والضعف والخوف والبلاء، ولذلك لما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مضطربا بعد نزول الوحي عليه بشرته أم المؤمنين خديجة رضي الله عنهما بما يُزِيل عنه دواعي الاضطراب وأسباب الخوف فقالت:

ص: 50

«كَلَّا أَبْشِرْ فَوَاللهِ لَا يُخْزِيكَ الله أَبَدًا؛ فَوَاللهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ» (رواه البخاري).

وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبشر أصحابه بالرفعة والظهور على الأديِان وهم في أشد حالات الضعف، وأعداؤهم متسلطون عليهم فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:«بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ وَالدِّينِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ» (صحيح رواه الإمام أحمد).

إن الموازنة بين البشارة والنذارة من الحكمة في الدعوة التي أمر الله عز وجل بها ومن اتباع سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم وفيه مراعاة لأحوال الناس ونفوسهم.

وهنا يجب التنبيه إلى أمر، وهو أن بعض الناس يذكر في سياق الترهيب من جرم أو ذنب بعض آيات الوعيد، ثم يعقب في خطبته ببيان أن ذلك الوعيد ليس محمولًا على معناه المتبادر، وإنما لا بد له من تأويل مثال ذلك:

قد يذكر الخطيب حديثَ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» (رواه البخاري ومسلم)، فيذكر قول السلف في معنى الحديث وأنه ليس الكفر المخرج من الملة، وهذا حق، ولكنه يُضْعِف أثر الحديث في النفوس، ولذلك لو فرق بين حال التعليم وحال الوعظ وأنه حين الوعظ تُذكر نصوص الوعيد كما جاءت، وأما في حالة التعليم وبيان الحكم فلا بد من البيان.

2 -

الموازنة بين المصالح والمفاسد: إن الخطيب بحاجة إلى فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد ومعرفة رتب المصالح والمفاسد حتى يوازن بين مصلحة كلامه وما قد يترتب عليه من المفاسد، وذلك أن قيام الشريعة إنما هو على جلب المصالح ودرء المفاسد.

ص: 51

وهذه المصالح والمفاسد فد تختلط فيكون الفعل الواحد أو القول الواحد مصلحة من وجه ومفسدة من وجه آخر، أو مصلحة مشوبة بشيء من المفاسد أو العكس أو هي مصالح أو مفاسد في حال دون حال.

وتعارض المصالح والمفاسد عالجه الشارع فأمر:

أ - بارتكاب أدنى الفسادين للسلامة من أعلاهما.

ب - وبإهدار إحدى المصلحتين لتحصيل أعلاهما.

ت- وبتقديم درء المفاسد على جلب المصالح.

ث - وبالنظر في مآلات الأمور وعواقبها.

ولذلك فإنه يجب على الخطيب ألا يدفع الفساد بمفسدة أعظم إذ لا يجوز رفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا يدفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين، فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يُجمعا جميعًا، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعًا.

إن موضوعًا من الموضوعات قد لا يصلح أن يعرضه الخطيب في وقت أو حال لما يترتب على عرضه من مفاسد، بينما لو عرضه في وقت آخر أو حال أخرى كان مصلحة خالصة، والفقيه من وازن بين المصالح والمفاسد، فقال حين يحسن القول، وكَفَّ حين يَحْسُن الكَفّ.

3 -

الموازنة بين الجانب العاطفي والجانب العقلي:

إن بعض الخطباء تصطبغ خطبتهم بالصبغة العاطفية البحتة، فلا تراه يجتهد لإقناع الناس بما يقول، وبعضهم تصطبغ خطبه بالصبغة العقلية البحتة فلا يثير عواطف الناس، وكِلا طرفَيْ قصْدِ الأمورِ ذميمُ.

ص: 52

سابعًا: التثبت:

إن خطبة الجمعة يحضرها أناس تختلف أقدارهم العلمية والعقلية وكلهم في الغالب يقف موقف المتلقي من الخطيبِ فكان واجبًا على الخطيب أن يتثبت مما يقول:

1 -

التثبت من صحة النص الشرعي:

فيجب على ناقل النص من السنة التثبت من صحته، لأن الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبر عن الله عز وجل، وليس كذبًا على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ككذب أحد على من سواهما، فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ؛ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» (رواه البخاري ومسلم).

وعن سلمة رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يِقول: «مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» (رواه البخاري).

فعلى الخطيب إذا أراد أن يخطب أن يتثبت من صحة الأحاديث وذلك بمعرفة مخرِّجيها، فإن كانت في البخاري ومسلم أو أحدهما كان ذلك دليلا على صحتها وإن كانت في غيرهما اجتهد في البحث عن أقوال أهل العلم في الكلام عن الحديث.

ولقد أتِىَ كثير من الخطباء الذين ينقلون نصوصًا غير صحيحة من اعتمادهم على المجاميع المعروفة باحتوائها على الصحيح والضعيف بل وما دونه، ككنز العمال والترغيبِ والترهيب، وما انتشار كثير من الأحاديث الموضوعة المحفوظة في أذهان الناس إلا بسبب تساهل بعض الخطباء والوعاظ ونقلهم لها دون تثبت وتبين.

وعلى الخطيب أن يستعين بالكتب التي تبين مدى صحة الحديث، فلا يكفي مثلًا أن يذكر الكتاب أن الحديث رواه أبو داود أو الترمذي أو النسائي أو ابن ماجه مثلًا، بل لابد أن يذكر أن الحديث صحيح أو حسن أو ضعيف؛ لأن هذه الكتب وأمثالها فيها الصحيح والضعيف بل والموضوع.

ص: 53

2 -

التثبت في الفهم ووجه الاستدلال: إن النص قد يكون صحيحًا من جهة النقل ولكن الفهم المقلوب لذلك النص يحيل المراد.

فكم مِنْ عَائِبٍ قولًا صحيحًا

وآفَتُه مِنَ الفَهْمِ السقِيمِ

وقد يأخذ من النص دلالة وهو غير مصيب، ولو راجع أقوال المفسرين وشروح العلماء لكتب الحديث لوقع على خبير بما يُؤخذ من النص وما يستفاد منه.

وأما الاعتماد على ما يتبادر إلى الذهن من النص، فذلك موقع في الخطأ إذ القرآن يصدق بعضه بعضًا ويحتاج الذي يريد فهم نص إلى الرجوع للنصوص الأخرى وأقوال أهل العلم.

3 -

التثبت من سلامة نقل النص:

ينقل الخطيب في موضع الاستشهاد شيئًا من الآيات القرآنية والأحاديثِ النبوية، ومن الواجب على الخطيبِ ألا يعتمد على حفظه فيما يتعلق بالآيات والأحاديث بل يراجعها لينقلها بلفظها إن كانت من القرآن وأما إن كانتْ من السنة فبلفظها إن أمكن أو بمعناها.

ومن الملاحظ هنا: أن من الخطباء من يستشهد بنص قرآني فينقله نقلا غير صحيح فيحرف آيات التنزيل أو يلحن في تلاوة النص أو نحو ذلك وقَد يتلقى منه الناس ذلك الخطأ ويأخذونه مأخذ التسليم، وقد ينقل نصًا من السنة من حفظه فيخطئ بتقديم أو تأخير يؤثر في المعنى أو لحن يحيله، ولو راجع النص لسَلِم من ذلك.

4 -

التثبت من الأحكام الشرعية:

إن من مهام الخطيب أن يبيِّن للناس الأحكام الشرعية لأفعال المكلفين من حِلّ وحرمة ووجوب وندب وكراهة، وتزداد أهمية ذلك في بعض المواسم كمواسم رمضان والحج ونحو ذلك، ولا يصح لخطيب أن يذكر تلك الأحكام دون تثبت منها، فإن ذلك قول على الله عز وجل بغير علم {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ

ص: 54

وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لم يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلمونَ} (الأعراف آية 33).

وحق على الخطيب أن يراجع في كل موسم ما يناسب من أبواب الفقه، ففي رمضان أو قبله بقليل يراجع كتاب الصيام وكتاب الزكاة من كتب الفقه، وقبل موسم الحج يراجع كتاب الحج ويراجع أحكام العشر من ذي الحجة وأيام التشريق وهكذا.

هذا إن كان أهلًا وقادرًا على الفهم، وأما إن لم يكن كذلك فعليه أن يقرأ فتاوى أهل العلم إذا أراد بيان شيء للناس من على المنبر، ويحيل إلى تلك الفتاوى الموثقة مسندة إلى مراجعها.

5 -

التثبت من الأخبار:

قد ينقل الخطيب في أثناء خطبته للناس حدثًا من الأحداث يريد أن يكون مدخلًا للموضوع، وهذا الأسلوب أسلوب حسن لأنه يشد الناس ويلفت أنظارهم للموضوع؛ لأن من طبيعة غالب البشر حب القصص وتأثرهم بها، ثم تكون تلك القصة وسيلة للفهم لأنها تُجسد المعاني في أشياء واقعية ولكن تلك القصص والأخبار تحتاج إلى جملة ضوابط منها ـ فيما نحن بصدده ـ التثبت، وهو خلق نبيل دعا إليه الإسلام، يقول اللَه عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: 6).

والعاقل لا يعتمد على نُقول الناس وأقوالهم، فإن تناقل القول ليس دليلًا على صحته، وفوق أن التثبت فضيلة والنقل من الناس بدونه رذيلة، قد يكون حديث الخطيب عن خبر لا يصدق ولا يثبت سببًا لفقدان مصداقيتِه عند الناس؛ فلا يأخذون قوله، ولا يتقبلونه إلا بنوع من الشك.

وتزداد أهمية التثبت بشكل عام حين وقوع الفتن واضطراب الأحوال، وتبلبل الأذهان فإن ذلك إذا وقع في زمان ما أوجب التثبت والتبيين لما يستَدعيه زمن الفتن والشرور من كثرة الكذب والافتراء.

ص: 55

• ثامنًا: معالجة مشكلات الأمة:

إن الناظر في المجتمعات المسلمة اليوم يجد أنها تزخر بألوان من المشكلات فمنها المشكلات العقدية كالحكم بغير ما أنزل الله عز وجل وعبادة القبور والنذر لأصحابها، ومنها المشكلات الاجتماعية كغلاء المهور والعنوسة.

ومنها المشكلات الاقتصادية، ومنها المشكلات الأخلاقية كالرشوة، ومنها المشكلات المتعلقة بقضايا الأمة العامة كتفشي الظلم والمنكرات العامة وغير ذلك، ومنها المشكلات النفسية كمشكلات القلق والإحساس بالضيق النفسي ونحو ذلك.

والخطيب كالطبيب فهو يعالج هذه المشكلات، بل حقيق به أن يتلمس مشكلات الناس ليساعد في حلها، ولكن يحسن التنبيه إلى جملة ملاحظ تتعلق بهذا الموضوع:

1 -

أنه يجب على الخطيبِ أن تكون معالجته للمشكلات على المنبر منضبطة بالضوابط الشرعية المعلومة في إنكار المنكر: ومن ذلك:

أ - الإخلاص لله عز وجل.

ب - مراعاة المصالح والمفاسد.

ت - العلم بأن ما يريد النهي عنه منكر أو ما يريد الأمر به معروف.

ث- المعالجة للأمر بالحكمة والموعظة الحسنة.

2 -

أن يتوجه إلى الناس بما يستطيعون القيام به: فلا يخاطب العوام بما يخرج عن قدرتهم، أو بمنكر ليسوا هم القائمين عليه، أو يخاطبهم عن المنكر العام الذي فعله غيرهم من الجهة التي لا تدخل تحت قدرتهم؛ فإن من الناس من يتكلم عن منكر من المنكرات ولا يذكر ما يمكن للناس عمله تجاه ذلك المنكر فيؤجج مشاعرهم فيقفون موقف المحتار الذي لا يدري ما يعمل، وقد يصير بعض الناس إلى أعمال غير شرعية في تغيير ذلك المنكر.

ص: 56

3 -

ألا يركز الخطيب على جانب الإنكار فقط: بل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فإن مشكلات الناس إما ترك لمعروف أو فعل لمنكر، بل مع فشو المنكرات لا بد أن يكون ثَمة ألوانًا من المعروف مهجورة، وأنواعًا من الخيرات مهملة، وأن الناس لو شغلوا بأعمال الخير والمشاريع الخيرية النافعة لم يكن عندهم فضل وقت لغيرها.

فالمعالجات للوقائع الحادثة تنقسم إلى قسمين:

أ - معالجة المنكرات، ولاسيما ما كان منها قريب العهد، وهو حديث الناس، ويراعى في معالجة هذه المنكرات أكبرها ضررًا وأسوأها أثرًا، وعند تحذير الناس من ذلك المنكر يدلل على حرمته وخطره من القرآن والسنة، ويحصر أضراره ومساوِئَه في جميع الجوانب، ويحض على تركه والتوبة منه، مبينًا الموقف من ذلك المنكر وسبل معالجته.

ب - الحض على أعمال صالحة ومشاريع نافعة ويذكر أدلة فضل تلك الأعمال وما في القرآن والسنة من بيان أجر عاملها ومزايا هذا العمل ونتائجه وخطورة تَرْكه والإعراض عنه، وأن هذا الإعراض من مشكلات الأمة الحادثة التي يجب علاجها.

4 -

ألا يركز الخطيب على لون من ألوان المشكلات: فإن المجتمع فيه مشكلات كثيرة تحتاج إلى علاج، وبعضها إذا عولج فبالتبع ستتم معالجة مشكلات كثيرة، وقد تكون هناك مشكلة متعبة لأناس كُثر وهم يبحثون عن علاجها، والخطباء أو بعضهم عنها غافلون.

ومن ذلك: أن خطيبًا خطب عن القلق وطرق دفعه ومعالجته إذا وقع فوقعت الخطبة موقعًا عظيمًا من الناس وطلب صورتَها ليقرأها طوائفُ كثيرة منهم وذلك لأنهم يعانون من المشكلة، والقلق حقيقتُه عَرَضُ مشكلاتٍ أخرى، والساعي في علاج نفسه من القلق علاجًا شرعيًا سيعالج تلك المشكلات.

ص: 57

5 -

أن صلاة الجمعة صلاة يشهدها جماعات من الناس مختلفة المشارب متنوعة من كل وجه، فمنها البر والفاجر والصالح والفاسق، وضعيف النفس والجاهل، فعلى خطيب الجمعة عند الحديث عن المنكرات والمعاصي ألا يوغل في وصف تلك المنكرات، وبيان أماكنها وطريقة أهل الشر، فإن ذلك الوصف مدعاة إلى عكس ما أراده الخطيب، وفي التحذير عن المنكر والنهي عنه وبيان أضراره وآثاره غُنية عن وصفه.

6 -

أن الكلام عن حدث من الأحداث أو منكر من المنكرات العامة قد يعالج بطريقَة تسبب ضررًا أكبر، كأن يتحدث الإنسان عن ذلك المنكر والقائمين عليه، ويصف أحوالهم وأعمالهم، بينما يمكن أن يعالج الموضوع بطريقة حكيمة كأن يتحدث الخطيب عن موضوع مناسب لما وقع، يفهم الناس عن طريقه الموقف الشرعي الرشيد من القضية.

مثالان على ذلك:

الأول: في بلد مسلم كُرِّم رجل لا يستحق التكريم لأمور أعظمها أنه غير مسلم، وأنه لم يفعل شيئًا يستحق التكريم، فضج أحدُ الخطباء يخطب وأوغل في ذكر ما جرى من تكريم للرجل بما هو ليس من أهله.

ولكن خطيبًا خطب خطبة عن موازين رفع الناس وخفضهم، ولم يتطرق للحدث، ولكن الظرف الزماني ساعد الناس على الفهم، وأصَّل الرجل الموضوع تأصيلًا شرعيًا لا يقتصر على مجرد ما وقع، ولكنه يشمله ويشمل نظائره من الأحداث.

الثاني: تحدث في بلد تجاوزات بسبب فرح بأمر كفوز فريق أو نحو ذلك، فتصدر الجهات الرسمية بيانات، ويتكلم بعض الخطباء عن ما حدث ولكن الأفضل من ذلك بالنسبة للخطيبِ أن يضع للناس موازين شرعية في الفرح والسرور ومتى يكون ذلك وبم يكون؟ والذين يفعلون ذلك يجعلون للمنبر حرمة ومكانة مع أنهم قد أعذروا إلى الله ببيان الحكم الشرعي فيما حدث.

ص: 58