الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
22 - نحن والمزاح
إن الإنسان مدني بطبعة، ومع اتساع المدن وكثرة الفراغ لدى بعض الناس، وانتشار أماكن التجمعات العامة كالمنتزهات والاستراحات، وكثرة الرحلات البرية، والاتصالات الهاتفية، واللقاءات المدرسية، والتجمعات الشبابية، توسع كثير من الناس في المزاح مع بعضهم البعض، دون ضابط لهذا الأمر الذي قد يؤدي إلى المهالك، ويورث العداوة والبغضاء.
والمراد بالمزاح: الملاطفة والمؤانسة، وتطييب الخواطر، وإدخال السرور. وقد كان هذا من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما ذكر ذلك البخاري في (بَاب الِانْبِسَاطِ إِلَى النَّاسِ) عن أَنَسَ ابْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قال:«إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم لَيُخَالِطُنَا حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي صَغِيرٍ يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النّغَيْرُ» (رواه البخاري).
النّغَيْر: طَائِر مَعْرُوف يُشْبِه الْعُصْفُور.
وَفِي الحديث جَوَاز الْمُمَازَحَة وَتَكْرِير الْمَزْح وَأَنَّهَا إِبَاحَة سُنَّة لَا رُخْصَة، وَأَنَّ مُمَازَحَة الصَّبِيّ الَّذِي لَمْ يُمَيِّز جَائِزَة. وَفِيهِ تَرْك التَّكَبُّر وَالتَّرَفُّع.
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، احْمِلْنِي» ،
قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ»
قَالَ: وَمَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ؟».
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «وَهَلْ تَلِدُ الْإِبِلَ إِلَّا النُّوقُ؟» (صحيح رواه أبو داود).
(اِحْمِلْنِي): أَيْ عَلَى دَابَّة وَالْمَعْنَى اِعْطِنِي حَمُولَة أَرْكَبهَا.
(قَالَ وَمَا أَصْنَع بِوَلَدِ النَّاقَة): لَمَّا كَانَ الْمُتَعَارَف عِنْد الْعَامَّة فِي بَادِي الرَّأْي اِسْتِعْمَال وَلَد النَّاقَة فِيمَا كَانَ صَغِيرًا لَا يَصْلُح لِلرُّكُوبِ وَإِنَّمَا يُقَال لِلصَّالِحِ الْإِبِل، تَوَحّش الرَّجُل عَلَى فَهْم الْمَعْنَى.
(وَهَلْ تَلِد الْإِبِلَ): بِالنَّصْبِ مَفْعُول مُقَدَّم، (إِلَّا النُّوقُ): بِضَمِّ النُّون جَمْع نَاقَة وَهِيَ أُنْثَى الْإِبِل. وَقَوْله (إِلَّا النُّوقُ) بِالرَّفْعِ فَاعِل مُؤَخَّر؛ فَالْإِبِل وَلَوْ كِبَارًا أَوْلَاد النَّاقَة فَيَصْدُق وَلَد النَّاقَة بِالْكَبِيرِ وَالصَّغِير.
وَالْمَعْنَى إِنَّك لَوْ تَدَبَّرْت لَمْ تَقُلْ ذَلِكَ، فَفِيهِ الْإِشَارَة إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَ قَوْلًا أَنْ يَتَأَمَّلهُ وَلَا يُبَادِر إِلَى رَدّه.
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: «يَا ذَا الأذُنَيْنِ» يمازحه. (صحيح رواه الترمذي).وهَذَا الْقَوْلَ مِنْ جُمْلَةِ مُدَاعَبَاتِهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَلَطِيفِ أَخْلَاقِهِ.
ولا شك أن التبسط لطرد السأم والملل، وتطيب المجالس بالمزاح الخفيف فيه خير كثير فإن مَنْ اسْتَعَانَ بِالْمُبَاحِ الْجَمِيلِ عَلَى الْحَقِّ فَهَذَا مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ:«فِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ» ، قَالُوا:«يَا رَسُولَ اللهِ أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟» ، قَالَ:«أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْر» (رواه مسلم).
البُضْع: الْجِمَاع، وَيُطْلَق عَلَى الْفَرْج نَفْسه وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمُبَاحَات تَصِير طَاعَات بِالنِّيَّاتِ الصَّادِقَات، فَالْجِمَاع يَكُون عِبَادَة إِذَا نَوَى بِهِ قَضَاء حَقّ الزَّوْجَة وَمُعَاشَرَتَهَا بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ، أَوْ طَلَبَ وَلَدٍ صَالِحٍ، أَوْ إِعْفَافَ نَفْسِهِ أَوْ إِعْفَاف الزَّوْجَة وَمَنْعَهُمَا جَمِيعًا مِنْ النَّظَر إِلَى حَرَام، أَوْ الْفِكْر فِيهِ، أَوْ الْهَمّ بِهِ، أَوْ غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْمَقَاصِد الصَّالِحَة.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ لَهُ: «إنَّك لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إلَّا ازْدَدْت بِهَا دَرَجَةً وَرِفْعَةً حَتَّى اللُّقْمَةُ تَضَعُهَا فِي فِي امْرَأَتِك» . وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ. فَالْمُؤْمِنُ إذَا كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ أَتَتْ عَلَى عَامَّةِ أَفْعَالِهِ وَكَانَتْ الْمُبَاحَاتُ مِنْ صَالِحِ أَعْمَالِهِ لِصَلَاحِ قَلْبِهِ وَنِيَّتِهِ».
•
ضوابط المزاح:
وقد اعتبر بعض الفقهاء المزاح من المروءة وحسن الصحبة، ولاشك أن لذلك ضوابط منها:
1 -
ألا يكون المزاح إلا صدقًا:
قال صلى الله عليه وآله وسلم: «وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ» (حسن رواه أبو داود). (وَيْل): أَيْ هَلَاك عَظِيم أَوْ وَادٍ عَمِيق فِي جَهَنَّم (فَيَكْذِب): أَيْ فِي تَحْدِيثه وَإِخْبَاره (لِيَضْحَك): بِفَتْحِ الْيَاء وَالْحَاء (بِهِ): أَيْ بِسَبَبِ تَحْدِيثه أَوْ الْكَذِب (الْقَوْم): بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ فَاعِل، وَيَجُوز بِضَمِّ الْيَاء وَكَسْر الْحَاء (لِيُضْحِكَ) وَنَصْب الْقَوْم عَلَى أَنَّهُ مَفْعُول.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا؟ قَالَ:«إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا» (صحيح رواه الترمذي)(إِنَّك تُدَاعِبُنَا) مِنْ الدُّعَابَةِ أَيْ تُمَازِحُنَا.
ومن الكذب في المزاح ما يسمونه بالنكت، وهي مواقف مضحكة لم تحدث، ويكون فيها ـ في الغالب ـ سخرية واستهزاء بطائفة من الناس، بل وقد يكون فيها ما يخدش الحياء ويشجع على انتشار الفاحشة بتهوين أمر الغيرة على الأعراض، والتهوين من قبح المعاصي، بل أحيانًا يكون فيها استهزاء بأمور الدين ـ والعياذ بالله.
2 -
ألا يكون فيه شيء من الاستهزاء بالدين:
فإن ذلك من نواقض الإسلام قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ *لَا تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (التوبة:65 - 66)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:«الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه» .
وكذلك الاستهزاء ببعض السنن، ومما انتشر الإستهزاء باللحية أو الحجاب، أو بتقصير الثوب أو غيرها؛ فجانب الربوبية والرسالة والوحي والدين جانب محترم لا يجوز لأحد أن يبعث فيه لا باستهزاء، ولا بإضحاك، ولا بسخرية، فإن فعل فإنه كافر،
لأنه يدل على استهانته بالله عز وجل ورسله وكتبه وشرعه، وعلى من فعل هذا أن يتوب إلى الله عز وجل مما صنع، لأن هذا من النفاق، فعليه أن يتوب إلى الله ويستغفر ويصلح عمله ويجعل في قلبه خشية الله عز وجل وتعظيمه وخوفه ومحبته.
3 -
عدم الترويع:
خاصة ممن لديهم نشاط وقوة أو بأيديهم سلاح أو قطعة حديد، أو يستغلون الظلام وضعف بعض الناس ليكون ذلك مدعاة إلى الترويع والتخويف.
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ فَأَخَذَهُ فَفَزِعَ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم:«لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا» (صحيح رواه أبو داود).
(لَا يَحِلّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّع مُسْلِمًا): أَيْ يُخَوِّفهُ؛ وَلَوْ هَازِلًا لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِيذَاء.
4 -
الإستهزاء والغمز واللمز:
الناس مراتب في مداركهم وعقولهم وتتفاوت شخصياتهم، وبعض ضعاف النفوس ـ أهل الاستهزاء والغمز واللمز ـ قد يجدون شخصا يكون لهم سلما للإضحاك والتندر - والعياذ بالله - وقد نهى الله عز وجل عن ذلك فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات:11)، قال ابن كثير في تفسيره:«المراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم والاستهزاء بهم، وهذا حرام، ويعد من صفات المنافقين»
والبعض يستهزي بالخلقة أو بالمشية أو المركب ويُخْشَى على المستهزىء أن يجازيه الله عز وجل بسبب استهزائه.
وحذر صلى الله عليه وآله وسلم من السخرية والإيذاء؛ لأن ذلك طريق العداوة والبغضاء قال صلى الله عليه وآله وسلم: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا ـ وَيُشِيرُ إِلَى
صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ـ بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ» (رواه مسلم).
5 -
أن لا يكون المزاح كثيرًا:
فإن البعض يغلب عليهم هذا الأمر ويصبح ديدنًا لهم، وهذا عكس الجد الذي هو من سمات المؤمنين، والمزاح فسحة ورخصة لاستمرار الجد والنشاط والترويح عن النفس.
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «اتقوا المزاح، فإنه حمقة تورث الضغينة» .
قال الإمام النووي رحمه الله: «المزاحُ المنهِيُّ عنه هو الذي فيه إفراط ويداوم عليه، فإنه يورث الضحك وقسوة القلب، ويشغل عن ذكر الله تعالى: ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء، ويورث الأحقاد، ويسقط المهابة والوقار، فأما من سلم من هذه الأمور فهو المباح الذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعله» .
قَدِّمْ لنفسِكَ في الحياةِ تزَوُّدًا
…
فلقد تُفارقُها وأنتَ موَدَّعُ
وَاهْتَمَّ لِلسَّفرِ القَرِيبِ فإِنَّهُ
…
أنآى مِن السفرِ البعيدِ وأشْسَعُ
واجعَلْ تزوُّدَك المخافةَ والتّقَى
…
وكأن حَتْفَك مِن مسائِكَ أسْرَعُ
والصمتُ يُحْسِنُ كلَّ ظنٍّ بالفتَى
…
ولعلهُ خَرِقٌ سفِيهٌ أرْقَعُ
وَدَعِ المُزَاحَ فَرُبَّ لفظة ِ مازحٍ
…
جَلَبَتْ إليكَ مساوئًا لا تُدْفعُ
(الشَّاسِع والشَّسُوع: البَعِيد). (الأَخْرَقُ والخَرِقِ: الأحمق، ومَن لا يُحْسِنُ الصَّنْعَةَ).
(الرقيع: الأحمقُ).
6 -
أن يكون المزاح بمقدار الملح للطعام:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ يَأْخُذُ عَنِّي هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ فَيَعْمَلُ بِهِنَّ أَوْ يُعَلِّمُ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ» ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه:فَقُلْتُ أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ» فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّ خَمْسًا وَقَالَ: «اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ
تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، وَلَا تُكْثِرْ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ» (حسن رواه الترمذي).
(هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ) أَيْ الْأَحْكَامَ الْآتِيَةَ لِلسَّامِعِ الْمُصَوَّرَةَ فِي ذِهْنِ الْمُتَكَلِّمِ.
(وَقَالَ اِتَّقِ الْمَحَارِمَ) أَيْ اِحْذَرْ الْوُقُوعَ فِيمَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْك
(تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ) أَيْ مِنْ أَعْبَدْهُمْ.
(وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَك) أَيْ أَعْطَاك (تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ) فَإِنَّ مَنْ قَنَعَ بِمَا قُسِمَ لَهُ وَلَمْ يَطْمَعْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ اِسْتَغْنَى عَنْهُمْ، قال صلى الله عليه وآله وسلم:«لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» (رواه البخاري ومسلم). والْعَرَض هُوَ مَا يُنْتَفَع بِهِ مِنْ مَتَاع الدُّنْيَا.
(وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِك) بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ (تَكُنْ مُؤْمِنًا) أَيْ كَامِلَ الْإِيمَانِ.
(وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِك) مِنْ الْخَيْرِ (تَكُنْ مُسْلِمًا) أَيْ كَامِلَ الْإِسْلَامِ.
(وَلَا تُكْثِرْ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ) أَيْ تُصَيِّرُهُ مَغْمُورًا فِي الظُّلُمَاتِ، بِمَنْزِلَةِ الْميِّتِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ نَفْسَهُ بِنَافِعَةٍ وَلَا يَدْفَعُ عَنْهَا مَكْرُوهًا، وَهَذَا مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عُرِف به» .
الرفقُ يُمنٌ وخيرُ القولِ أصدقُه وكَثْرةُ المزحِ مفتاحُ العداواتِ
والصدقُ برٌ وقولُ الزورِ صاحبُه يومَ المعادِ حَرِيٌّ بالعقوباتِ
7 -
معرفة مقدار الناس:
فإن البعض يمزح مع الكل بدون اعتبار، فللعالم حق، وللكبير تقديره، وللشيخ توقيره، ولهذا يجب معرفة شخصية المقابل فلا يمازح السفيه ولا الأحمق ولا من لا يعرف. وفي هذا الموضوع قال عمر بن عبد العزيز:«اتقو المزاح، فإنه يذهب المروءة» .
وقال سعد بن أبي وقاص: «اقتصر في مزاحك، فإن الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجَرّىء عليك السفهاء» .
فإياكَ إياكَ، المزاحَ فإنّه يُجَرِّىءُ
…
عليكَ الطفلَ والدنِسَ النَذْلَا
ويُذْهِبُ ماءَ الوجهِ بعدَ بهاءِه
…
ويورثُه مِن بعدِ عزتِه ذلا
8 -
ألا يكون فيه غيبة:
وهذا مرض خبيث، ويزين لدى البعض إنه يحكى ويقال بطريقة المزاح، وإلا فهو داخل في حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«ذِكْرُكَ أخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ» (رواه مسلم)
9 -
اختيار الأوقات المناسبة للمزاح:
كأن تكون في رحلة برية، أو في حفل سمر، أو عند ملاقاة صديق، تتبسط معه بنكتة صادقة لطيفة، أو طرفة عجيبة، أو مزحة خفيفة، لتدخل المودة على قلبه والسرور على نفسه، أو عندما تتأزم المشاكل الأسرية ويغضب أحد الزوجين، فإن الممازحة الخفيفة تزيل الوحشة وتعيد المياه إلى مجاريها.
قال رجل لسفيان بن عيينة رحمه الله: «المزاح هُجْنَة ـ أي مستنكر ـ» فأجابه قائلًا: «بل هو سنة، لكن لمن يحسنه ويضعه في مواضعه» .
والأمة اليوم وإن كانت بحاجة إلى زيادة المحبة بين أفرادها وطرد السأم من حياتها، إلا أنها أغرقت في جانب الترويح والضحك والمزاح فأصبح دَيْدَنَها وشغل مجالسها وسمرها، فتضيع الأوقات، وتفنى الأعمار، وتمتلىء الصحف بالهزل واللعب.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: «لَوْ عَلِمْتُمْ مَا أعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا ولَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» (رواه البخاري).
والمراد بالعلم هنا ما يتعلق بعظمة الله وانتقامه ممن يعصيه، والأهوال التي تقع عند النزع والموت وفي القبر ويوم القيامة «وعلى المسلم والمسلمة أن ينزع إلى اختيار الرفقة الصالحة الجادة في حياتها ممن يعينون على قطع ساعات الدنيا والسير فيها إلى الله عز وجل بجد وثبات، ممن يتأسون بالأخيار والصالحين، قال بلال بن سعد: «أدركتهم يشتدون بين الأغراض، ويضحك بعضهم إلى بعض، فإذا كان الليل كانوا رهبانا» .
وسُئِلَ ابن عمر رضي الله عنهما: «هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يضحكون؟
قال: نعم، والإيمان في قلوبهم مثل الجبال».
فعليك بأمثال هؤلاء، فرسان النهار، رهبان الليل.
يا أُمتي وجب الكفاحْ فدعي التشدق والصياحْ
ودعي التقاعُس ليس يُنْصَرُ من تقاعسَ واستراحْ
ما عادَ يُجدينا البكاءُ على الطُلُولِ ولا النُّواحْ
يا قومْ .. إن الأمرَ جِدٌّ قد مضَى زمنُ المِزاحْ
سقط القِناعُ عن الوجوهِ
…
وفِعلُهم بالسرِّ باحْ
عادَ الصليبيّونَ ثانيةً
…
وجالوا في البِطاحْ
عادوا وما في الشرقِ (نور
…
الدين) يحكُمُ أو (صلاحْ)
عاثوا فسادًا في الديار كأنها كلْاٌ مُباحْ
لم يخجَلوا من ذبحِ شيخٍ
…
لو مشى في الريح طاحْ
أو صِبْيَةٍ كالزهرِ لم
…
يَنْبٌتْ لهم ريشُ الجناحْ
ذبحوا الصبيَّ وأمَّهُ وفتاتها ذاتَ الوشاحْ
عبثوا بأجسادِ الضحايا
…
في انتِشاءٍ وانشِراحْ
لم يَشْفِ حِقدَهُمُ دمٌ
…
سفحوه في صَلَفٍ وقاحْ
فغدَوْا على الأعراضِ لم
…
يَخْشَوا قِصاصًا أو جُناحْ
لم يعبأوا بقرار أمنٍ داَنهم أو باقْتراحْ
يا أمة الإسلامِ هُبُّوا
…
واعملوا، فالوقتُ راحْ
الكفرُ جَمَّعَ شَمْلَهُ
…
فلِمَ النِّزاعُ والانتطاحْ
فتجمَّعوا وتجهَّزوا
…
بالمُستطاعِ وبالمُتاحْ
يا ألفَ مِليونٍ وأينَ هُمو إذا دعت الجِراحْ