المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌46 - رمضان شهر الجهاد - دليل الواعظ إلى أدلة المواعظ - جـ ١

[شحاتة صقر]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌مكانة يوم الجمعة في الإسلام:

- ‌مكانة خطبة الجمعة وأهميتها:

- ‌صفة خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌اشتمال الخطبة على الآيات القرآنية

- ‌اشتمال الخطبة على الأحاديث النبوية

- ‌ أثر الأحاديث الضعيفة في الابتداع في الدين:

- ‌ لا يجوز استحباب شيء لمجرد حديث ضعيف في الفضائل:

- ‌ معنى العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال:

- ‌ لا يجوز التقدير والتحديد بأحاديث الفضائل الضعيفة:

- ‌ شروط العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال عند القائلين به:

- ‌ هل هناك إجماع من العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال

- ‌اشتمال الخطبة على ضرب الأمثال

- ‌الاستشهاد بالشعر في الخطبة

- ‌الاستشهاد بالقصة في الخطبة

- ‌الاستشهاد بواقع الآخرين

- ‌فقه الخطيب

- ‌ ماذا تقرأ في صلاة الجمعة

- ‌ قطع الخطبة للتنبيه والإرشاد:

- ‌ ما الحكم فيمن دخل المسجد لصلاة الجمعة والمؤذن يؤذن الأذان الثاني

- ‌ رفع اليدين للدعاء في الخطبة:

- ‌ هل يصلي بالناس الجمعة غير الخطيب

- ‌ إذا قرأ الخطيب آية تشتمل على سجدة وهو يخطب فهل يسجد سجود التلاوة

- ‌كيف تختار موضوع الخطبة

- ‌ضوابط وقواعدلموضوعات خطبة الجمعة

- ‌وصايا للخطيب

- ‌الخطيب وجمهوره

- ‌وصايا أثناء الخطبة

- ‌همسات في أذن خطيب الجمعة

- ‌عيوب الخطبة

- ‌ عيوب في أصل الخطبة

- ‌تنبيه:

- ‌ عيوب في الخطيب

- ‌ عيوب نسبية

- ‌أدعية

- ‌موضوعات عامة

- ‌1 - الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌2 - التحذير من ترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌3 - كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعناها

- ‌4 - اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم دليل محبة الله عز وجل

- ‌5 - التواضع وذم الكبر

- ‌6 - فضائل الصحابة رضي الله عنهم

- ‌7 - فضائل الصحابة رضي الله عنهم في السنة المطهرة

- ‌8 - اتق الله حيثما كنت

- ‌9 - أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمحُهَا

- ‌10 - خَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ

- ‌11 - احفَظِ الله يَحْفَظْكَ

- ‌12 - إذا سَأَلْتَ فاسْألِ اللهوإذا اسْتََعَنْتَ فاستَعِنْ باللهِ

- ‌13 - شروط الدعاء وموانع الإجابة

- ‌14 - رُفِعَتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصُّحُفُ

- ‌15 - القناعة

- ‌16 - فوائد القناعة والسبيل إليها

- ‌17 - الإصلاح بين الناس

- ‌18 - الإصلاح بتن الناس وآداب المصلح

- ‌19 - الأمانة

- ‌20 - السعادة الوهمية

- ‌21 - أسباب السعادة وصفات السعداء

- ‌22 - نحن والمزاح

- ‌23 - إنَّ الله كَتَبَ الإحسّانَ على كُلِّ شيءٍ

- ‌24 - المستقبل لهذا الدين رغم مرارة الواقع

- ‌25 - المستقبل لهذا الدين ولكن ما السبيل إليه

- ‌26 - لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ

- ‌27 - وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌28 - موتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌29 - إذا لَم تَستَحْيِ، فاصْنَعْ ما شِئْتَ

- ‌30 - عَظيمٌٍ ولَكِنّه يَسيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ الله عليه

- ‌31 - قُلْ: آمَنْتُ باللهِ، ثمَّ استقِمْ

- ‌32 - كُلُّ النَّاسِ يَغْدُوفَبائعٌ نَفْسَهُ، فمُعْتِقُها أو مُوبِقها

- ‌33 - كثرة النعم وكثرة طرق الشكر

- ‌34 - أكل الميراث بالباطل

- ‌35 - إنَّ الله طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلَاّ طيِّبًا

- ‌36 - لا تَحَاسَدُوا

- ‌37 - كُونُوا عِبادَ اللهِ إِخْوانًا

- ‌38 - لا تَظالموا

- ‌39 - إنَّما هي أعمالُكُم أُحصيها لكم

- ‌40 - لا تَغْضَبْ

- ‌خطب مناسبات

- ‌41 - الزكاة

- ‌42 - الامتحانات، كل منا ممتحن

- ‌43 - عاشوراء وشهر الله المحرّم

- ‌45 - استقبال رمضانيا باغي الشر…أقصر

- ‌46 - رمضان شهر الجهاد

- ‌47 - خطبة عيد الفطر

- ‌48 - الحج: عبر وعظات

- ‌49 - قصة الذبح…دروس وعبر

- ‌50 - خطبة عيد الأضحى

الفصل: ‌46 - رمضان شهر الجهاد

‌46 - رمضان شهر الجهاد

كنا جبالًا في الجبالِ وربَّما

سِرْنَا علَى موجِ البحارِ بحارَا

بمعابدِ الإفرنجِ كان أذانُنا

قبلَ الكتائبِ يفتحُ الأمصارَا

لم تَنْسَ إفريقيا ولا صحراؤُها

سجْداتِنا والأرضُ تقذفُ نارَا

كنا نقدمُ للسيوفِ صدورَنا

لم نَخْشَ يومًا غاشمًا جبارَا

• لنا في الرسول الأسوة الحسنة:

لما كَانَ الْجِهَادُ ذِرْوَةَ سَنَامِ الْإِسْلَامِ وَقُبّتَهُ وَمَنَازِلُ أَهْلِهِ أَعْلَى الْمَنَازِلِ فِي الْجَنّةِ كَمَا لَهُمْ الرّفْعَةُ فِي الدّنْيَا فَهُمْ الْأَعْلَوْنَ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي الذّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنْهُ، وَاسْتَوْلَى عَلَى أَنْوَاعِهِ كُلّهَا فَجَاهَدَ فِي اللهِ حَقّ جِهَادِهِ بِالْقَلْبِ وَالْجِنَانِ وَالدّعْوَةِ وَالْبَيَانِ وَالسّيْفِ وَالسّنَانِ، وَكَانَتْ سَاعَاتُهُ مَوْقُوفَةً عَلَى الْجِهَادِ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَيَدِهِ. وَلِهَذَا كَانَ أَرْفَعَ الْعَالَمِينَ ذِكْرًا وَأَعْظَمَهُمْ عِنْدَ اللهِ قَدْرًا.

وَأَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِالْجِهَادِ مِنْ حِينِ بَعْثِهِ وَقَالَ: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} (الْفُرْقَانُ: 52) فَهَذِهِ سُورَةٌ مَكّيّةٌ أَمَرَ فِيهَا بِجِهَادِ الْكُفّارِ بِالْحُجّةِ وَالْبَيَانِ وَتَبْلِيغِ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ جِهَادُ الْمُنَافِقِينَ إنّمَا هُوَ بِتَبْلِيغِ الْحُجّةِ وَإِلّا فَهُمْ تَحْتَ قَهْرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيّهَا النّبِيّ جَاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (التّوْبَةُ 73).

فَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ أَصْعَبُ مِنْ جِهَادِ الْكُفّارِ وَهُوَ جِهَادُ خَوَاصّ الْأُمّةِ وَوَرَثَةُ الرّسُلِ وَالْقَائِمُونَ بِهِ أَفْرَادٌ فِي الْعَالَمِ وَالْمُشَارِكُونَ فِيهِ وَالْمُعَاوِنُونَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانُوا هُمْ الْأَقَلّينَ عَدَدًا فَهُمْ الْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللهِ قَدْرًا.

وَلَمّا كَانَ مِنْ أَفْضَلِ الْجِهَادِ قَوْلُ الْحَقّ مَعَ شِدّةِ الْمُعَارِضِ مِثْلَ أَنْ تَتَكَلّمَ بِهِ عِنْدَ مَنْ تَخَافُ سَطْوَتَهُ وَأَذَاهُ كَانَ لِلرّسُلِ ـ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ ـ مِنْ ذَلِكَ الْحَظّ الْأَوْفَرِ وَكَانَ لِنَبِيّنَا ـ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ ـ مِنْ ذَلِكَ أَكْمَلُ الْجِهَادِ وَأَتَمّهُ.

• جِهَادُ أَعْدَاءِ اللهِ فَرْعٌ عَلَى جِهَادِ النّفْسِ

وَلَمّا كَانَ جِهَادُ أَعْدَاءِ اللهِ فِي الْخَارِجِ فَرْعًا عَلَى جِهَادِ الْعَبْدِ نَفْسِهِ فِي ذَاتِ قَالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ» (صحيح رواه الإمام أحمد)، كَانَ جِهَادُ النّفْسِ مُقَدّمًا عَلَى جِهَادِ الْعَدُوّ فِي الْخَارِجِ وَأَصْلًا لَهُ؛ فَإِنّهُ مَا لَمْ يُجَاهِدْ نَفْسَهُ أَوّلًا لِتَفْعَلَ مَا أُمِرْت بِهِ وَتَتْرُكَ مَا نُهِيت عَنْهُ وَيُحَارِبُهَا فِي اللهِ لَمْ يُمْكِنْهُ جِهَادُ عَدُوّهِ فِي الْخَارِجِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ جِهَادُ عَدُوّهِ وَالِانْتِصَافُ مِنْهُ وَعَدُوّهُ الّذِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ قَاهِرٌ لَهُ مُتَسَلّطٌ عَلَيْهِ لَمْ يُجَاهِدْهُ وَلَمْ يُحَارِبْهُ فِي اللهِ، بَلْ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ إلَى عَدُوّهِ حَتّى يُجَاهِدَ نَفْسَهُ عَلَى الْخُرُوجِ.

• هُنَاكَ جِهَادٌ ثَالِثٌ هُوَ جِهَادُ الشّيْطَانِ:

فَهَذَانِ عَدُوّانِ قَدْ اُمْتُحِنَ الْعَبْدُ بِجِهَادِهِمَا وَبَيْنَهُمَا عَدْوٌ ثَالِثٌ لَا يُمْكِنُهُ جِهَادُهُمَا إلّا بِجِهَادِهِ، وَهُوَ وَاقِفٌ بَيْنَهُمَا يُثَبّطُ الْعَبْدَ عَنْ جِهَادِهِمَا وَيَخْذُلُهُ وَيَرْجُفُ بِهِ، وَلَا يَزَالُ يُخَيّلُ لَهُ مَا فِي جِهَادِهِمَا مِنْ الْمَشَاقّ وَتَرْكِ الْحُظُوظِ وَفَوْتِ اللّذّاتِ وَالْمُشْتَهَيَاتِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُجَاهِدَ ذَيْنِكَ الْعَدُوّيْنِ إلّا بِجِهَادِهِ فَكَانَ جِهَادُهُ هُوَ الْأَصْلُ لِجِهَادِهِمَا وَهُوَ الشّيْطَانُ قَالَ تَعَالَى:{إِنّ الشّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوّ فَاتّخِذُوهُ عَدُوّا} (فَاطِرٌ:6) وَالْأَمْرُ بِاِتّخَاذِهِ عَدْوًا تَنْبِيهٌ عَلَى اسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ فِي مُحَارَبَتِهِ وَمُجَاهَدَتِهِ كَأَنّهُ عَدُوّ لَا يَفْتُرُ وَلَا يُقَصّرُ عَنْ مُحَارَبَةِ الْعَبْدِ عَلَى عَدَدِ الْأَنْفَاسِ.

فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَعْدَاءٍ أُمِرَ الْعَبْدُ بِمُحَارَبَتِهَا وَجِهَادِهَا وَقَدْ بُلِيَ بِمُحَارَبَتِهَا فِي هَذِهِ الدّارِ وَسُلّطَتْ عَلَيْهِ امْتِحَانًا مِنْ اللهِ لَهُ وَابْتِلَاءً فَأَعْطَى اللهُ الْعَبْدَ مَدَدًا وَعُدّةً وَأَعْوَانًا وَسِلَاحًا

ص: 552

لِهَذَا الْجِهَادِ وَأَعْطَى أَعْدَاءَهُ مَدَدًا وَعُدّةً وَأَعْوَانًا وَسِلَاحًا وَبَلَا أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ بِالْآخَرِ وَجَعَلَ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً لِيَبْلُوَ أَخْبَارَهُمْ وَيَمْتَحِنَ مَنْ يَتَوَلّاهُ وَيَتَوَلّى رُسُلَهُ مِمّنْ يَتَوَلّى الشّيْطَانَ وَحِزْبَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبّكَ بَصِيرًا} (الْفُرْقَانُ: 20)، وَقَالَ تَعَالَى:{ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} (مُحَمّدٌ: 4)، وَقَالَ تَعَالَى:{وَلَنَبْلُوَنّكُمْ حَتّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (مُحَمّدٌ: 31).

• مَعْنَى وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقّ جِهَادِهِ:

وَأَمَرَ الله عز وجل عباده المؤمنين أَنْ يُجَاهِدُوا فِيهِ حَقّ جِهَادِهِ كَمَا أَمَرَهُمْ أَنْ يَتّقُوهُ حَقّ تُقَاتِهِ. قال عز وجل: {وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الحج:78) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران:102).

وَكَمَا أَنّ حَقّ تُقَاتِهِ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرُ، فَحَقّ جِهَادِهِ أَنْ يُجَاهِدَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ لِيُسْلِمَ قَلْبَهُ وَلِسَانَهُ وَجَوَارِحَهُ لله، فَيَكُونُ كُلّهُ لله وَبِاللهِ لَا لِنَفْسِهِ وَلَا بِنَفْسِهِ، وَيُجَاهِدُ شَيْطَانَهُ بِتَكْذِيبِ وَعْدِهِ وَمَعْصِيَةِ أَمْرِهِ وَارْتِكَابِ نَهْيِهِ فَإِنّهُ يَعِدُ الْأَمَانِيّ وَيُمَنّي الْغُرُورَ وَيَعِدُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَيَنْهَى عَنْ التّقَى وَالْهُدَى وَالْعِفّةِ وَالصّبْرِ؛ فَجَاهِدْهُ بِتَكْذِيبِ وَعْدِهِ وَمَعْصِيَةِ أَمْرِهِ، فَيَنْشَأُ لَهُ مِنْ هَذَيْنِ الْجَهَادَيْنِ قُوّةٌ وَسُلْطَانٌ وَعُدّةٌ يُجَاهِدُ بِهَا أَعْدَاءَ اللهِ فِي الْخَارِجِ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَيَدِهِ وَمَالِهِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا.

ص: 554

وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ السّلَفِ فِي حَقّ الْجِهَادِ فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هُوَ اسْتِفْرَاغُ الطّاقَةِ فِيهِ وَأَلّا يَخَافَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ.

وَقَالَ مُقَاتِلٌ: اعْمَلُوا لله حَقّ عَمَلِهِ وَاعْبُدُوهُ حَقّ عِبَادَتِهِ. وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: هُوَ مُجَاهَدَةُ النّفْسِ وَالْهَوَى.

• مَرَاتِبِ الْجِهَادِ:

الْجِهَادُ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ:

جِهَادُ النّفْسِ، وَجِهَادُ الشّيْطَانِ، وَجِهَادُ الْكُفّارِ، وَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ.

فَجِهَادُ النّفْسِ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ أَيْضًا:

إحْدَاهَا: أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى تَعَلّمِ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ الّذِي لَا فَلَاحَ لَهَا وَلَا سَعَادَةَ فِي مَعَاشِهَا وَمَعَادِهَا إلّا بِهِ وَمَتَى فَاتَهَا عَلِمَهُ شَقِيَتْ فِي الدّارَيْنِ.

الثّانِيَةُ: أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ وَإِلّا فَمُجَرّدُ الْعِلْمِ بِلَا عَمَلٍ إنْ لَمْ يَضُرّهَا لَمْ يَنْفَعْهَا.

الثّالِثَةُ: أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الدّعْوَةِ إلَيْهِ وَتَعْلِيمِهِ مَنْ لَا يَعْلَمُهُ وَإِلّا كَانَ مِنْ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ الْهُدَى وَالْبَيّنَاتِ وَلَا يَنْفَعُهُ عِلْمُهُ وَلَا يُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ اللهِ.

الرّابِعَةُ: أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الصّبْرِ عَلَى مَشَاقّ الدّعْوَةِ إلَى اللهِ وَأَذَى الْخَلْقِ وَيَتَحَمّلُ ذَلِكَ كُلّهُ لله.

فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَ صَارَ مِنْ الرّبّانِيّينَ فَإِنّ السّلَفَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنّ الْعَالِمَ لَا يَسْتَحِقّ أَنْ يُسَمّى رَبّانِيّا حَتّى يَعْرِفَ الْحَقّ وَيَعْمَلَ بِهِ وَيُعَلّمَهُ فَمَنْ عَلِمَ وَعَمِلَ وَعَلّمَ فَذَاكَ يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السّمَاوَاتِ.

ص: 555

مَرَاتِبُ جِهَادِ الشّيْطَانِ:

الأولى: جِهَادُهُ عَلَى دَفْعِ مَا يُلْقِي إلَى الْعَبْدِ مِنْ الشّبُهَاتِ وَالشّكُوكِ الْقَادِحَةِ فِي الْإِيمَانِ.

الثّانِيَةُ: جِهَادُهُ عَلَى دَفْعِ مَا يُلْقِي إلَيْهِ مِنْ الْإِرَادَاتِ الْفَاسِدَةِ وَالشّهَوَاتِ.

فَالْجِهَادُ الْأَوّلُ يَكُونُ بَعْدَهُ الْيَقِينُ وَالثّانِي يَكُونُ بَعْدَهُ الصّبْرُ. قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (السّجْدَةُ: 24) فَأَخْبَرَ أَنّ إمَامَةَ الدّينِ إنّمَا تُنَالُ بِالصّبْرِ وَالْيَقِينِ فَالصّبْرُ يَدْفَعُ الشّهَوَاتِ وَالْإِرَادَاتِ الْفَاسِدَةَ وَالْيَقِينُ يَدْفَعُ الشّكُوكَ وَالشّبُهَاتِ.

• مَرَاتِبُ جِهَادِ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ:

جِهَادُ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ: بِالْقَلْبِ وَاللّسَانِ وَالْمَالِ وَالنّفْسِ.

وَجِهَادُ الْكُفّارِ أَخُصّ بِالْيَدِ، وَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ أَخُصّ بِاللّسَانِ.

• جِهَادُ أَرْبَابِ الظّلْمِ وَالْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ:

جِهَادُ أَرْبَابِ الظّلْمِ وَالْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ:

الْأُولَى: بِالْيَدِ إذَا قَدَرَ، فَإِنْ عَجَزَ انْتَقَلَ إلَى اللّسَانِ، فَإِنْ عَجَزَ جَاهَدَ بِقَلْبِهِ فَهَذِهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مُرَتّبَةً مِنْ الْجِهَادِ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وآله وسلم:«مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ النّفَاقِ» (رواه مسلم).

• فضل الجهاد في سبيل الله عز وجل:

قال الله تعالى: {إنَّ اللهَ اشتَرَى مِنَ المُؤمِنِينَ أَنْفُسَهُْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ، وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا في التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ والقرْآنِ. وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله، فاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتمْ بِهِ، وَذَلكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ} (التوبة: 111).

ص: 556

وقال الله تعالى: {لا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤمِنِينَ غَيْرُ أُولي الضَّرَرِ، وَالْمُجَاهِدُونَ في سَبِيل اللهِ بِأَمْوالهِمْ وَأَنْفُسهِمْ، فَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالهِمْ وَأْنْفُسِهمْ عَلى القَاعِدِينَ دَرَجَةً، وَكُلًا وَعَدَ اللهُ الحُسْنى، وَفَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ عَلى القَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا، دَرَجَاتٍ مِنْهُ، وَمَغْفِرَةً، وَرَحْمَةً، وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (النساء: 95، 96).

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَليمٍ؟ تُؤٍمِنُونَ باللهِ وَرَسُولِهِ، وَتُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكم وَأَنْفُسِكم، ذلِكم خَيْرٌ لَكُم إنْ كُنْتُمْ تَعلَمُونَ، يَغفِرْ لَكم ذُنُوبَكُمْ، وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجرِي مِنْ تَحتِهَا الأَنْهَارُ، وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً في جَنَّاتِ عَدْنٍ، ذلكَ الفَوْزُ العَظِيمُ، وَأُخْرَى تحبُّونَها نصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتحٌ قرِيبٌ، وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ} (الصف: 10 ـ 13)، والآيات في الباب كثيرةٌ مشهورةٌ.

* عَنْ سَلْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ: «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ» (رواه مسلم).

هَذِهِ فَضِيلَة ظَاهِرَة لِلْمُرَابِطِ، وَجَرَيَان عَمَله بَعْد مَوْته فَضِيلَة مُخْتَصَّة بِهِ، لَا يُشَارِكهُ فِيهَا أَحَد.

وعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ سدد خطاكم أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «كُلُّ الْمَيِّتِ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلَّا الْمُرَابِطَ، فَإِنَّهُ يَنْمُو لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيُؤَمَّنُ مِنْ فَتَّانِ الْقَبْرِ» (صحيح رواه أبو داود).

(كُلّ الْمَيِّت يُخْتَم عَلَى عَمَله): الْمُرَاد بِهِ طَيّ صَحِيفَته وَأَنْ لَا يَكْتُب لَهُ بَعْد مَوْته عَمَل.

ص: 557

(إِلَّا الْمُرَابِط): هُوَ الْمُلَازِم لِلثَّغْرِ لِلْجِهَادِ. قَالَ بَعْض الْأَئِمَّة: أَصْل الْمُرَابَطَة أَنْ يَرْبُط الْفَرِيقَانِ خُيُولهمْ فِي ثَغْر كُلّ مِنْهُمَا مُعَدٍّ لِصَاحِبِهِ، فَسُمِّيَ الْمُقَام فِي الثُّغُور رِبَاطًا.

(يَنْمُو): أَيْ يَزِيد (إِلَى يَوْم الْقِيَامَة): يَعْنِي أَنَّ ثَوَابه يَجْرِي لَهُ دَائِمًا وَلَا يَنْقَطِع بِمَوْتِهِ.

(وَيُؤَمَّنُ مِنْ فَتَّان الْقَبْر) أَيْ فَتَّانِيهِ وَهُمَا مُنْكَر وَنَكِير، ويَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد أَنَّ الْمَلَكَيْنِ لَا يَجِيئَانِ إِلَيْهِ وَلَا يَخْتَبِرَانِهِ بَلْ يَكْفِي مَوْته مُرَابِطًا فِي سَبِيل اللهِ شَاهِدًا عَلَى صِحَّة إِيمَانه. وَيَحْتَمِل أَنَّهُمَا يَجِيئَانِ إِلَيْهِ لَكِنْ لَا يَضُرَّانِهِ وَلَا يَحْصُل بِسَبَبِ مَجِيئِهِمَا فِتْنَة.

قَوْله صلى الله عليه وآله وسلم: (وَأَجْرَى عَلَيْهِ رِزْقه) مُوَافِق لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى فِي الشُّهَدَاء: {أَحْيَاء عِنْد رَبّهمْ يُرْزَقُونَ} .

* عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ صَادِقًا أُعْطِيَهَا وَلَوْ لَمْ تُصِبْهُ» (رواه مسلم)، وفي رواية:«مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ» (رواه مسلم).

مَعْنَى الرِّوَايَة الْأُولَى مُفَسَّر مِنْ الرِّوَايَة الثَّانِيَة، وَمَعْنَاهُمَا جَمِيعًا: أَنَّهُ إِذَا سَأَلَ الشَّهَادَة بِصِدْقِ أُعْطِيَ مِنْ ثَوَاب الشُّهَدَاء، وَإِنْ كَانَ عَلَى فِرَاشه.

وَفِيهِ: اِسْتِحْبَاب سُؤَال الشَّهَادَة، وَاسْتِحْبَاب نِيَّة الْخَيْر.

* عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «تَكَفَّلَ اللهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ ـ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَّا جِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ وَتَصْدِيقُ كَلِمَتِهِ ـ بِأَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ» (رواه مسلم).

ص: 558

* عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ سدد خطاكم عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «كُلُّ كَلْمٍ يُكْلَمُهُ الْمُسْلِمُ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهَا إِذَا طُعِنَتْ، تَفَجَّرُ دَمًا، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالْعَرْفُ عَرْفُ الْمِسْك» .

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ فِي يَدِهِ لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلَكِنْ لَا أَجِدُ سَعَةً فَأَحْمِلَهُمْ وَلَا يَجِدُونَ سَعَةً فَيَتَّبِعُونِي، وَلَا تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَقْعُدُوا بَعْدِي» (رواه مسلم).

ورواه البخاري بلفظ: «انْتَدَبَ اللهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ ـ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي ـ أَنْ أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ، أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَلَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ» .

* عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ لَهَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ يَسُرُّهَا أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا، وَلَا أَنَّ لَهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا إِلَّا الشَّهِيدُ؛ فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ فَيُقْتَلَ فِي الدُّنْيَا لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ» (رواه مسلم).

وفي رواية: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا ـ وَأَنَّ لَهُ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ ـ غَيْرُ الشَّهِيدِ فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنْ الْكَرَامَةِ» (رواه مسلم).

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: مَا يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ عز وجل؟

قَالَ: «لَا تَسْتَطِيعُونَهُ» ، قَالَ: فَأَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ:«لَا تَسْتَطِيعُونَهُ» ، وَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ:«مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللهِ، لَا يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ وَلَا صَلَاةٍ حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى» (رواه مسلم).

ص: 559

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» (رواه البخاري ومسلم).

(الْغَدْوَة): بِفَتْحِ الْغَيْن: السَّيْر أَوَّل النَّهَار إِلَى الزَّوَال، وَ (الرَّوْحَة) السَّيْر مِنْ الزَّوَال إِلَى آخِر النَّهَار. (أَوْ) هُنَا لِلتَّقْسِيمِ لَا لِلشَّكِّ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الرَّوْحَة يَحْصُل بِهَا هَذَا الثَّوَاب، وَكَذَا الْغَدْوَة، وَالظَّاهِر أَنَّهُ لَا يَخْتَصّ ذَلِكَ بِالْغُدُوِّ وَالرَّوَاح مِنْ بَلْدَته، بَلْ يَحْصُل هَذَا الثَّوَاب بِكُلِّ غَدْوَة أَوْ رَوْحَة فِي طَرِيقه إِلَى الْغَزْو، وَكَذَا بِغَدْوَةٍ وَرَوْحَة فِي مَوْضِع الْقِتَال؛ لِأَنَّ الْجَمِيع يُسَمَّى غَدْوَة وَرَوْحَة فِي سَبِيل اللهِ.

وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيث: أَنَّ فَضْل الْغَدْوَة وَالرَّوْحَة فِي سَبِيل اللهِ وَثَوَابهمَا خَيْر مِنْ نَعِيم الدُّنْيَا كُلّهَا لَوْ مَلَكهَا الْإِنْسَان، وَتَصَوَّرَ تَنَعُّمه بِهَا كُلّهَا؛ لِأَنَّهُ زَائِل وَنَعِيم الْآخِرَة بَاقٍ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ الْقَتْلِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ الْقَرْصَةِ» (حسن صحيح رواه الترمذي).

(مِنْ مَسِّ الْقَرْصَةِ) وَفِي رِوَايَةٍ: (أَلَمُ الْقَرْصَةِ) هِيَ الْمَرَّةُ مِنْ الْقَرْصِ، والْقَرْصُ: أَخْذُك لَحْمَ إِنْسَانٍ بِأُصْبُعَيْك حَتَّى تُؤْلِمَهُ وَلَسْعُ الْبَرَاغِيثِ. وَهَذَا تَسْلِيَةٌ لَهُمْ عَنْ هَذَا الْخَطْبِ الْمَهُولِ.

عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللهِ سِتُّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، الْيَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا، وَمَا فِيهَا وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنْ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ» (صحيح رواه الترمذي).

قَوْلُهُ: (لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللهِ سِتُّ خِصَالٍ) لَا يُوجَدُ مَجْمُوعُهَا لِأَحَدٍ غَيْرِهِ.

ص: 560

(يُغْفَرَ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ) أَيْ تُمْحَى ذُنُوبُهُ فِي أَوَّلِ صَبَّةٍ مِنْ دَمِهِ.

(وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) أَيْ يُحْفَظُ وَيُؤَمَّنُ.

قَالَ الْقَارِي: وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ «يُرَى مَقْعَدَهُ» عَلَى أَنَّهُ عَطْفُ تَفْسِيرٍ لِقَوْلِهِ يُغْفَرُ لَهُ لِئَلَّا تَزِيدَ الْخِصَالُ عَلَى سِتٍّ، وَلِئَلَّا يَلْزَمُ التَّكْرَارُ فِي قَوْلِهِ:«وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» .

(وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ) أَيْ تَاجٌ هُوَ سَبَبُ الْعِزَّةِ وَالْعَظَمَةِ.

وَالتَّاجُ: مَا يُصَاغُ لِلْمُلُوكِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْجَوَاهِرِ.

(الْيَاقُوتَةُ مِنْهَا) أَيْ مِنْ التَّاجِ. وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عَلَامَةُ الْعِزِّ وَالشَّرَفِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَجْمُوعٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ وَغَيْرِهَا.

(وَيُزَوَّجُ) أَيْ يُعْطَى بِطَرِيقِ الزَّوْجِيَّةِ (اِثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنْ الْحُورِ الْعِينِ) أَيْ نِسَاءِ الْجَنَّةِ، وَاحِدَتُهَا حَوْرَاءُ وَهِيَ الشَّدِيدَةُ بَيَاضِ الْعَيْنِ الشَّدِيدَةُ سَوَادِهَا، وَالْعِينُ جَمْعُ عَيْنَاءَ وَهِيَ الْوَاسِعَةُ الْعَيْنِ (وَيُشَفَّعُ) أَيْ يُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ.

يا بَنِي قومِنا سراعًا إلى اللهِ

فقدْ فازَ مَن يموتُ شهيدَا

سارعوا سارعوا إلى جنة قد

فاز من جاءها شهيدًا سعيدَا

والبِسوا حُلّة من الكفنِ الغالي

وبيعوا الحياة بيعًا مجيدَا

• رمضان شهر الجهاد:

الصيام مصدر قوة روحية تدفع الى العمل واعتقاد المؤمن أنه يؤدي عبادة فرضها الخالق مما يمده بالروح الفتى والعزم القوى؛ لذلك كانت شهور رمضان أيام نصر حربي وفوز نضالى ففي مواسم هذا الشهر الكريم تحققت انتصارات اسلامية رائعة تبتدئ بمعركة بدر مرورًا بمعارك كثيرة أشهرها فتح مكة والأندلس وحطين وعين جالوت حتى جاء نصر الله وتم العبور في شهر رمضان.

لذلك كان هذا الشهر يحفل على مد العصور بكبريات الوقائع الحربية الحاسمة في تاريخ الإسلام؛ ومن يتصفح كتب التاريخ، أو يقلب أوراقه تبرز أمامه صورة مشرقة لشهر عظيم، صورة غابت عن الأعين لفترة زادت عن المئة عام وأصبح من الصعب على العقل أن يتصورها بعد أن بعدت الشقة بينه وبين مثيلاتها منذ فترة طويلة.

تلك هي الصورة المشرقة التي اتسمت بالعزة والكرامة والسؤدد والبسالة والانتصارات والفتوحات والتقوى والمغفرة. فالأمر لا يحتاج من الناظر إلى التدقيق والإمعان في كتب التاريخ حتى يصل إلى هذه الصورة المشرقة بل يكفيه التصفح السريع أو النظرة العاجلة؛ ليدرك ما في هذا الشهر من الأحداث والبطولات التي نعلمها والتي لا نعلمها والتي تتسم بأنها أحداث عظيمة على قدر فضل شهر رمضان، فاذا قلنا ان رمضان شهر الجهاد فهو قول يحمل مصداقه التاريخي دون جدال.

ولكن رمضاننا هذه الأيام لا نصيب له مما فات لأن سلطان الإسلام لم يعد موجودًا، فهو يأتي والأمة تنزف في مواطن كثيرة، فهذا جرح فلسطين الغائر وذاك جرح الشيشان نازف، وجرح ثالث في كشمير، ورابع في جنوب الفلبين، وخامس في بورما

وما يبرح أن ينزف جرح جديد حتى يلحق به جرح أخر.

ففي رمضان كان غزو أفغانستان من قبل أمريكا ولما ظهرت بعض الأصوات لتقول لأمريكا بأن رمضان قادم ويجب أن نراعي حرمته فلا نغزو المسلمين، قال بوش متبجحًا إن الدولة الإسلامية كانت تخوض المعارك في شهر رمضان ـ وصدق وهو كذوب ـ ثم يأتي بعده رمضان آخر ليشهد شلالًا من الدماء في بلد آخر بلد الرافدين، لتتكرر نفس المشاهد ولكن مع تغير الوجوه، قتل وتدمير وتفتيت لأجساد الأطفال والنساء والشيوخ؛ ليرى فيها أنواع القنابل العنقودية والتفريغية والذكية والغبية والتقليدية وأسماء ما سمعنا بها من قبل.

ص: 561

وعلى وقع دماء اليوم التي ما زالت تسيل أعود لأذكر بدماء زكية طاهرة سالت بالأمس وآلت هذه السيول إلى العز والتمكين ليكون هذا التذكير بإذن الله فيه النفع للمسلمين:

1ـ غزوة بدر الكبرى في السنة الثانية من الهجرة:

ففي صبيحة سبع عشرة من رمضان من السنة الثانية للهجرة خرج المسلمون بقيادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليعترضوا قافلة لقريش يقودها أبو سفيان، ولكن أبا سفيان غَيّرَ طريقه إلى الساحل واستنفر أهل مكة، فخرجوا لمحاربة المسلمين والتقى الجمعان في بدر في السابع عشر من رمضان سنة اثنتين للهجرة، ونصر الله رسوله والمؤمنين رغم قلة عددهم وعدتهم فقد كانوا ثلاثمائة وسبعة عشر وكان المشركون أكثر من ألف.

وأثمرت نتائج النصر ثمارًا كثيرة، فقد ارتفعت معنويات المسلمين وعلت مكانتهم عند القبائل التي لم تسلم بعد، واهتزت قريش في أعماقها وخسرت كبار صناديدها وأعمدة الكفر فيها، وأخذت تعد للثأر والانتقام. وخلال سنة تحققت للمسلمين في المدينة عوامل أمن خارجية وداخلية فقبائل غطفان وسليم التي كانت تعد لمهاجمة المسلمين بلغها انتصار المسلمين في بدر وتحركهم بعد ذلك لضربها، فخافت وتركت ديارها وخلفت غنائم كثيرة للمسلمين، كما أجلي بنو قينقاع إحدى قبائل اليهود لكيدهم بالمسلمين وعدوانيتهم.

كانت تلك الغزوة فرقانا بين الحق والباطل، تلك الغزوة التي جعلت للمسلمين كيانًا مهابًا وجانبًا مصونًا. وبعد هذه الغزوة أصبح للمسلمين كيانًا ماثلًا لأعين الكفار يحسبون له ألف حساب ولا يجرؤون على تجاهله، بعد أن كانوا مستضعفين لا يكترث بهم بل ويستهان بهم، أصبحوا بعدها قوة ضاربة يهابها الكفار. فكانت تلك الحادثة عرسًا حقيقيًا في رمضان وفرحًا صادقًا للمسلمين في شهر الفرقان.

موقف:

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ سدد خطاكم: «انْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَأَصْحَابُهُ حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَى بَدْرٍ، وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يُقَدِّمَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى

ص: 563

شَيْءٍ حَتَّى أَكُونَ أَنَا دُونَهُ»، فَدَنَا الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم:«قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ» .

قَالَ: يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ: «يَا رَسُولَ اللهِ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ؟» . قَالَ: «نَعَمْ» .قَالَ: «بَخٍ بَخٍ» .

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟» .

قَالَ: «لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا» .

قَالَ: «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا» .

فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثُمَّ قَالَ: «لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ» ، قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ». (رواه مسلم).

قَوْله صلى الله عليه وآله وسلم: (لَا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَد مِنْكُمْ إِلَى شَيْء حَتَّى أَكُون أَنَا دُونه) أَيْ: قُدَّامه مُتَقَدِّمًا فِي ذَلِكَ الشَّيْء لِئَلَّا يَفُوت شَيْء مِنْ الْمَصَالِح الَّتِي لَا تَعْلَمُونَهَا.

قَوْله: (بَخٍ بَخٍ) هِيَ: كَلِمَة تُطْلَق لِتَفْخِيمِ الْأَمْر وَتَعْظِيمه فِي الْخَيْر.

قَوْله: (لَا وَاللهُ يَا رَسُول اللهِ إِلَّا رَجَاءَة أَنْ أَكُون مِنْ أَهْلهَا).

مَعْنَاهُ: وَاللهُ مَا فَعَلْته لِشَيْءٍ إِلَّا لِرَجَاءِ أَنْ أَكُون مِنْ أَهْلهَا.

(فَأَخْرَجَ تَمَرَات مِنْ قَرَنه) جُعْبَة النُّشَّاب.

(لَئِنْ أَنَا حَيِيت حَتَّى آكُل تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاة طَوِيلَة فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْر ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ) فِيهِ: جَوَاز الِانْغِمَار فِي الْكُفَّار، وَالتَّعَرُّض لِلشَّهَادَةِ، وَهُوَ جَائِز بِلَا كَرَاهَة عِنْد جَمَاهِير الْعُلَمَاء.

2ـ فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة:

ففي رمضان في السنة الثامنة للهجرة تحقق أكبر فتح للمسلمين وهو فتح مكة المعقل الأكبر للشرك آنئذ. وكان لهذا الفتح أثر كبير في تاريخ البشرية، فقد قضى على الأوثان والشرك في مكة تمامًا، وتسابقت الشعوب والقبائل إلى الدخول في الإسلام،

ص: 564

ودخلت الجزيرة العربية بأكملها في دين الله، وبدأ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بعث الرسل إلى البلاد المجاورة. ووضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأسس الخالدة التي قامت عليها الفتوحات الإسلامية، مثل عدم الاعتداء على المدنيين، وعدم قطع شيء من النبات بلا فائدة، والعفو والصفح عند المقدرة.

3ـ فتح (البويب) في السنة 13 هجرية:

لما سمع أمراء الفرس بكثرة جيوش المثنى بن حارثة، بعثوا إليه جيشا آخر مع رجل يقال له: مهران. فتوافَوا هم وإياهم بمكان يقال له: البويب قريب من مكان الكوفة اليوم، وبينهما الفرات وأقام بمكانه حتى كاتبه مهران: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم، فقال المثنى: اعبروا فعبَر مهران فنزل على شاطئ الفرات، وذلك في شهر رمضان سنة ثلاث عشرة.

فعزم المثنى على المسلمين في الفطر ليقووا بالطعام على قتال العدو فأفطروا عن آخرهم، وعبأ الجيش، وخرج يطوف في صفوفه يعهد إليهم عهده وهو على فرسه، فوقف كل راية من رايات الأمراء القبائل ويعظهم ويحثهم على الجهاد والصبر والصمت والثبات.

وقال المثنى لهم: إني مكبر ثلاث تكبيرات فتهيأوا، فإذا كبرت الرابعة فاحملوا. فقابلوا قوله بالسمع والطاعة والقبول. فلما كبر أول تكبيرة عاجلتهم الفرس فحملوا حتى غالقوهم، واقتتلوا قتالا شديدًا، وركدت الحرب.

ورأى المثنى في بعض صفوفه خللا، فبعث إليهم رجلا يقول: الأمير يقرأ عليكم السلام ويقول لكم: لا تفضحوا المسلمين اليوم؛ فاعتدلوا.

وجعل المثنى والمسلمون يدعون الله بالظفر والنصر، فلما طالت مدة الحرب جمع المثنى جماعة من أصحابه الأبطال يحمون ظهره، وحمل على مهران فأزاله عن موضعه حتى دخل الميمنة، وقُتِلَ مهرانُ، وهربت المجوس وركب المسلمون أكتافهم بقية

ص: 565

ذلك اليوم وتلك الليلة، ومن الغد إلى الليل. وغنم المسلمون مالًا جزيلًا وطعامًا كثيرًا، وبعثوا بالبشارة والأخماس إلى عمر رضي الله عنه.

وقد قتل من سادات المسلمين في هذا اليوم بشر كثير أيضا، وذلت لهذه الوقعة رقاب الفرس، وتمكن الصحابة من الغارات في بلادهم فيما بين الفرات ودجلة، فغنموا شيئًا عظيمًا لا يمكن حصره وكانت هذه الوقعة بالعراق نظير اليرموك بالشام.

4ـ فتح النوبه سنة 31 هجرية.

5ـ وفي عام 92هـ وفي رمضان كان فتح الأندلس بقيادة طارق بن زياد.

6ـ فتح عمورية سنة 223 هجرية:

طمع (تيوفيل بن ميخائيل) ملك الروم في بلاد المسلمين، خاصة عندما علم أن جنود المسلمين جميعهم في أذربيجان يواصلون فتوحاتهم. فأخذ يعبئ الجنود، وخرج قائدًا على مائة ألف من الروم لقتال المسلمين، فوصل إلى حصن (زبطرة)، فقتل الأطفال والشيوخ، وخرّب البلاد، وأسر النساء وسباهن، وانتهك أعراضهن وحرماتهن، ومثّل بكل من وقع في يده من المسلمين. وكان من ضمن النساء امرأة اقتادها جنود الروم للأسر، فصرخت هذه المرأة، وقالت:«وامعتصماه» .

فلما وصل الخبر إلى المعتصم خليفة المسلمين استشاط غضبًا، وأخذته الحمية والغضب لله، وقال:«لبيك» . وأخذ في الاستعداد، وجمع الجنود، وأعدّ العدة، وخرج على رأس جيش لنجدة المسلمين، وقرر فتح عمورية أقوى حصون الروم.

وقام الجيش الإسلامي بحصار المدينة حصارًا شديدًا، حتى استطاع أن يُحدث ثغرة في سورها، فاندفع الجنود داخل المدينة، وحاربوا بكل قوة وشجاعة؛ حتى سيطروا على المدينة، وانتصروا على الروم يوم الجمعة لست خلون من شهر رمضان.

وهكذا تم فتح أصعب الحصون الرومانية، مما كان له أكبر الأثر في نفوس المسلمين، حيث قويت معنوياتهم، وسهل لهم استمرار الفتوحات في شرق أوروبا. كما أضعف هذا النصر من معنويات الروم، لأنه أظهر لهم قوة المسلمين وشجاعتهم، وأنهم أصبحوا قوة لا يستهان بها، ويخشى الأعداء بأسها. كذلك عايش بعض الروم

ص: 566

الحياة الإسلامية، وأعجبوا بأخلاق المسلمين وطهارة سيرهم، وعظمة دينهم، فدخلوا في الإسلام، بعد أن شعروا برحمته وعدله.

7ـ وفي رمضان سنة أربع وثمانين وخمسمائة تم طرد الصليبيين من سوريا على يد القائد صلاح الدين الأيوبي الذي استرد من الصليبيين الأراضي التي استولوا عليها في فلسطين.

8ـ عين جالوت في فلسطين سنة 658 هجرية:

(عين جالوت) بلدة من أعمال فلسطين المغتصبة ـ ردها الله إلى المسلمين قريبًا ـ وهي بلدة بين بيسان ونابلس.

وبطل هذه المعركة الجليلة هو السلطان المظفر سيف الدين قُطز بن عبد الله، الذي تولَّى الحكم في مصر يوم السبت 17 من ذي القعدة سنة سبع وخمسين وستمائة.

استمر المغول في زحفهم المدمر حتى دخلوا بغداد عاصمة الخلافة العباسية، واستطاع (هولاكو) ـ حفيد جنكيز خان ـ إسقاط الخلافة العباسية، وقتْل الخليفة العباسي سنة 1258م، وتدمير بغداد عاصمة الخلافة.

وواصل هولاكو تقدمه، فاستولى على حلب ودمشق، وكان بغي التتار قد امتد وزاد حتى احتلوا بلدة (الخليل) وبلدة (غزة) من أرض فلسطين، وقتلوا الرجال، وسبوا النساء والصبيان، واستاقوا من الأسرى عددًا كبيرًا، ولم يبق أمامه إلا مصر، فأرسل هولاكو رسالة تهديد لحاكم مصر آنذاك السلطان (سيف الدين قطز)، ويطلب منه الاستسلام، فأبى السلطان قطز، وأخذ يعد جيوشه وأرسل قوة استطلاعية بقياد (بيبرس) الذي استطاع أن يهزم إحدى الفرق المغولية.

ورحل السلطان قطز بعساكره ونزل الغور بعين جالوت في فلسطين، وكانت جموع التتار هناك، وفي يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان قامت معركة عنيفة بين الفريقين، وتقاتلوا قتالًا شديدًا لم ير الناس مثله، واشتد الأمر في بدء المعركة على المسلمين، فاقتحم قطز ميدان المعركة، وباشر القتال بنفسه، وأبلى في ذلك اليوم بلاء حسنًا. وحقق المسلمون نصرًا ساحقًا على جيش المغول، وأسروا قائدهم، وأمر (قطز) بقتله.

ص: 567

وانتهت بانتهاء معركة عين جالوت أسطورة الجيش المغولي الذي لا يقهر، واستطاع المسلمون إنقاذ العالم كله من همجية المغول وخطرهم، والذين أخذوا يفرون إلى ديارهم وهم يجرون أذيال الخيبة والهزيمة في عين جالوت وكانت هذه المعركة البداية لدولة المماليك في مصر والشام.

9ـ معركة المنصورة سنة 647هـ:

كانت في شهر رمضان سنة 647هـ ضد الصليبيين. فقد قدم (لويس التاسع) ملك فرنسا يقود جيشًا قوامه 110 آلاف مقاتل، مزودين بأحدث أنواع الأسلحة، في أحدث حملة صليبية، وواصل زحفه حتى استولى على دمياط سنة 1249م، ثم توجّه إلى المنصورة، وعلى ضفاف البحر الصغير دارت معركة حامية، اشترك فيها العربان والمشايخ والفلاحون، واشترك في تعبئة الروح المعنوية الإمام (العز بن عبد السلام) وهو يومئذ ضرير، وانتهت المعركة بأن أسر المسلمون من الصليبيين مائة ألف وقتلوا عشر آلاف، وأُسر الملك لويس التاسع، وسجن بدار ابن لقمان بالمنصورة، ثم افتُدي الملك بدفع (40 ألف دينار)، وأٌطلق سراحه.

10ـ ثم كان آخر الانتصارات انتصار العاشر من رمضان سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وألف، حين عبرت القوات المصرية قناة السويس، وحطمت خط بارليف الذي شيده اليهود، فكسرت الذراع الإسرائيلية، وكان هذا النصر بعد أن رفع المسلمون صيحة (الله أكبر).

أمَّةَ الإسلامِ يا شعبَ الجهادْ

مَنْ سوَاكُمْ حَلَّ أغلالَ الورَى

أيُّ داعٍ قبْلَكم في ذَا الوجودْ

صاحَ لا كسرَى هنَا لا قيصرَا

مَن سواكُمْ في قديمٍ أو حديثْ

أطْلَعَ القرآنَ صبحًا للرشادْ

هاتفًا في مسمعِ الكونِ العظيمْ

ليسَ غيرُ اللهِ ربًا للعبادْ

ص: 568