الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
11 - احفَظِ الله يَحْفَظْكَ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَوْمًا فَقَالَ: «يَا غُلَامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ» (صَحيحٌ رواه الترمذيُّ).
هذا الحديث رواه الإمامُ أحمد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ: «يَا غُلَامُ ـ أَوْ يَا غُلَيِّمُ «أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِنَّ» فَقُلْتُ: «بَلَى» .
هذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهمِّ أمور الدين، حتى قال بعض العلماء: تدبرتُ هذا الحديثَ، فأدهشني وكِدتُ أطيشُ، فوا أسفى من الجهل بهذا الحديث، وقِلَّةِ التفهم لمعناه.
• معنى: «احفظِ الله» :
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «احْفَظِ اللهَ» يعني: احفظ حدودَه، وحقوقَه، وأوامرَه، ونواهيَه، وحفظُ ذلك: هو الوقوفُ عندَ أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتنابِ، وعندَ حدوده، فلا يتجاوزُ ما أمر به، وأذن فيه إلى ما نهى عنه، فمن فعل ذلك، فهو مِنَ الحافظين لحدود الله الذين مدحهمُ الله في كتابه؛ قال عز وجل: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ
حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} (ق:32 - 33) وفُسِّر الحفيظ ها هنا: بالحافظ لأوامرِ الله، وبالحافظ لذنوبه ليتوب منها.
• حفظ الصلاة:
ومن أعظم ما يجبُ حِفظُه من أوامر الله الصَّلاةُ، وقد أمر الله بالمحافظة عليها، فقال:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} «البقرة:238» ومدح المحافظين عليها بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (المعارج:34).
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا فَقَالَ: «مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلَا بُرْهَانٌ وَلَا نَجَاةٌ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ» (حسن رواه أحمد).
شعبٌ بغيرِ عقيدةٍ وَرَقٌ تُذَرِّيهِ الرياحْ
من خانَ (حيَّ على الصلاةِ) يخونُ حيَّ على الكِفاحْ
• حفظ الطهارة:
الطهارة مفتاحُ الصلاة، وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم:«لا يُحافِظُ على الوضوء إلَاّ مؤمن» (صحيح رواه أحمد).
• حفظ الأيمان:
وممَّا يُؤمر بحفظه الأيمانُ، قال الله عز وجل:{واحْفَظوا أَيْمَانَكُم} (المائدة:89)، فإنَّ الأيمان يقع الناس فيها كثيرًا، ويُهْمِل كثيرٌ منهم ما يجب بها، فلا يحفظه، ولا يلتزمه.
• حفظُ الرأس والبطن:
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «اسْتَحْيُوا مِنْ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ» ، قَالَ: قُلْنَا: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَسْتَحْيِي، وَالْحَمْدُ للهِ» .
وحفظ الرأس وما وعى يدخل فيه حفظُ السَّمع والبصر واللسان من المحرمات، وحفظُ البطن وما حوى يتضمن حفظ القلب عَنِ الإصرار على محرم.
قال الله عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} «البقرة:235» ، وقد جمع الله ذلك كُلَّه في قوله:{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} (الإسراء:36).ويتضمن أيضًا حفظُ البطنِ من إدخال الحرام إليه من المآكل والمشارب.
لسانك لا تذْكرْ به عورةَ امرءٍ فكُلّكَ عوراتٌ وللناسٍ ألسُنُ
وعينُك إن أبدتْ إليك معائبًا فصُنْها وقُلْ يا عينُ للناسِ أعيُنُ
وعاشِر بمعروفٍ وسامِحْ مَن اعتدَى وفَارِقْ ولَكِنْ بالتي هي أحسنُ
**********
كل الحوادثِ مبدؤُها مِن النظرِ ومعظمُ النارِ مِن مُستصغَرِ الشررِ
كم نظرةٍ فتَكَتْ في قلبِ صاحبِها فتْكَ السهامِ بلا قوسٍ ولا وترِ؟
والعبدُ مادامَ ذا عيْنٍ يقَلّبُها في أعْيُنِ الغِيدِ موقوفٌ على الخطرِ
يُسِر مُقْلَتَهُ ما ضَرَّ مُهْجَتَهُ لا مرحبًا بسرورٍ عادَ بالضررِ
(الغَيْداء المرأَة المتثنية في مَشْيِها، والغادَةُ الفتاة الناعمة اللينة).
*********
تفنى اللذاذةُ ممنْ نالَ لذتَها
…
مِنَ الحرامِ ويبقى الإثمُ والعارُ
تُبْقِى عواقبَ سُوءٍ مِن مَغبّتِها
…
لاخيرَ في لذةٍ مِن بعدِها النارُ
*********
وسمعك صُنْ عن سَمَاعِ القَبيحِ كصَوْنِ اللسانِ عن النطقِ بِهْ
فإنَّكَ عندَ سماعِ القبيحِ شريكٌ لقائلِه فانْتَبِهْ
• حفظ اللسانُ والفرجُ:
ومِنْ أعظم ما يجبُ حفظُه من نواهي الله عز وجل:اللسانُ والفرجُ، وفي حديث أبي هريرة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال:«مَنْ حَفِظَ َ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ، ومَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ» (صحيح رواه الحاكم).
احْفَظْ لسانَك أيها الإنسانُ لا يلدَغَنَّكَ إنه ثعبانُ
كم في المقابرِ مِنْ قَتيلِ لسانهِ كانتْ تَهَابُ لقاءَهُ الشجعانُ
وأمَر الله عز وجل بحفظ الفروج، ومدحَ الحافظين لها، فقال:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} (النور:30)، وقال:{وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (الأحزاب:35)، وقال:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (المؤمنون:1 - 6).
عَفّوا تعفّ نساؤُكم في المحْرمِ وتجنَّبُوا ما لا يليقُ بمسلمِ
إن الزّنَى دَيْنٌ فإنْ أقرضْتَهُ كانَ الوفَا مِنْ أهْلِ بيتِكَ فاعلمِ
مَنْ يَزْنِ في قومٍ بألفَيْ دِرْهَمٍ في بيتهِ يُزنَى برُبْعِِِِِ الدرهمِ
يا هاتكًا حَرَمَ الرجالِ وتابعًا طُرُقَ الفسادِ تعيش غيرَ مُكَرَّمِ
لو كنتَ حرًا من سلالةِ ماجدٍ ما كنت هتَّاكًا لحرمةِ مسلمِ
• الجزاء من جنس العمل:
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «يَحْفَظْكَ» يعني: أنَّ من حفظَ حدود الله، وراعى حقوقَه، حفظه الله، فإنَّ الجزاء من جنس العمل، كما قال تعالى:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} «البقرة:40» ، وقال:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} (البقرة:152)، وقال:{إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ} (محمد:7).
• حفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان:
النوع الأول: حفظه له في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله، قال الله عز وجل:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ} (الرعد:11).
قال ابن عباس: هم الملائكة يحفظونَهُ بأمرِ الله، فإذا جاء القدر خَلُّوْا عنه.
وقال عليٌّ رضي الله عنه:إنَّ مع كلِّ رجلٍ ملكين يحفظانه مما لم يقدرْ فإذا جاء القدر خلّيا بينه وبينَه، وإنَّ الأجل جُنَّةٌ حصينة.
وقال مجاهد: ما مِنْ عبدٍ إلَاّ له مَلَكٌ يحفظه في نومه ويقظته من الجنّ والإنس والهوامِّ، فما من شيء يأتيه إلا قال: وراءك، إلا شيئًا أذن الله فيه فيصيبه.
عن ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قال: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَدَعُ هَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي وَآمِنْ رَوْعَاتِي، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي» (صحيح رواه أبو داود).
قَالَ أَبُو دَاوُد: قَالَ وَكِيعٌ: يَعْنِي الْخَسْفَ.
(مِنْ بَيْن يَدَيَّ):أَيْ أَمَامِي، (أَنْ أُغْتَال):بِصِيغَةِ الْمَجْهُول: أَيْ أُوخَذ بَغْتَة وَأَهْلَكَ غَفْلَة (قَالَ وَكِيع: يَعْنِي الْخَسْف):أَيْ يُرِيد النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم بِالِاغْتِيَالِ مِنْ الْجِهَة التَّحْتَانِيَّة: الْخَسْف.
قَالَ فِي الْقَامُوس: خَسَفَ اللهُ بِفُلَانٍ الْأَرْض غَيَّبَهُ فِيهَا.
قَالَ الطِّيبِيُّ: عَمَّ الْجِهَات لِأَنَّ الْآفَات مِنْهَا وَبَالَغَ فِي جِهَة السُّفْل لِرَدَاءَةِ الْآفَة.
• احفظ الله في صغرك يحفظْكَ في كبَرك:
ومَنْ حفظ الله في صباه وقوَّته، حفظه الله في حال كبَره وضعفِ قوّته، ومتَّعه بسمعه وبصره وحولِه وقوَّته وعقله.
كان بعض العلماء قد جاوز المائة سنة وهو ممتَّعٌ بقوَّتِه وعقله، فوثب يومًا وثبةً شديدةً، فعُوتِبَ في ذلك، فقال: هذه جوارحُ حفظناها عَنِ المعاصي في الصِّغر، فحفظها الله علينا في الكبر.
وعكس هذا أنَّ بعض السَّلف رأى شيخًا يسأل الناسَ، فقال: إنَّ هذا ضيَّع الله في صغره، فضيَّعه الله في كبره.
• وَكَانَ أَبُوْهُمُا صَالِحًا:
وقد يحفظُ الله العبدَ بصلاحه بعدَ موته في ذريَّته كما قيل في قوله تعالى: {وَكَانَ أَبُوْهُمُا صَالِحًا} (الكهف:82):أنَّهما حُفِظا بصلاح أبيهما.
قال عمرُ بن عبد العزيز: ما من مؤمن يموتُ إلَاّ حفظه الله في عقبه وعقبِ عقبه.
ومتى كان العبد مشتغلًا بطاعة الله، فإنَّ الله يحفظه في تلك الحال؛ ففي (مسند الإمام أحمد عَنْ حُمَيْدٍ بْنَ هِلَالٍ قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ مِنْ الطُّفَاوَةِ طَرِيقُهُ عَلَيْنَا فَأَتَى عَلَى الْحَيِّ فَحَدَّثَهُمْ، قَالَ: «قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي عِيرٍ لَنَا فَبِعْنَا بِيَاعَتَنَا ثُمَّ قُلْتُ لَأَنْطَلِقَنَّ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فَلَآتِيَنَّ مَنْ بَعْدِي بِخَبَرِهِ، قَالَ: فَانْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَإِذَا هُوَ يُرِينِي بَيْتًا.
قَالَ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَذْكُرُ شِدَّةَ مُنَاشَدَتِهَا لِرَبِّهَا تبارك وتعالى.
قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم:
«فَأَصْبَحَتْ عَنْزُهَا وَمِثْلُهَا وَصِيصِيَتُهَا وَمِثْلُهَا» (إسناده صحيح).
والصيصية: هي الصِّنارة التي يُغزل بها ويُنسج.
فمن حفظ الله حَفِظَهُ الله من كُلِّ أذى.
قال بعضُ السَّلف: من اتقى الله، فقد حَفِظَ نفسه، ومن ضيَّع تقواه، فقد ضيَّع نفسه، والله الغنىُّ عنه.
ومن عجيب حفظِ الله لمن حفظه أنْ يجعلَ الحيوانات المؤذية بالطبع حافظةً له من الأذى، كما جرى لِسَفِينةَ مولى النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم حيث كُسِرَ به المركبُ، وخرج إلى جزيرة، فرأى الأسدَ، فجعل يمشي معه حتَّى دلَّه على الطريق، فلمَّا أوقفه عليها، جعل يُهَمْهِمُ كأنَّه يُوَدِّعُهُ، ثم رجع عنه. (رواه الحاكم وصححه).
ورؤي إبراهيمُ بن أدهم نائمًا في بستان وعنده حَيَّةٌ في فمها طاقةُ نَرجِس، فما زالت تذبُّ عنه حتَّى استيقظ. (النَّرْجِسُ من الرياحين).
وعكسُ هذا أنَّ من ضيع الله، ضيَّعهُ الله، فضاع بين خلقه حتى يدخلَ عليه الضررُ والأذى ممن كان يرجو نفعه من أهله وغيرهم، كما قال بعض السَّلف:
«إني لأعصي الله، فأعرِفُ ذلك في خُلُقِ خادمي ودابَّتي» .
النوع الثاني من الحفظ، وهو أشرف النوعين: حفظُ الله للعبد في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المُضِلَّة، ومن الشهوات المحرَّمة، ويحفظ عليه دينَه عندَ موته، فيتوفَّاه على الإيمان.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه أمره أنْ يقولَ عندَ منامه: «بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ» . (رواه البخاري ومسلم).
وفي حديث عمر: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم علمه أنْ يقول: «اللهُمَّ احْفَظْنِي بالإسْلَامِ قَائِمًا، واحْفَظْنِي بالإسْلَامِ قَاعِدًا، واحْفَظْنِي بِالإسْلَامِ رَاقِدًا، ولا تُشَمِّتْ فيَّ عَدُوًّا ولَا حَاسِدًا» (حسن رواه ابن حبان).
وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يودِّع من أراد سفرًا، فيقول:«أسْتَوْدِعُ اللهَ دِينَكََ وأمَانَتَكَ وخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ» ، وكان يقول:«إنَّ اللهَ إذَا اسْتُودِعَ شَيْئًا حَفِظَهُ» . (صحيح رواه النَّسائي وغيره).
وفي الجملة، فالله عز وجل يحفظُ المؤمن الحافظ لحدود دينَه، ويحولُ بينَه وبين ما يُفسد عليه دينَه بأنواعٍ مِنَ الحفظ، وقد لا يشعرُ العبدُ ببعضها، وقد يكونُ كارهًا له، كما قال في حقِّ يوسُف عليه السلام:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف:24).
قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} (الأنفال:24)، قال: يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجره إلى النار.
وقال الحسن ـ عن أهل المعاصي ـ: «هانوا عليه، فعَصَوْه، ولو عزُّوا عليه لعصمهم» .
وقال أبو سليمان الداراني: «هانوا عليه فتركهم وعصوا، ولو كرموا عليه منعهم عنها» .
• احفظ الله تجده تجاهك:
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «احْفَظْ اللهَ تَجِدْهُ تجَاهَكَ» ، وفي رواية:«أمامك» معناه: أنَّ مَنْ حَفِظَ حُدودَ الله، وراعى حقوقه، وجد الله معه في كُلِّ أحواله حيث توجَّه يَحُوطُهُ وينصرهُ ويحفَظه ويوفِّقُه ويُسدده فـ {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (النحل:128)
قال قتادة: «من يتق الله يكن معه، ومن يكن الله معه، فمعه الفئة التي لا تُغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل» .
كتبَ بعضُ السَّلف إلى أخٍ له: «أمَّا بعد، فإنْ كان الله معك فمن تخاف؟ وإنْ كان عليك فمن ترجو؟» .
وهذه المعيةُ الخاصة هي المذكورةُ في قوله تعالى لموسى وهارون: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (طه:46)، وقول موسى:{إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} (الشعراء: 62). وفي قول النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر وهما في الغار: «ما ظَنُّكَ باثنَيْنِ اللهُ ثالثُهُما؟ لا تحْزَنْ إنَّ اللهَ مَعَنَا» (رواه البخاري ومسلم).
فهذه المعيةُ الخاصةُ تقتضي النَّصر والتَّأييدَ، والحفظ والإعانة بخلاف المعية العامة المذكورة في قوله تعالى:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (المجادلة:7).
فإنَّ هذه المعية تقتضي علمَه واطِّلاعه ومراقبته لأعمالهم، فهي مقتضيةٌ لتخويف العباد منه، والمعية الأولى تقتضي حفظ العبد وحياطَتَه ونصرَه، فمن حفظ الله، وراعى حقوقه، وجده أمامَه وتُجاهه على كُلِّ حالٍ، فاستأنس به، واستغنى به عن خلقه.
وقيل لآخر: نراكَ وحدكَ؟ فقال: من يكن الله معه، كيف يكونُ وحده؟
• تعرَّف إلى الله في الرَّخاء، يعرفكَ في الشِّدَّةِ:
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «تَعَرَّفْ إلَى اللهِ في الرَّخَاءِ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ» يعني: أنَّ العبدَ إذا اتَّقى الله، وحَفِظَ حدودَه، وراعى حقوقه في حال رخائه، فقد تعرَّف بذلك إلى الله، وصار بينه وبينَ ربه معرفةٌ خاصة، فعرفه ربَّه في الشدَّة، ورعى له تَعَرُّفَهُ إليه في الرَّخاء، فنجَّاه من الشدائد بهذه المعرفة، وهذه معرفة خاصة تقتضي قربَ العبدِ من ربِّه، ومحبته له، وإجابته لدعائه.
فمعرفة العبد لربه نوعان:
أحدُهما: المعرفةُ العامة: وهي معرفةُ الإقرار به والتَّصديق والإيمان، وهذه عامةٌ للمؤمنين.
والثاني: معرفة خاصة تقتضي ميلَ القلب إلى الله بالكلية، والانقطاع إليه والأنس به، والطمأنينة بذكره، والحياء منه، والهيبة له، وهذه المعرفة الخاصة هي التي يدور حولها العارفون، كما قال بعضهم: مساكينُ أهلُ الدُّنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيبَ ما فيها، قيل له: وما هو؟ قال: معرفةُ الله عز وجل.
وقال أحمدُ بنُ عاصم الأنطاكيُّ: أحبُّ أنْ لا أموتَ حتّى أعرفَ مولاي، وليس معرفتُه الإقرار به، ولكن المعرفة التي إذا عرفته استحييت منه.
ومعرفة الله أيضًا لعبده نوعان:
الأول: معرفة عامة: وهي علمه سبحانه بعباده، واطِّلاعه على ما أسرُّوه وما أعلنوه، كما قال:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} (ق:16)، وقال:{هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} (النجم:32).
والثاني: معرفة خاصة: وهي تقتضي محبته لعبده وتقريبَه إليه، وإجابةَ دعائه، وإنجاءه من الشدائد، وهي المشار إليها بقوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يحكى عن ربِّه:«وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ؛ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» (رواه البخاري).
ولما هرب الحسنُ من الحجاج دخلَ إلى بيت حبيب أبي محمد، فقال له حبيب:
يا أبا سعيد، أليس بينك وبينَ ربِّك ما تدعوه به فيَستركَ مِنْ هؤلاء؟ ادخل البيتَ، فدخل، ودخل الشُّرَطُ على أثره، فلم يرَوْهُ، فذُكِرَ ذلك للحجاج، فقال:«بل كان في البيت، إلا أنَّ الله طَمَسَ أعينهم فلم يروه» .
فمن عامل الله بالتقوى والطاعة في حال رخائه، عامله الله باللطف والإعانة في حال شدَّته.
قال الضحاك بن قيس: اذكروا الله في الرَّخاء، يذكركُم في الشِّدَّة، فإنَّ يونس عليه السلام كان يذكُرُ الله تعالى، فلمَّا وقعَ في بطن الحوت، قال الله عز وجل:{فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (الصافات:143 - 144)، وإنَّ فرعون كان طاغيًا ناسيًا لذكر الله، فلما أدركه الغرق، قال: آمنتُ، فقال الله تعالى:{آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (يونس:91).
وقال رجل لأبي الدرداء: أوصني، فقال: اذكر الله في السرَّاء يذكُرْك الله عز وجل في الضَّرَّاء.
وعنه أنَّه قال: ادعُ الله في يوم سرَّائك لعله أنْ يستجيب لك في يوم ضرَّائك.
وأعظمُ الشدائد التي تنْزل بالعبد في الدنيا الموتُ، وما بَعده أشدُّ منه إنْ لم يكن مصيرُ العبد إلى خيرٍ، فالواجبُ على المؤمن الاستعدادُ للموت وما بعده في حال الصحة بالتقوى والأعمال الصالحة، قال الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (الحشر:18 - 19).
فمن ذكر الله في حال صحته ورخائه، واستعدَّ حينئذٍ للقاء الله بالموت وما بعده، ذكره الله عندَ هذه الشدائد، فكان معه فيها، ولَطَفَ به، وأعانه، وتولَاّه، وثبته على التوحيد، فلقيه وهو عنه راضٍ. ومن نسيَ الله في حال صحته ورخائه، ولم يستعدَّ حينئذٍ للقائه، نسيه الله في هذه الشدائد، بمعنى أنَّه أعرض عنه، وأهمله.
فإذا نزل الموتُ بالمؤمنِ المستعدِّ له، أحسن الظنَّ بربه، وجاءته البُشرى مِنَ اللهِ، فأحبَّ لقاءَ الله، وأحبَّ الله لقاءه، والفاجرُ بعكس ذلك، وحينئذٍ يفرحُ المؤمنُ، ويستبشر بما قدمه مما هو قادمٌ عليه، ويَنْدَمُ المفرطُ، ويقول:{يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ} (الزمر:56).
كَم نطلبُ اللهَ في خيرٍ يَحِلُّ بنا فإنْ تَولَّتْ بلايَانَا نَسِينَاهُ
نرجوه في البحرِ أن يَرعَى سفينتَنا فإنْ رجَعْنَا إلى الشاطِي عصَيْناهُ
ونركبُ الجوَّ في أمْنٍ وفي دَعَةٍ فما سقطْنا لأنَّ الحافظَ اللهُ
ننساهُ بعد نجاحٍ في امتحانِ غدٍ وإن رسَبْنَا وأكْمَلْنَا دعَوْناهُ
عُمْيٌ عن الذكرِ والأياتُ تندبُنَا لو كلَّم الذكرُ جُلْمُودًا لأحياهُ
(الجُلْمود: الصخر).
ختم آدمُ بن أبي إياس القرآن وهو مُسَجَّى للموت، ثم قال: بحُبِّي لك، إلا رفقتَ بي في هذا المصرع؟ كنت أؤمِّلُك لهذا اليوم، كنتُ أرجوكَ، لا إله إلَاّ الله»، ثم قُضِى.
ولما احتُضِرَ زكريا بنُ عديٍّ، رفع يديه، وقال: اللهمَّ إنِّي إليك لمشتاقٌ.
وقال عبدُ الصمد الزاهد عند موته: سيدي لهذه الساعة خبَّأتك، ولهذا اليوم اقتنيتُك، حقِّق حُسْنَ ظنِّي بك.
قال قتادة في قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (الطلاق:2) قال: من الكرب عندَ الموت.
وقال عليُّ بن أبي طلحَة، عن ابن عباس في هذه الآية: يُنجيه من كُلِّ كَربٍ في الدنيا والآخرة.
وقال زيدُ بن أسلم في قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَاّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} (فصلت:30) الآية. قال: يُبشر بذلك عند موته، وفي قبره، ويوم يُبعث، فإنَّه لفي الجنة، وما ذهبت فرحة البِشارة من قلبه.