الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
49 - قصة الذبح
…
دروس وعبر
أي: وإن إبراهيم الخليل عليه السلام من شيعة نوح عليه السلام، ومَن هو على طريقته في النبوة والرسالة، ودعوة الخلق إلى الله، وإجابة الدعاء.
{إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} من الشرك والشُبَه، والشهوات المانعة من تصور الحق، والعمل به، وإذا كان قلب العبد سليمًا، سلم من كل شر، وحصل له كل خير، ومن سلامته أنه سليم من غِشّ الخلق وحسدهم، وغير ذلك من مساوئ الأخلاق، وبهذا القلب السليم، استنكر ما عليه قومه واستبشعه. استنكار الحس السليم لكل ما تنبو عنه الفطرة الصادقة من تصور ومن سلوك. ولهذا نصح الخلق في الله، وبدأ بأبيه
وقومه فقال: {إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} هذا استفهام بمعنى الإنكار، وإلزام لهم بالحجة.
{أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ} أي: أتعبدون من دون الله سبحانه وتعالى آلهة كذبًا، ليست بآلهة، ولا تصلح للعبادة، فما ظنكم برب العالمين، أن يفعل بكم وقد عبدتم معه غيره؟ وهذا ترهيب لهم بالجزاء بالعقاب على الإقامة على شركهم.
وما الذي ظننتم برب العالمين، من النقص حتى جعلتم له أندادًا وشركاء.
فأراد عليه السلام، أن يكسر أصنامهم، ويتمكن من ذلك، فانتهز الفرصة في حين غفلة منهم، لما ذهبوا إلى عيد من أعيادهم، فخرج معهم.
• كذب ولكن:
{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ}
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ عليه السلام قَطُّ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ: ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللهِ قَوْلُهُ {إِنِّي سَقِيمٌ}، وَقَوْلُهُ {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}.وَوَاحِدَةٌ فِي شَأْنِ سَارَةَ فَإِنَّهُ قَدِمَ أَرْضَ جَبَّارٍ وَمَعَهُ سَارَةُ وَكَانَتْ أَحْسَنَ النَّاسِ فَقَالَ لَهَا: «إِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ إِنْ يَعْلَمْ أَنَّكِ امْرَأَتِي يَغْلِبْنِي عَلَيْكِ، فَإِنْ سَأَلَكِ فَأَخْبِرِيهِ أَنَّكِ أُخْتِي؛ فَإِنَّكِ أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ مُسْلِمًا غَيْرِي وَغَيْرَكِ» .
فَلَمَّا دَخَلَ أَرْضَهُ رَآهَا بَعْضُ أَهْلِ الْجَبَّارِ أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: «لَقَدْ قَدِمَ أَرْضَكَ امْرَأَةٌ لَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَكُونَ إِلَّا لَكَ» ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَأُتِيَ بِهَا فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام إِلَى الصَّلَاةِ فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا فَقُبِضَتْ يَدُهُ قَبْضَةً شَدِيدَةً فَقَالَ لَهَا:«ادْعِي اللهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي وَلَا أَضُرُّكِ» ، فَفَعَلَتْ.
فَعَادَ فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنْ الْقَبْضَةِ الْأُولَى فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ، فَفَعَلَتْ، فَعَادَ فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنْ الْقَبْضَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، فَقَالَ:«ادْعِي اللهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي فَلَكِ اللهُ أَنْ لَا أَضُرَّكِ» ، فَفَعَلَتْ وَأُطْلِقَتْ يَدُهُ، وَدَعَا الَّذِي جَاءَ بِهَا فَقَالَ لَهُ:«إِنَّكَ إِنَّمَا أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ وَلَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ» ، فَأَخْرِجْهَا مِنْ أَرْضِي وَأَعْطِهَا هَاجَرَ.
قَالَ: فَأَقْبَلَتْ تَمْشِي فَلَمَّا رَآهَا إِبْرَاهِيمُ عليه السلام انْصَرَفَ فَقَالَ لَهَا: مَهْيَمْ؟ قَالَتْ: خَيْرًا كَفَّ اللهُ يَدَ الْفَاجِرِ، وَأَخْدَمَ خَادِمًا» (رواه البخاري ومسلم).
وَأَمَّا إِطْلَاقه الْكَذِب عَلَى الْأُمُور الثَّلَاثَة فَلِكَوْنِهِ قَالَ قَوْلًا يَعْتَقِدهُ السَّامِع كَذِبًا لَكِنَّهُ إِذَا حُقِّقَ لَمْ يَكُنْ كَذِبًا كَذِبًا مَذْمُومًا لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدهمَا: أنَّهُ مِنْ بَاب الْمَعَارِيض الْمُحْتَمِلَة لِلْأَمْرَيْنِ فَلَيْسَ بِكَذِبٍ مَحْض، فَقَوْله:(إِنِّي سَقِيمٌ) يُحْتَمَل أَنْ يَكُون أَرَادَ إِنِّي سَقِيمٌ أَيْ سَأُسْقَمُ وَاسْم الْفَاعِل يُسْتَعْمَل بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَل كَثِيرًا، وَيُحْتَمَل أَنَّهُ أَرَادَ إِنِّي سَقِيمٌ بِمَا قُدِّرَ عَلَيَّ مِنْ الْمَوْت أَوْ سَقِيم الْحُجَّة عَلَى الْخُرُوج مَعَكُمْ.
وَقَوْله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) قَالَ الْقُرْطُبِيّ: هَذَا قَالَهُ تَمْهِيدًا لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ الْأَصْنَام لَيْسَتْ بِآلِهَةٍ وَقَطْعًا لِقَوْمِهِ فِي قَوْلهمْ إِنَّهَا تَضُرّ وَتَنْفَع، وَهَذَا الِاسْتِدْلَال يَتَجَوَّز فِيهِ الشَّرْط الْمُتَّصِل، وَلِهَذَا أَرْدَفَ قَوْله:(بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) بِقَوْلِهِ: (فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) قَالَ اِبْن قُتَيْبَة: مَعْنَاهُ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَقَدْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا، فَالْحَاصِل أَنَّهُ مُشْتَرَط بِقَوْلِهِ:(إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) أَوْ أَنَّهُ أَسْنَدَ إِلَيْهِ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ السَّبَب.
وَقَوْله: «هَذِهِ أُخْتِي» يُعْتَذَر عَنْهُ بِأَنَّ مُرَاده أَنَّهَا أُخْته فِي الْإِسْلَام.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذِبًا لَا تَوْرِيَةَ فِيهِ لَكَانَ جَائِزًا فِي دَفْع الظَّالِمِينَ، وَقَدْ اِتَّفَقَ الْفُقَهَاء عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَاءَ ظَالِم يَطْلُب إِنْسَانًا مُخْتَفِيًا لِيَقْتُلَهُ، أَوْ يَطْلُب وَدِيعَة لِإِنْسَانٍ لِيَأْخُذَهَا غَصْبًا، وَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ، وَجَبَ عَلَى مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ إِخْفَاؤُهُ وَإِنْكَار الْعِلْم بِهِ، وَهَذَا كَذِب جَائِز، بَلْ وَاجِب لِكَوْنِهِ فِي دَفْع الظَّالِم، فَنَبَّهَ النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْكَذَبَات لَيْسَتْ دَاخِلَة فِي مُطْلَق الْكَذِب الْمَذْمُوم.
قَوْلُهُ: (مَهْيَمْ) مَعْنَاهَا: مَا الْخَبَرُ. قَوْله: (فَلَكِ اللهُ) أَيْ شَاهِدًا وَضَامِنًا أَنْ لَا أَضُرَّك. قَوْلهَا: (وَأَخْدَمَ خَادِمًا) أَيْ وَهَبَنِي خَادِمًا، وَهِيَ هَاجَرَ.
وَالْخَادِمُ يَقَع عَلَى الذَّكَر وَالْأُنْثَى.
{فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} {فَـ} لهذا {تَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} فلما وجد الفرصة {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ} أي: أسرع إليها على وجه الخفية والمراوغة، {فَقَالَ} متهكمًا بها {أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ} أي: فكيف يليق أن تعبد، وهي أنقص من الحيوانات، التي تأكل أو تتكلم؟ فهذه جماد لا تأكل ولا تتكلم.
{فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} أي: جعل يضربها بقوته ونشاطه، حتى جعلها جذاذًا، إلا كبيرًا لهم، لعلهم إليه يرجعون.
{فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} أي: يسرعون ويهرعون، أي: يريدون أن يوقعوا به، بعدما بحثوا وقالوا:{مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} ، وقيل لهم:{سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} يقول: {تَاللهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} فوبَّخوه ولامُوه، فقال:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ} .
{فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} لقد تسامعوا بالخبر، وعرفوا من الفاعل، فأقبلوا إليه يسرعون الخُطَى، وهم جمع كثير غاضب هائج، وهو فرد واحد. ولكنه فرد مؤمن. فرد يعرف طريقه. فرد عقيدته معروفة له محدودة. يدركها في نفسه، ويراها في الكون من حوله. فهو أقوى من هذه الكثرة الهائجة المائجة، المدخولة العقيدة؛ ومن ثَمَّ يواجههم بالحق الفطري البسيط لا يبالي كثرتهم وهياجهم!!
{قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} أي: تنحتونه بأيديكم وتصنعونه؟ فكيف تعبدونهم، وأنتم الذين صنعتموهم، وتتركون الإخلاص لله عز وجل الذي {خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} .
ومع وضوح هذا المنطق وبساطته، إلا أن القوم في غفلتهم وفي اندفاعهم لم يستمعوا له، ومتى استمع الباطل إلى صوت الحق البسيط؟ واندفع أصحاب الأمر والنهي فيهم يزاولون طغيانهم في صورته الغليظة:{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا} أي: عاليًا مرتفعًا، وأوقدوا فيها النار {فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} جزاءً على ما فعل، من تكسير
آلهتهم. إنه منطق الحديد والنار الذي لا يعرف أعداء الإسلام منطقًا سواه؛ عندما تعوزهم الحجة وينقصهم الدليل. وحينما تحرجهم كلمة الحق الخالصة ذات السلطان المبين.
{فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} ليقتلوه أشنع قتلة {فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ} رد الله كيدهم في نحورهم، وجعل النار على إبراهيم بردًا وسلامًا. وأين يذهب كيد العباد إذا كان الله يريد؟ وماذا يملك أولئك الضعاف المهازيل من الطغاة والمتجبرين وأصحاب السلطان وأعوانهم من الكبراء إذا كان الله عز وجل يدافع عن عباده المخلصين؟ لقد أرادوا به الهلاك في النار التي أسموها الجحيم. وأراد الله أن يكونوا هم الأسفلين؛ ونجاه من كيدهم أجمعين.
• مهاجر إلى الله عز وجل:
ولما فعلوا فيه هذا الفعل، وأقام عليهم الحجة، وأعذر منهم، {قال إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} أي: مهاجر إليه، قاصد إلى الأرض المباركة أرض الشام. {سَيَهْدِينِ} يدلني إلى ما فيه الخير لي، من أمر ديني ودنياي، وقال في الآية الأخرى:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} .
عندئذ استدبر إبراهيم مرحلة من حياته ليستقبل مرحلة؛ وطوى صفحة لينشر صفحة: {قال إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} هكذا .. إني ذاهب إلى ربي .. إنها الهجرة. وهي هجرة نفسية قبل أن تكون هجرة مكانية. هجرة يترك وراءه فيها كل شيء من ماضي حياته. يترك أباه وقومه وأهله وبيته ووطنه وكل ما يربطه بهذه الأرض، وبهؤلاء الناس. ويدع وراءه كذلك كل عائق وكل شاغل. ويهاجر إلى ربه متخففًا من كل شيء، طارحًا وراءه كل شيء، مسلِمًا نفسه لربه لا يستبقي منها شيئًا. موقن أن ربه سيهديه، وسيرعى خطاه، وينقلها في الطريق المستقيم.
إنها الهجرة الكاملة من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، ومن أواصر شتى إلى آصرة واحدة لا يزاحمها في النفس شيء. إنه التعبير عن التجرد والاستسلام والطمأنينة واليقين.
• الجزاء من جنس العمل:
وكان إبراهيم حتى هذه اللحظة وحيدًا لا عقب له؛ وهو يترك وراءه أواصر الأهل والقربى، والصحبة والمعرفة. وكل مألوف له في ماضي حياته، وكل ما يشده إلى الأرض التي نشأ فيها، والتي انحسم ما بينه وبين أهلها الذين ألقوه في الجحيم! فاتجه إلى ربه الذي أعلن أنه ذاهب إليه. اتجه إليه يسأله الذرية المؤمنة والخلف الصالح:{رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} واستجاب الله دعاء عبده الصالح المتجرد، الذي ترك وراءه كل شيء، وجاء إليه بقلب سليم.
{رَبِّ هَبْ لِي} ولدًا يكون {مِنَ الصَّالِحِينَ} وذلك عندما أيس من قومه، ولم ير فيهم خيرًا، دعا الله أن يهب له غلامًا صالحًا، ينفع اللهُ به في حياته، وبعد مماته.
{رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} هذا الدعاء لطلب الولد ليس لمجرد طلب الولد، ليس لمجرد وجود الرغبة في الأبوة ولكن ليكون صالحًا. هذا هو النافع للإنسان أما الولد عندما لا يكون صالحًا فهو ضرر علي الإنسان وربما كان عذابًا كما قال عز وجل في المنافقين:{فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (التوبة:55). فربما كان الولد سببًا في عذاب أبيه وأمه إذا لم يكن صالحا.
إبراهيم عليه السلام يقول {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} والذي يريد الولد ينبغي أن يدعوا هذا الدعاء {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} ، ولم يطلب زكريا عليه السلام أي ذرية وإنما ذرية طيبة {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} (آل عمران:38) إنما يريد من يعبد الله سبحانه وتعالي.
•
إذا تأخرت إجابة الدعاء لا تعجل:
إذا تأخرت إجابة الدعاء لا تعجل؛ فقد مضت سنوات قبل أن يستجاب لإبراهيم؛ قد أجيبت الدعوة ولكن متي تحققت الإجابة قد تتأخر فلا تستعجل فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، فَيَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي» (رواه مسلم).
الهبة من الله، الولد هبة محضة الإنسان قد يأخذ بالأسباب ولكنه يعجز، إبراهيم عليه السلام دعا بهذه الدعوة وتأخرت الإجابة إلي الكبر إلي أن ييأس الناس في العادة من أن يوجد لمثل هذا الرجل ولد؛ ولهذا قال:{الْحَمْدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} (إبراهيم:39).
{رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} فلا تيأس من رحمة الله، كما لم ييأس إبراهيم عليه السلام الفرج قد يأتي في اللحظة الأخيرة كما في شأن الولد يأتي بعد أن ييأس الناس.
كانت سارة قد وصلت إلي سِنٍّ لا تجد فيها أملًا، هي أصلًا عقيم وعجوز ولكن لم ييأس إبراهيم فاستجاب الله له، قال الله عز وجل:{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} ؛ قال الله عز وجل:
فاستجاب الله له وقال: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} وهذا إسماعيل عليه السلام بلا شك، فإنه ذكر بعده البشارة بإسحاق، ولأن الله تعالى قال في بشراه بإسحاق {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} فدل على أن إسحاق غير الذبيح، ووصف الله عز وجل إسماعيل عليه السلام بالحلم، وهو يتضمن الصبر، وحسن الخلق، وسعة الصدر والعفو عمن جنى.
•
موقف عظيم فريد:
والآن آنَ أنْ نطّلع على الموقف العظيم الكريم الفريد في حياة إبراهيم عليه السلام. بل في حياة البشر أجمعين. وآن أن نقف من سياق القصة في القرآن أمام المثل الموحي الذي يعرضه الله للأمة المسلمة من حياة أبيها إبراهيم عليه السلام.
{فَلَمَّا بَلَغَ} الغلام {مَعَهُ السَّعْيَ} أي: أدرك أن يسعى معه، وبلغ سنًا يكون ـ في الغالب ـ أحب ما يكون لوالديه، قد ذهبت مشقته، وأقبلت منفعته، فقال له إبراهيم عليه السلام:{إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} أي: قد رأيت في النوم والرؤيا، أن الله يأمرني بذبحك، ورؤيا الأنبياء وحي {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} فإن أمر الله تعالى، لا بد من تنفيذه.
قَالَ إسماعيلُ عليه السلام صابرًا محتسبًا، مرضيًا لربه، وبارًّا بوالده:{يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} أي: امض لما أمرك الله {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} أخبر أباه أنه مُوَطّنٌ نفسه على الصبر، وقرن ذلك بمشيئة الله تعالى، لأنه لا يكون شيء بدون مشيئة الله تعالى
…
يالروعة الإيمان والطاعة والتسليم.
• بلاء مبين:
هذا إبراهيم الشيخ. المقطوع من الأهل والقرابة. المهاجر من الأرض والوطن. ها هو ذا يرزق في كبره وهرمه بغلام. طالما تطلع إليه. فلما جاءه جاء غلامًا ممتازًا يشهد له ربه بأنه حليم. وها هو ذا ما يكاد يأنس به، وصباه يتفتح، ويبلغ معه السعي، ويرافقه في الحياة. ها هو ذا ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد، حتى يرى في منامه أنه يذبحه. ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية.
ولو أن الإنسان أمِر بأن ينظر فقط إلي ولده المريض لكان ذلك مؤلمًا، أم إسماعيل عليها السلام لما كانت تنظر إلي ولدها يتلوي من الجوع انصرفت كراهية أن تنظر إليه، والأب كذلك يتألم. تخيل لو أن أحدًا يحاول أن يقتل ابنك، كل طاقاتك الكامنة تنفجر لكي تنقذه من القتل.
أما في حالة إبراهيم عليه السلام هو مأمور أن يقتله بنفسه وأيضًا بالذبح، وهو بجانبه مباشرة؛ فسبحان الله بلاء مبين لأن سيدنا إبراهيم عليه السلام لم يكن في قلبه شيء لغير الله، فحب الولد حب عظيم وكثير من الناس يأكل الحرام ويتعامل بالربا لكي يبني للأولاد مستقبلًا ـ بزعمه ـ وربما باع دينه لأجل الأولاد. فحب الولد كان الامتحان الأكيد في أن إبراهيم عليه السلام خالصٌ لله، سليمٌ قلبُه لله.
فماذا؟ إنه لا يتردد، ولا يخالجه إلا شعور الطاعة، ولا يخطر له إلا خاطر التسليم. نعم إنها إشارة. مجرد إشارة. وليست وحيًا صريحًا، ولا أمرًا مباشرًا. ولكنها إشارة من ربه. وهذا يكفي. هذا يكفي ليلبي ويستجيب. ودون أن يعترض. ودون أن يسأل ربه. لماذا يا ربي أذبح ابني الوحيد؟!
ولكنه لا يلبي في انزعاج، ولا يستسلم في جزع، ولا يطيع في اضطراب. كلا! إنما هو القبول والرضى والطمأنينة والهدوء. يبدو ذلك في كلماته لابنه وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء وفي اطمئنان عجيب:
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} فهي كلمات المالك لأعصابه، المطمَئن للأمر الذي يواجهه، الواثق بأنه يؤدي واجبه. وهي في الوقت ذاته كلمات المؤمن، الذي لا يهوله الأمر فيؤديه، في اندفاع وعجلة ليخلص منه وينتهي، ويستريح من ثقله على أعصابه!
والأمر شاق ما في ذلك شك؛ فهو لا يطلب إليه أن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة. ولا يطلب إليه أن يكلفه أمرًا تنتهي به حياته، إنما يطلب إليه أن يتولى هو بيده، يتولى ماذا؟ يتولى ذبحه. وهو مع هذا يتلقى الأمر هذا التلقي، ويعرض على ابنه هذا العرض؛ ويطلب إليه أن يتروى في أمره، وأن يرى فيه رأيه!
إنه لا يأخذ ابنه على غرة لينفذ إشارة ربه وينتهي.
إنما يعرض الأمر عليه كالذي يعرض المألوف من الأمر. فالأمر في حسه هكذا. ربه يريد. فليكن ما يريد، وابنه ينبغي أن يعرف. وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلامًا، لا
قهرًا واضطرارًا. لينال هو الآخر أجر الطاعة، وليسلم هو الآخر ويتذوق حلاوة التسليم!
جاء الابتلاء في صورة يمكن أن يدخل الشيطان منها وهي أنها لم تكن وحيًا مباشرًا ـ أتاه جبريل مثلًا ـ وإنما رأي في المنام ولكن رؤيا الأنبياء وحي، وهذا وحي من الله عز وجل.
• تربية ونعمت التربية:
ولم يتشكك إبراهيم وإنما تلطف في عرض الأمر علي ولده ليكون فعله صادرًا عن اقتناع وعن طواعية في الحقيقة لم يُرِدْ أن يذبحه مباشرة، هو سينفذ الأمر سواء قبِلَ الولد أم لم يقبل، لكنه يريد أن يُثَابَ الولدُ؛ لذا قال:{يَا بُنَيَّ} ، جلس معه وخاطبه بهذه اللفظة:{يَا بُنَيَّ} يعني يا ابني الصغير، يذَكِّره بأنه لم يَنْس رابطة البنوة التي تربطه به، أنا أبوك وأنت ابني، ومع ذلك إني أري في المنام أني أذبحك لكي لا يظن الابن أن ذلك ينافي الشفقة أو نسيان العلاقة.
لا ليس كذلك، هو متذكر تمامًا أنه ابنه يتلطف معه لكي يصدر الأمر عن رضًا وسماحة نفس؛ فالنفس إذا أدتْ ما كُلّفَت به عن سماحة وطيب نفس كان ذلك أزكي وأكثر في الثواب ومقبولًا عند الله. أما الذي يستخرج الطاعة من بين أضراسه فهذا طاعته ناقصة.
فإبراهيم عليه السلام يعلمنا من خلال هذه الوسيلة التربوية الرائعة كيفية توجيه الأبناء ينبغي أن يكون بالمجالسة وبالملاطفة وبالنصيحة المباشرة وبأخذ الفترة المناسبة لكي يقع الأمر طواعية وكما أمرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أمر العبادات فعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» (صحيح رواه أبو داود).
(مُرُوا): أَمْر مِنْ الْأَمْر. (أَوْلَادكُمْ): يَشْمَل الذُّكُور وَالْإِنَاث. (بِالصَّلَاةِ): وَبِمَا يَتَعَلَّق بِهَا مِنْ الشُّرُوط (وَهُمْ أَبْنَاء سَبْع سِنِينَ):لِيَعْتَادُوا وَيَسْتَأْنِسُوا بِهَا، (وَاضْرِبُوهُمْ): أَيْ الْأَوْلَاد (عَلَيْهَا): أَيْ عَلَى تَرْك الصَّلَاة (وَهُمْ أَبْنَاء عَشْر سِنِينَ): لِأَنَّهُمْ بَلَغُوا أَوْ قَارَبُوا الْبُلُوغ (وَفَرِّقُوا بَيْنهمْ فِي الْمَضَاجِع):أَيْ فَرِّقُوا بَيْن أَوْلَادكُمْ فِي مَضَاجِعهمْ الَّتِي يَنَامُونَ فِيهَا إِذَا بَلَغُوا عَشْرًا حَذَرًا مِنْ غَوَائِل الشَّهْوَة وَإِنْ كُنَّ أَخَوَاته.
قَالَ الطِّيبِيُّ: «جَمَعَ بَيْن الْأَمْر بِالصَّلَاةِ وَالْفَرْق بَيْنهمْ فِي الْمَضَاجِع فِي الطُّفُولِيَّة تَأْدِيبًا لَهُمْ وَمُحَافَظَة لِأَمْرِ اللهِ كُلّه وَتَعْلِيمًا لَهُمْ» .
فأمر صلى الله عليه وآله وسلم أن يُؤمر الطفل بالصلاة من غير عقوبة ثلاث سنوات متواصلة يُسأل في كل يوم خمس مرات: قم فصلّ، قم فصلّ، وإذا دخل الأب البيت يسأل يقول:«أصلي الغلام» كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفعل؛ فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم بَعْدَمَا أَمْسَى فَقَالَ: «أَصَلَّى الْغُلَامُ؟» ، قَالُوا: نَعَمْ». (صحيح رواه أبو داود).
يُسأل ويُؤمَر ثلاث سنين وبعد ذلك لو أصر على الترك يُضرب، لكن قبل ذلك الأخذ طواعية لكي يتعود أن يفعل الطاعة من نفسه، كرِّر الأمر ولا تيأس.
والمجالسة بين الأب وأبنائه أمر مطلوب حيث تجد الحوار الهادئ والفرصة الملائمة لتحقيق الترابط الأسري، والقرب من الأولاد ومعرفة مشكلاتهم له دور كبير ـ بإذن الله ـ في حمايتهم من الانحراف، ولكنك تجد بعض الناس تفر من أبنائها ـ والعياذ بالله ـ والدليل علي ذلك كثرة المقاهي وكثرة الجالسين بها.
{قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} لم يقُلْ: «انظر ماذا أفعل» ؛ لأنه سيفعل، ولكن انظر ماذا تري؟ يعني انظر ما تراه أنت؟
وكان الجواب علي ما يُرضِي الأب الرحيم الشفيق. {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} .
إنه يحب لابنه أن يتذوق لذة التطوع التي ذاقها؛ وأن ينال الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة. فماذا يكون من أمر الغلام، الذي يعرض عليه الذبح، تصديقًا لرؤيا
رآها أبوه؟ إنه يرتقي إلى الأفق الذي ارتقى إليه من قبل أبوه: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} إنه يتلقى الأمر لا في طاعة واستسلام فحسب. ولكن في رضى كذلك وفي يقين.
{يَا أَبَتِ} في مودة وقربى. فشبَحُ الذبْحِ لا يزعجه ولا يفزعه ولا يفقده رشده. بل لا يفقده أدبه ومودته، فـ {يَا أَبَتِ} فيها تعظيم وتوقير وتكريم لأبيه.
{افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} فهو يحس ما أحسه مِن قبْلُ قلبُ أبيه. يحس أن الرؤيا إشارة. وأن الإشارة أمر. وأنها تكفي لكي يلبي وينفذ بغير لجلجة ولا تمحل ولا ارتياب.
• أدب مع الله عز وجل:
ثم هو الأدب مع الله، ومعرفة حدود قدرته وطاقته في الاحتمال؛ والاستعانة بربه على ضعفه ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية، ومساعدته على الطاعة:
{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} ولم يأخذها بطولةً. ولم يأخذها شجاعةً. ولم يأخذها اندفاعًا إلى الخطر دون مبالاة. ولم يظهر لشخصه ظلًا ولا حجمًا ولا وزنًا. إنما أرْجَعَ الفضل كله لله عز وجل إنْ هو أعانه على ما يطلب إليه، وأصْبَره على ما يراد به:{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} .
يا للأدب مع الله! ويالروعة الإيمان. ويالَنُبل الطاعة. ويالعظمة التسليم!
{قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} مع أن صبره فعله هو ولكن علقه علي مشيئة الله، وهذا دليل علي أن هذا الابن الواعي يفهم قضية القضاء والقدر وأن فعله لن يكون إلا بمشية الله وتوفيقه.
{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} ولم يُزَكّ نفسه وإنما علقه علي مشيئة الله فهو يرجو أن يكون صابرًا وهو أن يصبر علي أمر الله والبلاء والألم المتوقع.
ويخطو المشهد خطوة أخرى وراء الحوار والكلام .. يخطو إلى التنفيذ:
{فَلَمَّا أَسْلَمَا} أي: إبراهيم وابنه إسماعيل، جازمًا بقتل ابنه وثمرة فؤاده، امتثالًا لأمر ربه، وخوفًا من عقابه، والابن قد وطَّن نفسه على الصبر، وهانت عليه في طاعة
ربه، ورضا والده، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أي: تَلَّ إبراهيمُ إسماعيلَ على جبينه، ليضجعه فيذبحه، وقد انكب لوجهه، لئلا ينظر وقت الذبح إلى وجهه.
ومرة أخرى يرتفع نبل الطاعة. وعظمة الإيمان. وطمأنينة الرضا وراء كل ما تعارف عليه بنو الإنسان. إن الرجل يمضي فيكب ابنه على جبينه استعدادًا. وإن الغلام يستسلم فلا يتحرك امتناعًا. وقد وصل الأمر إلى أن يكون عيانًا.
لقد أسلما .. فهذا هو الإسلام. هذا هو الإسلام في حقيقته. ثقة وطاعة وطمأنينة ورضًا وتسليم .. وتنفيذ .. وكلاهما لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر التي لا يصنعها غير الإيمان العظيم.
إنها ليست الشجاعة والجراءة. وليس الاندفاع والحماسة. لقد يندفع المجاهد في الميدان، يَقتل ويُقتل. ولقد يندفع الفدائي وهو يعلم أنه قد لا يعود. ولكن هذا كله شيء والذي يصنعه إبراهيم وإسماعيل سدد خطاكم هنا شيء آخر
…
ليس هنا دم فائر، ولا حماسة دافعة ولا اندفاع في عجلة تخفي وراءها الخوف من الضعف والنكوص! إنما هو الاستسلام الواعي المتعقل القاصد المريد، العارف بما يفعل، المطمئن لما يكون.
لا بل هنا الرضا الهادئ المستبشر المتذوق للطاعة وطعمها الجميل! وهنا كان إبراهيم وإسماعيل سدد خطاكم قد أديا. كانا قد أسلما. كانا قد حققا الأمر والتكليف. ولم يكن باقيًا إلا أن يذبح إسماعيل عليه السلام، ويسيل دمه، وتزهق روحه .. وهذا أمر لا يعني شيئًا في ميزان الله، بعدما وضع إبراهيم وإسماعيل سدد خطاكم في هذا الميزان من روحهما وعزمهما ومشاعرهما كل ما أراده منهما ربهما.
كان الابتلاء قد تم. والامتحان قد وقع. ونتائجه قد ظهرت. وغاياته قد تحققت. ولم يعد إلا الألم البدني. وإلا الدم المسفوح. والجسد الذبيح. والله لا يريد أن يعذب عباده بالابتلاء. ولا يريد دماءهم وأجسادهم في شيء. ومتى خلصوا له واستعدوا للأداء بكلياتهم فقد أدوا، وقد حققوا التكليف، وقد جازوا الامتحان بنجاح.
• فرجٌ مِن بعد شدة:
وعرف الله عز وجل من إبراهيم وإسماعيل صدقهما. فاعتبرهما قد أديا وحققا وصدقًا:
{وَنَادَيْنَاهُ} في تلك الحال المزعجة، والأمر المدهش:{أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ} أي: قد فعلتَ ما أمِرتَ به، فإنك وطَّنْتَ نفسك على ذلك، وفعلتَ كل سبب، ولم يبق إلا إمرار السكين على حلقه.
قد صدقتَ الرؤيا وحققتها فعلًا. فالله عز وجل لا يريد إلا الإسلام والاستسلام بحيث لا يبقى في النفس ما تُكِنّه عن الله أو تعزه عن أمره أو تحتفظ به دونه، ولو كان هو الابن فلذة الكبد. ولو كانت هي النفس والحياة.
وأنت يا إبراهيم قد فعلت. جُدتَ بكل شيء. وبأعز شيء. وجُدتَ به في رضى وفي هدوء وفي طمأنينة وفي يقين. فلم يبق إلا اللحم والدم. وهذا ينوب عنه ذبح. أي ذبح من دم ولحم! ويفدي الله هذه النفس التي أسلمت وأدت. يفديها بذبح عظيم.
كل مواقف إبراهيم عليه السلام يأتي الفرج في آخر لحظة، إسماعيل وهو يتلوي من العطش الفرج جاء أمه بعد سبع أشواط بين الصفا والمروة وبعد ما نفد التمر والماء، ثم يأتي الفرج في اللحظة الأخيرة، الفرج دائما يأتي بعد شدة العسر ولذلك لا تيأسوا عباد الله الأمة سوف يأتيها الفرج من عند الله عز وجل.
{إِنَّ هَذَا} الذي امتحنا به إبراهيم عليه السلام {لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} أي: الواضح، الذي تبين به صفاء إبراهيم، وكمال محبته لربه وخلته، فإن إسماعيل عليه السلام لما وهبه الله لإبراهيم، أحبه حبًا شديدًا، وهو خليل الرحمن، والخلة أعلى أنواع المحبة، وهو منصب لا يقبل المشاركة ويقتضي أن تكون جميع أجزاء القلب متعلقة بالمحبوب، فلما تعلقت شعبة من شعب قلبه بابنه إسماعيل، أراد تعالى أن يصفي وُدَّه ويختبر خلته، فأمره أن يذبح من زاحم حبُّه حُبَّ ربه، فلما قدّم حب الله، وآثره على هواه، وعزم على ذبحه، وزال ما في القلب من المزاحم، بقي الذبح لا فائدة فيه، فلهذا قال:{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} أي: صار بدله ذبح من الغنم عظيم، ذبحه
إبراهيم، فكان عظيمًا من جهة أنه كان فداء لإسماعيل، ومن جهة أنه من جملة العبادات الجليلة، ومن جهة أنه كان قربانًا وسنة إلى يوم القيامة.
ومضت بذلك سنة النحر في الأضحى، ذكرى لهذا الحادث العظيم الذي يرتفع منارة لحقيقة الإيمان. وجمال الطاعة. وعظمة التسليم. والذي ترجع إليه الأمة المسلمة لتعرف فيه حقيقة أبيها إبراهيم، الذي تتبع ملته، والذي ترث نسبه وعقيدته.
ولتدرك طبيعة العقيدة التي تقوم بها أو تقوم عليها، ولتعرف أنها الاستسلام لقَدر الله في طاعة راضية واثقة ملبية لا تسأل ربها لماذا؟ ولا تتلجلج في تحقيق إرادته عند أول إشارة منه وأول توجيه. ولا تستبقي لنفسها في نفسها شيئًا، ولا تختار فيما تقدمه لربها هيئة ولا طريقة لتقديمه إلا كما يطلب هو إليها أن تقدم!
ثم لتعرف أن ربها لا يريد أن يعذبها بالابتلاء؛ ولا أن يؤذيها بالبلاء، إنما يريد أن تأتيه طائعة ملبية وافية مؤدية. مستسلمة لا تقدم بين يديه، ولا تتأبَّى عليه، فإذا عرف منها الصدق في هذا أعفاها من التضحيات والآلام. واحتسبها لها وفاءً وأداءً. وقبِلَ منها وفدّاها. وأكرمها كما أكرم أباها.
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} أي: وأبقينا عليه ثناءً صادقًا في الآخرين، كما كان في الأولين، فكل وقت بعد إبراهيم عليه السلام، فإنه فيه محبوب معظم مثني عليه. فهو مذكور على توالي الأجيال والقرون. وهو أمة. وهو أبو الأنبياء. وهو أبو هذه الأمة المسلمة. وهي وارثة ملته. وقد كتب الله لها وعليها قيادة البشرية على ملة إبراهيم. فجعلها الله له عقبًا ونسبًا إلى يوم الدين.
{سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} سلام عليه من ربه أي: تحيته عليه كقوله عز وجل: {قُلِ الْحَمْدُ للهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} . (النمل:59).
فكل الأمم المتأخرة تسلم علي إبراهيم وتريد الانتساب إليه {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران:68) ونحن أولي الناس بإبراهيم إذ نحن علي ملته.
{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} في عبادة الله، ومعاملة خلقه، أن نفرج عنهم الشدائد، ونجعل لهم العاقبة، والثناء الحسن. {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} في عبادتنا، المقدِّمين رضانا على شهوات أنفسهم. نجزيهم باختيارهم لمثل هذا البلاء. ونجزيهم بتوجيه قلوبهم ورفعها إلى مستوى الوفاء.
ونجزيهم بإقدارهم وإصبارهم على الأداء. ونجزيهم كذلك باستحقاق الجزاء! كذلك نجزيهم بالبلاء .. والوفاء
…
والذكر
…
والسلام
…
والتكريم.
• الجزاء من جنس العمل:
{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} إذًا ليست خاصة بإبراهيم فقط بل هي لكل محسن أخلص لله وراقب الله ـ سوف يجازي بنفس الطريقة. {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} كل من ضحي لله بشيء فالله عز وجل سوف يخلفه خيرًا منه أو يبقيه له وزيادة، كما بقيت نفس إسماعيل وزِيدَ له أخًا نبيًا بدلا من نبي واحد أصبحا نبيَّيْن إسماعيل وإسحاق، وفداه الله بذبح عظيم.
وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا للهِ عز وجل إِلَّا بَدَّلَكَ اللهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ» . (رواه الإمام أحمد، وقال الألباني: سنده صحيح على شرط مسلم). (إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا للهِ) أي امتثالًا لأمره وابتغاءً لرضاه بغير مشاركة غرض من الأغراض معه.
{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} بما أمر الله بالإيمان به، الذين بلغ بهم الإيمان إلى درجة اليقين، كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (الأنعام:75).
وهذا جزاء الإيمان. وتلك حقيقته فيما كشف عنه البلاء المبين. لما قبل إبراهيم أن يذبح ولده ونجح في هذا الامتحان كافأه الله عز وجل أن أعطاه ولدًا آخر فوهب له إسحاق في شيخوخته. وباركه وبارك إسحاق. وجعل إسحاق نبيًا من الصالحين: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} هذه البشارة الثانية بإسحاق، الذي من ورائه يعقوب، فبشر بوجوده وبقائه، ووجود ذريته، وكونه نبيًّا من الصالحين، فهي بشارات متعددة.
•
صحبة الصالحين:
وصحبة الصالحين هي سعادة هذه الدنيا بل ومن سعادة الآخرة؛ فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في آخر كلماته في هذه الدنيا: «اللهُمَّ اغْفِرْ لِي وَاجْعَلْنِي مَعَ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى» ، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا اشْتَكَى مِنَّا إِنْسَانٌ مَسَحَهُ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ قَالَ:«أَذْهِبْ الْبَاسَ، رَبَّ النَّاسِ، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا» .
فَلَمَّا مَرِضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَثَقُلَ أَخَذْتُ بِيَدِهِ لِأَصْنَعَ بِهِ نَحْوَ مَا كَانَ يَصْنَعُ فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ يَدِي، ثُمَّ قَالَ، «اللهُمَّ اغْفِرْ لِي وَاجْعَلْنِي مَعَ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى» ، قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ قَدْ قَضَى» (رواه مسلم).
وإبراهيم عليه السلام يقول {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَالْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (الشعراء:83) دعا عليه السلام ربه فقال: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا} أي: علمًا كثيرًا، أعرِفُ به الأحكام، والحلال والحرام، وأحكُمُ به بين الأنام، {وَالْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} من إخوانه الأنبياء والمرسلين. يقولها إبراهيم النبي الكريم الأواه الحليم. فيا للتواضع! ويا للتحرج! ويا للإشفاق من التقصير! ويا للخوف من تقلب القلوب! ويا للحرص على مجرد اللحاق بالصالحين! بتوفيق من ربه إلى العمل الصالح الذي يلحقه بالصالحين!
إن صحبة الصالحين سعادة وإن صحبة الكفار والفاسقين عقوبة والنظر في وجوههم شقاء وعذاب كما قالت أم جريج لجريج: «اللهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ» (رواه البخاري ومسلم). مع أنه ينظر لتبرئة نفسه، جريج اضطُر إلي النظر في وجه المومس لكي يبرئ نفسه من التهمة الباطلة التي اتهمته بها وهي الزنى ومع ذلك كان ذلك من دعوة أمه عليه.
فتخيل الذي يُصِرُّ علي صحبة الكذابين في وسائل الإعلام الفاسدة وعلي صفحات الجرائد والمجلات ويُصِرُّ علي صحبتهم علي شاشات التلفزيون والفيديو ويُصِرُّ علي صحبتهم علي شاشات السينما، ويُصِرُّ علي صحبتهم في القِصص السخيفة. مجرد النظر لهؤلاء فقط عذاب للإنسان الذي يحب صحبة الصالحين، أما الصالحون فهم
القوم لا يشقي بهم جليسهم. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ لِلهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللهَ تَنَادَوْا هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالُوا: يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ.
فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟ فَيَقُولُونَ: لَا وَاللهِ مَا رَأَوْكَ.
فَيَقُولُ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا.
يَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونِي. قَالُوا: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ.
قَالَ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالُوا: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا.
قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟
قَالُوا: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً.
قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالُوا: مِنْ النَّارِ.
قَالَ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالُوا: َ لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا.
قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ قَالُوا: رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً.
فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا.
فَيَقُولُونَ: رَبِّ فِيهِمْ فُلَانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ، إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ.
فَيَقُولُ: وَلَهُ غَفَرْتُ؛ هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ». (رواه البخاري ومسلم). وَفِي الحديث بَيَان كَذِب مَنْ اِدَّعَى مِنْ الزَّنَادِقَة أَنَّهُ يَرَى الله تَعَالَى جَهْرًا فِي دَار الدُّنْيَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيح مُسْلِم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:«تَعَلَّمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عز وجل حَتَّى يَمُوتَ» .
{وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} أي: أنزلنا عليهما البركة، التي هي النمو والزيادة في علمهما وعملهما وذريتهما، فنشر الله من ذريتهما ثلاث أمم عظيمة: أمة العرب من ذرية إسماعيل، وأمة بني إسرائيل وأمة الروم من ذرية إسحاق.
{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} أي: منهم الصالح والطالح، والعادل والظالم الذي تبين ظلمه، بكفره وشركه، ولعل هذا من باب دفع الإيهام، فإنه لما قال:{وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وعلى إسحاق} اقتضى ذلك البركة في ذريتهما، وأن من تمام البركة أن تكون الذرية كلهم محسنين، فأخبر الله تعالى أن منهم محسنًا وظالمًا.
وتتلاحق من بعدهما ذريتهما. ولكن وراثة هذه الذرية لهما ليست وراثة الدم والنسب إنما هي وراثة الملة والمنهج: فمن اتبع فهو محسن. ومن انحرف فهو ظالم لا ينفعه نسب قريب أو بعيد.
إذا كنتَ بالله مُستعصما
…
فماذا يضيرُك ريبُ المنونْ
حَذَارِ أخي أنْ تُسيء الظنون
…
بوعدِ الإلهِ القويِّ المتينْ
فقدْ وعدَ المؤمنينَ النجاةَ
…
كما نجّا يونُسَ مِن بطنِ نُونْ
تحصّنْ بذِكرِ الإلهِ العظيم
…
وبادِرْ بحفظِ الكتابِ المبينْ
فذاكَ لقلبِكَ حصنٌ حصينْ
…
وهذا لروحِكَ زادٌ مَعينْ
فهذي شدائدُ سوفَ تزول
…
وتبقى الفوائدُ منها فنونْ
ولستَ وحيدًا بهذي الطريق
…
فتلكَ القوافلُ عبرَ السنينْ
فلا تَبْتَئِسْ يا أخَ الصالحين
…
لفرقة أهلٍ وفَقْدِ بنينْ
فإنْ كان هذا لربٍّ ودين
…
فأينَ الثباتُ وأينَ اليقينْ
فذاكَ الخليلُ مضَى طائعًا
…
لِذَبْحِ ابنِهِ في بلاءٍ مبينْ
بيومٍ جليلٍ عظيمٍ كريم
…
بلا جزعٍ تَلّه للجبينْ
فنَجّاهُ ربي بإحسانِهِ
…
وأفْداه فورًا بكبشٍ سمينْ
وأنتَ بَنُوكَ بعَيْشٍ رغِيد
…
ولهْوٍ ولعبٍ وحِرزٍ أمينْ
ولم يُطلبَنْ منكَ ذبحًا لهم
…
فقط أن تصابر بُعدًا لحينْ
فهم في رعايةِ ربٍ رحيم
…
وأنت بخلوةِ ذكرٍ ودينْ
لمرضاةِ ربٍ ونصرةِ دين
…
تهون الحياةُ وكلّ البنونْ