الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
29 - إذا لَم تَستَحْيِ، فاصْنَعْ ما شِئْتَ
• ارتباط الأخلاق والآداب بالعقيدة:
أيها المسلمون: إن للآداب والأخلاق صلة وثيقة بعقيدة الأمة ومبادئها، بل هي التجسيد العملي لقيمها ومثلها. الأخلاق والآداب هي عنوان التمسك بالعقيدة، ودليل الالتزام بالمبادئ والمثل. والحكم على مقدار الفضل وحسن السيرة راجع إلى الخلق العالي. ولا يتم التحلي بالخلق الفاضل والأدب الرفيع إلا بالترويض على نبيل الصفات، وكريم العوائد بالتعليم والتهذيب والاقتداء الحسن.
• اشتمال أخلاق الإسلام على جميع أحوال المسلم:
إن الإسلام قد شمل في أخلاقه أحوال المسلم كلها؛ صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها، فردًا وأسرة ومجتمعًا، فالاستئذان والسلام، والمصافحة والصدق، والتأدب في المزاح والمداعبة، وحفظ حقوق الإخوان، والأدب مع الأقارب والجيران، وصلة الأرحام، وإطعام الطعام، وتجنب الظلم والاحتقار والعدوان، كل ذلك وغيره باب واسع عظيم، وهو ثابت لا يتغير بتغير الزمان ولا بتحول المكان. غير أن لهذا الباب الواسع مفتاحًا وأن لهذه الأخلاق عنوانًا وعليها دليلا .. ذلكم هو خلق الحياء من الله والحياء من الناس.
أيها المسلم: عندما ترى الرجل يتحرج من فعل ما لا ينبغي ويكسو الخجل وجهه إذا بدر ما لا يليق، فاعلم أنه حي الضمير، زكي العنصر نقي المعدن.
أما اذا رأيته صفيقًا، بليد الشعور، معوج السلوك، لا يبالي ما يأخذ أو يترك، فهو بعيد عن الخير ليس لديه حياء يردعه، ولا وازع يمنعه، يقع في الآثام، ويسف في ارتكاب الدنايا.
إن المرء حين يفقد حياءه يتدرج من سيئ إلى أسوأ، ويهبط من رذيلة إلى أرذل، ولا يزال يهوي حتى ينحدر إلى الدركات السفلى.
عَنْ أبي مَسعودٍ البَدريِّ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّ مِمَّا أدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلام النُّبُوَّةِ الأُولَى: إذَا لَمْ تَسْتَحْيِ، فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» (رَواهُ البُخاريُّ).
• كلام الأنبياء:
قولُه صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّ مِمَّا أدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلام النُّبُوَّةِ الأُولَى» يشيرُ إلى أنَّ هذا مأثورٌ عن الأنبياء المتقدمين، وأنَّ الناس تداولوه بينهم، وتوارثوه عنهم قرنًا بعد قرنٍ، وهذا يدلُّ على أنَّ النبوات المتقدِّمة جاءت بهذا الكلام، وأنَّه اشتهر بَيْنَ الناسِ حتى وصل إلى أوَّل هذه الأمة.
• معنى الحديث:
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذَا لَمْ تَسْتَحْيِ، فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» في معناه قولان:
أحدهما: أنَّه ليس بمعنى الأمر: أنْ يصنع ما شاء، ولكنه على معنى الذمِّ والنهي عنه، وأهل هذه المقالة لهم طريقان:
1 -
أنَّه أمرٌ بمعنى التهديد والوعيد، والمعني: إذا لم يكن لك حياء، فاعمل ما شئت، فإنَّ الله يُجازيك عليه، كقوله:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (فصلت:40)، وقوله:{فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} (الزمر:15).
2 -
أنَّه أمرٌ، ومعناه: الخبر، والمعنى: أنَّ من لم يستحي، صنع ما شاء، فإنَّ المانعَ من فعل القبائح هو الحياء، فمن لم يكن له حياءٌ، انهمك في كُلِّ فحشاء ومنكر، وما يمتنع من مثله من له حياء على حدِّ قوله صلى الله عليه وآله وسلم:«مَنْ كَذَبَ عَليَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (رواه البخاري ومسلم)، فإنَّ لفظه لفظُ الأمر، ومعناه الخبر، وإنَّ من كذب عليه تبوأ مقعده من النار.
وعن ابن عباس قال: «الحياءُ والإيمانُ في قَرَنٍ، فإذا نُزِعَ الحياءُ، تبعه الآخر» .
إذا لم تخْشَ عاقبةَ الليالي
…
ولم تستحْي فاصنَعْ ما تشاءْ
فلا واللهِ ما في العيشِ خيرٌ
…
ولا الدنيا إذا ذهبَ الحياءْ
يعيش المرءُ ما استحيَا بخيرٍ
…
ويبقَى العودُ ما بَقِىَ اللحَاءْ
والقول الثاني في معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذَا لَمْ تَسْتَحْيِ، فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» :أنّه أمر بفعل ما يشاء على ظاهرِ لفظه، وأنَّ المعنى: إذا كان الذي تريدُ فعله مما لا يُستحيى من فعله، لا من الله ولا من الناس، لكونه من أفعال الطاعات، أو من جميل الأخلاق والآداب المستحسنة، فاصنعْ منه حينئذٍ ما شئتَ.
ومن هذا قولُ بعض السَّلف ـ وقد سئل عن المروءة ـ فقال: أنْ لا تعملَ في السرِّ شيئًا تستحيي منه في العلانية.
وعن أسامةَ بنِ شريك رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا كَرِهَ اللهُ مِنْكَ شَيْئًا، فَلَا تَفْعَلْه إذَا خَلَوْتَ» . (حسن رواه ابن حبان).
• الحياء من الإيمان:
وقد جعل النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم الحياءَ مِنَ الإيمان كما في (الصحيحين) عن ابن عمر: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم مرَّ على رجلٍ وهو يُعاتِبُ أخاه في الحياء يقولُ: إنَّك لتستحيي، كأنَّه يقول: قد أضرَّ بك، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم:«دَعْهُ، فإنَّ الحياءَ مِنَ الإيمانِ» .
فقَالَ لَهُ النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم «دَعْهُ» أَيْ: اُتْرُكْهُ عَلَى هَذَا الْخُلُق السُّنِّيّ، ثُمَّ زَادَهُ فِي ذَلِكَ تَرْغِيبًا لِحُكْمِهِ بِأَنَّهُ مِنْ الْإِيمَان، وَإِذَا كَانَ الْحَيَاء يَمْنَع صَاحِبه مِنْ اِسْتِيفَاء حَقّ نَفْسه جَرَّ لَهُ ذَلِكَ تَحْصِيل أَجْر ذَلِكَ الْحَقّ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمَتْرُوك لَهُ مُسْتَحِقًّا.
وَقَالَ اِبْنُ قُتَيْبَة: مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَيَاء يَمْنَع صَاحِبه مِنْ اِرْتِكَاب الْمَعَاصِي كَمَا يَمْنَع الْإِيمَان، فَسُمِّيَ إِيمَانًا كَمَا يُسَمَّى الشَّيْء بِاسْمِ مَا قَامَ مَقَامه.
وَقَالَ الْحَلِيمِيّ: حَقِيقَة الْحَيَاء خَوْف الذَّمّ بِنِسْبَةِ الشَّرّ إِلَيْهِ، وَقَالَ غَيْره: إِنْ كَانَ فِي مُحَرَّم فَهُوَ وَاجِب، وَإِنْ كَانَ فِي مَكْرُوه فَهُوَ مَنْدُوب، وَإِنْ كَانَ فِي مُبَاح فَهُوَ الْعُرْفِيّ، وَهُوَ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ «الْحَيَاء لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ» .
وَيَجْمَع كُلّ ذَلِكَ أَنَّ الْمُبَاحَ إِنَّمَا هُوَ مَا يَقَع عَلَى وَفْق الشَّرْع إِثْبَاتًا وَنَفْيًا.
وَحُكِيَ عَنْ بَعْض السَّلَف: رَأَيْت الْمَعَاصِيَ مَذَلَّة، فَتَرَكْتهَا مُرُوءَة، فَصَارَتْ دِيَانَة.
وَقَدْ يَتَوَلَّد الْحَيَاء مِنْ اللهُ تَعَالَى مِنْ التَّقَلُّب فِي نِعَمِهِ فَيَسْتَحِي الْعَاقِل أَنْ يَسْتَعِينَ بِهَا عَلَى مَعْصِيَته، وَقَدْ قَالَ بَعْض السَّلَف: خَفْ اللهُ عَلَى قَدْر قُدْرَته عَلَيْك. وَاسْتَحْيِ مِنْهُ عَلَى قَدْر قُرْبه مِنْك.
والْمُرَاد بِالْحَيَاءِ فِي هَذِا الْحَديث مَا يَكُون شَرْعِيًّا، وَالْحَيَاءُ الَّذِي يَنْشَأ عَنْهُ الْإِخْلَال بِالْحُقُوقِ لَيْسَ حَيَاءً شَرْعِيًّا بَلْ هُوَ عَجْز وَمَهَانَة، وَإِنَّمَا يُطْلَق عَلَيْهِ حَيَاء لِمُشَابَهَتِهِ لِلْحَيَاءِ الشَّرْعِيّ، وَهُوَ خُلُق يَبْعَث عَلَى تَرْك الْقَبِيح.
وفي (الصحيحين) عن أبي هُريرة قال: «الحياءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمَانِ» .
وفي (الصحيحين) عن عمران بن حصين، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال:«الحَيَاءُ لَا يَأتِي إلَاّ بِخَيْرٍ» .
قَالَ أَشَجُّ بْنُ عَصَرٍ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ فِيكَ خُلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ عز وجل» قُلْتُ: «مَا هُمَا؟» قَالَ: «الْحِلْمُ وَالْحَيَاءُ» ، قُلْتُ:«أَقَدِيمًا كَانَ فِيَّ أَمْ حَدِيثًا؟» قَالَ: «بَلْ قَدِيمًا» قُلْتُ: «الْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا» . (صحيح رواه الإمام أحمد).
• الحياء نوعان:
أحدهما: ما كان خَلْقًا وجِبِلَّةً غيرَ مكتسب، وهو من أجلِّ الأخلاق التي يَمْنَحُها الله العبدَ ويَجبِلُه عليها، ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم:«الْحَيَاء لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ» ، فإنَّه يكفُّ عن ارتكاب القبائح ودناءةِ الأخلاق، ويحثُّ على استعمال مكارم الأخلاق ومعاليها، فهو مِنْ خصال الإيمان بهذا الاعتبار، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنَّه قال:«من استحيى اختفى، ومن اختفى اتقى، ومن اتقى وُقي» .
وقال الجَرَّاح بنُ عبد الله الحكمي ـ وكان فارس أهل الشام ـ: «تركتُ الذنوب حياءً أربعين سنة، ثم أدركني الورع» .
ورُب قبيحةٍ ما حالَ بينِي
…
وبينَ ركوبِها إلا الحياء
فكان هو الداءُ لها ولكنْ
…
إذا ذهبَ الحياءُ فلا دواء
والنوع الثاني من الحياء: ما كان مكتسبًا من معرفة اللهِ، ومعرفة عظمته وقربه من عباده، واطلاعه عليهم، وعلمِه بخائنة الأعين وما تُخفي الصدور، فهذا من أعلى خصالِ الإيمان، بل هو مِنْ أعلى درجات الإحسّان.
• علامة الحياء وفقده، وأثر ذلك:
أيها المسلمون: إن من أعظم ما يستحي منه ربكم مولي النعم ومسديها. ولا يتولد هذا الحياء إلا حين يطالع العبد نعم الله عليه، ويتفكر فيها، ويدرك تمامها وشمولها، ثم يراجع نفسه ويحاسبها على التقصير، ويخجل من ربه، ولاسيما إذا رزق العبد توفيقًا فأدرك عظمة الله، وإحاطته، واطلاعه على عباده، وقربه منهم، وعلمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور.
يقول الجنيد رحمه الله: «الحياء رؤية النعم ورؤية التقصير، فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء» .
ويقول بعض السلف: «خَفِ اللهَ على قدْر قدرتِه عليك واسْتَحِ منه على قدر قُربِه منك» .
ومن الحياء أن يطهر المسلم لسانه من الفحش ومعيب الألفاظ، فإن من سوء الأدب أن تفلت الألفاظ البذيئة من المرء غير عابئ بمواقعها وآثارها.
ومن الحياء القصد في الحديث في المجالس، فمن أطلق للسانه العنان فإنه لا يسلم من التزيد، ولا ينجو من الادعاء والرياء.
ومن الحياء أن يتوقى الإنسان ويتحاشى أن يؤْثَر عنه سوء، أو تتلطخ سمعته بما لا يليق، وليبق بعيدًا عن موارد الشبه ومواطن الإشاعات السيئة.
وإن من الحياء أن يعرف لأصحاب الحقوق منازلهم ومراتبهم، فيؤتى كل ذي فضل فضله. فالابن يوقر أباه، والتلميذ يحترم المعلم، والصغير يتأدب مع الكبير.
ومن أحيا الحياء محافظة المرأة المسلمة على كرامتها وحشمتها، ومراقبة ربها، وحفظ حق بعلها، والبعد عن مسالك الريبة ومواطن الرذيلة، لئلا يغيض ماء الحياء
ويذهب بالعفاف والبهاء. فاتقين الله يا نساء المؤمنين، والزَمْنَ العفاف والحياء فذلك خير وأبقى.
يابْنَتِي إِنْ أردْتِ آية َ حُسْنٍ
…
وجَمالًا يَزِينُ جِسْمًا وعَقْلَا
فانْبِذِي عادة َ التَّبرجِ نَبْذًا
…
فجمالُ النُّفوسِ أسْمَى وأعْلَى
واجعَلِي شِيمة َ الْحَيَاءِ خِمارًا
…
فَهْوَ بِالْغَادة الكَريمة ِ أَوْلَى
ليس لِلْبِنْت في السَّعادة حَظٌّ
…
إِن تَنَاءَى الحياءُ عَنْها ووَلَّى
والْبَسِي مِنْ عَفَاف نَفْسِكِ ثوْبًا
…
كلُّ ثوبٍ سِوَاه يَفْنَى ويَبْلَى
• ويقابل الحياء البذاء والجفاء:
إن منزوع الحياء لا تراه إلا على قبح، ولا تسمع منه إلا لغوًا وتأثيمًا، عين غمازة، ونفس همازة، ولسان بذيء؛ يتركه الناس اتقاء فحشه، مجالسته شر، وصحبته ضُر، وفعله عدوان، وحديثه بذاء. ويزيد الأمر ويعظم الخطب حين يكون اللهو والتفحش في الطرب والغناء واتخاذ القينات والمعازف وقصائد المجون حيث الخروج عن الفضيلة، وخلع جلباب الحياء، ومن لا حياء له لا إيمان له.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «الْحَيَاءُ مِنْ الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْبَذَاءُ مِنْ الْجَفَاءِ، وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ» (صحيح رواه الترمذي).
(الْحَيَاءُ مِنْ الْإِيمَانِ) أَيْ بَعْضُ الإيمان أَوْ مِنْ شُعَبِهِ.
(وَالْإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ) أَيْ أَهْلُهُ.
(وَالْبَذَاءُ) خِلَافُ الْحَيَاءِ وَالنَّاشِئُ مِنْهُ الْفُحْشُ فِي الْقَوْلِ، وَالسُّوءُ فِي الْخُلُقِ.
(مِنْ الْجَفَاءِ) وَهُوَ خِلَافُ الْبِرِّ الصَّادِرِ مِنْهُ الْوَفَاءُ.
(وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ) أَيْ أَهْلُهُ التَّارِكُونَ لِلْوَفَاءِ. الثَّابِتُونَ عَلَى غِلَاظَةِ الطَّبْعِ وَقَسَاوَةِ الْقَلْبِ.
• استحيوا من الله حق الحياء:
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «اسْتَحْيُوا مِنْ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ» .قَالَ: قُلْنَا: «يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ للهِ» .
(اِسْتَحْيُوا مِنْ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ) أَيْ حَيَاءً ثَابِتًا لَازِمًا صَادِقًا، وَقِيلَ أَيْ اِتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ. (قُلْنَا يَا نَبِيَّ اللهِ إِنَّا لَنَسْتَحْيِي) لَمْ يَقُولُوا حَقَّ الْحَيَاءِ اِعْتِرَافًا بِالْعَجْزِ عَنْهُ.
(وَالْحَمْدُ للهِ) أَيْ عَلَى تَوْفِيقِنَا بِهِ.
(قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ) أَيْ لَيْسَ حَقَّ الْحَيَاءِ مَا تَحْسَبُونَهُ بَلْ أَنْ يَحْفَظَ جَمِيعَ جَوَارِحِهِ عَمَّا لَا يَرْضَى.
(وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنْ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ) أَيْ عَنْ اِسْتِعْمَالِهِ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللهِ بِأَنْ لَا تَسْجُدَ لِغَيْرِهِ وَلَا تُصَلِّيَ لِلرِّيَاءِ وَلَا تَخْضَعَ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ وَلَا تَرْفَعَهُ تَكَبُّرًا.
(وَمَا وَعَى) أَيْ جَمَعَهُ الرَّأْسُ مِنْ اللِّسَانِ وَالْعَيْنِ وَالْأُذُنِ عَمَّا لَا يَحِلُّ اِسْتِعْمَالُهُ.
(وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ) أَيْ عَنْ أَكْلِ الْحَرَامِ.
(وَمَا حَوَى) أَيْ مَا اِتَّصَلَ اِجْتِمَاعُهُ بِهِ مِنْ الْفَرْجِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْيَدَيْنِ وَالْقَلْبِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ مُتَّصِلَةٌ بِالْجَوْفِ، وَحِفْظُهَا بِأَنْ لَا تَسْتَعْمِلَهَا فِي الْمَعَاصِي بَلْ فِي مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى.
(وَتَتَذَكَّرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى) يَعْنِي تَتَذَكَّرَ صَيْرُورَتَك فِي الْقَبْرِ عِظَامًا بِالِيَةِ.
(وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا) فَإِنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ حَتَّى لِلْأَقْوِيَاءِ؛ لِأَنَّهُمَا ضَرَّتَانِ فَمَتَى أَرْضَيْت إِحْدَاهُمَا أَغْضَبْت الْأُخْرَى.
(فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ) أَيْ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنْ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ.
وقد يتولَّدُ من الله الحياءُ من مطالعة نِعمه ورؤية التقصير في شكرها، فإذا سُلِبَ العبدُ الحياءَ المكتسب والغريزي لم يبق له ما يمنعه من ارتكاب القبيح، والأخلاق الدنيئة، فصار كأنَّه لا إيمانَ له.
• ليس من الحياء:
والحياءَ الممدوح في كلام النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم هو الخُلُقَ الذي يَحُثُّ على فعل الجميل، وتركِ القبيح، فأمَّا الضعف والعجزُ الذي يوجب التقصيرَ في شيء من حقوق الله أو حقوق عباده، فليس هو من الحياء، إنَّما هو ضعفٌ وخَوَرٌ، وعجزٌ ومهانة.
إن المسلم عفيفٌ حَيِيٌّ، يفعل الجميل، ويجتنب القبيح. ولا ينبغي أن يكون الحياء حائلًا عن طلب العلم أو مانعًا من قول الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
بل لقد قرر أهل العلم أن من امتنع عن مواجهة الحق وأخَلّ بالواجبات على زعم منه أن هذا من الحياء، فقد ضل السبيل، فما هذا إلا عجز وخور، وضعف واستكانة، بل خنوع وتقصير ومهانة. فحقيقة الحياء ما بعث على ترك القبيح، ومنع من التقصير في حق كل ذي حق.
لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم أشَدَّ حيَاءً مِنَ العَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا (رواه البخاري ومسلم).
(أَشَدّ حَيَاء مِنْ الْعَذْرَاء) أَيْ الْبِكْر، (فِي خِدْرهَا) أَيْ فِي سِتْرهَا، وَأَخْرَجَ الْبَزَّار مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس قَالَ:«كَانَ رَسُول اللهُ صلى الله عليه وآله وسلم يَغْتَسِل مِنْ وَرَاء الْحُجُرَات، وَمَا رَأَى أَحَد عَوْرَته قَطّ» وَإِسْنَاده حَسَن.
وَمَحَلّ وُجُود الْحَيَاء مِنْهُ صلى الله عليه وآله وسلم فِي غَيْر حُدُود اللهُ لكن لم يمنعه أن يقول لحبه أسامة: «أتَشْفَعُ فِي حَدٍ مِنْ حُدُودِ اللهِ» (رواه البخاري ومسلم).
لم يمنع الحياء أم سليم الأنصارية من أن تأتي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ» .
قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «نَعَمْ، إِذَا رَأَتْ الْمَاءَ» (رواه البخاري ومسلم).
فاتقوا الله أيها المسلمون وتمسكوا بوصايا دينكم، وتأسوا بهدي نبيكم، فقد كان صادق اللهجة، حسن العشرة، ليس بغماز ولا لماز ولا فاحش ولا متفحش، وصلوا عليه وسلموا تسليمًا كثيرًا.