الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
42 - الامتحانات، كل منا ممتحن
(1)
• شتان بين اهتمام واهتمام، وبين امتحان وامتحان:
يخوض أبناؤنا وإخواننا ذكورًا وإناثًا غمار الامتحانات الدراسية، وبهذه المناسبة تجد القلوب وَجِلَة، والأذهان قلقة، والآذان تتلقف الأخبار عن الامتحان، قلَّمَا تجد منزلا لم تُعلَن فيه حالات الطوارئ، كل أب ينتظر بصبر وعلى مضض نتيجة ابنه في هذا الامتحان؛ لأنه يرجو له النجاح، تراه يدعو الله بتوفيقه وتسديده وتثبيته، يعده ويمنِّيه إن نجح، ويتوعده ويحذره ويهدده إن رسب، وهذا إحساس من الأحاسيس التي فُطِر عليها البشر.
لكن أيها الأب الحنون وقد اهتممت بابنك هذا الاهتمام، فأنت به الآن مشغول، تسعى وتصول وتجول، تهتم به وترعى، وتحس أنك عنه مسؤول، فهلا كان الاهتمام بآخرته كالاهتمام بدنياه، هلَاّ كان الاهتمام به بعد موته كالاهتمام براحته في حياته، علمك وما علمك، مسئوليتك وما مسئوليتك، أحاطت بعلوم الدنيا فأهملت الأخرى الباقية، شُغِلتَ به في حياته، وأهملتَه بعد مماته، بنيتَ له بيتَ الطين والإسمنت في دنياه، وحرمْتَه بيت اللؤلؤ والياقوت والمرجان في أخراه.
نظرتك وما نظرتك، طموحك، أمَلُك، غاية مُنَاكَ أن يكون طبيبًا أو مهندسًا أو طيارًا، ويا الله كل الأماني دنيوية! السعي والجد للفانية مع إهمال الباقية، بعض الناس تأهبوا واستعدوا وعملوا على تربية أبناءهم أجسادًا وعقولا، وأهملوا تربية القلوب التي بها يحيون ويسعدون، أو بها يشقون.
هذا هو الواقع، وها هي الأدلة على ما نقول أيها الأب الحنون.
(1) هذه الخطبة مقتبسة بتصرف من محاضرة للشيخ علي القرني بعنوان (كل منا ممتحن)، ورسالة للدكتور ناصر العمر بعنوان (امتحان القلوب).
هَبْ أنّ ابنه تأخر في نومه عن وقت الامتحان، ما حالته؟ ما شعوره؟ ألا يسابق الزمن ليلحق الامتحان؟ ألا ينام بعدها بنصف عين لكيلا يفوته الامتحان؟ كأن الجواب يقول: بلى. هل كان شعوره حين نام عن صلاة الفجر كشعوره حين نام عن امتحانه؟
ألا يسأله كل يوم عن امتحانه: ماذا عمل؟ وبماذا أجاب؟ وعسى أن يكون الجواب صحيحًا، فهل سأله عن أمر دينه يوما ما؟ ألا يضيق صدره ويعلو همُّه حين تعلم أن ابنه قصَّر في الإجابة؟ فهل ضاق صدره حين قصَّر في سنن دينه وواجباته؟
فما عساك فاعل أيها الأب الحنون في امتحان ليس له دور ثان، ولا إعادة؟ فقط نجاح أو رسوب، والرسوب معناه الإقامة في النار أبد الآبدين، معناه الخسران المبين، والعذاب المهين، ماذا تغني عنه شهادته ومركزه وماله إذا أُوتيَ كتابه بشماله، ثم صاح بأعلى صوته {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} (القيامة:25 - 29).
ما أغنى عني مركزي، ما أغنى عني سلطاني، ما أغنى عني علمي الدنيوي وشهادتي. كل ذلك هَلَك واندَثَر، هلك عني سلطاني {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} (القيامة:30 - 31)، خسارة ورسوب، وأي خسارة، وأي رسوب، تكون في الدنيا طبيبًا أو مهندِسًا أو مُدرِّسًا، أما الآخرة فمؤمن وكافر، فريقان؛ فريق في الجنة، وفريق في السعير.
لا نقول: أهملوا أبناءكم، لا والله، بل نقول: إن الآخرة هي أولى بالاهتمام، وأجدر بالسعي، وأحق بالعمل.
أيها الأحبة مَن مِنا حرص على جلب مربٍّ لابنه يعلمه القرآن ويدارسه السُّنَّة، مَن مِنا أعطى لابنه جائزة يوم حفظ جزءًا من القرآن، أو تعلَّم حديثًا لخير بني الإنسان صلى الله عليه وآله وسلم.فماذا كانت نتيجة إهمالنا لأولادنا؟ النتيجة أن اتجه شبابنا إلى الملاعب يوم نادى المنادي:«حي على الصلاة، حي على الفلاح» . النتيجة أنْ حلّ محل المصحف مجلة، ومحل السواك سيجارة.
أيها الآباء وأنتم تعدون أبناءكم للامتحان اتقوا الله فيهم، اعلموا وعلموهم أن سلعة الله أغلى وأعلى. علِّموهم أن الامتحان والنجاح بقَصْر النفس على ما يرضي الله، علموهم أن السعادة في تقوى الله، واعلموا أنتم أنه لن ينصرف أحد من الموقف وله عند أحد مَظْلَمَة. يفرح ابنك أن يجد عندك مظلمة، تفرح زوجتك أن تجد عندك مظلمة، يأتي ابنك يقف يحاجّك بين يدي الله قائلا: يا رب سل أبي لِمَ ضيعني عن العمل لما يرضيك، ورباني كالبهيمة، ما يكون جوابك أيها الأب الحنون؟ أَعِدَّ للسؤالِ جوابًا.
إن ابنًا بنيناه جسدًا حَرِيٌّ بنا أن نربي عقله وقلبه، ونهتم بحياته بعد موته، وأول خطوة إلى ذلك أن نصلح أنفسنا؛ ففي صلاحنا وبصلاحنا تكون استقامتهم، ورعاية الله لهم، قال تعالى:{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} (الكهف:82).
وثانيها: أن نجعل التربية الإسلامية غاية وهدفًا، لا مانع من تعلُّم العلوم الدنيوية، ولكن ليس على حساب الاهتمام بالآخرة، {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص:77).فيا عبد الله اتقِ الله في رعيَّتك؛ فأنت عنهم مسئول أمام الله. اتق الله أن يستأمنك الله عليهم فتشرع لهم أبواب الفتن؛ من أفلام وأجهزة خبيثة عديدة، ومجلات فاتنة صفيقة.
يا عبد الله يوم تهتم هذا الاهتمام المادي بابنك يصبح ابنك مركِّزًا كل همِّه في ثوبه ومسكنه ومأكله ومشربه وسيارته. جزاك الله خيرًا على اهتمامك به ماديًا، لكن ماذا فعلت لتؤنسه في وحدته، إذا ما دفنته في التراب ما أنت صانع بشهادته؟ قد يرسب الآن في مادة أو مادتين، قد ينجح فيهما غدًا أو بعد غد، والمجال مفتوح للتعويض، لكن لا تعويض في الآخرة.
يا عبد الله يوم غدٍ ليس مضمونًا، قد تسعى وتتعب وتزرع فلا تحصد، قد تدرس وتختبر فلا تدرك النتيجة، أما وقد بلغتك الرسالة فقد وجب الامتحان ووجبت النتيجة.
يا أيها الأب الحنون أدعوك إلى التأمل في وصية لقمان لابنه الذي يحبه، ويفتديه بالغالي والنفيس. هل أوصاه بدنيا؟ هل أوصاه بزخرف؟ لا، بل دعاه لما يحييه حياة طيبة، وينجيه من العذاب الأليم، نهاه أن يشرك بالله {إنَّ الشَّرْكَ لَظُلْمُ عَظِيمٌ} (لقمان:13). وأخبره أن الله محيط بكل شيء، لا يعجزه شيء.
ودلَّه على ما ينجيه من الله؛ ألا هو الهرب منه إليه عز وجل بإقامة الصلاة، بالأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، بصبر على ما يصيبه من جرَّاء ذلك، ثم دلَّه على مكارم الأخلاق التي تسمو بها نفسه، ويعلو بها مركزه. فلا تكبُّر على الخلق، ولا ذلة مع قصد في المشية، وخفض في الصوت {إنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوتُ الحَمِيرِ} (لقمان:19). تلك يا عبد الله جملة وصية الأب الحنون حقًا. فهلا رجعنا إلى القرآن، فقرأنا هذه الوصايا، فعملنا بهذه الوصية مع ابنائنا؟ هل أوصيناهم ببعضها أو بها جميعها؟!!
• الدنيا دار امتحان:
أخبر تعالى أنه جعل الدنيا دارًا فانية مُزيَّنة بزينة زائلة. وإنما جعلها دار اختبار لا دار قرار، فقال:{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (الكهف:7).وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ» (رواه مسلم).
ويقول الله عز وجل: {هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا *إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (الإنسان:1 - 3).
يقول تعالى مخبرًا عن الإنسان أنه أوجده بعد أن لم يكن شيئًا يذكر لحقارته وضعفه، فقال:{هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} ؟ ثم بين ذلك فقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} أي: أخلاط. والمشج والمشيج: الشيء الخَليط، بعضه في بعض. {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} يعني: ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا
واختلطا، ثم ينتقل بعد من طور إلى طور، وحال إلى حال، ولون إلى لون. {نَبْتَلِيهِ} أي: نختبره. {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} أي: جعلنا له سمعًا وبصرًا يتمكن بهما من الطاعة والمعصية. {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} أي: بينا له طريق الخير وطريق الشر. {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} فهو في ذلك إما شقي وإما سعيد، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا» (رواه مسلم).
• الأولاد امتحان:
قال الله عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيم} (الأنفال:28). أي: اختبار وامتحان منه لكم؛ إذ أعطاكموها ليعلم أتشكرونه عليها وتطيعونه فيها، أو تشتغلون بها عنه، وتعتاضون بها منه؟
{وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} أي: ثوابه وعطاؤه وجناته خير لكم من الأموال والأولاد، فإنه قد يوجد منهم عدو، وأكثرهم لا يغني عنك شيئًا، والله، سبحانه، هو المتصرف المالك للدنيا والآخرة، ولديه الثواب الجزيل يوم القيامة.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الْوَلَد مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ مَجْهَلَةٌ مَحْزَنَةٌ» . (صحيح رواه الحاكم والطبراني).
(إن الْوَلَد مَبْخَلَةٌ) بالمال عن إنفاقه في وجوه القُرَب خوف فقره. (مَجْبَنَةٌ) يجبن أباه عن الهجرة والجهاد خشية ضيعته. (مَجْهَلَةٌ) لكونه يحمل على ترك الرحلة في طلب العلم والجد في تحصيله لاهتمامه بتحصيل المال له. (مَحْزَنَةٌ) يحمل أبويه على كثرة الحزن لكونه إن مرض حَزنَا وإن طلب شيئًا لا قدرة لهما عليه حَزنَا، فأكثر ما يفوت أبويه من الفلاح والصلاح بسببه، فإن شب وعق فذلك الحزن الدائم والهم السرمدي اللازم.
فالحذر على الولد يكسب هذه الأوصاف ويحدث هذه الأخلاق، فكأنه أشار إلى التحذير من النكول عن الجهاد والنفقة، وطلب العلم بسبب الأولاد.
• الناس بعضهم لبعض فتنة وامتحان:
قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} أي: اختبرنا بعضكم ببعض، وبلونا بعضكم ببعض، لنعلم مَن يُطيع ممن يعصي؛ فالرسول فتنة للمرسَل إليهم
واختبار للمطيعين من العاصين، والرسل فتناهم بدعوة الخلق، والغَنِى فتنة للفقير والفقير فتنة للغَنِي، وهكذا سائر أصناف الخلق في هذه الدار، دار الفتن والابتلاء والاختبار. والقصد من تلك الفتنة {أَتَصْبِرُونَ} فتقومون بما هو وظيفتكم اللازمة الراتبة فيثيبكم مولاكم أم لا تصبرون فتستحقون المعاقبة؟
{وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} يعلم أحوالكم، ويصطفي من يعلمه يصلح لرسالته ويختصه بتفضيله ويعلم أعمالكم فيجازيكم عليها إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
• الشر والخير فتنة وامتحان:
قال الله عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الأنبياء:35). {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وهذا يشمل سائر نفوس الخلائق، وإن هذا كأس لا بد من شربه وإن طال بالعبد المدى، وعمّر سنين، ولكن الله تعالى أوجد عباده في الدنيا، وأمرهم، ونهاهم، وابتلاهم بالخير والشر، بالغنى والفقر، والعز والذل، والحياة والموت، فتنة منه تعالى ليبلوهم أيهم أحسن عملا، ومن يفتتن عند مواقع الفتن ومن ينجو، {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} فنجازيكم بأعمالكم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر {وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} .
• عباد الله كلنا في امتحان:
فبين راسب وناجح، والمادة هي لا إله إلا الله، محمد رسول الله، بين عامل بمقتضاها قائم بأركانها وشروطها وواجباتها، قالها موقنا محبًا منقادًا مستسلمًا، صدَّقها قلبه، وعملت جوارحه بها، فهو الناجح، وأي نجاح! وآخر قالها بلسانه وما صدقها بالعمل، فهو الراسب المنافق. وآخر لم ينطقها، فإلى جهنم وبئس القرار.
• الأسئلة تترد صباح مساء:
هل صليت وصمت لله يا عبد الله؟ هل أطعت الله ورسوله؟ هل تحب الخير وأهله؟ هذه أسئلة، أسئلة تتردد على مسامعكم، هل تبغض الشر وأهله؟ هل تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ هل تحب للناس ما تحب لنفسك؟ هل سلِمَتْ أعراض المسلمين من لسانك؟ هل يطمئن قلبك بذكر الله؟ هل يتعلق قلبك بالله في الشدة
والرَّخاء؟ هل نزّهْتَ أذنَكَ عن سماع ما يغضب الله؟ هل غضَضْتَ بصرك عن محارم الله؟ هل غضبت لله؟ هل أحببت في الله؟ هل أبغضت في الله؟ هل أعطيت لله، ومنعت لله؟ هل استسلمت لأمر الله؟ هل استسلمت لأمره يوم يأمرك بالحجاب فحجبت أهل بيتك امتثالًا لقول الله:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} (الأحزاب:59)؟
الأسئلة كثيرة تترد عليك صباح مساء، إن كان الجواب بنعم فأنت من الناجحين الفائزين بإذن رب العالمين، وإن كان الجواب بلا فَعُدْ إلى الله ما دمت في زمن الإمهال، واندم واقلع وردّ المظالم لأهلها قبل وضع الميزان، وتطاير الصحف، وعبور الصراط يوم ينسى الخليل خليله، والصاحب صاحبه، وكلٌ يقول: نفسي نفسي، والرسل تقول: اللهم سلِّم سلِّم.
أيها المُمْتَحَن ـ وكلنا مُمْتحَن ـ تذكر وقوفك لاستلام النتيجة، يوم يوقف العبد بين كفتي الميزان، فإن ثقل ميزانه يطرب ويفرح ويقول:{هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَه} وإن خفَّ ميزانه فذاك هو الرسوب. عندها يقول: {يَا لَيتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَه} .
مَثِّلْ وقُوفَكَ يومَ العرضِ عُريانَا
…
مُستوحشًا قَلِقَ الأحشاءِ حَيْراناَ
النارُ تَلْهَبُ مِن غيظٍ ومِن حَنَقٍ
…
على العصاةِ وربُّ العرش غَضبانَا
اقرَأ كتابَك يا عبدُ على مَهَلٍ
…
فهل ترى فيه حَرفًا غيْرَ مَا كانَا
فلما قرأتَ ولم تُنكِرْ قراءَتَه
…
إقرارَ مَن عَرفَ الأشياءَ عِرفانَا
نادَى الجليلُ خُذوهُ يا ملائكَتَي
…
وامْضُوا بعَبدٍ عَصَى ـ للنَّارِ ـ عطشَانَا
المشركونَ غدًا في النار تَلتهبُ
…
والمؤمنونَ بدارِ الخلدِ سُكَانَا
بأي لسان نُجيب حين نُسْأل عن عملنا القبيح؟
بأي لسان تجيب يوم تُسأل يا أيها الممتحَن عن عمرك فيما أفنيته وشبابك فيما أبليته ومالك من أين اكتسبته وفيما أنفقته وعن علمك ماذا عملت فيه؟
عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ» (حسن رواه الترمذي).
(فِيمَا أَفْنَاهُ) أَيْ صَرَفَهُ (وَعَنْ شَبَابِهِ) أَيْ قُوَّتِهِ فِي وَسَطِ عُمُرِهِ (فِيمَا أَبْلَاهُ) أَيْ ضَيَّعَهُ. والْمُرَادُ سُؤَالُهُ عَنْ قُوَّتِهِ وَزَمَانِهِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ مِنْهُ عَلَى أَقْوَى الْعِبَادَةِ. (وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اِكْتَسَبَهُ) أَيْ أَمِنْ حَرَامٍ أَوْ حَلَالٍ؟ (وَفِيمَا أَنْفَقَهُ) أَيْ فِي طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ.
بأي قدم ٍتقف غدًا بين يديه بأي عين تنظر إليه بأي قلب تجيب عليه؟ فكيف بك إن شقيت؟ فيا أيها الممتحنون غدًا ـ وكلنا ممتحن ـ لمثل هذه المواقف فأعدوا وتذكروا بامتحان الدنيا وقوفكم بين يدي المولى إذ تعدوا وأعدوا وتزودوا وخير الزاد التقوى.
وليكن لسان حال كل منا لنفسه:
ستَنْدَمُ إنْ رَحَلتَ بغيرِ زادِ
…
وتشقَى إذْ يُناديكَ المنادِي
فما لكَ ليسَ يعملُ فيكَ وعظٌ
…
ولا زجرٌ كأنكَ مِن جمادِ
فتُبْ عَمّا جَنَيْتَ وأنتَ حَيٌّ
…
وكُنْ مُتَيَقِّظًا قبلَ الرُّقَادِ
تَيَّقظْ للذِي لا بُدَّ مِنْهُ
…
فإنّ الموتَ ميقاتُ العبادِ
أتَرْضَى أنْ تكونَ رفيقَ قومٍ
…
لهم زادٌ وأنتَ بغيرِ زادِ
جدّ واتعبْ أيها الطالب وانصب فوالذي نفسي بيده لن تجد طعم الراحة إلا عند أول قدم تضعها في الجنة.
فانتبِهْ مِن رَقْدَةِ
…
غَفْلةٍ فالعمرُ قليلْ
واطْرِحْ (سوفَ) و (حتَّى)
…
فإنهم داءٌ دخِيلْ
• امتحان القلوب:
قلوبنا ـ أيها الأخوة ـ ممتحنة صباح مساء، تمتحن في كل لحظة من لحظات حياتنا، فهل نحن منتبهون لهذا، فغلطة واحدة قد تودي بحياة هذا القلب، وتحبط ذلك
العمل. قال عز وجل: {وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (آل عمران: 154).
وقال سبحانه وتعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} (سورة الحجرات، الآية: 3). فمن هؤلاء الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى؟
هذه الآية نزلت في الصحابيين الجليلين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما عندما رفعا صوتيهما عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد روى البخاري عن عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه أَنَّهُ قال: «قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمِّرْ الْقَعْقَاعَ بْنَ مَعْبَدِ بْنِ زُرَارَةَ، قَالَ عُمَرُ: بَلْ أَمِّرْ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَرَدْتَ إِلَّا خِلَافِي، قَالَ عُمَرُ: مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ، فَتَمَارَيَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا} حَتَّى انْقَضَتْ» .
نعم! لا مجاملة في هذا الدين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} ثم ماذا؟ {أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (سورة الحجرات، الآية: 2).
سبحان الله! موقف في نظر الكثيرين لا يستحق.
من الذي يهدَّد في هذه الآية؟ أبو بكر الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْر» (رواه البخاري ومسلم).
وعمر رضي الله عنه الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكًا فَجًّا إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ» (رواه البخاري ومسلم).
لكنهما رضي الله عنهما تابا، وأنابا، واستغفرا، قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: فَكَانَ عُمَرُ بَعْدُ إِذَا حَدَّثَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم بِحَدِيثٍ حَدَّثَهُ كَأَخِي السِّرَارِ لَمْ يُسْمِعْهُ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ» (رواه البخاري). (السِّرَار) أَيْ الْكَلَام السِّرّ، (كَأَخِي السِّرَار) كَصَاحِبِ السِّرَار، وَالْمَعْنَى كَالْمُنَاجَى سِرًّا. (لَا يَسْمَعهُ حَتَّى يَسْتَفْهِمهُ) أَيْ يَخْفِض صَوْته وَيُبَالِغ حَتَّى يَحْتَاج إِلَى اِسْتِفْهَامه عَنْ بَعْض كَلَامه.
هنا خرجت النتيجة: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} (الحجرات: 3). أي أخلص قلوبهم للتقوى، حتى أصبحت لا تصلح إلا له. والمراد أخلصها للتقوى، أي جعلها خالصة لأجل التقوى، أو أخلصها لها فلم يبق لغير التقوى فيها حق، كأن القلوب خلصت ملكًا للتقوى.
موقف واحد يسير في نظرنا لرجلين هما أفضل أمة محمد، صلى الله عليه وآله وسلم وامتحان يسير لغفلةٍ بدرت منهما. ولكن! ماذا نقول عن أحوالنا؟ كم من امتحان رسبنا فيه ونحن لا نشعر. وهنا سرّ بديع في هذه الآية:{وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} (الحجرات: 2). لأنه قد يحبط عمل الإنسان وهو لا يشعر، فهو لا يتصور أن يحبط عمله بذلك العمل، أو لا يلقي لعمله بالًا. وكم من عملٍ أو كلمةٍ أودت بصاحبها وهو لا يشعر.
وإذا كان رفع الصوت عند رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم كاد أن يحبط عمل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فما سيكون حال من يرفع صوته فوق صوت الحق؟ أولئك الذين يقدمون شريعة البشر على شريعة الله، أولئك الذين يعادون ويوالون في سبيل الشيطان.
ولنتأمل هذا الحديث العظيم الذي رواه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا؛ فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ» (رواه مسلم).
وَمَعْنَى (تُعْرَض) أَنَّهَا تُلْصَق بِعَرْضِ الْقُلُوب أَيْ جَانِبهَا كَمَا يُلْصَق الْحَصِير بِجَنْبِ النَّائِم، وَيُؤَثِّر فِيهِ شِدَّة اِلْتِصَاقهَا بِهِ. وَمَعْنَى (عُودًا عُودًا) أَيْ تُعَاد وَتُكَرَّر شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. (كَالْحَصِيرِ) أَيْ كَمَا يُنْسَج الْحَصِير عُودًا عُودًا وَشَظِيَّة بَعْد أُخْرَى. وَذَلِكَ أَنَّ نَاسِج الْحَصِير عِنْد الْعَرَب كُلَّمَا صَنَعَ عُودًا أَخَذَ آخَر وَنَسَجَهُ فَشَبَّهَ عَرَضَ الْفِتَن عَلَى الْقُلُوب وَاحِدَة بَعْد أُخْرَى بِعَرْضِ قُضْبَان الْحَصِير عَلَى صَانِعهَا وَاحِدًا بَعْد وَاحِد.
مَعْنَى (أُشْرِبَهَا) دَخَلَتْ فِيهِ دُخُولًا تَامًّا وَأُلْزِمَهَا وَحَلَّتْ مِنْهُ مَحَلّ الشَّرَاب.
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبهمْ الْعِجْل} أَيْ حُبّ الْعِجْل، وَمِنْهُ قَوْلهمْ: ثَوْب مُشْرَب بِحُمْرَةٍ: أَيْ خَالَطَتْهُ الْحُمْرَة مُخَالَطَة لَا اِنْفِكَاك لَهَا.
وَمَعْنَى (نُكِتَ نُكْتَة): نُقِطَ نُقْطَة. وَمَعْنَى (أَنْكَرَهَا) رَدَّهَا.
وَقَوْله صلى الله عليه وآله وسلم: «حَتَّى تَصِير عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَض مِثْل الصَّفَا فَلَا تَضُرّهُ فِتْنَة مَا دَامَتْ السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْآخَر أَسْوَد مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِف مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِر مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ» .
لَيْسَ تَشْبِيهه بِالصَّفَا بَيَانًا لِبَيَاضِهِ لَكِنْ صِفَة أُخْرَى لِشِدَّتِهِ عَلَى عَقْد الْإِيمَان وَسَلَامَته مِنْ الْخَلَل، وَأَنَّ الْفِتَن لَمْ تَلْصَق بِهِ، وَلَمْ تُؤَثِّر فِيهِ كَالصَّفَا وَهُوَ الْحَجْر الْأَمْلَس الَّذِي لَا يَعْلَق بِهِ شَيْء.
(مُرْبَادًّا) أي: شديد السواد في بياض.
ولَيْسَ قَوْله (كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا) تَشْبِيهًا لِسَوَاده بَلْ هُوَ وَصْف آخَر مِنْ أَوْصَافه بِأَنَّهُ قُلِبَ وَنُكِّسَ حَتَّى لَا يَعْلَق بِهِ خَيْر وَلَا حِكْمَة.
وَمِثْله بِالْكُوزِ الْمُجَخِّي وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: «لَا يَعْرِف مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِر مُنْكَرًا» .
شَبَّهَ الْقَلْب الَّذِي لَا يَعِي خَيْرًا بِالْكُوزِ الْمُنْحَرِف الَّذِي لَا يَثْبُت الْمَاء فِيهِ. ومَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ الرَّجُل إِذَا تَبِعَ هَوَاهُ وَارْتَكَبَ الْمَعَاصِي دَخَلَ قَلْبه بِكُلِّ مَعْصِيَة يَتَعَاطَاهَا ظُلْمَة، وَإِذَا صَارَ كَذَلِكَ اُفْتُتِنَ وَزَالَ عَنْهُ نُور الْإِسْلَام.
وَالْقَلْب مِثْل الْكُوز فَإِذَا اِنْكَبَّ اِنْصَبَّ مَا فِيهِ وَلَمْ يَدْخُلهُ شَيْء بَعْد ذَلِكَ.
وفي الحديث التعبير بالفعل المضارع (تُعْرَضُ)، وهو هنا يدل على استمرار البلاء والامتحان: كما أن هذه الفتن لا تأتي دفعة واحدة، وإنما شيئًا فشيئًا حتى يصبح القلب أسود ـ والعياذ بالله ـ أو يسلمه الله فينجح في الامتحان فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض.
وهذه الدعوة الربانية للمؤمنين متضمنة تحذيرًا مخيفًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (سورة الأنفال، الآية: 24). يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان منهم وهو الاستجابة لله وللرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أي: الانقياد لما أمرا به والمبادرة إلى ذلك والدعوة إليه، والاجتناب لما نهيا عنه، والانكفاف عنه والنهي عنه.
وقوله عز وجل: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} وصف ملازم لكل ما دعا الله ورسوله إليه، وبيان لفائدته وحكمته، فإن حياة القلب والروح بعبودية الله عز وجل ولزوم طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم على الدوام.
ثم حذر عن عدم الاستجابة لله وللرسول فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} فإياكم أن ترُدُّوا أمر الله أول ما يأتيكم، فيحال بينكم وبينه إذا أردتموه بعد ذلك، وتختلف قلوبكم، فإن الله يحول بين المرء وقلبه، يقلب القلوب حيث شاء ويصرفها أنى شاء.
فليُكثِر العبدُ من قول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب، اصرف قلبي إلى طاعتك. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا ويعيننا على الاستجابة لله وللرسول، وأن يحي قلوبنا، وألا يحال بيننا وبين قلوبنا بمعاصينا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
• مواطن امتحان القلوب:
كثير من الناس يتصور أن القلب إنما يمتحن بالشهوات والمعاصي، ولكن هذا من المواطن التي يمتحن فيها القلب، والله عز وجل يقول:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (الأنبياء: 35).فمِن المواطن التي يمتحن فيها القلب:
1 -
العبادة: فالعبادة مثل: الصلاة والصدقة والصيام والحج وغيرها موضع امتحان وابتلاء، ففيها ابتلاء في تحقيق الإخلاص لله، وعدم مراعاة الناس بها، يقول الله عز وجل:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} (الفرقان: 23).
وفي العبادة ابتلاء بتصحيحها، وأدائها كما جاءت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وابتلاء بتحقيق التقوى فيها، يقول عز وجل {وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} (الحج: 37). وهذا جزء يسير من الابتلاء الذي يحدث في هذا الموطن.
2 -
العلم: وهذا موطن خصب لامتحان القلوب، وكم فشل أناس في هذا الامتحان، فطائفة طلبوا العلم لله، ثم تحولت النية إلى الشهوة الخفية، حب الرئاسة، الشهرة، التصدر، التعالي على الأقران، المراء والجدل، القدح في الخصوم .. وغيرها.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ عز وجل، لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» يَعْنِي رِيحَهَا. (صحيح رواه أبو داود).
(مِمَّا يُبْتَغَى): أَيْ مِمَّا يُطْلَب. (إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ): أَيْ لِيَنَالَ وَيُحَصِّل بِذَلِكَ الْعِلْم.
(عَرَضًا) أَيْ حَظًّا: مَالًا أَوْ جَاهًا. (عَرْف الْجَنَّة):رَائِحَتها، مُبَالَغَة فِي تَحْرِيم الْجَنَّة لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَجِد رِيح الشَّيْء لَا يَتَنَاوَلهُ قَطْعًا، وَهَذَا مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقّ أَنَّهُ لَا يَدْخُل أَوَّلًا ثُمَّ أَمْره إِلَى اللهِ تَعَالَى كَأَمْرِ أَصْحَاب الذُّنُوب كُلّهمْ إِذَا مَاتَ عَلَى الْإِيمَان.
3 -
الدعوة:
وهذا المجال من أشد مجالات امتحان القلوب. وأصحاب الدعوة المشتغلون بها من أشد الناس معاناة لهذا الامتحان. فشهوة توجيه الآخرين، والشهرة، والتعالي على الخلق كلها امتحانات قد تجعل الدعوة وبالا على صاحبها ـ والعياذ بالله ـ وفتنة النكوص عن الدعوة، أو توجيهها إلى غير رضَى الله داء عضال.
4 -
الخلاف والجدل:
وهو مرتع من مراتع الشيطان. ومزرعة من مزارعه، ولذلك نبهنا الله جل وعلا إلى الأسلوب الأمثل في المجادلة فقال:{وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125). ولأنه قد يكون الباعث للجدال هو الانتصار للحق، ثم يتحول إلى انتصار للنفس، وهنا مكمن الداء قال عز وجل:
{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46).
5 -
الشهوات: وإنما أخرتُها قصدًا؛ لأن كثيرًا من الناس يُقْصِرُ امتحان القلوب على الشهوات: المال، والمركب، والنساء، والبنين، والبنيان، وهذه لا شك أنها فتنة وابتلاء {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} (التغابن: 15).
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا لِيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ؛ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ» . (رواه مسلم).
6 -
الشبهات والفتن: وهما مجال رحب من مجالات مرض القلب وسبب لكثير من العلل.
7 -
الرياسة والمناصب: فكم تغيرت من نفوس، وتباغضت من قلوب بسبب هذا الموطن الذي قل أن يسلم منه أحد، فالحسد والغيرة والحقد والغل أمراض مبعثها هذا الأمر في غالب الأحوال والأحيان.
8 -
النسب والحسب والجاه: وهو أرض مثمرة لأمراض القلوب وأدوائه، فالتعالى والتفاخر والكبر وغيرها من أمراض القلوب تنطلق من هذه الأرض، ففيها تنبت ومنها تثمر.
• أخيار امتحنوا فنجحوا:
عباد الله ولنا في سِيَر الأخيار عظات وعِبَر، لقد امتحنوا فنجحوا وتفوَّقوا.
فتشبهوا بهم إن لم تكونوا مثلهم
…
إن التشبُّه بالكرام فلاح
امتحن إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه إسماعيل فنجح، وامتحن إسماعيل عليه السلام بأمر أبيه فنجح {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (الصافات:102 - 107)
وامتُحِن يوسف عليه السلام بامرأة العزيز فنجح {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف:23 - 24).وفضل السجن على معصية الله عز وجل {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} (يوسف:33).
• اختبار للصحابة في الولاء والبراء:
ابتُليَ الصحابة الكرام رضي الله عنهم بأهليهم من أهل الشرك يصدون عن سبيل الله عز وجل، وجدوهم أمامهم في ساحة القتال فماذا كانت النتيجة.
لقد قتل أبو عبيدة أباه عبد الله بن الجراح، وهمَّ الصديق أبو بكر بقتل ولده عبد الرحمن حين دعا ابنه للمبارزة يوم بدر، وقتل مصعب بن عمير أخاه عبيد بن عمير، وقتل عمر بن الخطاب خاله العاص بن هشام يوم بدر، وقتل حمزة وعلي وعبيدة والحارث أقرباءهم وعشيرتهم، متجردين من علائق الدم والقرابة إلى آصرة الدين والعقيدة. وكان هذا أبلغ ما ارتقى إليه تصور الروابط والقيم في ميزان الله.
• عمر بن عبد العزيز رحمه الله الخليفة الفقير:
وها هو عمر بن عبد العزيز رحمه الله يعود يومًا بعد صلاة العشاء إلى داره ـ وهو خليفة المسلمين، ميزانية الأمة بين يديه ـ يلمح بناته الصغار، فيسلم عليهن كعادته، وكنّ يسارعْن إلى تقبيله، لكنهن هَرَبْنَ هذه المرة، وهنَّ يغطين أفواههن، فقال لزوجته: ما شأنهن؟ قالت: «لم يكن لديهن ما يتعشَّيْن به سوى عدس وبصل، فكرِهْن أن تشم من أفواههن رائحة البصل» .
فبكى وأجهش بالبكاء وهو يئن تحت وطأة المسؤولية، ميزانية الأمَّة تحت يديه، يقول:«يا بُنَيَّاتي أيَنْفَعُكُنَّ أنْ تَتَعَشَّيْنَ أطيبَ الطعام والشراب، وتكتَسِينَ أجمل الثياب من مال الأمة، ثم يُؤمر بأبيكُنَّ إلى النار؟» .
قلن: «لا، لا» ، ثم اندفعن يبكين. فلا والله لا تسمع في البيت إلا الحنين والأنين.
* لما حلَّت بعمر بن عبد العزيز سكرات الموت رحمه الله دخل عليه مسلمة بن عبد الملك ـ خال أولاده ـ وقال: «لقد تركت أبناءك فقراء جوعى فأوْصِ بهم إلىَّ أو إلى أحد من أهل بيتك» ، وكان مُضَّجعًا قال: أسندوني، ثم صرخ:«والله ما منعت أبنائي حقًا لهم، والله لن أعطيهم ما ليس لهم، أما أن أوصي بهم إليك أو إلى غيرك فلا، إن وصيَّي وولِيِّي فيهم الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، إن بنىَّ أحد رجلين؛ إما رجل يتقي الله فسيجعل الله له مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب، وإما رجل مكبٌّ على المعاصي فوالله لم أكن لأقويه على معصية الله» .
ثم طلب جميع أولاده وهم بضعة عشر فاجتمعوا، فنظر إليهم، ثم ذرفت عيناه دموعًا حرَّى، وقال:«أفديكم بنفسي أيها الفتية الذين تركتهم فقراء لا شيء لهم، يا بني إن أباكم خُيِّر بين أن تستغنوا ويدخل النار، أو تفتقروا ويدخل الجنة، فكان أن تفتقروا ويدخل الجنة أحب إليه من أن تستغنوا ويدخل النار، إن وليَّي فيكم الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، ثم تلا قوله تعالي: «تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا للذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوا فِي الأرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}» .
فودعهم وعزاهم بهذا، وأوصاهم بهذا الكلام ثم قال:«انصرفوا عصمكم الله وأحسن الخلافة عليكم» .
قال الراوي: فلقد رأينا بعض أولاد عمر بن عبد العزيز يحمل على ثمانين فرس في سبيل الله، لأن عمر وكلَ ولدَه إلى الله عز وجل.
ها هي رسالة امتحان، تأتي لصلاح الدين من أحد المسلمين على لسان المسجد الأقصى الأسير في يد الصليبين يوم ذاك، واليهود اليوم مع الصليبيين، تقول الرسالة وهي امتحان واختبار لصلاح الدين:
يا أيها الملكُ الذي
…
لمعالمِ الصلبانِ نَكَّسْ
جاءَتْ إليكَ ظِلامَةٌ
…
تسعَى مِن البيتِ المقدسْ
كلّ المساجِدِ طُهِّرَتْ
…
وأنا ـ على شرفي ـ مُنَجَّسْ
امتحان لصلاح الدين قام صلاح الدين فيه يصوم نهاره، ويقوم ليله، ويشحذ هِمَمَ الأمة الإسلامية، ويصدر أوامره ألا يضحك أحد، ولا يمزح أحد، ولا يفكر أحد إلا باسترداد بيت المقدس، ويقودها حملة لا تبقي ولا تذر بعد استعداد جيد للامتحان، فيدمر الصليب، ويحرر فلسطين والمسجد الأقصى؛ ليكون قدوة لمن يريد استعادة الأقصى السليب.
ثم ماذا بعد صلاح الدين أيها الأخوة؟ استيقظ اليهود يوم نِمْنَا فدنَّسوه، ودخلوا إلى قبر صلاح الدين ورفسوه، وقالوا: ها قد عدنا يا صلاح الدين، فبعد صلاح الدين مؤامرات على أقصانا، بغى اليهود، ولكنّا أحسنَّا الصياح.
إن أسئلة الامتحان التي قُدِّمت لصلاح الدين، أسئلة الآن تُقدَّم لنا، لكن صلاح الدين حلَّ الأسئلة بنفسه، ونحن أحلنا حلَّ الأسئلة إلى غيرنا، فكان ما كان.
سقَوْا فِلَسْطينَ أحلامًا منوِّمَة
…
وأطعموها سخيفَ القولِ والخُطَبِ
لكن يا عباد الله: لا يأس، لا قنوط، سَتُحلُّ الأسئلة، وستبقى طائفة على الحق؛ لتقود الأمة ليعود الأقصى، وتعود فلسطين والعاقبة للمتقين.
لا يَأسَ يسكُنُنَا فإنْ كَبُرَ الأسَى
…
وبغَي فإنّ يقينَ قلبِي أكبرُ
في منهجِ الرحمنِ أمْنُ مخاوفي
…
وإليه في ليلِ الشدائدِ نجأرُ