الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
8 - اتق الله حيثما كنت
ولَسْتُ أرَى السعادةَ جَمْعَ مَالٍ
…
ولكِنَّ التّقِيَّ هوَ السعِيدُ
وتَقْوَى اللهِ خيرُ الزادِ ذُخْرًا
…
وعندَ اللهِ للأتقَى مَزِيدُ
عَنْ أَبي ذَرٍّ ومعاذِ بن جَبَلٍ رضي الله عنهما:أنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اتَّقِ الله حَيثُمَا كُنْتَ، وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمحُهَا، وخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» . (حسن رواه التِّرمِذيُّ)
ويدخل في هذا المعنى حديث أبي هريرة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه سُئِلَ: ما أَكْثَرُ مَا يُدخِلُ الناسَ الجنّةَ؟ قالَ: «تَقْوَى اللهِ وحُسْنُ الخُلُقِ» (صحيح رواه أحمد وابن ماجه والترمذي).
فهذه الوصية وصيةٌ عظيمةٌ جامعة لحقوق الله وحقوق عباده، فإنَّ حقَّ الله على عباده أنْ يتقوه حقَّ تقاته، والتقوى وصيةُ الله للأوّلين والآخرين؛ قال تعالى:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ} (النساء:131).
مَنْ كانَ يعلمُ أنّ الموتَ يُدركهُ
…
والقبرَ مسكنُه والبعثَ يُخْرِجُهُ
وأنه بين جناتٍ مُزخرفةٍ
…
يومَ القيامةِ أو نارٍ ستُنْضِجُهُ
فكُلّ شيء سِوَى التقوى به سَمِجٌ
…
ومَن أقامَ عليه منه أسْمَجُهُ
ترَى الذي اتخذَ الدنيا له وطنًا لم
…
يدْرِ أنّ المنايا سوف تُزْعِجُهُ
• أصلُ التّقوى:
أنْ يجعل العبدُ بينَه وبينَ ما يخافُه ويحذره وقايةً تقيه منه، فتقوى العبد لربه أنْ يجعل بينه وبينَ ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقايةً تقيه من ذلك، وهو فعلُ طاعته واجتنابُ معاصيه.
وتارة تُضافُ التقوى إلى اسم اللهِ عز وجل، كقوله تعالى:{وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (المائدة:96)، وقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (الحشر:18).
فإذا أضيفت التقوى إليه سبحانه وتعالى، فالمعنى: اتقوا سخطه وغضبه، وهو أعظم ما يُتَّقَى، وعن ذلك ينشأ عقابه الدنيوي والأخروي، قال تعالى:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} (آل عمران:28)، وقال تعالى:{هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} (المدثر:56)، فهو سبحانه أهل أنْ يُخشى ويُهاب ويُجلَّ ويُعَظَّمَ في صدورِ عباده حتَّى يعبدوه ويُطيعوه، لما يستحقُّه من الإجلالِ والإكرامِ، وصفاتِ الكبرياءِ والعظمة وقوَّةِ البطش، وشِدَّةِ البأس.
وتارةً تُضافُ التقوى إلى عقاب الله وإلى مكانه، كالنار، أو إلى زمانه، كيوم القيامة، كما قال تعالى:{وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (آل عمران:131)، وقال تعالى:{فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة:24)، وقال تعالى:{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ} (البقرة:281)، وقال تعالى:{وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (المجادلة:9)، {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئا} (البقرة:48 و123).
إذا المرءُ لم يلبسْ ثِيابًا من التُقَى
…
تجرَّد عُرْيانًا وإنْ كانَ كاسِيَا
وخيرُ خِصالِ المرءِ طاعةُ ربِّهِ
…
ولا خيرَ فيمَنْ كانَ للهِ عاصيَا
• ويدخل في التقوى الكاملة:
فعلُ الواجبات، وتركُ المحرمات والشبهات، وربما دَخَلَ فيها بعد ذلك فعلُ المندوبات، وتركُ المكروهات، وهي أعلى درجات التقوى، قال الله تعالى:{الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (البقرة:1 - 4).
وقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي
الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة:177).
• مَنِ المتَّقون؟
قيل لمُعاذ بن جبل: مَنِ المتَّقون؟
قال: «قومٌ اتَّقوا الشِّركَ وعبادةَ الأوثان، وأخلصوا للهِ بالعبادة» .
وقال ابنُ عباس: المتَّقون الذين يَحْذَرون من الله عقوبتَه في ترك ما يعرفون من الهدى، ويَرجون رحمَته في التصديق بما جاء به.
وقال الحسن: المتقون اتَّقَوا ما حُرِّم عليهم، وأدَّوا ما افْتُرِض عليهم.
وقال عُمَر بن عبد العزيز: ليس تقوى الله بصيام النهار، ولا بقيام الليل، والتخليطِ فيما بَيْنَ ذلك، ولكن تقوى اللهِ تَرْكُ ما حرَّم الله، وأداءُ ما افترضَ الله، فمن رُزِقَ بعد ذلك خيرًا، فهو خيرٌ إلى خير.
وقال طلقُ بنُ حبيب: التقوى أنْ تعملَ بطاعةِ الله، على نورٍ من الله، ترجو ثوابَ الله، وأنْ تتركَ معصيةَ الله على نورٍ من الله تخافُ عقابَ الله.
وعن أبي الدرداء قال: تمامُ التقوى أنْ يتقي اللهَ العبدُ حتى يتقيه من مثقال ذرَّةٍ، حتى يتركَ بعضَ ما يرى أنَّه حلالٌ خشيةَ أنْ يكون حرامًا يكون حجابًا بينه وبينَ الحرام، فإنَّ الله قد بَيَّن للعباد الذي يُصيرهم إليه فقال:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة:7 - 8)، فلا تحقرن شيئًا من الخير أنْ تفعله، ولا شيئًا من الشرِّ أنْ تتقيه.
وقال الحسنُ: ما زالت التقوى بالمتقين حتَّى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام.
وقال موسى بنُ أَعْيَن: المتقون تنزَّهوا عن أشياء من الحلال مخافة أنْ يقعوا في الحرام، فسماهم الله متقين.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ؛ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ
فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ». (رواه البخاري ومسلم)
وقال ميمونُ بنُ مِهران: «المُتَّقي أشدُّ محاسبةً لنفسه من الشريكِ الشحيحِ لِشريكه.
وقال ابن مسعود في قوله تعالى: {اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (آل عمران:102)، قال:«أنْ يُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا ينسى، وأن يُشكر فلا يُكفر» .
وشكرُه يدخلُ فيه جميعُ فعل الطاعات. ومعنى ذكره فلا ينسى: ذكر العبد بقلبه لأوامر الله في حركاته وسكناته وكلماته فيمتثلها، ولنواهيه في ذلك كله فيجتنبها.
• قد يغلِبُ استعمالُ التقوى على اجتناب المحرَّمات:
كما قال أبو هريرةَ ـ وقد سُئِلَ عن التقوى ـ فقال: هل أخذتَ طريقًا ذا شوكٍ؟ قالَ: نعم، قالَ: فكيف صنعتَ؟ قال: إذا رأيت الشوكَ عدلْتُ عنه، أو جاوزته، أو قصرت عنه، قال: ذاك التقوى.
وأخذ هذا المعنى ابنُ المعتز فقال:
خلِّ الذنوب صغيرَها
…
وكبيرَها فهو التُقَى
واصنع كماشٍ فوقَ أرضِ
…
الشوك يحذرُ ما يرَى
لا تحقِرَنَّ صغيرةً
…
إن الجبالَ مِن الحصَى
وأصلُ التقوى: أنْ يعلم العبدُ ما يُتَّقى ثم يتقي، قال عونُ بنُ عبد الله: تمامُ التقوى أنْ تبتغي علمَ ما لم يُعلم منها إلى ما عُلِمَ منها.
وذكر معروفٌ الكرخيُّ عن بكر بن خُنيسٍ، قال: كيف يكون متقيًا من لا يدري ما يَتَّقي؟ ثُمَّ قالَ معروفٌ: إذا كنتَ لا تُحسنُ تتقي أكلتَ الربا، وإذا كنتَ لا تُحسنُ تتقي لقيتكَ امرأةٌ فلم تَغُضَّ بصرك، وإذا كنت لا تُحسن تتقي وضعتَ سيفك على عاتقك، وقد قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم لمحمد بن مسلمة:«إذا رأيْتَ أُمَّتِي قَدْ اخْتَلَفَتْ، فَاعْمِدْ إلى سَيْفِكَ فاضْرِبْ بِهِ أُحُدًا» (حسن رواه أحمد وابن ماجه).
معنى ذلك: أن الفتن يجب اعتزالها وعدم الخوض فيها، فجاءت الوصية النبوية بضرب جبل أحد عند حصول الفتن، أي: كسره؛ لئلا يضرب به أحدًا من المسلمين.
• التقوى: هي وصيةُ الله لجميع خلقه، ووصيةُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأمته:
فالتقوى: هي وصيةُ الله لجميع خلقه، ووصيةُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأمته، وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا بَعَثَ أميرًا على سَرِيَّةٍ أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرًا» (رواه مسلم).
ولما خطبَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم في حَجَّةِ الوداع يومَ النحر وصَّى الناس بتقوى الله وبالسمع والطاعة لأئمتهم. (رواه مسلم).
ولما وَعَظَ الناسَ، وقالوا له: كأنَّها موعِظَةُ مودِّع فأوصنا، قال:«أُوصِيكُمْ بتَقْوَى اللهِ والسَّمْعِ والطَّاعَة» (صحيح رواه أحمد والترمذي وابن ماجه).
ولم يزل السَّلفُ الصالح يتَواصَوْنَ بها، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول في خطبته: «أما بعد، فإني أُوصيكم بتقوى الله، وأنْ تُثنوا عليه بما هو أهلُه، وأنْ تَخلِطُوا الرغبةَ بالرهبة، وتجمعوا الإلحافَ بالمسألة، فإنَّ الله عز وجل أثنى على زكريا وأهل بيته، فقال:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (الأنبياء:90).
ولمَّا حضرته الوفاةُ، وعهد إلى عمر، دعاه، فوصَّاهُ بوصيةٍ، وأوَّلُ ما قالَ له:«اتَّقِ الله يا عمر» .
وكتب عُمَرُ إلى ابنه عبد الله: «أما بعدُ، فإني أُوصيك بتقوى الله عز وجل، فإنَّه من اتقاه وقاه، ومَنْ أقرضه جزاه، ومَنْ شكره زاده، فاجعل التقوى نصبَ عينيك وجلاء قلبك» .
واستعمل عليُّ بن أبي طالب رجلًا على سَريَّة، فقال له: أُوصيك بتقوى الله الذي لابُدَّ لك من لقائه، ولا منتهى لك دونَه، وهو يَملِكُ الدنيا والآخرة.
وكتب عُمَرُ بنُ عبد العزيز إلى رجلٍ: «أُوصيك بتقوى الله عز وجل التي لا يَقبلُ غَيرَها، ولا يَرْحَمُ إلَاّ أهلَها، ولا يُثيبُ إلا عليها، فإنَّ الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل، جعلنا الله وإيَّاك من المتقين» .
ولما وُلِّي خطب، فحَمِد الله، وأثنى عليه، وقال:«أُوصيكُم بتقوى الله عز وجل، فإنَّ تقوى الله عز وجل خَلفٌ من كلِّ شيءٍ، وليس من تقوى الله خَلَفٌ» .
وقال رجل ليونس بن عُبيد: أوصني، فقال:«أُوصيك بتقوى الله والإحسّان، فإنَّ الله مَعَ الذين اتَّقَوا والَّذينَ هُمْ مُحسِنُون» .
وقال له رجل يُريدُ الحجَّ: أوصني، فقال له:«اتَّقِ الله، فمن اتقى الله، فلا وحشة عليه» .
وقيل لرجل من التابعين عندَ موته: أوصنا، فقال: «أوصيكم بخاتمة سورةِ النحل: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (النحل:128).
وكتب رجلٌ من السَّلف إلى أخٍ له: «أوصيكَ بتقوى الله، فإنّها أكرم ما أسررتَ، وأزينُ ما أظهرتَ، وأفضلُ ما ادَّخرتَ، أعاننا الله وإيَّاكَ عليها، وأوجب لنا ولك ثوابَها» .
يريدُ المرءُ أن يُعطى مُناه
…
ويأبى اللهُ إلا ما أرادَ
يقول المرءُ فائدتي ومالي
…
وتقوى اللهِ أفضلُ ما استفادَ
وكتب رجلٌ إلى أخٍ له: «أُوصيكَ وأنفسَنا بالتقوى، فإنَّها خيرُ زادِ الآخِرَةِ والأُولى، واجعلها إلى كلِّ خيرٍ سبيلَك، ومِن كلِّ شرٍّ مهرَبك، فقد تكفل الله عز وجل لأهلها بالنجاة مما يحذرون، والرزق من حيث لا يحتسبون» .
وقال شعبة: كنتُ إذا أردتُ الخروجَ، قلتُ للحكم: ألك حاجةٌ، فقال أوصيك بما أوصى به النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم معاذَ بنَ جبل:«اتَّقِ الله حَيثُمَا كُنْتَ، وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمحُهَا، وخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» .
وقد ثبت عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم:أنَّه كان يقولُ في دعائه: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى» وفِي رِوَاية: «وَالْعِفَّةَ» (رواه مسلم).
• معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «اتَّق الله حيثما كُنت» :
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «اتَّقِ الله حَيثُمَا كُنْتَ» أي في السرِّ والعلانية حيث يراه الناسُ وحيث لا يرونه، وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دعائه:«أسألُكَ خَشْيَتَكَ فِي الغَيْبِ والشَّهَادَة» (صحيح رواه النسائي).
وخشية الله عز وجل في الغيب والشهادة هي من المنجيات فعن سعيد بن يزيد الأنصاري: «أن رجلا قال: يا رسول الله أوصني، قال: «أوصِيكَ أنْ تَسْتَحِي مِنَ اللهَ عز وجل كَمَا تَسْتَحِي رَجُلًا مِنْ صَالِحي قَوْمِكَ» . (أخرجه أحمد في «الزهد» وإسناده جيد).
وهذا هو السببُ الموجب لخشية الله في السر، فإنَّ مَنْ عَلِمَ أنَّ الله يراه حيث كان، وأنَّه مُطَّلعٌ على باطنه وظاهره، وسرِّه وعلانيته، واستحضَرَ ذلك في خلواته، أوجب له ذلك تركَ المعاصي في السِّرِّ، وإلى هذا المعنى الإشارةُ في القرآن بقوله عز وجل:{وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (النساء:1).
والمقصود: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم لما وصَّى معاذًا بتقوى الله سِرًَّا وعلانيةً، أرشده إلى ما يُعينه على ذلك وهو أنْ يستحييَ من الله كما يستحيي من رجلٍ ذي هيبةٍ من قومه. ومعنى ذلك: أنْ يستشعِرَ دائمًا بقلبه قُرْبَ الله منه واطلاعه عليه فيستحيي من نظره إليه.
ومن صار له هذا المقام حالًا دائمًا أو غالبًا، فهو من المحسنين الذين يعبدون الله كأنَّهم يرونه، ومن المحسنين الذين يجتنبون كبائرَ الإثم والفواحِشَ إلا اللممَ.
• أقوال لبعض السلف:
كان بعضُ السَّلف يقولُ لأصحابه: «زَهَّدَنا الله وإيَّاكم في الحرام زُهْدَ مَنْ قَدَرَ عليه في الخلوة، فَعَلِم أنَّ الله يراه، فتركه من خشيته» .
وقال الشافعي: «أعزُّ الأشياء ثلاثة: الجودُ من قِلَّة، والورعُ في خَلوة، وكلمةُ الحقِّ عند من يُرجى ويُخاف» .
وكتب ابنُ السَّماك الواعظ إلى أخٍ له: «أما بعدُ، أُوصيكَ بتقوى الله الذي هو نَجِيُّكَ في سريرتك ورقيبُك في علانيتك، فاجعلِ الله من بالك على كُلِّ حالك في ليلك ونهارك، وخَفِ الله بقدر قُربه منك، وقُدرته عليك، واعلم أنَّك بعينه ليس تَخرُجُ من سلطانه إلى سلطان غيره ولا من ملكه إلى مُلك غيره، فليَعْظُم منه حَذَرُك، وليكْثُر منه وَجَلُكَ، والسلام» .
فما بال العاصي يستر الذنوبَ من خلق الله، ويُظهرها لله، إنْ كان يرى أن الله لا يراه، فهو مشرك به، وإنْ كان يرى أنه يراه فلِمَ جعله أهونَ الناظرين إليه؟
وكان وهيبُ بن الورد يقول: «خَفِ الله على قدر قدرته عليك، واستحي منه على قدر قُربه منك» .
وقال له رجل: عِظني، فقال:«اتَّقِ الله أنْ يكونَ أهونَ الناظرين إليك» .
راود بعضُهم أعرابيةً، وقال لها: ما يرانا إلا الكواكبُ، قالت: فأين مُكوكِبُها؟
رأى محمد بن المنكدر رجلًا واقفًا مع امرأة يُكلمها فقال: «إنَّ الله يراكما سترنا الله وإياكما» .
وسُئِل الجنيد بما يُستعانُ على غضِّ البصر، قال: بعلمك أنَّ نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى ما تنظره.
وكان الإمامُ أحمد يُنشِدُ:
إذا ما خَلَوْتَ الدَّهرَ يومًا فلا تَقُلْ
…
خَلَوتُ ولكِنْ قُلْ: عَلَيَّ رَقِيبُ
ولا تَحْسَبَنَّ الله يَغْفُلُ سَاعةً
…
ولا أنَّ ما يَخْفَى ـ عَلَيْهِ يَغِيبُ
وكان ابنُ السَّماك ينشد:
يا مُدمِنَ الذَّنْبِ أما تَستَحِي
…
والله في الخَلْوَةِ ثَانِيكَا
غَرَّكَ مِنْ رَبِّكَ إمْهَالُهُ
…
وستْرُهُ طولَ مَساوِيكَا
• تقوى الله في السرِّ علامةُ كمالِ الإيمانِ:
تقوى الله في السرِّ علامةُ كمالِ الإيمانِ، ولها تأثيرٌ عظيم في إلقاء الله لصاحبها الثناءَ في قلوب المؤمنين. قال أبو الدرداءسدد خطاكم:«لِيَتَّقِ أحدُكم أنْ تلعنه قلوبُ المؤمنين وهو لا يشعر، يخلو بمعاصي الله، فيلقي الله له البغضَ في قلوب المؤمنين» .
قال سليمانُ التيميُّ: «إنَّ الرجل لَيُصيب الذنبَ في السرِّ فيصبح وعليه مذلتُه» .
وقال غيره: «إنَّ العبد ليذنب الذنب فيما بينه وبينَ الله، ثم يجيءُ إلى إخوانه، فيرون أَثَرَ ذلك عليه» .
وهذا مِن أعظم الأدلة على وجودِ الإِله الحقِّ المجازي بذرَّات الأعمال في الدنيا قبل الآخرة، ولا يضيع عندَه عملُ عاملٍ، ولا ينفع من قدرته حجاب ولا استتار، فالسعيدُ مَنْ أصلح ما بينَه وبينَ الله، فإنَّه من أصلح ما بينه وبينَ الله أصلح الله ما بينه وبين الخلق، ومن التمس محامدَ الناسِ بسخط الله، عاد حامده من النَّاس له ذامًا.
قال أبو سليمان: الخاسرُ من أبدى للناس صالح عمله، وبارز بالقبيح من هو أقربُ إليه من حبل الوريد.
ومِنْ أعجب ما رُوي في هذا ما رُوي عن أبي جعفر السائح قال: كان حبيبٌ أبو محمد تاجرًا يَكْرِي الدراهمَ، فمرَّ ذات يوم، فإذا هو بصبيان يلعبون، فقال بعضهم لبعض: قد جاء آكِلُ الربا، فنكس رأسه، وقال: يا ربِّ، أفشيت سرِّي إلى الصبيان، فرجع فجمع ماله كُلَّه، وقال: يا ربِّ إنِّي أسيرٌ، وإني قد اشتريتُ نفسي منك بهذا المال فأعتِقْني، فلما أصبح، تصدَّق بالمال كلّه وأخذ في العبادة.
ثم مرَّ ذات يوم بأولئك الصبيان، فلما رأوه قال بعضهم لبعض: اسكتوا فقد جاء حبيبٌ العابد، فبكى وقال: يا ربّ أنتَ تَذُمّ مرَّةً وتَحْمِدُ مرَّةً، وكله من عندك.