الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
15 - القناعة
اقْنَعْ بأيسرِ رِزقٍ أنت نائلُه
…
واحذرْ ولا تتعرضْ للإراداتِ
فما صفَا البحرُ إلا وهو منتقصٌ
…
ولا تعكَّرَ إلا في الزياداتِ
يزداد التسخط في الناس وعدم الرضى بما رزقوا إذا قلت فيهم القناعة. وحينئذ لا يرضيهم طعام يشبعهم، ولا لباس يواريهم، ولا مراكب تحملهم، ولا مساكن تكنّهُم؛ إذ يريدون الزيادة على ما يحتاجونه في كل شيء، ولن يشبعهم شيء؛ لأن أبصارهم وبصائرهم تنظر إلى من هم فوقهم، ولا تبصر من هم تحتهم؛ فيزدرون نعمة الله عليهم، ومهما أوتوا طلبوا المزيد، فهم كشارب ماء البحر لا يرتوي أبدًا.
ومن كان كذلك فلن يحصل السعادة أبدًا؛ لأن سعادته لا تتحقق إلا إذا أصبح أعلى الناس في كل شيء، وهذا من أبعد المحال؛ ذلك أن أي إنسان إن كَمُلت له أشياء قصُرَت عنه أشياء، وإن علا بأمور سَفُلَت به أمور؛ لذا كانت القناعة والرضى من النعم العظيمة، والمنح الجليلة التي يغبط عليها صاحبها.
• مفهوم القناعة:
توجد علاقة متينة بين القناعة وبين الزهد والرضى، ولذلك عرف بعض أهل اللغة القناعة بالرضى، والقانع بالراضي.
وقيل: القناعةألا تتجاوز إرادتك ما هو لك في وقتك.
والقناعة قد تكون على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن يقتنع بالبُلْغَة من دنياه ويصرف نفسه عن التعرض لما سواه؛ وهذا أعلى منازل أهل القناعة.
قال مالك ابن دينار: «أزهدُ الناس من لا تتجاوز رغبته من الدنيا بُلْغَته» .
الوجه الثاني: أن تنتهي به القناعة إلى الكفاية، ويحذف الفضول والزيادة. وهذا أوسط حال المقتنع، وذكر فيه قول بعضهم:«من رضي بالمقدور قنع بالميسور» .
الوجه الثالث: أن تنتهي به القناعة إلى الوقوف على ما سنح، فلا يكره ما أتاه وإن كان كثيرًا، ولا يطلب ما تعذر وإن كان يسيرًا. وهذه الحال أدنى منازل أهل القناعة؛ لأنها مشتركة بين رغبة ورهبة، فأما الرغبة: فلأنه لا يكره الزيادة على الكفاية إذا سنحت، وأما الرهبة، فلأنه لا يطلب المتعذر عن نقصان المادة إذا تعذرت.
وبناءً على هذا فإن القناعة لا تمنع التاجر من تنمية تجارته، ولا أن يضرب المسلم في الأرض يطلب رزقه، ولا أن يسعى المرء فيما يعود عليه بالنفع؛ بل كل ذلك مطلوب ومرغوب.
وإنما الذي يتعارض مع القناعة أن يغش التاجر في تجارته، وأن يتسخط الموظف من مرتبته، وأن يتبرم العامل من مهنته، وأن ينافق المسؤول من أجل منصبه، وأن يتنازل الداعية عن دعوته أو يميِّع مبدأه رغبة في مال أو جاه، وأن يحسد الأخ أخاه على نعمته، وأن يذلّ المرء نفسه لغير الله عز وجل لحصول مرغوب.
وليس القانع ذلك الذي يشكو خالقه ورازقه إلى الخلق، ولا الذي يتطلع إلى ما ليس له، ولا الذي يغضب إذا لم يبلغ ما تمنى من رُتَب الدنيا؛ لأن الخير له قد يكون عكس ما تمنى.
• القناعة في القلب لا في اليد:
وفي المقابل فإن القناعة لا تأبى أن يملك العبد مثاقيل الذهب والفضة، ولا أن يمتلئ صندوقه بالمال، ولا أن تمسك يداه الملايين؛ ولكن القناعة تأبى أن تَلجَ هذه الأموال قلبه، وتملك عليه نفسه؛ حتى يمنع حق الله فيها، ويتكاسل عن الطاعات، ويفرط في الفرائض! من أجلها، ويرتكب المحرمات من ربًا ورشوة وكسب خبيث حفاظا عليها أو تنمية لها.
وكم من صاحب مال وفير، وخير عظيم، رُزق القناعة! فلا غشّ في تجارته، ولا منع أجَراءه حقوقهم، ولا أذل نفسه من أجل مال أو جاه، ولا منع زكاة ماله؛ بل أدى حق الله فيه فرضًا وندبًا، مع محافظةٍ على الفرائض، واجتناب للمحرمات، إن ربح شكر
، وإن خسر رضي؛ فهذا قنوع وإن ملك مال قارون.
وكم من مستور يجد كفافًا؛ ملأ الطمع قلبه حتى لم يرضه ما قُسِم له! فجزع من رزقه، وغضب على رازقه، وبث شكواه للناس، وارتكب كل طريق محرم حتى يغني نفسه؛ فهذا منزوع القناعة وإن كان لا بملك درهمًا ولا فلسًا.
هيَ القَنَاعَةُ فالْزَمْها تَكُنْ مَلِكًا لو لم يَكنْ لك فيها إلا راحةَ البدنِ
وانظرْ لمن مَلَكَ الدنْيا بأكْمَلِها هل راحَ منها بغيرِ القُطنِ والكفنِ
• آيات وأحاديث في القناعة والعَفاف وذم السؤال من غير ضرورة:
قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ في الأرْضِ إِلَاّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} (هود:6).
أخبر عز وجل أنه متكفل بأرزاق المخلوقات، من سائر دواب الأرض، صغيرها وكبيرها، بَحْرِيّها، وبَرِّيِّها، وأنه {يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} أي: يعلم أين مُنتهى سيرها في الأرض، وأين تأوي إليه من وكرها، وهو مستودعها.
وقيل: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} أي: حيث تأوي، {وَمُسْتَوْدَعَهَا} حيث تموت.
وقيل: {مُسْتَقَرَّهَا} في الرحم، {وَمُسْتَوْدَعَهَا} في الصلب.
وقال تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا في سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ الْحَافًا»
(البقرة:273).
«لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ» يعني: المهاجرين الذين قد انقطعوا إلى الله وإلى رسوله، وسكنوا المدينة وليس لهم سبب يردون به على أنفسهم ما يغنيهم و «لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْض» يعني: سفرًا للتسبب في طلب المعاش.
والضرب في الأرض: هو السفر.
وقوله عز وجل: «يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ» أي: الجاهلُ بأمْرهم وحالهم يحسبهم أغنياء، من تعففهم في لباسهم وحالهم ومقالهم.
وقوله عز وجل: «تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ» أي: بما يظهر لذوي الألباب من صفاتهم.
وقوله عز وجل: «لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ الْحَافًا» أي: لا يُلِحُّون في المسألة ويكلفون الناس ما لا يحتاجون إليه، فإن من سأل وله ما يغنيه عن السؤال، فقد ألحف في المسألة.
وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تُلْحِفُوا في الْمَسْأَلَةِ، فَوَاللهِ لَا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا، فَتُخْرِجَ لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنِّي شَيْئًا وَأنَا لَهُ كَارهٌ، فَيُبَارَكَ لَهُ فِيمَا أعْطَيْتُهُ» رواه مسلم. (وَالْإلْحَاف: الْالْحَاح).
وعن أَبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «لَيْسَ الغِنَى عَن كَثرَةِ العَرَض، وَلكِنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ» (متفقٌ عَلَيْهِ). (العَرَضُ):هُوَ المَالُ.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما:أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «قَدْ أفْلَحَ مَنْ أسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وقَنَّعَهُ الله بِمَا آتَاهُ» (رواه مسلم).
النفسُ تْجزَعُ أنْ تكونَ فقيرةً
…
والفقرُ خيرٌ مِنْ غِنًى يُطْغِيهَا
وغِنَى النفوسِ هو الكفافُ فإنْ أبَتْ فجميعُ ما في الأرضِ لا يكفِيهَا
وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه، قَالَ: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فَأعْطَانِي، ثُمَّ سَألْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَألْتُهُ فَأعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ:«يَا حَكِيم، إنَّ هَذَا المَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، فَمَنْ أخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أخَذَهُ بإشرافِ نَفسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَاليَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى» .
قَالَ حكيم: فقلتُ: يَا رسول الله، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ لَا أرْزَأُ أحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا.
فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يَدْعُو حَكيمًا لِيُعْطِيَه العَطَاء، فَيَأبَى أنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ إنَّ عُمَرَ رضي الله عنه دَعَاهُ لِيُعْطِيَه فَأَبَى أنْ يَقْبَلَهُ، فقالَ: يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، أُشْهِدُكُمْ عَلَى حَكيمٍ أنّي أعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ الَّذِي قَسَمَهُ اللهُ لَهُ في هَذَا الفَيء فَيَأبَى أنْ يَأخُذَهُ، فَلَمْ يَرْزَأْ حَكيمٌ أحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم حَتَّى تُوُفِّي». (متفقٌ عَلَيْهِ).
(يَرْزَأُ)؛ أيْ: لَمْ يَأخُذْ مِنْ أحَدٍ شَيْئًا، وَأصْلُ الرُّزءِ: النُّقْصَان، أيْ: لَمْ يَنقُص أحَدًا شَيْئًا بالأخذِ مِنْهُ، وَ (إشْرَافُ النَّفْسِ):تَطَلُّعُهَا وَطَمَعُهَا بالشَّيْء. وَ (سَخَاوَةُ النَّفْسِ):هِيَ
عَدَمُ الإشرَاف إِلَى الشَيء، وَالطَّمَع فِيهِ، وَالمُبَالَاةِ بِهِ وَالشَّرَهِ.
وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه:أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم، قَالَ:«اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنىً، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفُّهُ الله، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغنهِ الله» (متفقٌ عَلَيْهِ وهذا لفظ البخاري).
وعن عوف بن مالِك الأَشْجَعِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تِسْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً، فَقَالَ:«ألَا تُبَايِعُونَ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم» وَكُنَّا حَديثِي عَهْدٍ ببَيْعَةٍ، فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رسولَ اللهِ، ثمَّ قالَ:«ألا تُبَايِعُونَ رسولَ اللهِ» فَبَسَطْنا أيْدينا، وقلنا: قدْ بايعناكَ فَعَلامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: «عَلَى أنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَالصَّلَوَاتِ الخَمْسِ وَتُطِيعُوا الله» وأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيفَةً «وَلَا تَسْألُوا النَّاسَ شَيْئًا» فَلَقَدْ رَأيْتُ بَعْضَ أُولئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوطُ أحَدِهِمْ فَمَا يَسأَلُ أحَدًا يُنَاوِلُهُ إيّاهُ. (رواه مسلم).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما:أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم، قَالَ:«لَا تَزَالُ الْمَسْأَلةُ بأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى الله تَعَالَى وَلَيْسَ في وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ» (متفقٌ عَلَيْهِ). (المُزْعَةُ: القِطْعَةُ).
وعنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ، وَذَكَرَ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ: «اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وَاليَدُ العُلْيَا هِيَ المُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ. (متفقٌ عَلَيْهِ).
وعن أَبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ سَألَ النَّاسَ تَكَثُّرًا فإنَّمَا يَسْألُ جَمْرًا؛ فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» رواه مسلم.
مَعْنَاهُ: أَنَّهُ يُعَاقَب بِالنَّارِ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون عَلَى ظَاهِره. وَأَنَّ الَّذِي يَأْخُذهُ يَصِير جَمْرًا يُكْوَى بِهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي مَانِع الزَّكَاة.
وعن ثوبان رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ تَكَفَّلَ لِي أنْ لَا يَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا، وَأتَكَفَّلُ لَهُ بِالْجَنَّةِ؟» فقلتُ: أنَا، فَكَانَ لَا يَسْأَلُ أحَدًا شَيْئًا. (صحيح رواه أَبُو داود).
• صور من قناعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكمل الناس إيمانًا ويقينًا، وأقواهم ثقة بالله عز وجل وأصلحهم قلبًا، وأكثرهم قناعة ورضًى بالقليل، وأنداهم يدا، وأسخاهم نفسًا؛ حتى كان صلى الله عليه وآله وسلم يفرق المال العظيم: الوادي والواديين من الإبل والغنم، وكان الرجل يسلم من أجل عطائه صلى الله عليه وآله وسلم ثم يَحسن إسلامه.
قال صفوان بن أمية رضي الله عنه: «وَاللهِ لَقَدْ أَعْطَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم مَا أَعْطَانِي وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ فَمَا بَرِحَ يُعْطِينِي حَتَّى إِنَّهُ لَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ» (رواه مسلم).
قال الزهري: «وَأَعْطَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم يَوْمَئِذٍ (أي يوم حنين) صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ مِائَةً مِنَ النَّعَمِ ثُمَّ مِائَةً ثُمَّ مِائَةً.» (رواه مسلم).
وقال أنس رضي الله عنه: «مَا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَلَى الْإِسْلَامِ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَاقَةَ» (رواه مسلم).
(فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْن جَبَلَيْنِ: أَيْ كَثِيرَة كَأَنَّهَا تَمْلَأُ مَا بَيْن جَبَلَيْنِ، والفاقَةُ: الفَقْرُ والحاجَةُ).
إن تلك الصور الرائعة من بذله صلى الله عليه وآله وسلم جعلت أقوامًا وسادة وعتاة من أهل الجاهلية تلين قلوبهم للإسلام وتخضع للحق، وأمامها صور عجيبة لا تقل في جمالها عنها من قناعته صلى الله عليه وآله وسلم ورضاه بالقليل، وتقديم غيره على نفسه وأهله في حظوظ الدنيا؛ بل وترك الدنيا لأهل الدنيا، ومن ذلك:
أولًا: قناعته صلى الله عليه وآله وسلم في أكله:
أ- عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ: «ابْنَ أُخْتِي، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم نَارٌ» .
فَقُلْتُ: مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟
قَالَتْ: الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم جِيرَانٌ مِنْ
الْأَنْصَارِ كَانَ لَهُمْ مَنَائِحُ وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم مِنْ أَبْيَاتِهِمْ فَيَسْقِينَاهُ» (رواه البخاري ومسلم).
(وَالْمَنِيحَة هِيَ الْعَطِيَّة، وَتَكُون فِي الْحَيَوَان وَفِي الثِّمَار وَغَيْرهمَا، وقَدْ تَكُون الْمَنِيحَة عَطِيَّة لِلرَّقَبَةِ بِمَنَافِعِهَا وَهِيَ الْهِبَة، وَقَدْ تَكُون عَطِيَّة اللَّبَن أَوْ الثَّمَرَة مُدَّة، وَتَكُون الرَّقَبَة بَاقِيَة عَلَى مِلْك صَاحِبهَا وَيَرُدّهَا إِلَيْهِ إِذَا اِنْقَضَى اللَّبَن أَوْ الثَّمَر الْمَأْذُون فِيهِ).
ب- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «لَقَدْ مَاتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَمَا شَبِعَ مِنْ خُبْزٍ وَزَيْتٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ» (رواه مسلم).
جـ- قَالَ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ: أَلَسْتُمْ فِي طَعَامٍ وَشَرَابٍ مَا شِئْتُمْ، لَقَدْ رَأَيْتُ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وآله وسلم وَمَا يَجِدُ مِنْ الدَّقَلِ مَا يَمْلَأُ بِهِ بَطْنَهُ» (رواه مسلم). (الدَّقَل: تَمْر رَدِيء).
ثانيًا: قناعته صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه:
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم مِنْ أَدَمٍ وَحَشْوُهُ مِنْ لِيفٍ» (رواه البخاري).
وعن عَبْدِ اللهِ ابن مسعود رضي الله عنه قَالَ: نَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَلَى حَصِيرٍ فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً؟، فَقَالَ:«مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» (صحيح رواه الترمذي)
ثالثا: تربيته صلى الله عليه وآله وسلم أهله على القناعة:
لقد ربى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهله على القناعة بعد أن اختار أزواجه البقاء معه، والصبر على القلة، والزهد في الدنيا حينما خيرهن بين الإمساك على ذلك أو الفراق والتمتع بالدنيا كما قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} (الأحزاب:28، 29).
فاخترن رضي الله عنهن الآخرة، وصبرن على لأواء الدنيا، وضعف الحال، وقلة
المال طمعًا في الأجر الجزيل من الله عز وجل.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم» (رواه مسلم).
ولم يقتصر صلى الله عليه وآله وسلم في تربيته تلك على نسائه بل حتى أولاده رباهم على القناعة؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ فَاطِمَةَ رضي الله عنها أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم تَسْأَلُهُ خَادِمًا وَشَكَتْ الْعَمَلَ فَقَالَ:
• صورة من قناعة الصحابة والسلف الصالح:
وسار على منهج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صحابته الكرام رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان؛ فقد عاشوا أول الأمر على الفقر والقلة، ثم لما فتحت الفتوح واغتنى المسلمون بقوا على قناعتهم وزهدهم، وأنفقوا الأموال الطائلة في سبيل الله.
عن أَبي بردة، عن أَبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غَزاةٍ وَنَحْنُ سِتَّةُ نَفَرٍ بَيْنَنَا بَعِيرٌ نَعْتَقِبُهُ، فَنقِبَت أقدَامُنَا وَنَقِبَت قَدَمِي، وسَقَطت أظْفَاري، فَكُنَّا نَلُفُّ عَلَى أرْجُلِنا الخِرَقَ، فَسُمِّيَت غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ لِمَا كُنَّا نَعْصِبُ عَلَى أرْجُلِنَا مِنَ الخِرَقِ، قَالَ أَبُو بُردَة: فَحَدَّثَ أَبُو مُوسَى بِهَذَا الحَدِيثِ، ثُمَّ كَرِه ذَلِكَ، وقال: مَا كُنْتُ أصْنَعُ بِأنْ أذْكُرَهُ! قَالَ: كأنَّهُ كَرِهَ أنْ يَكُونَ شَيْئًا مِنْ عَمَلِهِ أفْشَاهُ. (متفقٌ عَلَيْهِ). (فَنقِبَت أقدَامُنَا: أي قرحت من الحفاء).
وبعث معاوية رضي الله عنه إلى عائشة رضي الله عنها بمائة ألف درهم.
قال عروة بن الزبير: «فوالله ما أمست حتى فرقتها، فقالت لها مولاتها:
«لو اشتريت لنا منها بدرهم لحمًا» ! فقالت: «ألا قلتِ لي؟» .
لقد نسيَت نفسها رضي الله عنها وفرقت مالها، واستمرت على قناعتها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.فهل تقتدي نساء المسلمين بعائشة رضي الله عنها بدلًا من سرف الإنفاق على النفس وحظوظها والزينة؟!
وعن عامر بن عبد الله أن سلمان الخير (أي سلمان الفارسي) رضي الله عنه حين حضره الموت عرفوا منه بعض الجزع، قالوا: ما يجزعك يا أبا عبد الله، وقد كانت لك سابقة في الخير؟ شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مغازي حسنةً، وفتوحًا عظامًا! قال: يجزعني أن حبيبنا صلى الله عليه وآله وسلم حين فارقنا عهد إلينا قال: «ليَكْفِ الْمَرْءَ مِنْكُمْ كَزَادِ الرَّاكِبِ» فهذا الذي أجْزَعَني؛ فجُمعَ مالُ سلمان فكان قيمته خمسة عشر درهمًا». (صحيح رواه ابن حبان).
وعن يحيى بن جعدة قال: عاد خبابًا ناسٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: أبْشِرْ أبا عبد الله! تَرِدُ على محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحوض، قال: كيف بها أو بهذا، وأشار إلى أعلى بيته وإلى أسفله، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«لْيَكْفِ المَرْءَ مِنْكُمْ كَزَادِ الرَّاكِبِ» . (إسناده صحيح رواه أبو يعلى والطبراني).
وسَأَلَ رَجُلٌ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما فَقَالَ: أَلَسْنَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ؟
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ: أَلَكَ امْرَأَةٌ تَأْوِي إِلَيْهَا؟
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: أَلَكَ مَسْكَنٌ تَسْكُنُهُ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَأَنْتَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ.
قَالَ: فَإِنَّ لِي خَادِمًا.
قَالَ: فَأَنْتَ مِنْ الْمُلُوكِ. (رواه مسلم).
وكتب بعض بني أمية إلى أبي حازم رحمه الله يعزم عليه إلا رفع إليه حوائجه فكتب إليه: «قد رفعْتُ حوائجي إلى مولاي، فما أعطاني منها قبِلتُ، وما أمسك منها عني قنعْتُ» .
لَبَيْتٌ تخفقُ الأرواحُ فيهِ
…
أحبُّ إليَّ مِنْ قصرٍ مَنِيفِ
ولبسُ عباءةٍ وتقرُّ عينِي
…
أحبُّ إليَّ مِنْ لبس الشفُوفِ