الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
16 - فوائد القناعة والسبيل إليها
• فوائد القناعة:
إن للقناعة فوائد كثيرة تعود على المرء بالسعادة والراحة والأمن والطمأنينة في الدنيا، ومن تلك الفوائد:
1 -
امتلاء القلب بالإيمان بالله عز وجل والثقة به، والرضى بما قدر وقَسَم، وقوة اليقين بما عنده سبحانه وتعالى ذلك أن من قنع برزقه فإنما هو مؤمن ومتيقن بأن الله تعالى قد ضمن أرزاق العباد وقسمها بينهم حتى ولو كان ذلك القانع لا يملك شيئًا.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه:
«إنَّ أرجَى ما أكون للرزق إذا قالوا: ليس في البيت دقيق» .
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: «أصل الزهد الرضى من الله عز وجل» .
وقال الحسن رحمه الله: «إن من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله عز وجل» .
2 -
الحياة الطيبة: قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون} (النحل:97)، فَسَّر الحياة الطيبة عليٌّ وابن عباس والحسن رضي الله عنهم فقالوا:«الحياة الطيبة هي القناعة» .
وفي هذا المعنى قال ابن الجوزي رحمه الله: «من قنع طاب عيشه، ومن طمع طال طيشه» .
العبدُ حرٌ إنْ قنعْ
…
والحرُّ عبدٌ إنْ طمعْ
فاقْنَعْ ولا تطمعْ فلا
…
شيءٌ يشينُ سِوَى الطَمعْ
3 -
تحقيق شكر الله عز وجل؛ ذلك أن من قنع برزقه شكر الله عز وجل عليه، ومن تقالّه قصَّر في الشكر، وربما جزع وتسخط ـ والعياذ بالله ـ ولذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَكُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ، وَأَحِبَّ
لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحْسِنْ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، وَأَقِلَّ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ». (صحيح رواه ابن ماجه).
ومن تسخط مِن رِزْقِه فإنما هو يسخط على مَن رَزَقَه، ومن شكا قلّته للخلق فإنما هو يشكو خالقه عز وجل للخلق. وقد شكا رجل إلى قوم ضيقًا في رزقه فقال له بعضهم:«شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك» .
4 -
الفلاح والبشرى لمن قنع: فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ» (رواه مسلم).
(الْكَفَاف: الْكِفَايَة بِلَا زِيَادَة وَلَا نَقْص).
5 -
الوقاية من الذنوب التي تفتك بالقلب وتذهب الحسنات: كالحسد، والغيبة، والنميمة، والكذب، وغيرها من الخصال الذميمة والآثام العظيمة؛ ذلك أن الحامل على الوقوع في كثير من تلك الكبائر غالبًا ما يكون استجلاب دنيا أو دفع نقصها. فمن قنع برزقه لا يحتاج إلى ذلك الإثم، ولا يداخل قلبه حسد لإخوانه على ما أوتوا؛ لأنه رضي بما قسم له.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: «اليقين ألا تُرضِي الناس بسخط الله؛ ولا تحسد أحدًا على رزق الله، ولا تلم أحدًا على ما لم يؤتك الله؛ فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص، ولا يردّه كراهة كاره؛ فإن الله تبارك وتعالى بقسطه وعلمه وحكمته جعل الرَّوْح والفرح في اليقين والرضى، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط» . (الرَّوْح: أي: الراحة).
قال بعض الحكماء: «وجدت أطول الناس غمًّا الحسود، وأهنأهم عيشًا القنوع» .
6 -
حقيقة الغنى في القناعة: ولذا رزقها الله عز وجل نبيه محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم وامتن عليه بها فقال عز وجل: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} (الضحى:8).فقد نزَّلها بعض العلماء على غنى النفس؛ لأن الآية مكية، ولا يخفى ما كان فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن تفتح عليه خيبر وغيرها من قلة المال.
وذهب بعض المفسرين إلى أن الله عز وجل جمع له الغنائين: غنى القلب، وغنى المال بما
يسر له من تجارة خديجة رضي الله عنها.
وقد بين صلى الله عليه وآله وسلم أن حقيقة الغنى غنى القلب فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» . (رواه مسلم).
(الْعَرَض هُوَ مَا يُنْتَفَع بِهِ مِنْ مَتَاع الدُّنْيَا).
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «يَا أبَا ذَرٍّ، أتَرَى كَثْرَةَ المَالِ هُوَ الغِنَى؟» . قلتُ: «نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ» .
قال: «فَتَرَى قِلَّةَ المَالِ هُوَ الفَقْر؟» .قلت: «نَعَمْ يا رَسُولَ اللهِ» .
قال: «إنما الغِنَى غِنَى القَلْبِ، والفَقْرُ فقْرُ القَلْبِ» . (صحيح رواه ابن حبان).
وتلك حقيقة لا مرية فيها؛ فكم من غني عنده من المال ما يكفيه وولدَه، ولو عُمِّر ألف سنة؛ يخاطر بدينه وصحته، ويضحي بوقته يريد المزيد! وكم من فقير يرى أنه أغنى الناس؛ وهو لا يجد قوت غدِه! فالعلة في القلوب: رضًى وجزعًا، واتساعًا وضيقًا، وليست في الفقر والغنى.
ولأهمية غنى القلب في صلاح العبد قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطيبًا في الناس على المنبر يقول: «إن الطمع فقر، لأن اليأس غنى، وإن الإنسان إذا أيس من الشيء استغنى عنه» .
وأوصى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ابنه فقال: «يا بني، إذا طلبت الغنى فاطلبه بالقناعة؛ فإنها مال لا ينفد» .
رأيتُ القناعةَ رأسَ الغِنَى
…
فصِرْتُ بأذيالِها ممتَسِكْ
فلا ذا يرانِي على بابِهِ
…
ولا ذا يرانِي به منهَمِكْ
فصِرْتُ غنِيًّا بلا دِرْهَمٍ
…
أمُرُّ علَى الناسِ شبهَ الملكْ
وسئل أبو حازم فقيل له: «ما مالك؟» .
قال: «لي مالان لا أخشى معهما الفقر: الثقة بالله، واليأس مما في أيدي الناس» .
وقيل لبعض الحكماء: «ما الغنى؟» .قال: «قلة تمنِّيك، ورضاك بما يكفِيك» .
7 -
العز في القناعة، والذل في الطمع: ذلك أن القانع لا يحتاج إلى الناس فلا يزال عزيزًا بينهم، والطماع يذل نفسه من أجل المزيد؛ ولذا قال صلى الله عليه وآله وسلم:«أتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وّأحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتََ فَإِنّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ، وَاعْلَمْ أنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِاللَيْلِ وَعِزّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النّاسِِ» . (حسن رواه الحاكم وغيره)
وكان محمد بن واسع رحمه الله يبل الخبز اليابس بالماء ويأكله ويقول: «من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد» .
وقال الحسن رحمه الله: «لا تزال كريمًا على الناس، ولا يزال الناس يكرمونك ما لم تَعَاطَ ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك استخفوا بك وكرهوا حديثك وأبغضوك» .
فمن سأل الناس ما بأيدهم كرهوه وأبغضوه؛ لأن المال محبوب لنفوس بني آم، فمن طلب منهم ما يحبونه كرهوه لذلك.
والإمامة في الدين، والسيادة والرفعة لا يحصلها المرء إلا إذا استغنى عن الناس، واحتاج الناس إليه في العلم والفتوى والوعظ.
قال أعرابي لأهل البصرة: «من سيد أهل هذه القرية؟» .قالوا: «الحسن» ، قال:«بِمَ سادهم؟» قالوا: «احتاج الناس إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم» .
8 -
القناعة والرضا بعطاء الله سبب للبركة: يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ تبارك وتعالى يَبْتَلِي عَبْدَهُ بِمَا أَعْطَاهُ، فَمَنْ رَضِيَ بِمَا قَسَمَ اللهُ عز وجل لَهُ بَارَكَ اللهُ لَهُ فِيهِ وَوَسَّعَهُ، وَمَنْ لَمْ يَرْضَ لَمْ يُبَارِكْ لَهُ» (رواه الإمام أحمد وصححه الألباني).
• أسباب تحول دون القناعة:
1 -
منازعة الشهوات التي لا تنال إلا بزيادة المال وكثرة المادة، فإذا نازعته الشهوة طلب من المال ما يوصله إليها، وليس للشهوات حد مُتَنَاهٍ، فيصير ذلك ذريعة إلى أن ما يطلبه من الزيادة غير متناه، ومن لم يتَناهَ طلبه، استدام كدّه وتعبه، فلم يفِ التذاذه بنيل شهواته بما يعانيه من استدامة كده وأتعابه، مع ما قد لزمه من ذم الانقياد لمغالبة
الشهوات، والتعرض لاكتساب التبعات، حتى يصير كالبهيمة التي قد انصرف طلبها إلى ما تدعو إليه شهوتها فلا تنزجر عنه بعقل، ولا تنكف عنه بقناعة.
2 -
أن يطلب الزيادة ويقتني الأموال ليدخرها لولده، ويخلفها لورثته، مع شدة ضنه على نفسه، وكفه عن صرف ذلك في حقه، وإشفاقًا عليهم من كدح الطلب، وسوء المنقلب، وهذا شقي بجمعها، مأخوذ بوزرها، قد استحق اللوم من وجوه لا تخفى على ذي لب، منها:
أ- سوء ظنه بخالقه: أنه لا يرزقهم إلا من جهته.
ب- الثقة ببقاء ذلك على ولده مع نوائب الزمان ومصائبه.
ج- ما حُرم من منافع ماله، وسلب من وفور حاله، وقد قيل:«إنما مالك لك أو للوارث أو للجائحة؛ فلا تكن أشقى الثلاثة» .
د- ما لحقه من شقاء جمعه، وناله من عناء كده حتى صار ساعيًا محرومًا، وجاهدًا مذمومًا.
هـ- ما يؤاخذ به من وزره وآثامه، ويحاسب عليه من تبعاته وإجرامه.
قال رجل للحسن رحمه الله: «إني أخاف الموت وأكرهه» ، فقال:«إنك خلفت مالك، ولو قدّمته لَسَرك اللحاق به» .
3 -
أن يجمع المال ويطلب المكاثرة اسْتِحْلَالًا لِجَمْعِهِ، وَشَغَفًا بِاحْتِرَامِهِ، فهذا أسوأ الناس حالًا فيه، وأشدهم حرمانًا له، قد توجهت إليه سائر الملاوم، وفي مثله قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيم} (التوبة:34).
• السبيل إلى القناعة:
إني رأيتُ الصبرَ خيرَ مِعْوَلٍ
…
في النائباتِ لمنْ أرادَ مِعوَلَا
ورأيتُ أسبابَ القناعةِ أكِّدَّتْ بعُرَى الغِنَى فجعلتُها لي معْقِلَا
فإذا نَبَا بي منزلٌ جاوزْتُهُ وجعلتُ مِن غيرِهِ لي منزلَا
وإذا غلَا شيءٌ عليَّ تركْتُهُ فيكونَ أرخصَ ما يكونُ إذا غلَا
التزام القناعة عسير على بني آدم ـ إلا من وفقه الله للهدى وكفاه شر نفسه وشحها وطمعها ـ لأن بني آدم مفطورون على محبة التملك؛ ولكن مجاهدة النفس مطلوبة لتخفيف طمعها وتقريبها من الزهد والقناعة. ولذلك طرق إذا سلكها العبد مع إخلاصه تحققت له القناعة بإذن الله تعالى، فمن ذلك:
1 -
تقوية الإيمان بالله تعالى، وترويض القلب على القناعة والغنى؛ فإن حقيقة الفقر والغنى تكون في القلب؛ فمن كان غني القلب نَعِمَ بالسعادة وتحلى بالرضى، وإن كان لا يجد قوت يومه، ومن كان فقير القلب؛ فإنه لو ملك الأرض ومن عليها إلا درهما واحدا لرأى أن غناه في ذلك الدرهم؛ فلا يزال فقيرًا حتى يناله.
فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «يَا أبَا ذَرٍّ، أتَرَى كَثْرَةَ المَالِ هُوَ الغِنَى؟» . قلتُ: «نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ» .
قال: «فَتَرَى قِلَّةَ المَالِ هُوَ الفَقْر؟» .قلت: «نَعَمْ يا رَسُولَ اللهِ» .
قال: «إنما الغِنَى غِنَى القَلْبِ، والفَقْرُ فقْرُ القَلْبِ» . (صحيح رواه ابن حبان).
اذا ما كنتَ ذا قلبٍ قنُوعٍ فأنتَ ومالكُ الدنيا سواءُ
ومَنْ نَزَلَتْ بساحتِه المنايَا فلا أرضٌ تقِيهِ ولا سماءُ
وأرضُ اللهِ واسعةٌ ولكنْ
…
إذا نزلَ القضَا ضاق الفضاءُ
2 -
اليقين بأن الرزق مكتوب والإنسان في رحم أمه، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ» (رواه البخاري ومسلم).
فالعبد مأمور بالسعي والاكتساب مع اليقين بأن الله هو الرازق وأن رزقه مكتوب.
3 -
تدبر آيات القرآن العظيم ولا سيما الآيات التي تتحدث عن قضية الرزق والاكتساب: ومن ذلك قول الله عز وجل: {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (فاطر:35)، وقوله تعالى:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (يونس:107)، وقوله تعالي:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (هود:6) وقوله تعالى: {سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (الطلاق:7)
4 -
معرفة حكمة الله عز وجل في تفاوت الأرزاق والمراتب بين العباد؛ حتى تحصل عمارة الأرض، ويتبادل الناس المنافع والتجارات، ويخدم بعضهم بعضًا. قال الله تعالى:{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (الزخرف32).
وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنعام:165).
5 -
الإكثار من سؤال الله عز وجل القناعة، والإلحاح بالدعاء في ذلك فنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو أكثر الناس قناعة وزهدًا ورضى، وأقواهم إيمانًا ويقينًا؛ كان يسأل ربه القناعة.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو: «اللهُمَّ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي، وبَارِكْ لِي فِيهِ، واخْلُفْ عَلَى كُلِّ غَائِبَةٍ لِي بِخَيْرٍ» (رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي).
ولأجل قناعته صلى الله عليه وآله وسلم فإنه ما كان يسأل ربه إلا الكفاف من العيش، والقليل من الدنيا كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:«اللَّهُمَّ ارْزُقْ آلَ مُحَمَّدٍ قُوتًا» (رواه البخاري ومسلم).
(الْقُوت مَا يَسُدّ الرَّمَق، وَفِي الحديث فَضِيلَة التَّقَلُّل مِنْ الدُّنْيَا وَالِاقْتِصَار عَلَى الْقُوت مِنْهَا وَالدُّعَاء بِذَلِكَ).
وقال الشافعي رحمه الله:
قنعتُ بالقوتِ مِنْ زمانِي
…
وصُنْتُ نفْسِي عن الهوانِ
خَوفًا مِن الناسِ أنْ يقولُوا
…
فضلُ فلانٍ علَى فلانِ
مَن كنتُ عن مالِه غَنيًّا
…
فلا أبَالِي إذَا جَفَانِي
6 -
العلم بأن الرزق لا يخضع لمقاييس البشر من قوة الذكاء، وكثرة الحركة، وسعة المعارف، وإن كان بعضها أسبابًا؛ إلا أن الرزق ليس معلقًا بها بالضرورة.
وهذا يجعل العبد أكثر قناعة خاصة عندما يرى من هو أقل منه خبرة وذكاء أو غير ذلك وأكثر منه رزقا فلا يحسده ولا يتبرم من رزقه.
7 -
النظر إلى حال من هو أقل منك في أمور الدنيا، وعدم النظر إلى من هو فوقك فيها؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ» (رواه مسلم).
مَعْنَى (أَجْدَر) أَحَقّ، و (تَزْدَرُوا) تُحَقِّرُوا.
قَالَ اِبْن جَرِير وَغَيْره: هَذَا حَدِيث جَامِع لِأَنْوَاعٍ مِنْ الْخَيْر؛ لِأَنَّ الْإِنْسَان إِذَا رَأَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا طَلَبَتْ نَفْسه مِثْل ذَلِكَ، وَاسْتَصْغَرَ مَا عِنْده مِنْ نِعْمَة اللهُ تَعَالَى، وَحَرَصَ عَلَى الِازْدِيَاد لِيَلْحَق بِذَلِكَ أَوْ يُقَارِبهُ. هَذَا هُوَ الْمَوْجُود فِي غَالِب النَّاس. وَأَمَّا إِذَا نَظَرَ فِي أُمُور الدُّنْيَا إِلَى مَنْ هُوَ دُونه فِيهَا ظَهَرَتْ لَهُ نِعْمَة اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، فَشَكَرَهَا، وَتَوَاضَعَ، وَفَعَلَ فِيهِ الْخَيْر.
وليس في الدنيا أحد لا يجد من هو أفضل منه في شيء، ومن هو أقل منه في أشياء؛ فإن كنت فقيرا ففي الناس من هو أفقر منك! وإن كنت مريضًا أو معذبا ففيهم من هو أشد منك مرضًا وأكثر تعذيبًا، فلماذا ترفع رأسك لتنظر من هو فوقك، ولا تخفضه لتبصر من هو تحتك؟!
إن كنت تعرف من نال من المال والجاه ما لم تنله أنت وهو دونك ذكاءً ومعرفة وخلقًا، فلم لا تذكر من أنت دونه أو مثله في ذلك كله وهو لم ينل بعض ما نلت؟!
لله دَرُّّ القَنُوعِ مِنْ خُلُقٍ! كَمْ مِنْ وَضِيعٍ بِه ارْتَفَعَا؟!
يضيق صدرالفتى بحاجته ومَن تأسَّى بدونِه اتَّسَعَا
8 -
قراءة سير السلف الصالح وأحوالهم مع الدنيا، وزهدهم فيها، وقناعتهم بالقليل منها، وهم قد أدركوا الكثير منها فرفضوه إيثارا للباقية على العاجلة. وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإخوانه من الأنبياء عليهم السلام ثم الصحابة الكرام رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان؛ فإن معرفة أحوالهم، وكيف كانت حياتهم ومعيشتهم تحفز العبد إلى التأسي بهم، وترغبه في الآخرة، وتقلل عنده زخرف الحياة الدنيا ومُتَعِها الزائلة.
9 -
العلم بأن عاقبة الغنى شر ووبال على صاحبه إذا لم يكن الاكتساب والصرف منه بالطرق المشروعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ» (صحيح رواه أبو داود).
(وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ: كَانَ الشَّبَابُ فِي قُوَّتِهِ كَالثَّوْبِ الْجَدِيدِ فَلَمَّا وَلَّى الشَّبَابُ وَضَعُفَ الْبَدَنُ فَكَأَنَّمَا بَلِيَ).
فمشكلة المال أن الحساب عليه من جهتين: جهة الاكتساب ثم جهة الإنفاق، وهذا ما يجعل تبعته عظيمة، وعاقبته وخيمة إلا من اتقى الله فيه وراعى حدود الله اكتسابًا وإنفاقًا.
ثم ليتفكر في أنه كلما تَخفف من هذا المال وكان أقل كان حسابه أيسر، وأسرع، وذلك كمن سافر في الطائرة وحمل متاعا كثيرًا؛ فإنه إذا بلغ مقصده احتاج وقتًا طويلًا لاستلامه وتفتيشه بخلاف من كان خفيفًا ليس معه شيء، وحساب الآخرة أعسر، والوقوف فيها أطول.
ولينظر أيضا إلى من كان المال والجاه سبب شقائه وأمراضه وهمومه وغمومه؛ فهو يشقى ويتعب في جمع المال ونيل المناصب، ثم يحمل هم الحفاظ على المال والمنصب فيقضي عمره مهتمًا مغتما.
ثم انظر ماذا يحدث له إذا خسر ماله أو أقيل من منصبه! وكم من شخص كان ذلك سببا في هلاكه وعطبه! نسأل الله العافية.
10 -
النظر في التفاوت البسيط بين الغني والفقير على وجه التحقيق؛ فالغني لا ينتفع إلا بالقليل من ماله، وهو ما يسد حاجته. وما فَضَلَ عن ذلك فليس له، وإن كان يملكه. فلو نظرنا إلى أغنى رجل في العالم لا نجد أنه يستطيع أن يأكل من الطعام أكثر مما يأكل متوسط الحال أو الفقير؛ بل ربما كان الفقير أكثر منه!!
وبعبارة أخرى: هل يستطيع الغني أن يشتري مائة وجبة فيأكلها في آن واحد، أو مائة ثوب فيلبسها في آن واحد؛ أو ألف مركبة فيركبها في آن واحد؛ أو مائة دار فيسكنها في وقت واحد؟! كلا؛ بل له من الطعام في اليوم ثلاث وجبات تزيد قليلًا أو تنقص، وللمستور كذلك مثله، وله من اللباس ثلاث قطع تزيد قليلًا أو تنقص، ولا يستهلك من الأرض في وقت واحد إلا مترا في مترين سواء كان قائمًا أم قاعدًا أم مضطجعًا، فعَلامَ يحسد وهو سيحاسب على كل ما يملك؟!
وقد فهم هذا المعنى حكيم هذه الأمة أبو الدرداء رضي الله عنه حينما قال: «أهل الأموال يأكلون ونأكل، ويشربون ونشرب، ويلبسون ونلبس، ويركبون ونركب، ولهم فضول أموال ينظرون إليها وننظر إليها معهم، وحسابهم عليها ونحن منها برَاء» .وقال أيضًا: «الحمد لله الذي جعل الأغنياء يتمنون أنهم مثلنا عند الموت، ولا نتمنى أننا مثلهم حينئذ» .
بل جاء هذا المعنى في السنة النبوية، قال عبد الله بن الشخير رضي الله عنه:أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم وَهُوَ يَقْرَأُ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ قَالَ: «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي» ، قَالَ:«وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ» (رواه مسلم).
إن القانع قد لا ينال من الطعام أطيبه، ولا من اللباس أحسنه، ولا من العيش أرغده؛ ولكنه ينعم بالرضى أكثر من الطماع وإن كان الطماع أرغد عيشا منه؛ لأن القانع
ينظر إلى الموسر وما يملك، فيراه لا ينتفع إلا بقليل مما يملك؛ لكنه سيحاسب عن كل ما يملك.
ثم ليعلم العاقل أن كل حال إلى زوال، فلا يفرح غني حتى يطغى ويبطر، ولا ييأس فقير حتى يعصي ويكفر، فإنه لا فقر يدوم ولا غنى يدوم!! وكم من رجال نشؤوا على فرش حرير وشربوا بكؤوس الذهب، وورثوا كنوز المال، وأذلوا أعناق الرجال، وتعبدوا الأحرار! فما ماتوا حتى اشتهوا فراشًا خشنا يقي الجنب عض الأرض، ورغيفًا من خبز يحمي البطن من قرص الجوع!!
وآخرون قاسوا المحن البلايا، وذاقوا الألم والحرمان، وطووا الليالي بلا طعام! فما ماتوا حتى ازدحمت عليهم النعم، وتكاثرت الخيرات، وصاروا من سراة الناس!!
وسيسوي الموت بين الأحياء جميعا: الغني والفقير؛ فدود الأرض لا يفرق بين المالك والأجير، ولا بين الصعلوك والأمير، ولا بين الكبير والصغير، فلا يجزع فقير بفقره، ولا يبطر غني بغناه.
وما أجمل القناعة! من التزمها نال السعادة، ولو تحلى بها الناس لزالت منهم الضغائن والأحقاد، وحلّت بينهم الألفة والمودة؛ إذ أكثر أسباب الخلاف والشقاق بين الناس بسبب الدنيا والتنافس عليها، وما ضعف الدين في القلوب إلا من مزاحمة الدنيا له، وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما قال:«وَاللهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ» (رواه البخاري ومسلم).
فهل من مدّكر؟ وهل من معتبر يجعل ما يملك من دنيا في يديه، ويحاذر أن تقترب إلى قلبه فتفسده؟
قال صلى الله عليه وآله وسلم: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» (رواه البخاري ومسلم).