المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌50 - خطبة عيد الأضحى - دليل الواعظ إلى أدلة المواعظ - جـ ١

[شحاتة صقر]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌مكانة يوم الجمعة في الإسلام:

- ‌مكانة خطبة الجمعة وأهميتها:

- ‌صفة خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌اشتمال الخطبة على الآيات القرآنية

- ‌اشتمال الخطبة على الأحاديث النبوية

- ‌ أثر الأحاديث الضعيفة في الابتداع في الدين:

- ‌ لا يجوز استحباب شيء لمجرد حديث ضعيف في الفضائل:

- ‌ معنى العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال:

- ‌ لا يجوز التقدير والتحديد بأحاديث الفضائل الضعيفة:

- ‌ شروط العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال عند القائلين به:

- ‌ هل هناك إجماع من العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال

- ‌اشتمال الخطبة على ضرب الأمثال

- ‌الاستشهاد بالشعر في الخطبة

- ‌الاستشهاد بالقصة في الخطبة

- ‌الاستشهاد بواقع الآخرين

- ‌فقه الخطيب

- ‌ ماذا تقرأ في صلاة الجمعة

- ‌ قطع الخطبة للتنبيه والإرشاد:

- ‌ ما الحكم فيمن دخل المسجد لصلاة الجمعة والمؤذن يؤذن الأذان الثاني

- ‌ رفع اليدين للدعاء في الخطبة:

- ‌ هل يصلي بالناس الجمعة غير الخطيب

- ‌ إذا قرأ الخطيب آية تشتمل على سجدة وهو يخطب فهل يسجد سجود التلاوة

- ‌كيف تختار موضوع الخطبة

- ‌ضوابط وقواعدلموضوعات خطبة الجمعة

- ‌وصايا للخطيب

- ‌الخطيب وجمهوره

- ‌وصايا أثناء الخطبة

- ‌همسات في أذن خطيب الجمعة

- ‌عيوب الخطبة

- ‌ عيوب في أصل الخطبة

- ‌تنبيه:

- ‌ عيوب في الخطيب

- ‌ عيوب نسبية

- ‌أدعية

- ‌موضوعات عامة

- ‌1 - الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌2 - التحذير من ترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌3 - كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعناها

- ‌4 - اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم دليل محبة الله عز وجل

- ‌5 - التواضع وذم الكبر

- ‌6 - فضائل الصحابة رضي الله عنهم

- ‌7 - فضائل الصحابة رضي الله عنهم في السنة المطهرة

- ‌8 - اتق الله حيثما كنت

- ‌9 - أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمحُهَا

- ‌10 - خَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ

- ‌11 - احفَظِ الله يَحْفَظْكَ

- ‌12 - إذا سَأَلْتَ فاسْألِ اللهوإذا اسْتََعَنْتَ فاستَعِنْ باللهِ

- ‌13 - شروط الدعاء وموانع الإجابة

- ‌14 - رُفِعَتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصُّحُفُ

- ‌15 - القناعة

- ‌16 - فوائد القناعة والسبيل إليها

- ‌17 - الإصلاح بين الناس

- ‌18 - الإصلاح بتن الناس وآداب المصلح

- ‌19 - الأمانة

- ‌20 - السعادة الوهمية

- ‌21 - أسباب السعادة وصفات السعداء

- ‌22 - نحن والمزاح

- ‌23 - إنَّ الله كَتَبَ الإحسّانَ على كُلِّ شيءٍ

- ‌24 - المستقبل لهذا الدين رغم مرارة الواقع

- ‌25 - المستقبل لهذا الدين ولكن ما السبيل إليه

- ‌26 - لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ

- ‌27 - وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌28 - موتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌29 - إذا لَم تَستَحْيِ، فاصْنَعْ ما شِئْتَ

- ‌30 - عَظيمٌٍ ولَكِنّه يَسيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ الله عليه

- ‌31 - قُلْ: آمَنْتُ باللهِ، ثمَّ استقِمْ

- ‌32 - كُلُّ النَّاسِ يَغْدُوفَبائعٌ نَفْسَهُ، فمُعْتِقُها أو مُوبِقها

- ‌33 - كثرة النعم وكثرة طرق الشكر

- ‌34 - أكل الميراث بالباطل

- ‌35 - إنَّ الله طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلَاّ طيِّبًا

- ‌36 - لا تَحَاسَدُوا

- ‌37 - كُونُوا عِبادَ اللهِ إِخْوانًا

- ‌38 - لا تَظالموا

- ‌39 - إنَّما هي أعمالُكُم أُحصيها لكم

- ‌40 - لا تَغْضَبْ

- ‌خطب مناسبات

- ‌41 - الزكاة

- ‌42 - الامتحانات، كل منا ممتحن

- ‌43 - عاشوراء وشهر الله المحرّم

- ‌45 - استقبال رمضانيا باغي الشر…أقصر

- ‌46 - رمضان شهر الجهاد

- ‌47 - خطبة عيد الفطر

- ‌48 - الحج: عبر وعظات

- ‌49 - قصة الذبح…دروس وعبر

- ‌50 - خطبة عيد الأضحى

الفصل: ‌50 - خطبة عيد الأضحى

‌50 - خطبة عيد الأضحى

إنه العيدُ جاءَ ضيفًا عزيزًا فاكتُبُوا بالمِدادِ فيضَ التهاني

كبّرُوا اللهَ عَلَّ تكبيرةَ العيدِ تضخّ الضميرَ في الشريانِ

زلزلَتْ في القديمِ إيوانَ كسرَى هلْ تهزُّ الغداةَ كِسرَى الزمانِ

معاشرَ المسلمين، أوصيكم ونفسي بما وصَّى به الله عز وجل في كتابه {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ} (النساء:131).

وأوصيكم بما وصى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم الصَّلَاةَ يَوْمَ الْعِيدِ، فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ، ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلَالٍ، فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللهِ وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِ وَوَعَظَ النَّاسَ وَذَكَّرَهُمْ ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ» (رواه مسلم).

فأوصيكم ـ عبادَ الله ـ بتقوى الله، فإنها سعادةُ الأبرار وقوامُ حياةِ الأطهار، تمسَّكوا بوثائقها، واعتصموا بحقائقها.

• حاجة الأمة في هذا العصر إلى التمسك بمبادئ الإسلام وعظم مقاصد خطبة الوداع:

أيها المسلمون، هاهم حجاج بيت الله يخطون خطواتهم على تلك الأرض الطيبة الآمنة بأمان الله، هذه الأرض التي تحكي تاريخ الإسلام المجيد، تاريخ نشأة هذا الدين في هذه البطاح. قصة الانتصار والكفاح، سيرة النماذج المثالية العالية، ومصارع الشهداء في سبيل الحق، بلدٌ وتاريخٌ، قفزت فيه البشرية إلى أبعد الآفاق، دينًا ودنيا، علمًا وعملًا فقهًا وخلقًا.

أرضٌ طيبةٌ، تزدحم فيها هذه المناظر والمشاهد، حيةً نابضةً، تختلط فيه مشاعر العبودية، وأصوات التلبية، والإقبال على الربِّ الرحيم.

ص: 619

في هذه الأجواء يغمر قلب المتأمل، شعورٌ كريمٌ فياضٌ، بانتماء أفراد هذه الأمة إلى هدفٍ واحدٍ وغايةٍ واحدةٍ، إنها أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، دينها دين الإسلام دين الله رب العالمين.

ما أحوج الأمة في أيام محنتها وشدائدها، وأيام ضعفها وتيهها، إلى دروسٍ من تاريخها تتأملها، وإلى وقفاتٍ عند مناسباتها، تستلهم منها العبر، ويتجدد فيها العزم على الجهاد الحق، ويصح فيها التوجه على محاربة كل بغي وفساد.

ما أحوجها إلى دروس تستعيد فيها كرامتها، وتردُّ على من يريد القضاء على كيانها.

وإن في حجة نبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم الوداعية التوديعية لعبرًا ومواعظ، وإن في خطبها لدروسًا جوامع.

فلقد خطب صلى الله عليه وآله وسلم خطبًا في موقف عرفة، ويوم الحج الأكبر وأيام التشريق ـ أرسى فيها قواعد الإسلام، وهدم مبادئ الجاهلية، وعظَّم حرمات المسلمين.

خطب صلى الله عليه وآله وسلم الناس وودعهم، بعد أن استقرَّ التشريع، وكمل الدين، وتمت النعمة، ورضي الله هذا الإسلام دينًا للإنسانية كلها، لا يقبل من أحدٍ دينًا سواه:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة:3). {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:85).

• خطابٌ عالميّ من سيّد العالمين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم:

ألقى نبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المقام العظيم كلماتٍ جامعةً موجزةً، تحكي المبادئ الكبرى لهذا الدين.

أحبتِي عادَ ذهنِي إلى زمنٍ

مُعَظَّمٍ في سُويْدَا القلبِ مُستَطِرِ

كأنني برسولِ اللهِ مرتديًا

ملابسَ الطهرِ بين الناسِ كالقمرِ

نورٌ وعن جانِبَيْهِ مِن صحابتِه فَيالقُ وألوفُ الناسِ بالأثَرِ

ص: 620

ساروا برُفقةِ أزكَى مُهجةٍ دَرَجَتْ وخيرِ مشتَمِلٍ ثوبًا ومُؤتَزِرِ

مُلبِّيًا رافعًا كفَّيْهِ في وَجَلٍ

للهِ في ثوبٍ أوّابٍ ومفتقرِ

يَمْضِي ينادِي خُذُوا عنِّي مناسِكَكُمْ لعل هذا ختامُ العهْدِ والعُمُرِ

وقامَ في عرَفَاتِ اللهِ ممتطيًا

قَصواءَهُ يا له مِن موقِفٍ نَضِرِ

تأمَّلَ الموقفَ الأسمَى فما نظرتْ

عيناهُ إلا لأمواجٍ مِن البشَرِ

فينحَنِي شاكرًا لله مِنّتَه

وفضْلَه مِن تمامِ الدينِ والظَفَرِ

يَشْدُو بخطْبتِه العصماءِ زاكيةً

كالشهدِ كالسلسبيلِ العذبِ كالدُرَرِ

مُجَلّيًا روعةَ الإسلامِ في جُمَلٍ

مِن رائعٍ مِن بديعِ القولِ مختَصَرِ

دَاعٍ إلى العدلِ والتقوَى وأنَّ بها

تفاضُلُ الناسِ لا بالجنسِ والصورِ

مُبَيِّنًا أنّ للإنسانِ حرمتَه

مُمَرِّغًا سَيِّء العاداتِ بالمَدَرِ

يا ليتني كنتُ بين القومِ إذْ حضَروا

مُمَتَّعَ القلبِ والأسماعِ والبصرِ

وأنبري لرسولِ اللهِ ألثُمُهُ

على جبينٍ نقيٍّ طاهرٍ عطِرِ

أقَبِّلُ الكفَّ كفَّ الجودِ كمْ بذلَتْ

سحّاءَ بالخيرِ مثل السَلسَلِ الهدرِ

ألوذُ بالرّحْلِ أمشِي في معِيَّتِه

وأرتوِي مِن رسولِ اللهِ بالنظرِ

أُسّرُّ بالمشْيِ وإنْ طالَ المسيرُ بنَا

وما انقضَى مِن لقاءِالمصطفَى وَطَرِي

أما الرداءُ الذِي حجَّ الحبيبُ بهِ

يا ليتَه كفنٌ لي في دُجَى الحُفَرِ

يا غافلًا عن مزاياهُ وروعتٍها

يَمِّمْ إلى كتُبِ التاريخِ والسِّيَرِ

يا ربِّ لا تحرِمْنَا مِن شفاعتِه وحوضِه العذبِ يومَ الموقفِ العَسِرِ

معاشرَ المسلمين، إنّ الأمّة اليومَ في حاجةٍ عظيمة للمبادئ التي تعالج واقعَها وللأصول التي تحلّ مشكلاتها وللقيَم التي ترسم لها الخطّة الناجحةَ لمحاربة التحدّيات التي تواجهها والمخاطر التي تحيط بها.

ومِن هذا المنطلَق فإنّ ضرورةَ المسلمين اليومَ كبيرةٌ في مثل هذه المناسبة للمراجعة الجادّةِ والتبصُّر الصادق في وثيقةٍ تاريخية عظيمة، صدرت من رجلٍ عظيم في يومٍ

ص: 621

عظيم. إنها خطبةُ الوداع التي تعرِض للأمة أعلى القيَم، وتمدّها بمقوّمات الخير والصّلاح لبناء الحاضِر والمستقبل، وتعطيها أُسُسَ الفلاح ومبادئَ النّجاح.

إخوةَ الإسلام، خطبةُ الوداع جاءت تذكِّر الأمّة في كلِّ حين بأسباب الحياةِ المثلى، وتبصِّرها بسُبل الوقاية من الشرور والفتَن، وهو تحقيقُ منهج الإسلام في هذه الحياة عقيدةً وشريعة، حُكمًا وتحاكمًا، عملًا وسُلوكًا.

• مبدأ حفظ الدماء والأموال والأعراض:

أمّةَ الإسلام، وفي مضامين هذه الوثيقةِ أصلٌ مهمّ تقوم عليه سعادة الناس، وتصلح به حياتهم، إنه مبدأ حفظِ النفوس والأموال والأعراض، يقول صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الخطبة:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ. قَالَ: فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ. قَالَ: فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ. قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فَأَعَادَهَا مِرَارًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: اللهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ» (رواه البخاري ومسلم).

إنها المقاصد العامّة والمصالح الكلّية التي جاءت الشريعةُ برعايتها والحفاظِ عليها وبناء الأحكام على وفقها وجعلها غايةً مستقرّة في تشريعاتها، ممّا حدَا بأحدِ المستشرقين أن يقول:«لو طبّق المسلمون تعاليمَ دينهم وحرصوا عليها عملًا فإنّ دُورَ الشرطةِ والمحاكم والسجون ستُغلق؛ لأنه لن يبقَ لها عملٌ، وبذلك يوجد المجتمع المسلم الذي رسم الإسلام معالمَه» .

خطابٌ عالميّ يصدُر من سيّد العالمين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، يتضمّن محاربةَ كلِّ تصرّفٍ يترتّب عليه ترويعُ الآمنين وإخافة المسلمين. خطابٌ يتضمّن في مشمول معانيه الحرصَ التامَّ من دين الإسلام على حفظ النفوس أن تهدَر والأموال أن تضيّع والأعراض أن تنتهَك.

إنه خطابٌ كالسّيف ضدّ كلِّ تهمةٍ تُوجَّه للإسلام بأنه دينُ إرهابٍ وإرعاب، فأين المنصفون؟! وأين المتبصِّرون؟!

ص: 622

مبدأ العقوبات في الإسلام:

إنّ حرص التشريع الإسلاميّ على إصلاح النفوس وتهذيبها وحماية الجماعة وأفرادها لا مثيل له في القضاء على الخطر والمنعِ من الشرّ والضرر، حدودٌ تزجر الناسَ وتردعهم، وتصلح أحوالهم وشؤونهم، حسمٌ لباب الفساد، وإصلاحٌ لأحوال العباد؛ لتقوم حياةٌ كريمة وعيشٌ مطمئنّ مستقرّ، {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:179).

وقد عجزت الأمم المعاصرة بتقدمها وتقنية وسائلها أن توقف سيل الجرائم، وإزهاق النفوس، وزاد سوؤها وانكشفت سوأتها، حين ألغت عقوبة الاقتصاص من المجرمين، واكتفت بعقوبات هزيلة بزعم استصلاح المجرمين، وما زاد المجرمين ذلك إلا عتوًا واستكبارًا في الأرض ومكر السيئ، ولكنه في شرع محمد صلى الله عليه وآله وسلم محسوم بالقصاص العادل:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:179).

إن في القصاص حياة حين يكفُّ من يَهمُّ بالجريمة عن الإجرام، وفي القصاص حياةٌ حين تشفى صدور أولياء القتيل من الثأر الذي لم يكن يقف عند حدٍّ لا في القديم ولا في الحديث. ثأرٌ مثيرٌ للأحقاد العائلية، والعصبيات القبلية، يتوارثه الأجيال جيلًا بعد جيلٍ، لا تكفُّ معه الدماء عن المسيل.

ويأتي حسمٌ عمليٌّ ومباشرة تطبيقية من محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الموقف العظيم، وفي إلغاء حكم جاهلي في مسألة الثأر، فاستمع إليه وهو يقول:«أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْل» (رواه مسلم).

أيها الإخوة، إن في القصاص والحدود وأحكام الجنايات في الشريعة، حياةً ورحمةً، حياةً أعم وأشمل، حياة تشمل المجتمع كله، رحمة واسعة غير مقصورة على

ص: 623

شفقة ورِقَّة تنبت في النفس نحو مستضعفٍ أو أرملةٍ أو طفلٍ، ولكنها رحمةٌ عامةٌ للقوي والضعيف والقريب والبعيد.

• تحريم الربا:

معاشرَ المسلمين، في موقفِ الوداع يُعلن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم حكمَ الإسلام الأبديَّ في قضيةٍ خطيرة من قضايا الاقتصاد، إنها قضيّة الربا، فيقول صلى الله عليه وآله وسلم:«وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا ـ رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِب» (رواه مسلم).

سياسةٌ نبويّة لصيانة الاقتصاد من الهلاك والدمار، ولحماية المجتمعات من الشرور والأضرار، وذلك بتَحريم الربا بمختلف صُوَره ومهما كان نوعُه وقدره.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «الرِّبَا ثَلَاثَةٌ وسَبْعُونَ بَابًا، أيْسَرُهَا مِثْلُ أنْ ينْكِحَ الرَّجُلُ أمَّه» (صحيح رواه الحاكم).

وعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «مَا أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنْ الرِّبَا إِلَّا كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ إِلَى قِلَّةٍ» (صحيح رواه ابن ماجه).

معاشرَ المسلمين، إنّه في الوقتِ الذي يُصدر الإسلام وصاياه النيّرةَ يتَّضح للعالم بعد قرونٍ بالتجارب الواقعية والكتابات المتعدّدة والإحصاءات الدقيقةِ الصادرة من أساطين الاقتصاد العالمي أنّ النظامَ الربويّ ليس هو العاجز على توفير الاقتصاد النامي المستقرِّ فحسب، بل إنّه عنصرٌ مدمِّر لشروط ودعائم الاقتصاد ونموِّه واستقراره، فأين المدركون؟! وأين هم المتَّعظون؟!

• صيانة المرأة والحرص على كرامتها:

معاشر الإخوة، أما قضية المرأة، وما أدراك ما قضية المرأة، وكأنها قضية كل عصر وكل جيل وكل أمة، يأتي الخطاب النبوي في هذا الحشد الهائل ممن عاصر الجاهلية، ليضع الناس على الحق، والطريق المستقيم.

إن مواريث العرب والجاهلية قبل الإسلام احتقرت المرأة وازْدَرَتْها، بل لعلها رأت أنها شرٌ لابد منه. وإذا كانت مواريث الجاهلية قد جعلت المرأة في قفص الاتهام ومظاهر الاستصغار، فإن مسلك التقدم المعاصر قد جعلها مصيدةً لكل الآثام.

ولكنَّ هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعطى كل ذي حق حقه، وحفظ لكلٍّ نصيبه:

{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} (النساء:32). في مسلك وسط، ومنهجٍ عدلٍ، فالنساء شقائق الرجال:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة:228)، {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} (آل عمران:195)،

{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل:97).

أمّةَ الإسلام، المرأة في الإسلام شقيقةُ الرجال في إقامة الحياة على خيرِ حال، علاقتها به علاقةُ مودّةٍ ورحمة وسَكَنٍ وطمأنينة، يقول صلى الله عليه وآله وسلم في خطبة الوداع:«فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ» (رواه مسلم).

المرأة في الإسلام لها شأنٌ عظيم، حقوقها محفوظةٌ مُصَانة، تعيش كريمةً مُصانة عُضوًا مشَرّفا وعنصرًا فعّالا في إقامة حياةٍ سعيدة ومجتمع طاهر نزيه، تمارس مسؤولياتها وفقَ الحِشمة والآداب، مستوعِبةً المفيدَ من الجديد، محافظةً على نفسها، لها ميادينها ومجالاتُها في الخير والعطاءِ والبذل والفداء، وحينئذ تجني لأمّتها ولنفسها الثمراتِ الخيّرة، ولمجتمعها القطوفَ الزّاهرة، مجتنبةً الويلاتِ التي يعاني منها المستسلِمات لصرخاتِ التحرير الكاذبة الماكرة والدعوات الخادعة السافرة.

أيّها المؤمنون، أعداءُ الإسلام حريصون على أن تنهجَ المسلمة السبُل العوجاءَ والأفكار الهوجاء، قال أحدهم:«لن تستقيمَ حال الشّرق ما لم يُرفَع الحجابُ عن وجه المرأةِ ويغطَّى به القرآن» ، وقال آخر:«إنّ التأثير الفكريَّ الذي يظهر في كلّ المجالات ويقلب المجتمعَ الإسلاميّ رأسًا على عقب لا يبدو في جلاءٍ أفضل بما يبدو في تحرير المرأة» .

وهذا ليس بمستغرَبٍ على مَن مبادِؤُه مهلِكة ومقاييسه فاسِدة، ولكن المستغرَب أن يتأثّر بذلك ذوو أفهامٍ سقيمة أو نوايا خبيثة، فتجدهم يتّجهون لمِثل تلك الدعوات، وينادون في ديار الإسلام بمثل تلك الصيحات.

ألا فليت هؤلاء وغيرهم يدركون ما أدركه عقلاء القومِ ويستبصرون ما استبصروه من العواقب الوخيمةِ والآثار المدمّرة لمثل تلك التوجّهات، فترى أولئك منذرين نادمين على أرجاءِ حاضرتهم الهابطة التي أوردتهم الموارد.

تقول إحدى كاتباتهم: «إنّ الاختلاطَ الذي يألفُه الرجال وقد طمعَت فيه المرأة بما يخالف فطرتَها، وهنا البلاء العظيم على المرأة

إلى أن قالت: أما آن لنا أن نبحثَ عمّا يخفِّف ـ إذا لم نقل: عمّا يزيل ـ هذه المصائب؟!»، وتقول أخرى:«ألا ليتَ بلادَنا كبلاد المسلمين، فيها الحشمة والعفافُ والطّهارة، تنعَم المرأة بأرغد عيش، تعمل كما يعمَل أولادُ البيت، ولا تُمسُّ الأعراض بسوء» .

ألا وقد استبان الأمرُ وانكشف الحال، فواجبُ مَن انبهر بهذه المبادئ الزائفة والشعارات المرَوْنَقَة واجبهُ النظرُ المنصِف والتفكُّر الدقيق، ليعلم ما جرّته تلك المفاهيمُ الزائفة من عواقبَ وخيمة على الفرد والمجتمع في كثيرٍ من العالم اليوم.

وإنّه لحريٌّ بالمسلمين التمسّكُ بخصائصهم الدينيّة والثقافية والاجتماعيّة أمامَ طغيان الثقافات الأخرى ومفاهيمها في قضية المرأة وغيرها، وذلك باختيار الهدي الإلهي ومبادئ التشريع الرباني وإظهار الاعتزاز بتلك الخصوصية وتطبيقها والالتزام بها، فذلك كافلٌ لها بموقع مشرِّفٍ في كلّ المجالات وشتّى الميادين.

يا نساء المسلمين، اتقين الله تعالى في واجباتكن التي طوقت أعناقكن، أحسِنَّ إلى أولادكن بالتربية الإسلامية النافعة، واجتهدن في إعداد الأولاد إعدادًا سليمًا ناجحًا، فإن المرأة أشد تأثيرًا على أولادها من الأب، وليكن هو معينًا لها على التربية، وأحسِنَّ إلى الأزواج بالعشرة الطيبة، وبحفظ الزوج في عرضه وماله وبيته، ورعاية حقوق أقاربه وضيفه وجيرانه.

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا صَلَّتْ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا، قِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ» (حسن رواه الإمام أحمد).

• ذم العصبية والعنصرية:

إخوةَ الإسلام، جاء الإسلامُ والناسُ تموج بهم صراعاتُ الأجناس والألوانِ والطبقات، فأشرق نورُه، وجمع بين تلك المختلِفات على مبدأ المساواة بين النّاس، لا تفاضُلَ فيه إلاّ باعتبار التقوى التي تنطرِح معها كلّ نزعةٍ عنصريّة عصبية أو قومية، يقول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في خطابه:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى» (إسناده صحيح رواه الإمام أحمد).

وقال النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: «الْحَسَبُ الْمَالُ، وَالْكَرَمُ التَّقْوَى» (صحيح رواه الترمذي).

(الْحَسَبُ الْمَالُ) أَيْ مَالُ الدُّنْيَا الْحَاصِلُ بِهِ الْجَاهُ غَالِبًا.

(وَالْكَرَمُ) أَيْ الْكَرَمُ الْمُعْتَبَرُ فِي الْعَقِبِ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ الْإِكْرَامُ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى (التَّقْوَى) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} .

قَالَ الطِّيبِيُّ: الْحَسَبُ مَا يَعُدُّهُ مِنْ مَآثِرِهِ وَمَآثِرِ آبَائِهِ، وَالْكَرَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ وَالشَّرَفِ وَالْفَضَائِلِ وَهَذَا بِحَسَبِ اللُّغَةِ، فَرَدَّهُمَا صلى الله عليه وآله وسلم إِلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَ النَّاسِ وَعِنْدَ اللهِ، أَيْ لَيْسَ ذِكْرُ الْحَسَبِ عِنْدَ النَّاسِ لِلْفَقِيرِ حَيْثُ لَا يُوَقَّرُ وَلَا يُحْتَفَلُ بِهِ بَلْ كُلُّ الْحَسَبِ عِنْدَهُمْ مَنْ رُزِقَ الثَّرْوَةَ وَوُقِّرَ فِي الْعُيُونِ، أَيْ إِنَّهُ يُوَقَّرُ لِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ دَلِيلُ الثَّرْوَةِ وَذُو الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ عِنْدَ النَّاسِ وَلَا يُعَدُّ كَرِيمًا عِنْدَ اللهِ.

وَإِنَّمَا الْكَرِيمُ عِنْدَهُ مَنْ اِرْتَدَى بِرِدَاءِ التَّقْوَى.

كَانَتْ مَوَدَّةُ سَلْمَانَ لَهُ نَسَبًا

وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ نُوحٍ وَابْنِهِ رَحِمٌ.

وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا، فَالنَّاسُ رَجُلَانِ بَرٌّ تَقِيٌّ

ص: 624

كَرِيمٌ عَلَى اللهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللهِ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ وَخَلَقَ اللهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، قَالَ اللهُ:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} » (صحيح رواه الترمذي).

(إِنَّ اللهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ) أَيْ أَزَالَ وَرَفَعَ عَنْكُمْ.

(عُبِّيَّة الْجَاهِلِيَّة) أَيْ فَخْرهَا وَتَكَبُّرهَا وَنَخْوَتهَا. (وَتَعَاظُمَهَا) أَيْ تَفَاخُرَهَا.

(فَالنَّاسُ رَجُلَانِ) أَيْ نَوْعَانِ: (رَجُلٌ بَرٌّ تَقِيٌّ) أَيْ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَكَبَّرَ عَلَى أَحَدٍ لِأَنَّ مَدَارَ الْإِيمَانِ عَلَى الْخَاتِمَةِ وَاللهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِمَنْ اِتَّقَى.

(وَفَاجِرٌ) أَيْ كَافِرٌ أَوْ عَاصٍ (شَقِيٌّ) أَيْ غَيْرُ سَعِيدٍ (هَيِّنٌ) أَيْ ذَلِيلٌ (عَلَى اللهِ) أَيْ عِنْدَهُ وَالذَّلِيلُ لَا يُنَاسِبُهُ التَّكَبُّرُ.

(وَالنَّاسُ) أَيْ كُلُّهُمْ (بَنُو آدَمَ) أَيْ أَوْلَادُهُ (وَخَلَقَ اللهُ آدَمَ مِنْ التُّرَابِ) أَيْ فَلَا يَلِيقُ بِمَنْ أَصْلُهُ التُّرَابُ النَّخْوَةُ وَالتَّجَبُّرُ.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} أَيْ آدَمَ وَحَوَّاءَ {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا} جَمْعُ شَعْبٍ وَهُوَ أَعْلَى طَبَقَاتِ النَّسَبِ {وَقَبَائِلَ} هِيَ دُونَ الشُّعُوبِ، وَبَعْدَهَا الْعَمَائِرُ، ثُمَّ الْبُطُونُ، ثُمَّ الْأَفْخَاذُ، ثُمَّ الْفَصَائِلُ آخِرُهَا.

{لِتَعَارَفُوا} أَيْ لِيَعْرِفَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا لَا لِتُفَاخِرُوا بِعُلُوِّ النَّسَبِ وَإِنَّمَا الْفَخْرُ بِالتَّقْوَى.

{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} أَيْ إِنَّمَا تَتَفَاضَلُونَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى بِالتَّقْوَى لَا بِالْأَحْسَابِ.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ عز وجل قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ، مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ، إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللهِ مِنْ الْجِعْلَانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتِنَ» (حسن رواه أبو داود).

ص: 628

ورواه الترمذي بلفظ: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمْ الَّذِينَ مَاتُوا، إِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللهِ مِنْ الْجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخِرَاءَ بِأَنْفِهِ

» (حسن).

(مُؤْمِن تَقِيّ وَفَاجِر شَقِيّ) مَعْنَاهُ أَنَّ النَّاس رَجُلَانِ مُؤْمِن تَقِيّ فَهُوَ الْخَيِّرُ الْفَاضِل وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَسِيبًا فِي قَوْمه، وَفَاجِر شَقِيّ فَهُوَ الدَّنِيّ وَإِنْ كَانَ فِي أَهْله شَرِيفًا رَفِيعًا.

وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُفْتَخِر الْمُتَكَبِّر إِمَّا مُؤْمِن تَقِيّ فَإِذَنْ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَكَبَّر عَلَى أَحَد، أَوْ فَاجِر شَقِيّ فَهُوَ ذَلِيل عِنْد اللهِ، وَالذَّلِيل لَا يَسْتَحِقّ التَّكَبُّر فَالتَّكَبُّر مَنْفِيّ بِكُلِّ حَال.

(لَيَدَعَن): أَيْ لِيَتْرُكَن. (إِنَّمَا هُمْ): أَيْ أَقْوَام. (أَهْوَنَ): أَيْ أَذَلَّ. (عَلَى اللهِ): أَيْ عِنْده (مِنْ الْجِعْلَان):جَمْع جُعْل: دُوَيْبَّة سَوْدَاء تُدِير الْخِرَاء بِأَنْفِهَا، وَمِنْ شَأْنِه جَمْع النَّجَاسَة وَادِّخَارهَا. وَمِنْ عَجِيب أَمْره أَنَّهُ يَمُوت مِنْ رِيح الْوَرْد وَرِيح الطِّيب فَإِذَا أُعِيدَ إِلَى الرَّوْث عَاشَ. وَمِنْ عَادَته أَنْ يَحْرُس النِّيَام فَمَنْ قَامَ لِقَضَاءِ حَاجَته تَبِعَهُ وَذَلِكَ مِنْ شَهْوَته لِلْغَائِطِ لِأَنَّهُ قُوتُه.

(الَّتِي تَدْفَع بِأَنْفِهَا النَّتْن): أَيْ الْعَذِرَة، أي البراز. (يُدَهْدِه) يُدَحْرِج.

شَبَّهَ صلى الله عليه وآله وسلم الْمُفْتَخِرِينَ بِآبَائِهِمْ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّة بِالْجِعْلَانِ، وَآبَاءَهُمْ الْمُفْتَخَر بِهِمْ بِالْعَذِرَةِ، وَنَفْس اِفْتِخَارهمْ بِهِمْ بِالدَّفْعِ وَالدَّهْدَهَة بِالْأَنْفِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ أَحَد الْأَمْرَيْنِ وَاقِع الْبَتَّة إِمَّا الِانْتِهَاء عَنْ الِافْتِخَار أَوْ كَوْنهمْ أَذَلّ عِنْد اللهِ تَعَالَى مِنْ الْجِعْلَانِ الْمَوْصُوفَة.

وما أشبه هؤلاء الْمُفْتَخِرِينَ بِآبَائِهِمْ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّة بمن يفتخرون اليوم بالمشركين من الفراعنة أو الأشوريين أو البابليين أو غيرهم، يزعمون أنهم أجدادهم.

إن أجدادنا الذين يحق لنا أن نفخر بهم هم تلاميذ محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم من أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ والحسن والحسين ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم، ومن سار على نهجهم من التابعين وتابعيهم بإحسان.

ص: 629

وإذا كان الإسلام في العهد النبوي قد دفن النعرات الجاهلية، والعصبيات الدموية، والشيطان قد يئس أن يُعبد في ذلك العهد، لكننا نخشى تجدد آماله في هذه العصور المتأخرة. تتجدد آماله في الفرقة والتمزيق.

فالعالم الإسلامي اليوم تتوزعه عشراتُ القوميات، وتمشي جماهيره تحت عشرات الرايات، وهي قوميات ذات توجهات مقيتة. ما جلبت لأهلها إلا الذل والصغار، والفرقة والتمزق.

فهل يستيقِن المسلمون اليومَ أنّ التفرُّقَ والتشرذُم الحاصِل والذلّ والهوان الواقع إنما هو بسببِ تلك القوميّات العرقيّة والأحزاب الفكريّة والمشارِب المتعدّدة؟! فكم جرّت على الأمّة الإسلاميّة من ويلاتٍ وويلات، ودمّرت مصالحَ ومقدَّرات، ونبيّ الأمّة صلى الله عليه وآله وسلم يقول:«مَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ» (رواه مسلم).وفي لفظ آخر: «وَمَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِلْعَصَبَةِ وَيُقَاتِلُ لِلْعَصَبَةِ فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِي» (رواه مسلم).

قوْله صلى الله عليه وآله وسلم: (وَمَنْ قَاتَلَ تَحْت رَايَة عِمِّيَّة) هِيَ الْأَمْر الْأَعْمَى لَا يَسْتَبِين وَجْهه كَتَقَاتُلِ الْقَوْم لِلْعَصَبِيَّةِ.

قَوْله صلى الله عليه وآله وسلم: (يَغْضَب لِعَصَبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَة أَوْ يَنْصُر عَصَبَة) مَعْنَاهُ: إِنَّمَا يُقَاتِل عَصَبِيَّة لِقَوْمِهِ وَهَوَاهُ.

• الوصية بالتمسك بالكتاب والسنة:

أيّها المسلمون، وتُختَم كلمات الوداع من نبيّ الأمّة صلى الله عليه وآله وسلم وهو يفارقها بوَصيّة تضمَن لها السعادة والرفعةَ والنصرَ والعزّ، إنها وصيّة الالتزام بالتمسك بالوحيين والاعتصام بالهديين، قال صلى الله عليه وآله وسلم في خطبة الوداع:«وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابُ اللهِ» (رواه مسلم).

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْضَ» (1). (صحيح رواه الحاكم).

(1) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي حَجَّتِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ يَخْطُبُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي» (صحيح رواه الترمذي).

قَوْلُهُ: (فِي حَجَّتِهِ) أَيْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.

(إِنِّي تَرَكْت فِيكُمْ مَنْ إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ) أَيْ اِقْتَدَيْتُمْ بِهِ وَاتَّبَعْتُمُوهُ.

(كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي) الْمُرَادُ بِالْأَخْذِ بِهِمْ التَّمَسُّكُ بِمَحَبَّتِهِمْ وَمُحَافَظَةُ حُرْمَتِهِمْ وَالْعَمَلُ بِرِوَايَتِهِمْ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى مَقَالَتِهِمْ، وَهُوَ لَا يُنَافِي أَخْذَ السُّنَّةِ مِنْ غَيْرِهِمْ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .

والتَّمَسُّكُ بِالْكِتَابِ الْعَمَلُ بِمَا فِيهِ وَهُوَ الِائْتِمَارُ بِأَوَامِرِ اللهِ وَالِانْتِهَاءُ عَنْ نَوَاهِيهِ، وَمَعْنَى التَّمَسُّكُ بِالْعِتْرَةِ مَحَبَّتُهُمْ وَالِاهْتِدَاءُ بِهَدْيِهِمْ وَسِيرَتِهِمْ، إِذَا لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِلدِّينِ.

أما الكتاب؛ فلأنه معدن العلوم الدينية والحكم الشرعية، وأما العترة فلأن العنصر إذا طاب أعان على فهم الدين؛ فطيب العنصر يؤدي إلى حسن الأخلاق، ومحاسنها تؤدي إلى صفاء القلب ونزاهته وطهارته.

والمراد بعِتْرته هنا العلماء العاملون إذ هم الذين لا يفارقون القرآن، أما نحو جاهل وعالم مخلط فأجنبي من هذا المقام، وإنما ينظر للأصل والعنصر عند التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل، فإذا كان العلم النافع في غير عنصرهم لزمنا إتباعه كائنًا ما كان.

وعن زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ تقَالَ: قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَوْمًا فِينَا خَطِيبًا بِمَاءٍ يُدْعَى خُمًّا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَوَعَظَ وَذَكَّرَ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتَابِ اللهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ» فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللهِ وَرَغَّبَ فِيهِ ثُمَّ قَالَ: «وَأَهْلُ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمْ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمْ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمْ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي» . (رواه مسلم).

وعَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ ب قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي: أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنْ الْآخَرِ كِتَابُ اللهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا» (صحيح رواه الترمذي).

(أَحَدُهُمَا) وَهُوَ كِتَابُ اللهِ (أَعْظَمُ مِنْ الْآخِرِ) وَهُوَ الْعِتْرَةُ.

(كِتَابُ اللهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ) أَيْ يُوصِلُ الْعَبْدَ إِلَى رَبِّهِ وَيُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى قُرْبِهِ.

=

= (وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي) أَيْ وَالثَّانِي عِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي.

فرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يُوصِي الْأُمَّةَ بِحُسْنِ الْمُخَالَقَةِ مَعَهُمَا وَإِيثَارِ حَقِّهِمَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ كَمَا يُوصِي الْأَبُ الْمُشْفِقُ النَّاسَ فِي حَقِّ أَوْلَادِهِ.

(وَلَنْ يَتَفَرَّقَا) أَيْ كِتَابُ اللهِ وَعِتْرَتِي فِي مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ، (حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ) أَيْ الْكَوْثَرَ يَعْنِي فَيَشْكُرَانِكُمْ صَنِيعَكُمْ عِنْدِي.

(فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِّي) أَيْ كَيْفَ تَكُونُونَ بَعْدِي خُلَفَاءَ أَيْ عَامِلِينَ مُتَمَسِّكِينَ بِهِمَا.

(انظر: (فيض القدير شرح الجامع الصغير) للمناوي، و (تحفة الأحوذي) للمباركفوري).

ص: 630

تمسُّكٌ بهما في شتَّى الجوانب، واعتصامٌ بهما في جميع الأحوال، عقيدةً وعملًا، شريعةً وتحاكمًا.

ألا فليكن التنظيمُ في حياة المسلمين على وفقهما، وليُنهَج في ديار المسلمين الإصلاحُ في ضوء مذهبهما، نظامُ حياةٍ كامل، ودستور إصلاح شامِل، فالتأريخ الإسلامي في المدّ والجزر والنصر والهزيمة والقوّة والضعف برهانٌ ساطع على أن العزّةَ والسؤدَد والرخاءَ والازدهار يكون للمسلمين يومَ يكون أمرهم على الوحيين وشؤونُهم وفقَ الهديين.

قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة:48 - 50).

يقول تعالى: {وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} الذي هو القرآن العظيم، أفضل الكتب وأجَلّها.

ص: 632

{بِالْحَقِّ} أي: إنزالا بالحق، ومشتملا على الحق في أخباره وأوامره ونواهيه. {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} لأنه شهد لها ووافقها، وطابقت أخباره أخبارها، وشرائعه الكبار شرائعها، وأخبرت به، فصار وجوده مصداقا لخبرها.

{وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} أي: مشتملا على ما اشتملت عليه الكتب السابقة، وزيادة في المطالب الإلهية والأخلاق النفسية. فهو الكتاب الذي تتبع كل حق جاءت به الكتب فأمر به، وحث عليه، وأكثر من الطرق الموصلة إليه.

وهو الكتاب الذي فيه نبأ السابقين واللاحقين، وهو الكتاب الذي فيه الحكم والحكمة، والأحكام الذي عرضت عليه الكتب السابقة، فما شهد له بالصدق فهو المقبول، وما شهد له بالرد فهو مردود، قد دخله التحريف والتبديل، وإلا فلو كان من عند الله، لم يخالفه.

{فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللهُ} من الحكم الشرعي الذي أنزله الله عليك. {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} أي: لا تجعل اتباع أهوائهم الفاسدة المعارضة للحق بدلا عما جاءك من الحق فتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.

{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} أي: أفيطلبون بتوليهم وإعراضهم عنك حكم الجاهلية، وهو كل حكم خالف ما أنزل الله على رسوله. فلا ثَمَّ إلا حكم الله ورسوله أو حكم الجاهلية. فمن أعرض عن الأول ابتلي بالثاني المبني على الجهل والظلم والغي، ولهذا أضافه الله للجاهلية، وأما حكم الله تعالى فمبني على العلم، والعدل والقسط، والنور والهدى.

{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فالموقن هو الذي يعرف الفرق بين الحُكْمين ويميز ـ بإيقانه ـ ما في حكم الله من الحسن والبهاء، وأنه يتعين ـ عقلًا وشرعًا ـ إتباعه. واليقين، هو العلم التام الموجب للعمل.

تتناول هذه الآيات قضية الحكم والشريعة والتقاضي ـ ومن ورائها قضية الألوهية والتوحيد والإيمان ـ والقضية في جوهرها تتلخص في الإجابة على هذا

ص: 633

السؤال: أيكون الحكم والشريعة والتقاضي حسب مواثيق الله وعقوده وشرائعه التي كتبها على الرسل، وعلى من يتولون الأمر بعدهم ليسيروا على هداهم؟ أم يكون ذلك كله للأهواء المتقلبة، والمصالح التي لا ترجع إلى أصل ثابت من شرع الله، والعرف الذي يصطلح عليه جيل أو أجيال؟

وبتعبير آخر: أتكون الألوهية والربوبية والقوامة لله في الأرض وفي حياة الناس؟ أم تكون كلها أو بعضها لأحد من خلقه يشرع للناس ما لم يأذن به الله؟

الله عز وجل يقول: إنه هو الله لا إله إلا هو. وإن شرائعه التي سنَّها للناس بمقتضى ألوهيته لهم وعبوديتهم له، وعاهدهم عليها وعلى القيام بها ـ هي التي يجب أن تحكم هذه الأرض، وهي التي يجب أن يتحاكم إليها الناس وهي التي يجب أن يقضي بها الأنبياء ومن بعدهم من الحكام.

إنه لا هوادة في هذا الأمر، ولا ترخص في شيء منه، ولا انحراف عن جانب ولو صغير. وإنه لا عبرة بما تواضع عليه جيل، أو لما اصطلح عليه قبيل، مما لم يأذن به الله في قليل ولا كثير!

إن المسألة مسألة إيمان أو كفر؛ أو إسلام أو جاهلية؛ وشرع أو هوى.

وليس لأحد من عباده أن يقول: إنني أرفض شريعة الله، أو إنني أبْصَرُ بمصلحة الخلق من الله. فإن قالها ـ بلسانه أو بفعله ـ فقد خرج من نطاق الإيمان.

إن الاعتبار الأول في هذه القضية هو أنها قضية الإقرار بألوهية الله وربوبيته وقوامته على البشر ـ بلا شريك ـ أو رفض هذا الإقرار .. ومن هنا هي قضية كفر أو إيمان، وجاهلية أو إسلام.

ومعنى الاستسلام لشريعة الله هو ـ قبل كل شيء ـ الاعتراف بألوهيته وربوبيته وقوامته وسلطانه. ومعنى عدم الاستسلام لهذه الشريعة، واتخاذ شريعة غيرها في أية جزئية من جزئيات الحياة، هو ـ قبل كل شيء ـ رفض الاعتراف بألوهية الله وربوبيته وقوامته وسلطانه.

ص: 634

ويستوي أن يكون الاستسلام أو الرفض باللسان أو بالفعل دون القول.

فما يملك إنسان أن يدعي أن شريعة أحد من البشر تفضل أو تماثل شريعة الله، في أية حالة أو في أي طور من أطوار الجماعة الإنسانية .. ثم يدعي ـ بعد ذلك ـ أنه مؤمن بالله، وأنه من المسلمين .. إنه يدعي أنه أعلم من الله بحال الناس؛ وأحكم من الله في تدبير أمرهم. أو يدعي أن أحوالًا وحاجات جرت في حياة الناس، وكان الله عز وجل غير عالم بها وهو يشرع شريعته؛ أو كان عالمًا بها ولكنه لم يشرع لها! ولا تستقيم مع هذا الادعاء دعوى الإيمان والإسلام. مهما قالها باللسان!

إن شريعة الله تمثل منهجًا شاملًا متكاملًا للحياة البشرية؛ يتناول بالتنظيم والتوجيه والتطوير كل جوانب الحياة الإنسانية؛ في جميع حالاتها، وفي كل صورها وأشكالها.

وهو منهج قائم على العلم المطلق بحقيقة الكائن الإنساني، والحاجات الإنسانية، وبحقيقة الكون الذي يعيش فيه الإنسان؛ وبطبيعة النواميس التي تحكمه وتحكم الكينونة الإنسانية.

وهو منهج قائم على العدل المطلق .. أولًا .. لأن الله يعلم حق العلم بم يتحقق العدل المطلق وكيف يتحقق .. وثانيًا .. لأنه ـ سبحانه ـ رب الجميع؛ فهو الذي يملك أن يعدل بين الجميع؛ وأن يجيء منهجه وشرعه مبرأ من الهوى والميل والضعف.

كما أنه مُبَرَّأ من الجهل والقصور والغلو والتفريط، الأمر الذي لا يمكن أن يتوافر في أي منهج أو في أي شرع من صنع الإنسان، ذي الشهوات والميول، والضعف والهوى ـ فوق ما به من الجهل والقصور ـ سواء كان المشَرِّع فردًا، أو طبقة، أو أمة، أو جيلًا من أجيال البشر .. فلكل حالة من هذه الحالات أهواؤها وشهواتها وميولها ورغباتها؛ فوق أن لها جهلها وقصورها وعجزها عن الرؤية الكاملة لجوانب الأمر كله حتى في الحالة الواحدة في الجيل الواحد.

ص: 635

إنه المنهج الوحيد الذي يتحرر فيه الإنسان من العبودية للإنسان. ففي كل منهج ـ غير المنهج الإسلامي ـ يتعبد الناسُ الناسَ. ويعبد الناسُ الناسَ. وفي المنهج الإسلامي ـ وحده ـ يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده بلا شريك.

والإسلام حين يجعل الشريعة لله وحده، يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ويعلن تحرير الإنسان. بل يعلن «ميلاد الإنسان» .. فالإنسان لا يولد، ولا يوجد، إلا حيث تتحرر رقبته من حكم إنسان مثله؛ وإلا حين يتساوى في هذا الشأن مع الناس جميعًا أمام رب الناس.

ومن هنا خطورة هذه القضية في حياة بني الإنسان، وفي نظام الكون كله:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} (المؤمنون:71). فالحكم بغير ما أنزل الله معناه الشر والفساد والخروج في النهاية عن نطاق الإيمان .. بنص القرآن.

• البركة في تطبيق شرع الله عز وجل:

عباد الله: ما تقولون في مطر يرسله الله على العباد والبلاد، فيسقي أرضهم وينبت الله به زرعهم، ويدرّ به ضرعهم، ويلطف به هواءهم، ويكثر ماؤهم، وتنشرح باخضرار الأرض صدورهم، وتقضى لهم حوائجهم؛ فهم في رغد وسعد ونعمة ما بها نقمة ثم يدوم ذلك بهم أربعون صباحًا، إنها النعمة الكبرى تستحق من العباد إجمال الشكر لله عز وجل.

إن حدًّا واحدا يعمل به في الأرض خير من ذلك كله؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «حَدٌّ يُعْمَلُ بِهِ فِي الْأَرْضِ خَيْرٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا» (حسن رواه ابن ماجه).

وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي إِقَامَتهَا زَجْرًا لِلْخَلْقِ عَنْ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوب، وَسَبَبًا لِفَتْحِ أَبْوَاب السَّمَاء بِالْمَطَرِ، وَفِي الْقُعُود عَنْهَا وَالتَّهَاوُن بِهَا أَنَّهُمَا كَأَنَّهُمْ فِي الْمَعَاصِي، وَذَلِكَ سَبَب لِأَخْذِهِمْ بِالسِّنِينَ وَالْجَدْب وَإِهْلَاك الْخَلْق.

ص: 636

إن كل ما يمكن تصوره من رخاء وسعة عيش ورغد كل ذلك لا يعدل في نظر المؤمن الحق تطبيق حد من حدود الله عز وجل.

إن من أصول العقيدة الإسلامية تطبيق حدود الله في أرض الله، والحكم بشرع الله في عباد الله؛ الخلق خلقه، والأرض أرضه، والملك ملكه، والحكم حكمه، والشرع شرعه، فعباد الله في أرض الله يجب أن يُحكَموا بشرع الله مهما شغب المشاغبون أو لبس الملبسون.

إن الله عز وجل هو الذي خلقنا وهو الذي يعلم ما يصلحنا ويصلح لنا: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك:14)، {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ} (البقرة:140)، {وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة:216).

• مشروعية الأضحية وبعض أحكامها:

عبادَ الله، الأضحيةُ مشروعةٌ بأدلّة الشريعة المتنوّعة، فضلُها عظيم وأجرُها كبير. تتأكّد مشروعيتُها لمن كان غنيًّا وعلى ثمنِها مقتدِرًا، روى ابن ماجه بسند حسَن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ:«مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا» .

(فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا) لَيْسَ الْمُرَاد أَنَّ صِحَّة الصَّلَاة تَتَوَقَّف عَلَى الْأُضْحِيَّة بَلْ هُوَ عُقُوبَة لَهُ بِالطَّرْدِ عَنْ مَجَالِس الْأَخْيَار، وَهَذَا قَدْ يُفِيد الْوُجُوب ـ وقال به بعض العلماء ـ.

والشاةُ تجزئ عن الرجُل وأهلِ بيته من الأمواتِ والأحياء.

ومَن كان عنده وصايا وجب عليه تنفيذُها سواءً بسواءً حَسبَ المنصوص.

ولا يجزئ للأضحية إلاّ ما كان سليمًا من العيوب، فلا تجزئ العوراءُ البيّنُ عوَرها، وهي ما نتأت عينُها أو انخسفت، ولا تجزئ العرجاءُ البيّن ضلعُها، وهي التي لا تستطيع المشيَ مع السَّليمة، ولا تجزئ المريضةُ البيِّنُ مرضُها بحيث يظهرُ أثرٌ في أحوالها أو فساد لحمها، والعجفاء التي لا تُنقي، وهي الهزيلة التي لا مُخَّ فيها، ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. (صحيح رواه الترمذي وأبو داود).

ص: 637

وقال أهل العلم: ويلحق بهذه العيوب ما كان مثلَها أو أشدّ.

ولا بدّ أن يكتمل السنُّ المعتبَر في الأضاحي؛ ففي الإبل ما تمّ له خمسُ سنين، وفي البقر ما تمّ له سنتان، وفي المعز سنةٌ، وفي الضأن نصفُها.

ووقتُ الأضحية المعتبرَ من بعد صلاةِ العيد، والأفضلُ بعد انتهاء الخطبة، فقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم «أنّه صَلّى ثُمَّ خَطَبَ ثُمَّ نَحَرَ» (رواه البخاري ومسلم).

ويستمرّ الذبحُ إلى آخر أيّام التشريق، يوم العيد وثلاثة بعده؛ فكُلوا وتصدّقوا واهدوا.

والسنّة ـ أيها المسلمون ـ أن يذبحَ المسلم الأضحيةَ إن كان محسِنًا للذبح، وإلاّ فليشهَدْ ذبحَها.

واعلموا ـ عباد الله ـ أن التكبير المقيد بعد الصلوات ـ لغير الحاج يبدأ من فجر يوم عرفة إلى آخر عصر أيام التشريق، وأما الحاج فيبدأ من ظهر يوم النحر، وأما التكبير المطلق فيكون في عشر ذي الحجة.

• من حِكَم وآداب العيد:

إخوةَ الإيمان، إن الأعياد من جملة الشرائع والمناهج يقول الله عز وجل:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (المائدة: 48)، ويقول عز وجل:{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} (الحج: 67) أي: عيدًا يختصون به.

روى ابن جرير في تفسيره عن ابن عباس قال: (منسكًا أي: عيدًا) فيكون معنى الآية أن الله جعل لكل أمة عيدًا شرعيًا أو عيدًا قدريًا.

وعيد الأضحى وعيد الفطر يكونان بعد ركن من أركان الإسلام، فعيد الأضحى يكون بعد عبادة الحج، وعيد الفطر يكون بعد عبادة الصوم.

عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فَقَالَ: «مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟» ، قَالُوا:«كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ» ،

ص: 638

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ» (صحيح رواه أبو داود).

فالعيد شعيرة من شعائر الإسلام ومظهر من أجَلّ مظاهره، تهاون به بعض الناس وقدموا الأعياد المحدثة عليه. فترى من يستعد لأعياد الميلاد، وعيد الأم، وشم النسيم، والغطاس وغيرها، ويسعد هو وأطفاله بقدومها ويصرف الأموال لإحيائها. أما أعياد الإسلام فلا قيمة لها بل ربما تمر وهو مُعرِضٌ عنها غير ملتفت إليها. قال تعالى:{ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج:32)، فلا يجوز لمسلم أن يحتفل بأعياد الكفار أو بالأعياد المبتدعة.

في الأعياد تُظهر الأمُم زينتَها، وتعلن سرورَها، وتسرِّي عن نفسها ما يصيبها من مشاقّ الحياة، ومِن هنا شُرع للمسلمين عيدُ الفطر والأضحى، ينعَم فيهما المسلمون، ويبتهجون لهوًا طيِّبًا مباحًا، وتعبُّدًا صالحًا حميدًا، قال صلى الله عليه وآله وسلم:«أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ لِلهِ» (رواه مسلم).

ومن أعياد المسلمين يوم الجمعة فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ: «إِنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَوْمُ عِيدٍ فَلَا تَجْعَلُوا يَوْمَ عِيدِكُمْ يَوْمَ صِيَامِكُمْ إِلَّا أَنْ تَصُومُوا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ» (إسناده حسن رواه الإمام أحمد).

ومن حِكَم العيد ومنافعه العظيمة شهود جمع المسلمين لصلاة العيد، ومشاركتهم في بركة الدعاء والخير المتنزل على جمعهم المبارك، والانضواء تحت ظلال الرحمة التي تغشى المصلين، والبروز لرب العالمين، إظهارًا لفقر العباد لربهم، وحاجتهم لمولاهم عز وجل، وتعرضًا لنفحات الله وهباته التي لا تُحد ولا تُعد، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ:«أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَنْ نُخْرِجَهُنَّ فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى: الْعَوَاتِقَ، وَالْحُيَّضَ، وَذَوَاتِ الْخُدُورِ، فَأَمَّا الْحُيَّضُ فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلَاةَ وَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ» (رواه البخاري ومسلم).

فتشهد النساء العيد غير متبرجات وغير متعطرات.

ص: 639

سَابِقُوا:

وعيد الأضحى جعله الله يوم العاشر من ذي الحجة بعد الوقوف بعرفة ركنِ الحج الأعظم، وشرع في هذا العيد أعمالًا جليلة صالحة يتقرب بها المسلمون إلى الله تعالى، وسماه الله يوم الحج الأكبر؛ لأن أكثر أعمال الحج تكون في يوم هذا العيد، والله عز وجل برحمته وحكمته وعلمه وقدرته شرع الأعمال الصالحة والقربات الجليلة، ودعا الناس كلهم إلى فعلها قربةً إلى الله وزلفى عنده كما قال تعالى:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (الحديد:21)، وقال تعالى:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} (المائدة:48).

فإذا لم يُمكن أن يعمل المسلم بعض الطاعات لأجل اختصاصها بمكان أو بزمان شرع الله له طاعات من جنس ونوع تلك الطاعات المختصة بالمكان أو الزمان، فيوم عرفة عيد لحجاج بيت الله الحرام، واجتماع لهم وتضرع لله عز وجل، فمن لم يحج شرع الله له صلاة عيد الأضحى في جمع المسلمين، وشرع له صيام عرفة الذي يكفر السنة الماضية والآتية، وقربانُ الحاج وذبائحهم شرع الله مقابل ذلك أضحية المقيم، فأبواب الخيرات كثيرة ميسرة، وطرق البر ممهَّدة واسعة، ليستكثر المسلم من أنواع الطاعات لحياته الأبدية بقدر ما يوفقه الله تعالى.

• التواصل بين المسلمين من حكم العيد ومنافعه العظمى:

أيها المسلمون، وإن من حكم العيد ومنافعه العظمى، التواصل بين المسلمين، والتزاور، وتقارب القلوب، وارتفاع الوحشة، وانطفاء نار الأحقاد والضغائن والحسد.

فاقتدار الإسلام على جمع المسلمين في مكان واحد لأداء صلاة العيد آية على اقتداره على أن يجمعهم على الحق، ويؤلف بين قلوبهم على التقوى، فلا شيء يؤلف بين المسلمين سوى الحق؛ لأنه واحد، ولا يفرق بين القلوب إلا الأهواء والبدع لكثرتها، فالتراحم والتعاون والتعاطف صفة المؤمنين فيما بينهم، عَنْ النّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ

ص: 640

- رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» (رواه مسلم).

وعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قال: جَاءَ شَيْخٌ يُرِيدُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم، فَأَبْطَأَ الْقَوْمُ عَنْهُ أَنْ يُوَسِّعُوا لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم:«لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا» (صحيح رواه الترمذي).

والمحبة بين المسلمين والتواد غاية عظمى من غايات الإسلام، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال َ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ: أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» (رواه مسلم).

فجاهد نفسك ـ أيها المسلم ـ لتكون سليمَ الصدر للمسلمين، فسلامة الصدر نعيم الدنيا، وراحة البدن ورضوان الله في الأخرى، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم:أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ» .

قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟

قَالَ: «هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَدَ» (صحيح رواه ابن ماجه).

• يوم العيد يوم فرح وسرور ولكن:

إن يوم العيد يوم فرح وسرور لمن طابت سريرته، وخلصت لله نيته.

واعلموا أيها المسلمون، أنه ليس السعيد من تزين وتجمل للعيد، فلَبِسَ الجديد، ولا من خدَمَتْهُ الدنيا وأتتْه على ما يريد، إنما العيد لمن خاف يوم الوعيد واتقى ذا العرش المجيد (1). وسكب الدمع تائبًا رجاء يوم المزيد. والسعيد من فاز بتقوى الله تعالى،

(1) بل من السنة لبس الجديد يوم العيد فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَلْبَسُ يومَ العِيدِ بُرْدَةً حَمْرَاءَ» . (رواه الطبراني وإسناده جيد)، وإنما المقصود أن العيد الحقيقي يوم القيامة لمن التزم بشرع الله عز وجل.

ص: 641

وكتب له النجاة من نار حرها شديد، وقعرها بعيد، وطعام أهلها الزقوم والضريع، وشرابهم الحميم والصديد، وفاز بجنة الخلد التي لا ينقص نعيمها ولا يبيد. فالحذَر الحذَر أن تكون الأعيادُ موسمًا يُعَبُّ فيه من اللهو عَبًّا، بلا تحرُّز من حرام أو تباعُد عن باطل، فذلك ينافي تعاليمَ الإسلام، ويضادُّ مقاصدَه من الأعياد وغيرها.

• عيد الأضحى يربطنا بتاريخنا المجيد:

أيها المسلمون، عيد الأضحى ترتبط فيه أمة الإسلام بتاريخها المجيد في ماضيها المشرق السحيق، الأمة المسلمة عميقة جذور الحق في تاريخ الكون، متصلةُ الأسباب والوشائج عبر الزمان القديم، منذ وطئت قدم أبينا آدم عليه السلام الأرض، وتنزل كلام الله على الأنبياء عليهم السلام عبر العصور الخالية، قال الله تعالى:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء:92)، وختم الله الرسل عليهم السلام بسيد البشر محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي أمره الله بإتباع ملة إبراهيم عليه السلام، بقوله:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (النحل:123).

فكانت شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ناسخة لجميع الشرائع، فلا يقبل الله إلا الإسلام دينًا، ولا يقبل غيره، قال الله تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:85).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّار» (رواه مسلم). ِ

فأنتم ـ معشر المسلمين ـ على الإرث الحق لخليلين نبيين عظيمين عليهما الصلاة والسلام، لما شرع الله لكم في هذا اليوم من الحق والدين القيم، ملة الخليل إبراهيم عليه السلام، ودين الخليل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ص: 642