الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
43 - عاشوراء وشهر الله المحرّم
• عظموا ما عظّم الله:
إن شهر الله المحرّم شهر عظيم مبارك وهو أول شهور السنّة الهجرية وأحد الأشهر الحُرُم التي قال الله فيها: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} الآية (36) سورة التوبة
وقال النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: « .. السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ» (رواه البخاري).
والمحرم سمي بذلك لكونه شهرًا محرما وتأكيدا لتحريمه.
وقوله تعالى: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} أي في هذه الأشهر المحرمة لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها. وعن ابن عباس في قوله تعالى: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} في كلهن ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حراما وعظّم حرماتهن وجعل الذنب فيهن أعظم والعمل الصالح والأجر أعظم.
وقال قتادة في قوله عز وجل {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} : «إن الظّلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرًا من الظلم فيما سواها. وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا ولكن الله يعظّم من أمره ما يشاء» .
• فضل الإكثار من صيام النافلة في شهر محرّم:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ» (رواه مسلم).
(شَهْرُ اللهِ) إضافة الشّهر إلى الله إضافة تعظيم، قال القاري: الظاهر أن المراد جميع شهر المحرّم. ولكن قد ثبت أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يصم شهرًا كاملا قطّ غير رمضان فيُحمل هذا الحديث على الترغيب في الإكثار من الصّيام في شهر محرم لا صومه كله.
وقد ثبت إكثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصوم في شعبان ولعلّ لم يوحَ إليه بفضل المحرّم إلا في آخر الحياة قبل التمكّن من صومه.
• عاشوراء في التاريخ:
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه مَا قَالَ قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ:«مَا هَذَا؟» قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ:«فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ» فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. (رواه البخاري).
وفي رواية للبخاري أيضا: «فقال لأصحابه: أنْتُمْ أحَقّ بِمُوسَى مِنْهُمْ فَصُومُوا» . أي نحنُ أثبت وأقرب لمُتابعة مُوسى صلى الله عليه وآله وسلم منهم، فإنّا مُوافقُون لهُ في أُصُول الدّين، ومُصدّقُون لكتابه، وهم مُخالفُون لهُما بالتّغيير والتّحريف.
ومن العبر التي نأخذها من هذا الحديث أن رابطة الإيمان تتخطى حواجز الزمان والمكان فالمسلمون شرع لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم صيام هذا اليوم شكرًا لله عز وجل على نجاة موسى عليه السلام وأتباعه المؤمنين.
ومن العبر أن أيام النصر لا تعاد ذكراها بالمعاصي والكفران بل بالشكران لله صاحب الفضل أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتخذ يوم عاشوراء عيدًا بل إنه صامه وأمر بصيامه ولو كان عيدًا لما صامه لأن الأعياد لا يجوز صيامها ، بل صامه شكرًا لله على إنجائه موسى ومن معه وإهلاكه فرعون وجنوده.
ولا يجوز إحداث عيد لم يشرعه الله أو رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فالأعياد كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ: «شريعة من الشرائع فيجب فيها الاتباع، لا الابتداع» (اقتضاء الصراط المستقيم ص266).
• كان صيام عاشوراء معروفًا في الجاهلية:
إن صيام عاشوراء كان معروفًا حتى على أيّام الجاهلية قبل البعثة النبويّة فقد ثبت عن عائشة رضي الله عنهما قالت: «إن أهل الجاهلية كانوا يصومونه» (رواه مسلم) ولعل قريشًا كانوا يستندون في صومه إلى شرع من مضى كإبراهيم عليه السلام.
وقد ثبت أيضا أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصومه بمكة قبل أن يهاجر إلى المدينة فلما هاجر إلى المدينة وجد اليهود يحتفلون به فسألهم عن السبب فأجابوه كما تقدّم في الحديث وأمر بمخالفتهم في اتّخاذه عيدًا والظاهر أن الباعث على الأمر بصومه محبة مخالفة اليهود حتى يصام ما يفطرون فيه لأن يوم العيد لا يصام.
• كان صيام عاشوراء من التدرّج الحكيم في تشريع الصيام وفرضه:
فعن عَائِشَةَ رضي الله عنه قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَأْمُرُ بِصِيَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ رَمَضَانُ فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ» (رواه مسلم).
وعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ مَنْ كَانَ لَمْ يَصُمْ فَلْيَصُمْ وَمَنْ كَانَ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ صِيَامَهُ إِلَى اللَّيْلِ (رواه مسلم).
وعَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ الَّتِي حَوْلَ الْمَدِينَةِ: «مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ» .
فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَ نَصُومُهُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا الصِّغَارَ مِنْهُمْ إِنْ شَاءَ اللهُ وَنَذْهَبُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَنَجْعَلُ لَهُمْ اللُّعْبَةَ مِنْ الْعِهْنِ فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهَا إِيَّاهُ عِنْدَ الْإِفْطَارِ (رواه مسلم).
وعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَأْمُرُنَا بِصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَيَحُثُّنَا عَلَيْهِ وَيَتَعَاهَدُنَا عِنْدَهُ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ لَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا وَلَمْ يَتَعَاهَدْنَا عِنْدَهُ» (رواه مسلم).
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه «
…
أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَجَعَلَ يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصَامَ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ رَبِيعِ الْأَوَّلِ إِلَى رَمَضَانَ، مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَصَامَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ ثُمَّ إِنَّ اللهَ عز وجل فَرَضَ عَلَيْهِ الصِّيَامَ فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}
…
» (صحيح رواه الإمام أحمد).
فانتقل الفرض من صيام عاشوراء إلى صيام رمضان فتُرِك وجوب صيام عاشوراء، أما استحبابه فباقٍ.
• فضل صيام عاشوراء:
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه مَا قَالَ: «مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلّا هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ» (رواه البخاري).
ومعنى «يتحرى» أي يقصد صومه لتحصيل ثوابه والرغبة فيه.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، إنّي أحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ التِي قَبْلَهُ» (رواه مسلم)، وهذا من فضل الله علينا أن أعطانا بصيام يوم واحد تكفير ذنوب سنة كاملة والله ذو الفضل العظيم.
• أي يوم هو عاشوراء وأي يوم تاسوعاء:
عَاشُورَاءُ هُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ الْمُحَرَّمِ وَتَاسُوعَاءُ هُوَ التَّاسِعُ مِنْهُ.
• استحباب صيام تاسوعاء مع عاشوراء:
عن عَبْدِ اللهِِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ» قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم. (رواه مسلم).
يستحب صوم التاسع والعاشر جميعا؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صام العاشر ونوى صيام التاسع. وعلى هذا فصيام عاشوراء على مراتب أدناها أن يصام وحده وفوقه أن يصام التاسع معه وكلّما كثر الصّيام في محرّم كان أفضل وأطيب.
• الحكمة من استحباب صيام تاسوعاء:
ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أن الحِكْمَةِ في اسْتِحْبَابِ صَوْمِ تَاسُوعَاءَ مُخَالَفَةُ الْيَهُودِ فِي اقْتِصَارِهِمْ عَلَى الْعَاشِرِ.
• حكم إفراد عاشوراء بالصيام:
قال شيخ الإسلام: صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ وَلا يُكْرَهُ إفْرَادُهُ بِالصَّوْمِ.
• صيام عاشوراء ماذا يكفّر؟
يَغْفِرُ ذُنُوبَهُ كُلَّهَا إلا الْكَبَائِرَ. فَإِنْ وَجَدَ مَا يُكَفِّرُهُ مِنْ الصَّغَائِرِ كَفَّرَهُ وَإِنْ لَمْ يُصَادِفْ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً كُتِبَتْ بِهِ حَسَنَاتٌ وَرُفِعَتْ لَهُ بِهِ دَرَجَاتٌ، وَإِنْ صَادَفَ كَبِيرَةً أَوْ كَبَائِرَ وَلَمْ يُصَادِفْ صَغَائِرَ رَجَوْنَا أَنْ تُخَفِّفَ مِنْ الْكَبَائِرِ.
• عدم الاغترار بثواب الصيام:
يَغْتَرُّ بَعْضُ الْمَغْرُورِينَ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى مِثْلِ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَوْ يَوْمِ عَرَفَةَ حَتَّى يَقُولَ بَعْضُهُمْ: صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ ذُنُوبَ الْعَامِ كُلِّهَا وَيَبْقَى صَوْمُ عَرَفَةَ زِيَادَةٌ فِي الْأَجْرِ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رحمه الله: «لَمْ يَدْرِ هَذَا الْمُغْتَرُّ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ مِنْ صِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَهِيَ إنَّمَا تُكَفِّرُ مَا بَيْنَهُمَا إذَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ فَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ لَا يَقْوَيَانِ عَلَى تَكْفِيرِ الصَّغَائِرِ إلَّا مَعَ انْضِمَامِ تَرْكِ الْكَبَائِرِ إلَيْهَا فَيَقْوَى مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ عَلَى تَكْفِيرِ الصَّغَائِرِ.
وَمِنْ الْمَغْرُورِينَ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ طَاعَاتِهِ أَكْثَرُ مِنْ مَعَاصِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحَاسِبُ نَفْسَهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ وَلَا يَتَفَقَّدُ ذُنُوبَهُ وَإِذَا عَمِلَ طَاعَةً حَفِظَهَا وَاعْتَدَّ بِهَا، كَاَلَّذِي يَسْتَغْفِرُ اللهَ بِلِسَانِهِ أَوْ يُسَبِّحُ اللهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ ثُمَّ يَغْتَابُ الْمُسْلِمِينَ وَيُمَزِّقُ أَعْرَاضَهُمْ وَيَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَرْضَاهُ اللهُ طُولَ نَهَارِهِ، فَهَذَا أَبَدًا يَتَأَمَّلُ فِي فَضَائِلِ التَّسْبِيحَاتِ وَالتَّهْلِيلَاتِ وَلَا
يَلْتَفِتُ إلَى مَا وَرَدَ مِنْ عُقُوبَةِ الْمُغْتَابِينَ وَالْكَذَّابِينَ وَالنَّمَّامِينَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ وَذَلِكَ مَحْضُ غُرُورٍ».
• صيام عاشوراء وعليه قضاء من رمضان:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّطَوُّعِ بِالصَّوْمِ قَبْلَ قَضَاءِ رَمَضَانَ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى جَوَازِ التَّطَوُّعِ بِالصَّوْمِ قَبْلَ قَضَاءِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ لِكَوْنِ الْقَضَاءِ لا يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى الْجَوَازِ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ تَأْخِيرِ الْوَاجِبِ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى حُرْمَةِ التَّطَوُّعِ بِالصَّوْمِ قَبْلَ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَعَدَمِ صِحَّةِ التَّطَوُّعِ حِينَئِذٍ وَلَوْ اتَّسَعَ الْوَقْتُ لِلْقَضَاءِ وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَبْدَأَ بِالْفَرْضِ حَتَّى يُقْضِيَهُ.
فعلى المسلم أن يبادر إلى القضاء بعد رمضان ليتمكن من صيام عرفة وعاشوراء دون حرج.
• بدع عاشوراء:
1ـ بدعة الحزن واتخاذ يوم عاشوراء مأتمًا: وهي بدعة أحدثها الشيعة في هذا اليوم، وهم طائفة جاهلة ظالمة، إما ملحدة منافقة، وإما ضالة غاوية، ومن مظاهر هذه البدعة النياحة ولطم الخدود وشق الجيوب والتعزي بعزاء الجاهلية وسب الصحابة رضي الله عنهم، وإنشاد قصائد الحزن ورواية الأخبار التي فيها كذب كثير، والصدق فيها ليس فيه إلا تجديد الحزن والتعصب وإثارة الشحناء والحرب وإلقاء الفتن بين أهل الإسلام والتوسل بذلك إلى سَبّ السابقين الأولين وكثرة الكذب والفتن في الدنيا.
ولم يُعرف في طوائف الإسلام أكثر كذبًا وفتنًا ومعاونة للكفار على أهل الإسلام من هذه الطائفة الضالة الغاوية، فإنهم شر من الخوارج المارقين.
والذي أمر الله به ورسوله في المصيبة إذا كانت جديدة إنما هو الصبر والاحتساب والاسترجاع، كما قال تعالى:{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ *أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة:155 - 157).
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بٍدًعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ» (رواه البخاري ومسلم).، وقال:«النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ» . (رواه مسلم).
إن الشيعة أمة ليس لها عقل صريح، ولا نقل صحيح، ولا دين مقبول، ولا دنيا منصورة، بل هم من أعظم الطوائف كذبًا وجهلًا، ودينهم يُدخل على المسلمين كلَّ زنديق ومرتد، كما دخل فيه النصيرية والإسماعيلية وغيرهم، فإنهم يعمدون إلى خيار الأمة يعادونهم، وإلى أعداء الله من اليهود والنصارى والمشركين يوالونهم، ويعمدون إلى الصدق الظاهر المتواتر يدفعونه، وإلى الكذب المختلق الذي يُعلم فساده يقيمونه.
2ـ بدعة الفرح واتخاذ يوم عاشوراء عيدًا:
وهي بدعة أحدثتها النواصب في هذا اليوم، ـ والنواصب طائفة من الخوارج يكفّرون علي بن أبي طالب رضي الله عنه ويفسقونه، ويتنقصون بحرمة أهل البيت ـ.
ومن مظاهر اتخاذ يوم عاشوراء عيدًا: إظهار الفرح والسرور والاغتسال والتجمل والاكتحال والتطيب وإعداد المطاعم وذبح الذبائح والتوسعة على العيال إلى غير ذلك.
ولم يرد في شيء من ذلك حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا عن أصحابه ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا روى أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئًا لا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا الصحابة ولا التابعين لا صحيحًا ولا ضعيفًا لا في كتب الصحيح ولا في السنن ولا المسانيد ولا يعرف شيء من هذه الأحاديث على عهد القرون الفاضلة.
ولكن روى بعض المتأخرين في ذلك أحاديث مثل ما رووا أن «من اكتحل يوم عاشوراء لم يرمد من ذلك العام» ، و «من اغتسل يوم عاشوراء لم يمرض ذلك العام» وأمثال ذلك.
ورووا فضائل في صلاة يوم عاشوراء ورووا أن في يوم عاشوراء توبة آدم واستواء السفينة على الجودي ورد يوسف على يعقوب وإنجاء إبراهيم من النار وفداء الذبيح بالكبش ونحو ذلك. ورووا في حديث موضوع مكذوب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه: «من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر السنة» .
ورواية هذا كله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كذب. فلعل الذي قال هذا من أهل البدع الذين يبغضون عليًّا رضي الله عنه وأصحابه، ويريدون أن يقابلوا الشيعة بالكذب مقابلة الفاسد بالفاسد والبدعة بالبدعة.
ولم يسن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا خلفاؤه الراشدون في يوم عاشوراء شيئًا من هذه الأمور لا شعائر الحزن والترح ولا شعائر السرور والفرح.
ودين الإسلام مبني على أصلين: على أن لا نعبد إلا الله وأن نعبده بما شرع لا نعبده بالبدع، قال تعالى:{فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا} (الكهف:110)، فالعمل الصالح ما أحبه الله ورسوله وهو المشروع المسنون ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه:«اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئا» .
وأمثل ما فيها: «من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته» ، قال الإمام أحمد: لا يصح هذا الحديث.
وأما أحاديث الاكتحال والادهان والتطيب فمن وضع الكذابين، وقابلهم آخرون فاتخذوه يوم تألم وحزن، والطائفتان مبتدعتان خارجتان على السنة، وأهل السنة يفعلون فيه ما أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
44 -
استقبال رمضان (1)
يا باغي الخير أقبِل
قلتُ، والنّاسُ يرقبون هلالًا
…
يشبه الخَيْطَ مِنْ نَحَافَةِ جِسْمِهْ:
«مَنْ يَكنْ صائمًا فذا رمضانٌ
…
خطّ بالنّور للورَى أوّلَ اسمِهْ»
(خطّ بالنّور للورَى أوّلَ اسمِه: أي أن الهلال يشبه حرف الراء).
رمضانُ يا خيرَ الشهورِ تحيةً
…
تُفْضِي عليكَ مِن الجلالِ جَلالَا
خُذْها يَفُوحُ عبيرُها مِن مُؤمِنٍ
…
يبْغِي لك التعظيمَ والإجلالَا
رمضانُ عُدْتَّ وهذه أوطانُنا
…
عَمّ الفسادُ بها وزادَ وطالَا
ضاعتْ مقاييسُ الفضيلةِ بيننا
…
وتبدلَتْ أحوالُنا أوحَالَا
اللهُ أكبرُ إنّ عيني قد رأتْ
…
نورًا بآفاقِ السمَا يتلَالَا
فلعله فجرُ العقيدةِ قد بَدَا
…
يُحيِي النفوسَ ويبعثُ الآمالا
ويُميطٌ عن هذِي القلوبِ قِناعَها
…
فتعودُ تُرْسِلُ نورهَا أرسَالَا
وتروحُ بالإسلامِ تكسِرُ قيدَها
…
وتَفُكُ عن أعناقِها الأغْلَالَا
وتردُّ للدنيا عدالةَ أحمدِ
…
وتُعيدُ للإسلامِ تلكَ الحالَا
إن حكمة الله عز وجل اقتضت أن يجعل هذه الدنيا مزرعةً للآخرة وميدانًا للتنافس وكان من فضله عز وجل على عباده وكرمه أن يجزي على القليل كثيرًا، ويضاعفَ الحساب ويجعلَ لعباده مواسم تعظم فيها هذه المضاعفة، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرَّب فيها إلى مولاه بما أمكنه من وظائف الطاعات؛ عسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات.
(1)((هذه الخطبة والتي بعدها مقتبسة بتصرف من رسالة (بين يدَيْ رمضان) للشيخ محمد إسماعيل المقدم.
ومن أعظم هذه المواسم المباركة وأجَلّها شهرُ رمضان الذي أُنزل فيه القرآن المجيد، ولذا كان حريًا بالمؤمن أن يحسن الاستعداد لهذا القادم الكريم، ويتفقه في شروط ومستحبات، وآداب العبادات المرتبطة بهذا الموسم الحافل لئلا يفوته الخير العظيم ولا ينشغل بمفضول عن فاضل ولا بفاضل عما هو أفضل منه.
• أخي المسلم:
استحضر في قلبك الآن أحبَّ الناس إليك، وقد غاب عنك أحد عشر شهرًا وهَبْ أنك بُشِّرتَ بقدومه وعودته خلال أيام قلائل
…
كيف تكون فرحتك بقدومه واستبشارك بقربه وبشاشتك للقائه؟
إن أول الآداب الشرعية بين يدي رمضان أن تتأهب لقدومه؛ إذ أن التأهب لشهر رمضان والاستعداد لقدومه من تعظيم شعائر الله تبارك وتعالى القائل: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج:32).
يفرح المؤمنون بقدوم شهر رمضان ويستبشرون ويحمدون الله أن بلَّغهم إياه ويعقدون العزم على تعميره بالطاعات وزيادة الحسنات وهجر السيئات وأولئك يبشَّرون بقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (يونس:58).
إنّ محبة الأعمال الصالحة والاستبشار بها فرع عن محبة الله عز وجل قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (التوبة:124) فترى المؤمنين متلهفين مشتاقين إلى رمضان، تحِنُّ قلوبهم إلى صوم نهاره، ومكابدة ليله بالقيام والتهجد بين يدي مولاهم، وتراهم يمهدون لاستقبال رمضان بصيام التطوع خاصة في شعبان.
باع قوم من السلف جارية لهم لأحد الناس، فلما أقبل رمضان أخذ سيدها الجديد يتهيأ بألوان المطعومات والمشروبات لاستقبال رمضان ـ كما يصنع كثير من الناس اليوم ـ فلما رأت الجارية ذلك منهم قالت:«لماذا تصنعون ذلك؟» ، قالوا:
«لاستقبال شهر رمضان» ، فقالت:«وأنتم لا تصومون إلا في رمضان؟ والله لقد جئت من عند قوم السَّنَةُ عندهم كأنها كلَّها رمضان، لا حاجة لي فيكم، رُدُّوني إليهم» ، ورجعت إلى سيدها الأول.
سمع المؤمنون قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ قَالَ اللهُ عز وجل إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي» (رواه مسلم)، فعلموا أن الامتناع عن الشهوات لله عز وجل في هذه الدنيا سبب لنيلها في الآخرة؛ كما أشار إلى ذلك مفهوم قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:«مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فِي الدُنْيَا، ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا فِي الآخِرَةِ «(متفق عليه) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ لَبِسَ الحَرِيرَ فِي الدُنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ» (متفق عليه)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:«مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسَ تَوَاضُعًا للهِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ دَعَاهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ حُلَلِ الْإِيمَانِ شَاءَ يَلْبَسُهَا» (حسن رواه الترمذي).
(مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسَ) أَيْ لُبْسَ الثِّيَابِ الْحَسَنَةِ الْمُرْتَفِعَةِ الْقِيمَةِ.
(تَوَاضُعًا للهِ) أَيْ لَا لِيُقَالَ إِنَّهُ مُتَوَاضِعٌ أَوْ زَاهِدٌ وَنَحْوُهُ.
(دَعَاهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ) أَيْ يُشَهِّرُهُ وَيُنَادِيهِ.
(مِنْ أَيِّ حُلَلِ الْإِيمَانِ) أَيْ مِنْ أَيِّ حُلَلِ أَهْلِ الْإِيمَانِ.
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «فِي الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ فِيهَا بَابٌ يُسَمَّى الرَّيَّانَ لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا الصَّائِمُونَ» . (رواه البخاري).
وفي رواية في الصحيحين: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ يُقَالُ أَيْنَ الصَّائِمُونَ فَيَقُومُونَ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ» ، (رواه البخاري ومسلم)«مَنْ دَخَلَ فِيهِ شَرِبَ وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا» (صحيح رواه النسائي).
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أتَانِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَنْ أدْرَكَ أحَدَ وَالِدَيْهِ فَماَتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأبْعَدَهُ اللهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ، قَالَ: يَا
مُحَمَّدُ، مَنْ أدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَمَاتَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، فَأدْخِلَ النَّارَ فَأبْعَدَهُ اللهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ، قَالَ: وَمَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَّلّ عَلَيْكَ فَمَاتَ، فَدَخَلَ النَّارَ، فَأبْعَدَهُ اللهُ قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ» (صحيح رواه الطبراني).
فهل تعجب أخي المؤمن أن جبريل ملك الوحي يقول في هذا الحديث وفيما رواه مسلم «مَنْ أدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ ولَمْ يُغْفَرْ لَهُ بَاعَدَهُ اللهُ فِي النَّارِ» ثم يؤمِّن خليل الرحمن الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم على دعائه؟!
وأي عجب ورمضان فرصة نادرة ثمينة فيها الرحمة والمغفرة ودواعيها متيسرة والأعوان عليها كثيرون وعوامل الفساد محدودة ومردة الشياطين مصفَّدون ولله عتقاء في كل ليلة وأبواب الجنة مفتحة، وأبواب النيران مغلقة فمن لم تنله الرحمة مع كل ذلك فمتى تناله إذن؟! ومن لم يكن أهلًا للمغفرة في هذا الموسم ففي أي وقت يتأهل لها، ومن خاض البحر اللجاج ولم يَطَّهَّرْ فماذا يطهره؟!.
لقد بيَّن الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم اختلاف سعى الناس في الاستعداد لرمضان فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «أَظَلَّكُمْ شَهْرُكُمْ هَذَا، بِمَحْلُوفِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم مَا مَرَّ بِالْمُسْلِمِينَ شَهْرٌ قَطُّ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْهُ، وَمَا مَرَّ بِالْمُنَافِقِينَ شَهْرٌ قَطُّ أَشَرُّ لَهُمْ مِنْهُ، بِمَحْلُوفِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم إِنَّ اللهَ لَيَكْتُبُ أَجْرَهُ وَنَوَافِلَهُ، وَيَكْتُبُ إِصْرَهُ وَشَقَاءَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُدْخِلَهُ، وَذَاكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يُعِدُّ فِيهِ الْقُوَّةَ مِنْ النَّفَقَةِ لِلْعِبَادَةِ، وَيُعِدُّ فِيهِ الْمُنَافِقُ ابْتِغَاءَ غَفَلَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَوْرَاتِهِمْ فَهُوَ غُنْمٌ لِلْمُؤْمِنِ يَغْتَنِمُهُ الْفَاجِرُ» . (صحيح رواه الإمام أحمد).
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَذَاكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يُعِدُّ فِيهِ الْقُوَّةَ مِنْ النَّفَقَةِ لِلْعِبَادَةِ» أي ما يقويهم عليها في رمضان كادخار القوت وما ينفقه على عياله فيه؛ لأن اشتغالهم بالعبادة فيه يمنعهم من تحصيل المعاش أو يقلل منه، فقيام الليل يستدعي النوم بالنهار، والاعتكاف يستدعي عدم الخروج من المسجد، وفي هذا تعطيل لأسباب المعاش، فهم يُحصلِّون القوت وما يلزم لأولادهم في رمضان قبل حلوله ليتفرغوا فيه للعبادة
والإقبال على الله عز وجل واجتناء ثمرة هذا الموسم، فهو خير لهم لما اكتسبوه فيه من الأجر العظيم والغفران العميم.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَيُعِدُّ فِيهِ الْمُنَافِقُ ابْتِغَاءَ غَفَلَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَوْرَاتِهِمْ» يعني أن المنافقين يستعدون في شهر رمضان للإيذاء بالمسلمين في دنياهم وتتبع عوراتهم أثناء غفلتهم عن الدنيا وانقطاعهم إلى الله عز وجل، فكأن ذلك غنيمة اغتنموها في نظرهم ولكنها في الحقيقة شر لهم لو كانوا يعلمون ما أعده الله لهم في الآخرة من العذاب المقيم وحرمانهم من فضله العميم ـ نعوذ بالله من ذلك ـ وما أدق هذا الوصف في حق أهل الفن والإعلام الذين يغتنمون موسم الطاعة لصد الناس عن سبيل ربهم وفتنتهم عن طاعة الله عز وجل.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فَهُوَ غُنْمٌ لِلْمُؤْمِنِ» أي هو فوز للمؤمنين بالأجر والثواب الجزيل من غير مشقة كبيرة وذلك لما ينزله الله سبحانه على عباده من الرحمات ويفيضه عليهم من النفحات ويوسع عليهم من الأرزاق والخيرات ويجنبهم فيه من الزلات حيث يفتح لهم أبواب الجنان ويغلق عنهم أبواب النيران ويصفد فيه مردة الجان فهو للأمة ربيعها وللعبادات موسمها وللخيرات سوقها فلا شهر أفضل للمؤمن منه ولا عمل يفضل عما فيه فهو بحق غنيمة المؤمنين.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «يَغْتَنِمُهُ الْفَاجِرُ» المعنى أن الله عز وجل ينتقم منه ويذيقه العذاب الأليم بسوء فعله وإيذائه المؤمنين وتتبع عوراتهم فيكون نقمة له، وأما المسلم فرمضان غنيمة له اكتسبه من صيام أيامه وقيام لياليه والانقطاع إلى الله عز وجل بالعبادة فيه.
• ماذا يحدث في أول ليلة من رمضان؟
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «إِذَا كَانَتْ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَنَادَى مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَللهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ» (صحيح رواه ابن ماجه).
إن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن هديه صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الموضع المبادرة إلى تذكير الناس ببركات هذا الموسم العظيم فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: لأصحابه في أول ليلة من رمضان:
• يا باغي الخير أقبل!!! كيف يستقبل باغي الخير رمضان؟
أولًا: بالمبادرة إلى التوبة الصادقة المستوفية لشروطها وكثرة الاستغفار قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (التحريم:8).
وممّا ينبغي أن يُستقبَل به شهر الصيام والقيام أيضًا، المبادرة بالتوبة من الذنوب صغيرها وكبيرها، والإكثار من الطاعات دُقِّها وجُلِّها، فهذا زمان التوبة.
يا ذَا الذي ما كَفَاهُ الذنبُ في رجبٍ حتى عصَى ربَّه في شهرِ شعبان
لقدْ أظَلّكَ شهرُ الصومِ بعدهُما فلا تُصًيِّرْه أيضًا شهرَ عصيان
واتْلُ القرآنَ وسبِّح فيه مجتهدًا فإنه شهرُ تسبيحٍ وقرآن
ثانيًا: بتعلم ما لابد منه من فقه الصيام أحكامه وآدابه والعبادات المرتبطة برمضان من اعتكاف وعمرة وزكاة فِطر وغيرها قال رسول صلى الله عليه وآله وسلم: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» . (صحيح رواه ابن ماجه).
ثالثًا: عقد العزم الصادق والهمة العالية على تعمير رمضان بالأعمال الصالحة قال تعالى: {فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} (محمد:21) وقال عز وجل: {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً َ} (التوبة:46)، وتحري أفضل الأعمال فيه وأعظمها أجرًا.
رابعًا: استحضار أن رمضان كما وصفه الله عز وجل أيام معدودات، سرعان ما يولي، فهو موسم فاضل، ولكنه سريع الرحيل، واستحضار أن المشقة الناشئة عن الاجتهاد في العبادة تذهب أيضًا، ويبقى الأجر، وشَرْحُ الصدر، فإن فرط الإنسان ذهبت ساعات لهوه وغفلته، وبقيت تبعاتها وأوزارها.
خامسًا: الاجتهاد في حفظ الأذكار والأدعية المطلقة منها والموظفة، خصوصًا الوظائف المتعلقة برمضان، استدعاءً للخشوع وحضور القلب، واغتنامًا لأوقات إجابة الدعاء في رمضان، والاستعانة على ذلك بدعاء:«اللهم أعِنِّي على ذكرِك، وشُكرِك، وحُسنِ عبادتِك» .
سادسًا: الاستكثار من الأعمال الصالحات، فإن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، ومن ذلك:
(1)
الإكثار من الصيام في شعبان: استعدادًا لرمضان، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما قالت:«مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ» (رواه مسلم).
ويُنهى عن تخصيص النصف الثاني من شعبان بالصيام لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:«إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا تَصُومُوا حتى حَتَّى يَكُونَ رَمَضَانُ» (رواه الإمام أحمد وغيره وصححه الألباني)، أمّا من صام في أوّل الشهر فلا جناح عليه أن يصوم نصفه الثاني بَعضَه أو كلّه، وكذلك من كانت له عادة صيام صامها، كيومي الاثنين والخميس من كلّ أسبوع، فيصومهما ولا حَرج.
ولا يجوز للصائم أن يتقدّم رمضان بصيام يومٍ أو يومَين لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ إِلَّا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ» (رواه مسلم).
ولهذا النهي حِكَمٌ جليلةٌ منها: الاحتياط لرمضان لئلا يُزاد فيه ما ليس منه، ومنها الفصل بين صيام الفرض والنفل لأن جنس الفصل بين النوافل والفرائض مشروع، كما في النهي عن وصل صلاة مفروضة بصلاةِ نافلةٍ حتى يفصل بينهما بسلام أو كلام، ومنها التقوي على صيام رمضان، فإن مواصلة الصوم قد تضعف عن صيام الفرض.
(2)
تلاوة القرآن الكريم: فإن رمضان هو شهر القرآن فينبغي أن يكثر العبد المسلم من تلاوته وحفظه، وتدبره، وعرضه على من أقرأ منه.
كان جبريل يدارس النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن في رمضان، وعارضه في عام وفاته مرتين (رواه البخاري ومسلم)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:«مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لَا أَقُولُ {الم} حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ» . (صحيح رواه الترمذي).
وكان قتادة يختم في كل سبع دائمًا، وفي رمضان في كل ثلاث، وكان الزهري إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، ويقبل على تلاوة المصحف.
وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة، وأقبل على قراءة القرآن.
وقال الزهري: «إذا دخل رمضان فإنما هو قراءة القرآن، وإطعام الطعام» .
(3)
قيام رمضان: فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يُرَغِّبُ فِى قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ فِيهِ بِعَزِيمَةٍ فَيَقُولُ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنٍْ ذَنْبِهِ» (رواه البخاري ومسلم).
(4)
الصدقة: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ» (رواه البخاري ومسلم).
ومن صور الصدقة إطعام الطعام، وتفطير الصُوّام، قال صلى الله عليه وآله وسلم:«مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا» (صحيح رواه الترمذي)، فإن عجز عن عَشائه فطَّره على تمرة أو شربة ماء أو لبن، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:«اتَّقُوا النَّارَ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» (رواه البخاري ومسلم).
وعن عليّ رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا» .
فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: «لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى للهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ» (حسن رواه أحمد والترمذي).
(غُرَفًا) جَمْعُ غُرْفَةٍ، أَيْ عَلَالِيَّ فِي غَايَةٍ مِنْ اللَّطَافَةِ وَنِهَايَةٍ مِنْ الصَّفَاءِ وَالنَّظَافَةِ (تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا) لِكَوْنِهَا شَفَّافَةً لَا تَحْجُبُ مَا وَرَاءَهَا.
(لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَام):الْمَعْنَى لِمَنْ لَهُ خُلُقٌ حَسَنٌ مَعَ الْأَنَامِ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} ، فَيَكُونُ مِنْ عِبَادِ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا. الْمَوْصُوفِينَ بِقَوْلِهِ:{أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} .
(وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ) لِلْعِيَالِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْأَضْيَافِ وَنَحْوِ ذَلِكَ
(وَأَدَامَ الصِّيَامَ) أَيْ أَكْثَرَ مِنْهُ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ بِحَيْثُ تَابَعَ بَعْضَهَا بَعْضًا وَلَا يَقْطَعُهَا رَأْسًا، قَالَهُ اِبْنُ الْمَلَكِ. وَقِيلَ أَقَلُّهُ أَنْ يَصُومَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَفِيهِ وَفِيمَا قَبْلَهُ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاَلَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {بِمَا صَبَرُوا} صَرِيحٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الصَّوْمِ
(وَالنَّاسُ) أَيْ غَالِبُهُمْ (نِيَامٌ) جَمْعُ نَائِمٍ أَوْ غَافِلُونَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لَا رِيَاءَ يَشُوبُ عَمَلَهُ وَلَا شُهُودَ غَيْرُ اللهِ، إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاَلَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} الْمُنْبِئُ وَصْفُهُمْ بِذَلِكَ عَنْ أَنَّهُمْ فِي غَايَةٍ مِنْ الْإِخْلَاصِ لله.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «أَفْشِ السَّلَامَ، وَأَطِبْ الْكَلَامَ، وَصِلْ الْأَرْحَامَ، وَقُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلْ الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ» (صحيح رواه أحمد والحاكم).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «صَنَائِعُ الَمعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُوءِ، وَصَدَقَةُ السِّرِ تُطْفِيءُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فٍي العُمْرِ» . (حسن رواه الطبراني).
وكان كثير من السلف يؤثر بفطوره وهو صائم، منهم عبد الله بن عمر، وداود الطائي، ومالك بن دينار، وأحمد بن حنبل، وكان ابن عمر لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين، وربما علم أن أهله قد ردوهم عنه، فلم يفطر في تلك الليلة.
وكان من السلف من يطعهم إخوانه الطعام وهو صائم، ويجلس يخدمهم ويروحهم، منهم الحسن وابن المبارك، وقال أبو السوار العدوي:«كان رجال من بني عدي يصلون في هذا المسجد ما أفطر أحد منهم على طعام قط وحده، إن وجد من يأكل معه أكل، وإلا أخرج طعامه إلى المسجد، فأكله مع الناس وأكل الناس معه» .
قال الإمام الماوردي رحمه الله: «ويستحب للرجل أن يوسع على عياله في شهر رمضان، وأن يحسن إلى أرحامه وجيرانه، لا سيما في العشر الأواخر منه» .
وإذا دُعي المسلم الصائم عليه أن يجيب الدعوة، لأن من لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وآله وسلم، وينبغي عليه أن يعتقد جازمًا أن ذلك لا يضيع شيئًا من حسناته، ولا ينقص شيئًا من أجره.
(5)
المكث في المسجد بعد صلاة الفجر: فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلى الغداة جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس. (رواه مسلم).
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ» . (صحيح رواه الترمذي).
(الْغَدَاةَ):الصبح (ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ) أَيْ ثُمَّ صَلَّى بَعْدَ أَنْ تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ قَدْرَ رُمْحٍ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُ الْكَرَاهَةِ، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ تُسَمَّى صَلَاةَ الْإِشْرَاقِ وَهِيَ أَوَّلُ صَلَاةِ الضُّحَى.
(كَانَتْ) أَيْ الْمَثُوبَةُ.
(قَالَ) أَيْ أَنَسٌسدد خطاكم.
(قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ») صِفَةٌ لِحَجَّةٍ وَعُمَرَةٍ كَرَّرَهَا ثَلَاثًا لِلتَّأْكِيدِ، وَقِيلَ: أَعَادَ الْقَوْلَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ التَّأْكِيدَ بِالتَّمَامِ وَتَكْرَارِهِ مِنْ قَوْلِ أَنَسٍ.
فعلى المرء أن يجمع همته ليغتنم هذا الزمان الشريف، ولا يضيره انصراف أكثر الناس عن هذه السُّنَّة، بل الحازم ينظر في أمر الدين إلى من هو فوقه، ومن هو أنشط منه {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (المطففين: 26).
وقد يُحرم المرء من هذه السُّنَّة الجليلة لإفراطه في السهر أو السمر بعد العشاء.
(6)
الاعتكاف: فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يومًا (رواه البخاري) ..
(7)
العمرة: فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ لِامْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهَا أُمُّ سِنَانٍ: «مَا مَنَعَكِ أَنْ تَكُونِي حَجَجْتِ مَعَنَا؟» .
قَالَ: «فَإِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فَاعْتَمِرِي فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ تَعْدِلُ حَجَّةً» .
وفي رواية: «فَعُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً أَوْ حَجَّةً مَعِي» . (رواه مسلم). (الناضح: الدابة يُسْتَقَى عليها).
ومما ثبت في فضائل العمرة: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّ الْمُتَابَعَةَ بَيْنَهُمَا تَنْفِي الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ» . (صحيح رواه ابن ماجه).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا» . (صحيح رواه الإمام أحمد).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ أُسْبُوعًا فَأَحْصَاهُ كَانَ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ، وَلَا يَضَعُ قَدَمًا وَلَا يَرْفَعُ أُخْرَى إِلَّا حَطَّ اللهُ عَنْهُ خَطِيئَةً وَكَتَبَ لَهُ بِهَا حَسَنَةً» . (صحيح رواه الترمذي). (أُسْبُوعًا: أي سبعة أشواط).
(8)
تحرِّي ليلة القدر: قال عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} (القدر:1 - 3).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِر لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . (رواه البخاري).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يتحرى ليلة القدر، ويأمر أصحابه بتحريها، وكان يعتكف لذلك، وكان يوقظ أهله في ليالي العشر رجاء أن يدركوها.
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما قالت: قلتُ: يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر ما أقول؟ قال: «قُولِي: اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّي» . (صحيح رواه الترمذي وابن ماجه).
ويستحب أن يتحرى ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، خصوصًا الليالي الوتر منها، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:«الْتَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأوَاخِرِ فِي الوِتْرِ» (رواه البخاري ومسلم)، ورجح بعض العلماء أنها ليلة السابع والعشرين.
(9)
الإكثار من النوافل بعد الفرائض: كالسُّنن القبلية والبعدية، وصلاة التسبيح، والضحى، والذكر والاستغفار، والدعاء خصوصًا في أوقات الإجابة، وعند الإفطار، وفي ثلث الليل الآخر، وفي الأسحار، وساعة الإجابة يوم الجمعة.
(10)
المحافظة على صلاة الجماعة في المسجد: والاجتهاد في تطبيق قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «مَنْ صَلَّى للهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جَمَاعَةٍ يُدْرِكُ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَتَانِ بَرَاءَةٌ مِنْ النَّارِ وَبَرَاءَةٌ مِنْ النِّفَاقِ» . (حسن رواه الترمذي).
واعلم أن النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يأذن في آخر الأمر للأعمى الذي جاء يطلب الرخصة في ترك صلاة الجماعة فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ سدد خطاكمقَالَ: أَتَى النَّبِىَّ صلى الله عليه وآله وسلم رَجُلٌ أَعْمَى فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّهُ لَيْسَ لِى قَائِدٌ يَقُودُنِى إِلَى الْمَسْجِدِ، فَسَأَلَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فَيُصَلِّىَ فِى بَيْتِهِ فَرَخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ:«هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ؟» .
فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَأَجِبْ» . (رواه مسلم).
وعَنِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ سدد خطاكم أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّى رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ، شَاسِعُ الدَّارِ، وَلِى قَائِدٌ لَا يُلَائِمُنِى، فَهَلْ لِى رُخْصَةٌ أَنْ أُصَلِّىَ فِى بَيْتِى؟
قَال: «هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ» . قَالَ نَعَمْ. قَالَ «لَا أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً» .
(رواه أبو داود وصححه الألباني).
(ضَرِير الْبَصَر): أَيْ أَعْمَى. (شَاسِع الدَّار): أَيْ بَعِيد الدَّار.
(وَلِي قَائِد): الْقَائِد هُوَ الَّذِي يُمْسِك يَد الْأَعْمَى وَيَأْخُذهَا وَيَذْهَب بِهِ حَيْثُ شَاءَ وَيَجُرّهُ. (لَا يُلَائِمنِي):أَيْ لَا يُوَافِقنِي وَلَا يُسَاعِدنِي.
(هَلْ تَسْمَع النِّدَاء): أَيْ الْإِعْلَام وَالتَّأْذِين بِالصَّلَاةِ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ حُضُور الْجَمَاعَة وَاجِب وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ نَدْبًا لَكَانَ أَوْلَى مَنْ يَسَعهُ التَّخَلُّف عَنْهَا أَهْل الضَّرَر وَالضَّعْف، وَمَنْ كَانَ فِي مِثْل حَال اِبْن أُمّ مَكْتُوم.
وَكَانَ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح يَقُول: لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْق الله فِي الْحَضَر وَالْقَرْيَة رُخْصَة إِذَا سَمِعَ النِّدَاء فِي أَنْ يَدَع الصَّلَاة جَمَاعَة.
وَكَانَ أَبُو ثَوْر يُوجِب حُضُور الْجَمَاعَة: وَاحْتَجَّ هُوَ وَغَيْره بِأَنَّ الله عز وجل أَمَرَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أَنْ يُصَلِّيَ جَمَاعَة فِي صَلَاة الْخَوْف وَلَمْ يَعْذُر فِي تَرْكهَا فَعُقِلَ أَنَّهَا فِي حَال الْأَمْن أَوْجَب.
وقد عدّ بعض العلماء من الكبائر ترك الجماعة فيصلي وحده من غير عذر.
ويُخشَى والعياذ بالله من عدم قبول صلاة تارك الجماعة فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِهِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ» . (رواه ابن ماجه وصححه الألباني).
قال السندي في حاشيته على (سنن ابن ماجه): «وَظَاهِر هَذَا الْحَدِيث أَنَّ الْجَمَاعَة فِي الْمَسْجِد الَّذِي سَمِعَ نِدَاءَهُ فَرْض لِصِحَّةِ الصَّلَاة حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا بَطَلَتْ صَلَاته» .
وَذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن من قال من الأئمة إن صلاة الجماعة وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ تَنَازَعُوا فِيمَا إذَا صَلَّى مُنْفَرِدًا لِغَيْرِ عُذْرٍ هَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ؟
عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا لَا تَصِحُّ. وَالثَّانِي تَصِحُّ مَعَ إثْمِهِ بِالتَّرْكِ.