المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌مكانة يوم الجمعة في الإسلام:

- ‌مكانة خطبة الجمعة وأهميتها:

- ‌صفة خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌اشتمال الخطبة على الآيات القرآنية

- ‌اشتمال الخطبة على الأحاديث النبوية

- ‌ أثر الأحاديث الضعيفة في الابتداع في الدين:

- ‌ لا يجوز استحباب شيء لمجرد حديث ضعيف في الفضائل:

- ‌ معنى العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال:

- ‌ لا يجوز التقدير والتحديد بأحاديث الفضائل الضعيفة:

- ‌ شروط العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال عند القائلين به:

- ‌ هل هناك إجماع من العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال

- ‌اشتمال الخطبة على ضرب الأمثال

- ‌الاستشهاد بالشعر في الخطبة

- ‌الاستشهاد بالقصة في الخطبة

- ‌الاستشهاد بواقع الآخرين

- ‌فقه الخطيب

- ‌ ماذا تقرأ في صلاة الجمعة

- ‌ قطع الخطبة للتنبيه والإرشاد:

- ‌ ما الحكم فيمن دخل المسجد لصلاة الجمعة والمؤذن يؤذن الأذان الثاني

- ‌ رفع اليدين للدعاء في الخطبة:

- ‌ هل يصلي بالناس الجمعة غير الخطيب

- ‌ إذا قرأ الخطيب آية تشتمل على سجدة وهو يخطب فهل يسجد سجود التلاوة

- ‌كيف تختار موضوع الخطبة

- ‌ضوابط وقواعدلموضوعات خطبة الجمعة

- ‌وصايا للخطيب

- ‌الخطيب وجمهوره

- ‌وصايا أثناء الخطبة

- ‌همسات في أذن خطيب الجمعة

- ‌عيوب الخطبة

- ‌ عيوب في أصل الخطبة

- ‌تنبيه:

- ‌ عيوب في الخطيب

- ‌ عيوب نسبية

- ‌أدعية

- ‌موضوعات عامة

- ‌1 - الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌2 - التحذير من ترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌3 - كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعناها

- ‌4 - اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم دليل محبة الله عز وجل

- ‌5 - التواضع وذم الكبر

- ‌6 - فضائل الصحابة رضي الله عنهم

- ‌7 - فضائل الصحابة رضي الله عنهم في السنة المطهرة

- ‌8 - اتق الله حيثما كنت

- ‌9 - أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمحُهَا

- ‌10 - خَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ

- ‌11 - احفَظِ الله يَحْفَظْكَ

- ‌12 - إذا سَأَلْتَ فاسْألِ اللهوإذا اسْتََعَنْتَ فاستَعِنْ باللهِ

- ‌13 - شروط الدعاء وموانع الإجابة

- ‌14 - رُفِعَتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصُّحُفُ

- ‌15 - القناعة

- ‌16 - فوائد القناعة والسبيل إليها

- ‌17 - الإصلاح بين الناس

- ‌18 - الإصلاح بتن الناس وآداب المصلح

- ‌19 - الأمانة

- ‌20 - السعادة الوهمية

- ‌21 - أسباب السعادة وصفات السعداء

- ‌22 - نحن والمزاح

- ‌23 - إنَّ الله كَتَبَ الإحسّانَ على كُلِّ شيءٍ

- ‌24 - المستقبل لهذا الدين رغم مرارة الواقع

- ‌25 - المستقبل لهذا الدين ولكن ما السبيل إليه

- ‌26 - لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ

- ‌27 - وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌28 - موتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

- ‌29 - إذا لَم تَستَحْيِ، فاصْنَعْ ما شِئْتَ

- ‌30 - عَظيمٌٍ ولَكِنّه يَسيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ الله عليه

- ‌31 - قُلْ: آمَنْتُ باللهِ، ثمَّ استقِمْ

- ‌32 - كُلُّ النَّاسِ يَغْدُوفَبائعٌ نَفْسَهُ، فمُعْتِقُها أو مُوبِقها

- ‌33 - كثرة النعم وكثرة طرق الشكر

- ‌34 - أكل الميراث بالباطل

- ‌35 - إنَّ الله طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلَاّ طيِّبًا

- ‌36 - لا تَحَاسَدُوا

- ‌37 - كُونُوا عِبادَ اللهِ إِخْوانًا

- ‌38 - لا تَظالموا

- ‌39 - إنَّما هي أعمالُكُم أُحصيها لكم

- ‌40 - لا تَغْضَبْ

- ‌خطب مناسبات

- ‌41 - الزكاة

- ‌42 - الامتحانات، كل منا ممتحن

- ‌43 - عاشوراء وشهر الله المحرّم

- ‌45 - استقبال رمضانيا باغي الشر…أقصر

- ‌46 - رمضان شهر الجهاد

- ‌47 - خطبة عيد الفطر

- ‌48 - الحج: عبر وعظات

- ‌49 - قصة الذبح…دروس وعبر

- ‌50 - خطبة عيد الأضحى

الفصل: ‌40 - لا تغضب

‌40 - لا تَغْضَبْ

عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه أنَّ رَجُلًا قالَ للنَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم:أوصِني، قال:«لا تَغْضَبْ» فردَّد مِرارًا قال: «لا تَغْضَبْ» .رواهُ البُخاريُّ.

وخرَّج الترمذي هذا الحديثَ ولفظُه: جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله علِّمني شيئًا ولا تُكثر عليَّ لَعَلِّي أعيه، قال:«لا تَغْضَبْ» فردد ذلك مرارًا كلُّ ذلك يقول: «لا تَغَضَبْ» .

وفي رواية أخرى لغير الترمذي قال: قلتُ: يا رسولَ الله، دلني على عمل يُدخلني الجنَّة ولا تُكثِرْ عليَّ، قال:«لا تَغْضَبْ» (صحيح).

• الغضبُ مفتاحُ كلِّ شرٍّ:

هذا الرجلُ طلب مِن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أنْ يُوصِيهَ وصيةً وجيزةً جامعةً لِخصال الخيرِ، ليحفظها عنه خشيةَ أنْ لا يحفظها؛ لكثرتها، فوصَّاه النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أنْ لا يغضب، ثم ردَّد هذه المسألة عليه مرارًا، والنَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يردِّدُ عليه هذا الجوابَ، فهذا يدلُّ على أنَّ الغضب جِماعُ الشرِّ، وأنَّ التحرُّز منه جماعُ الخير.

وروى الإمامُ أحمد عن عبد اللهِ بن عمرو: أنَّه سأل النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم:ماذا يُبَاعِدُني مِنْ غَضَبِ اللهِ عز وجل قال: «لا تَغْضَبْ» (إسناده جيد).

قال جعفر بنُ محمد: الغضبُ مفتاحُ كلِّ شرٍّ.

وقيل لابنِ المبارك: اجْمَعْ لنا حسنَ الخلق في كلمة، قال: تركُ الغضبِ.

وكذا فسَّر الإمام أحمد، وإسحاقُ بنُ راهويه حسنَ الخلق بتركِ الغضب.

فقولُه صلى الله عليه وآله وسلم لمن استوصاه: «لا تَغْضَبْ» يحتَمِلُ أمرين:

أحدُهما: أنْ يكونَ مرادُه الأمرَ بالأسباب التي توجب حُسْنَ الخُلُقِ من الكرم والسخاء والحلمِ والحياء والتواضع والاحتمال وكفِّ الأذى، والصفح والعفو، وكظم

ص: 480

الغيظ، والطَّلاقةِ والبِشْرِ، ونحوِ ذلك من الأخلاق الجميلة، فإنَّ النفسَ إذا تخلَّقت بهذه الأخلاق، وصارت لها عادة أوجب لها ذلك دفع الغضب عند حصول أسبابه.

والثاني: أنْ يكونَ المرادُ: لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حَصَل لك، بل جاهد نفسَك على ترك تنفيذه والعمل بما يأمر به، فإنَّ الغضب إذا ملك ابنَ آدم كان كالآمر والناهي له.

ولهذا المعنى قال الله عز وجل: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} (الأعراف:154) فإذا لم يمتثل الإنسانُ ما يأمره به غضبُه، وجاهد نفسه على ذلك، اندفع عنه شرُّ الغضب، وربما سكن غَضَبُهُ، وذهب عاجلًا، فكأنَّه حينئذٍ لم يغضب، وإلى هذا المعنى وقعت الإشارةُ في القرآن بقوله عز وجل:{وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (الشورى:37)، وبقوله عز وجل:{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران:134).

• أسبابٍ تدفعُ الغضبَ:

كان النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يأمرُ من غضبَ بتعاطي أسبابٍ تدفعُ عنه الغضبَ، وتُسَكِّنُهُ، ويمدح من ملك نفسَه عند غضبه، ففي «الصحيحين» عن سليمانَ بن صُرَد قال: استَبَّ رجلانِ عندَ النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ونحنُ عنده جلوسٌ، وأحدُهما يَسُبُّ صاحبهُ مغضبًا قد احمرَّ وجهُهُ، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم:«إنِّي لأعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَها لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» .

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إذَا غَضِبَ الرَّجُلُ فَقَالَ: «أعُوذُ بِاللهِ» ، سَكَنَ غَضَبُهُ» (صححه الألباني في صحيح الجامع).

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إذَا غَضِبْتَ فَاجْلِسْ» (صححه الألباني في صحيح الجامع)

وروى الإمامُ أحمدُ، وأبو داود: أنَّ النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا غَضِبَ أحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ، فَلْيَجْلِسْ، فإنْ ذَهَبَ عَنْهُ الغَضَبُ وإلّا فَلْيَضْطَجِعْ» (صحيح).

ص: 481

وقد قيل: إنَّ المعنى في هذا أنَّ القائم متهيِّئ، للانتقام والجالس دونَه في ذلك، والمضطجع أبعدُ عنه، فأمره بالتباعد عن حالةِ الانتقام.

ولهذا المعنى قال النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم في الفتن: «إنَّ المضْطَجِعَ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَاعِدِ، والقَاعِدَ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ، وَالقَائِمَ خَيْرٌ مِنَ المَاشِي، والمَاشِي خَيرٌ مِنَ السَّاعِي» (رواه البخاري ومسلم)، وإنْ كان هذا على وجه ضرب المثالِ في الإسراع في الفتن، إلا أنَّ المعنى: أنَّ من كان أقرب إلى الإسراع فيها، فهو شرٌّ ممن كان أبعد عن ذلك.

وروى الإمامُ أحمد من حديث ابنِ عباس، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال:«إذا غَضِبَ أحَدُكُمْ، فليَسْكُتْ» قالها ثلاثًا. (صحيح).

وهذا أيضًا دواء عظيم للغضب؛ لأنَّ الغضبان يصدر منه في حال غضبه من القول ما يندم عليهِ في حال زوال غضبه كثيرًا من السِّباب وغيره مما يعظم ضَرَرُهُ، فإذا سكت زال هذا الشرّ كله عنه.

وما أحسنَ قولَ مورق العجلي رحمه الله: «ما امتلأتُ غيضًا قَطُّ ولا تكلَّمتُ في غضبٍ قطُّ بما أندمُ عليهِ إذا رضيتُ» .

ولم أرَ في الأعداءِ حينَ اختبرتُهم عدوًا لعقلِ المرءِ أعْدَى مِن الغضبْ

ليسَتِ الأحلامُ في حالِ الرضا إنما الأحلامُ في حالِ الغضبْ

وغضب يومًا عمرُ بن عبد العزيز فقالَ لهُ ابنُه عبدُ الملكِ ـ رحمهما الله ـ:

«أنتَ يا أميرَ المؤمنين مع ما أعطاك الله وفضَّلك به تغضبُ هذا الغَضبَ؟» .

فقال له: «أوَمَا تغضبُ يا عبدَ الملك؟» .

فقال عبد الملك: «وما يُغني عني سعةُ جوفي إذا لم أُرَدِّدْ فيه الغضبَ حتى لا يظهر؟» .

فهؤلاء قوم ملكوا أنفسهم عند الغضب رضي الله عنهم.

وفي (الصحيحين) عن أبي هُريرة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال:«لَيْسَ الشَّديدُ بالصُّرَعَةِ، إنَّما الشَّديدُ الَّذي يَملِكُ نَفْسَهُ عندَ الغَضَبِ» .

ص: 482

وفي «صحيح مسلم» عن ابن مسعودٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، قال:«ما تَعُدُّوَن الصُّرَعَةَ فِيكُمْ؟» قُلْنَا: الذِي لا تَصْرَعُهُ الرِّجالُ، قال:«لَيْسَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّه الذِي يَملِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ» .

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «الصُّرَعَةُ كُلُّ الصُّرَعَةِ الَّذِي يَغْضَبُ فَيَشْتَدُّ غَضَبُهُ، وَيَحْمَرُّ وَجْهُهُ، وَيَقْشَعِرُّ شَعْرُهُ، فَيَصْرَعُ غَضَبَهُ» (حسن رواه الإمام أحمد).

(بِالصُّرْعَةِ) بِضَمِّ الصَّاد وَفَتْح الرَّاء: الَّذِي يَصْرَع النَّاس كَثِيرًا بِقُوَّتِهِ، وَالْهَاء لِلْمُبَالَغَةِ فِي الصِّفَة، وَالصُّرْعَة بِسُكُونِ الرَّاء بِالْعَكْسِ وَهُوَ مَنْ يَصْرَعُهُ غَيْره كَثِيرًا.

• وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ:

قال الله عز وجل: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران:134).

{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} أي: إذا حصل لهم من غيرهم أذية توجب غيظهم ـ وهو امتلاء قلوبهم من الحنق، الموجب للانتقام بالقول والفعل ـ، هؤلاء لا يعملون بمقتضى الطباع البشرية، بل يكظمون ما في القلوب من الغيظ، ويصبرون عن مقابلة المسيء إليهم.

{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} يدخل في العفو عن الناس، العفو عن كل من أساء إليك بقول أو فعل، والعفو أبلغ من الكظم، لأن العفو ترك المؤاخذة مع السماحة عن المسيء، وهذا إنما يكون ممن تحلى بالأخلاق الجميلة، وتخلى عن الأخلاق الرذيلة، وممن تاجر مع الله، وعفا عن عباد الله رحمة بهم، وإحسانا إليهم، وكراهة لحصول الشر عليهم، وليعفو الله عنه، ويكون أجره على ربه الكريم، لا على العبد الفقير، كما قال تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (الشورى:40).

ثم ذكر عز وجل حالة أعم من غيرها، وأحسن وأعلى وأجل، وهي الإحسان، فقال عز وجل:{وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} والإحسان نوعان: الإحسان في عبادة الخالق. والإحسان

ص: 483

إلى المخلوق، فالإحسان في عبادة الخالق فسرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله:«أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» (رواه البخاري ومسلم).

وأما الإحسان إلى المخلوق، فهو إيصال النفع الديني والدنيوي إليهم، ودفع الشر الديني والدنيوي عنهم، فيدخل في ذلك أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتعليم جاهلهم، ووعظ غافلهم، والنصيحة لعامتهم وخاصتهم، والسعي في جمع كلمتهم، وإيصال الصدقات والنفقات الواجبة والمستحبة إليهم، على اختلاف أحوالهم وتباين أوصافهم، فيدخل في ذلك بذل الندى وكف الأذى، واحتمال الأذى، كما وصف الله به المتقين في هذه الآيات، فمن قام بهذه الأمور، فقد قام بحق الله وحق عبيده.

وقال النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُو يَسْتَطِيعُ أنْ يُنفِذَهُ، دَعَاهُ اللهُ يَوْمَ الْقَيامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ يُزَوِّجُهُ مِنْهَا مَا شَاءَ» . (حسن رواه الإمامُ أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه).

وروى الإمامُ أحمد من حديث ابن عمر، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال:«ما تَجَرَّع عَبْدٌ جُرعَةً أفْضَلَ عِنْدَ اللهِ مِنْ جُرعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُها ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ عز وجل» (إسناده جيد) ومِن حديث ابن عباسٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال:«مَا مِنْ جُرْعَةٍ أحبَّ إلى اللهِ مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا عَبْدٌ، مَا كَظَمَ عَبْدٌ للهِ إلّا مَلَأ اللهُ جَوْفَهُ إِيمَانًا» (قال ابن كثير: إسناده حسن ليس فيه مجروح، ومتنه حسن).

وقال ميمون بن مِهران: جاء رجلٌ إلى سلمان، فقال: يا أبا عبدِ الله أوصني، قال: لا تغضب، قال: أمَرْتَني أنْ لا أغضب وإنَّه ليغشاني ما لا أملِكُ، قال: فإنْ غضبتَ، فامْلِكْ لِسانك ويَدَك».

وملكُ لسانه ويده هو الذي أشار إليه النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بأمره لمن غَضِبَ أنْ يجلس، ويضطجع وبأمره له أنْ يسكت.

ص: 484

أُحِبُّ مكارمَ الأخلاقِ جُهدي وأكرهُ أنْ أعيبَ وأنْ أعَابَا

وأصفحُ عن سبابِ الناسِ حِلمًا وشرُّ الناسِ مَن يهوَى السِبابَا

ومَن هابَ الرجالَ تهيَّبوه ومَن حَقَر الرجالَ فلن يُهابا

قال عمرُ بنُ عبد العزيز: «قد أفلحَ مَنْ عُصِمَ من الهوى، والغضب، والطمع» .

وقال الحسن: «أربعٌ من كُنَّ فيه عصمه الله من الشيطان، وحرَّمه على النار: مَنْ ملك نفسَه عندَ الرغبة، والرهبة، والشهوةِ، والغضبِ» .

فهذه الأربع التي ذكرها الحسن هي مبدأ الشرِّ كُلِّه، فإنَّ الرغبةَ في الشيء هي ميلُ النفس إليه لاعتقاد نفعه، فمن حصل له رغبةٌ في شيءٍ، حملته تلك الرغبة على طلب ذلك الشيء من كل وجه يَظُنُّه موصلًا إليه، وقد يكون كثير منها محرمًا، وقد يكون ذلك الشيءُ المرغوبُ فيه مُحرَّمًا.

والرهبة: هي الخوفُ من الشيء، وإذا خاف الإنسان من شيء تسبب في دفعه عنه بكلِّ طريق يظنه دافعًا له، وقد يكون كثير منها محرَّمًا.

والشهوة: هي ميلُ النفس إلى ما يُلائمها، وتلتذُّ به، وقد تميل كثيرًا إلى ما هو محرَّم كالزنا والسرقة وشرب الخمر، بل وإلى الكفر والسحر والنفاق والبدع.

والغضب: هو غليانُ دم القلب طلبًا لدفع المؤذي عندَ خشية وقوعه، أو طلبًا للانتقام ممن حصل له منه الأذى بعدَ وقوعه، وينشأ من ذلك كثيرٌ من الأفعال المحرمة كالقتل والضربِ وأنواعِ الظلم والعُدوان، وكثيرٍ من الأقوال المحرَّمة كالقذفِ والسبِّ والفحش، وكالأيمان التي لا يجوزُ التزامُها شرعًا، وكطلاق الزوجة الذي يُعقب الندمَ، وربما ارتقى إلى درجة الكفر، كما جرى لجبلة بن الأيهم وهو ابن الحارث بن أبي شعر، واسمه المنذر بن الحارث.

قالوا: كتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى جبلة بن الأيهم ملك غسان يدعوه إلى الإسلام، فأسلم وكتب بإسلامه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهدى له هدية، ثم لم يزل مسلمًا حتى كان

ص: 485

زمن عمر بن الخطاب، فبينا هو في سوق دمشق إذ وطيء رَجلًا من مزينة، فوثب المزني فلطمه، فأخذ فانطلق به إلى أبي عبيدة بن الجراح، فقالوا: هذا لطم جبلة.

قال: فليلطمه.

قالوا: أو ما يقتل؟

قال: لا.

فقالوا: أفما تقطع يده؟

قال: لا، إنَّما أمر الله بالقوَد.

قال جبلة: أترون أني جاعل وجهي ندًا لوجه جدي جاء من عمق؟ بئس الدين هذا! ثم ارتد نصرانيًا، وترحل بقومه حتى دخل أرض الروم.

(انظر: تاريخ دمشق 11/ 19).

والواجبُ على المؤمن أنْ تكون شهوتُه مقصورةً على طلب ما أباحه الله له، وربما تناولها بنيةٍ صالحةٍ، فأثيب عليها، وأنْ يكونَ غضبه دفعًا للأذى في الدين له أو لغيره وانتقامًا ممن عصى الله ورسولَه، كما قال تعالى:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} (التوبة:14 - 15)

وهذه كانت حالَ النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، فإنَّه كان لا ينتقِمُ لنفسه، ولكن إذا انتهكت حرماتُ الله لم يَقُمْ لِغضبه شيء (رواه البخاري ومسلم).

ولم يضرب بيده خادمًا ولا امرأة إلا أنْ يجاهِدَ في سبيل الله. (رواه مسلم).

وخدمه أنس عشرَ سنين، فما قال له:«أفٍّ» قط، ولا قال له لشيء فعله:«لِمَ فعلتَ كذا» ولا لشيء لم يفعَله: «ألا فعلتَ كذا» (رواه البخاري ومسلم).

وسئلت عائشةُ عن خُلُقِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت:«كَانَ خُلُقُهُ القُرْآن» (رواه مسلم) تعني: أنَّه كان تأدَّب بآدابه، وتخلَّق بأخلاقه، فما مدحه القرآن، كان فيه رضاه، وما ذمَّه القرآنُ، كان فيه سخطه.

ص: 486

وكان صلى الله عليه وآله وسلم لِشدَّةِ حيائه لا يُواجِهُ أحدًا بما يكره، بل تعرف الكراهة في وجهه، كما في (الصحيحين) عن أبي سعيد الخدري قال: كان النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أشدَّ حياءً من العذراءِ في خِدْرها، فإذا رأى شيئًا يكرهه، عرفناه في وجهه».

ولما بلَّغَه ابنُ مسعودٍ قَولَ القائل: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، شقَّ عليه صلى الله عليه وآله وسلم، وتَغيَّر وجهه، وغَضِبَ، ولم يَزِدْ على أنْ قال:«قَدْ أوذِيَ مُوسَى بِأكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ» (رواه البخاري ومسلم).

وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا رأى، أو سَمِعَ ما يكرهه الله، غَضِبَ لذلك، وقال فيه، ولم يَسْكُتْ، وقد دخل بيتَ عائشة فرأى سترًا فيه تصاويرُ، فتَلَوَّنَ وجهُهُ وهتكه، وقال:«إنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ هَذِه الصُّوَرَ» (رواه البخاري ومسلم).

ولما شُكِيَ إليه الإمامُ الذي يُطيل بالناس صلاته حتى يتأخرَ بعضهم عن الصَّلاة معه، غَضِبَ، واشتد غضبُه، ووَعَظَ النَّاسَ، وأمر بالتَّخفيف (رواه البخاري ومسلم).

وكان من دعائه صلى الله عليه وآله وسلم: «أسألُكَ كَلِمَةَ الحَقِّ فِي الغَضَبِ وَالرِّضَا» (صحيح رواه النسائي) وهذا عزيز جدًا، وهو أنَّ الإنسان لا يقول سوى الحقِّ سواء غَضِبَ أو رضي، فإنَّ أكثرَ الناس إذا غَضِبَ لا يَتوقَّفُ فيما يقول.

وعن أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ: «كَانَ رَجُلَانِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ وَالْآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ، فَكَانَ لَا يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الْآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ فَيَقُولُ: أَقْصِرْ، فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ فَقَالَ لَهُ: أَقْصِرْ، فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا، فَقَالَ: وَاللهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لَكَ أَوْ لَا يُدْخِلُكَ اللهُ الْجَنَّةَ، فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَقَالَ لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ بِي عَالِمًا أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا، وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي وَقَالَ لِلْآخَرِ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ» .

ص: 487

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ سدد خطاكم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ» (صحيح رواه أبو داود).فكان أبو هريرة سدد خطاكم يُحَذِّرُ الناسَ أنْ يقولوا مثلَ هذه الكلمة في غضب.

فهذا غَضِبَ لله، ثم تكلَّم في حال غضبه لله بما لا يجوزُ، وحتم على الله بما لا يعلم، فأحبط الله عمله، فكيف بمن تكلَّم في غضبه لنفسه، ومتابعة هواه بما لا يجوز.

وعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَامْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى نَاقَةٍ فَضَجِرَتْ فَلَعَنَتْهَا، فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ:«خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ» .

قَالَ عِمْرَانُ: «فَكَأَنِّي أَرَاهَا الْآنَ تَمْشِي فِي النَّاسِ مَا يَعْرِضُ لَهَا أَحَدٌ» (رواه مسلم).

وعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا جَارِيَةٌ عَلَى نَاقَةٍ عَلَيْهَا بَعْضُ مَتَاعِ الْقَوْمِ إِذْ بَصُرَتْ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وَتَضَايَقَ بِهِمْ الْجَبَلُ فَقَالَتْ: «حَلْ، اللَّهُمَّ الْعَنْهَا» .

قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تُصَاحِبْنَا نَاقَةٌ عَلَيْهَا لَعْنَةٌ» . (رواه مسلم).

(حِلْ) كَلِمَة زَجْرٍ لِلْإِبِلِ وَاسْتِحْثَاث.

(خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا فَإِنَّهَا مَلْعُونَة)(لَا تُصَاحِبنَا نَاقَة عَلَيْهَا لَعْنَة) إِنَّمَا قَالَ صلى الله عليه وآله وسلم هَذَا زَجْرًا لَهَا وَلِغَيْرِهَا، وَكَانَ قَدْ سَبَقَ نَهْيهَا وَنَهْي غَيْرهَا عَنْ اللَّعْن، فَعُوقِبَتْ بِإِرْسَالِ النَّاقَة، وَالْمُرَاد النَّهْي عَنْ مُصَاحَبَته لِتِلْكَ النَّاقَة فِي الطَّرِيق، وَأَمَّا بَيْعهَا وَذَبْحهَا وَرُكُوبهَا فِي غَيْر مُصَاحَبَته صلى الله عليه وآله وسلم، وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَات الَّتِي كَانَتْ جَائِزَة قَبْل هَذَا فَهِيَ بَاقِيَة عَلَى الْجَوَاز؛ لِأَنَّ الشَّرْع إِنَّمَا وَرَدَ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُصَاحَبَة، فَبَقِيَ الْبَاقِي كَمَا كَانَ.

وعن جابر رضي الله عنه قال: سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي غَزْوَة ورَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى نَاضِحٍ لَهُ فَأَنَاخَهُ فَرَكِبَهُ ثُمَّ بَعَثَهُ، فَتَلَدَّنَ عَلَيْهِ بَعْضَ التَّلَدُّنِ؛ فَقَالَ لَهُ:«شَأْ لَعَنَكَ اللهُ» فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ هَذَا اللَّاعِنُ بَعِيرَهُ؟» .

قَالَ: «أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ» .

ص: 488

قَالَ: «انْزِلْ عَنْهُ فَلَا تَصْحَبْنَا بِمَلْعُونٍ، لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنْ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ» . (رواه مسلم). (فَتَلَدَّنَ عَلَيْهِ بَعْض التَّلَدُّن) أَيْ تَلَكَّأَ وَتَوَقَّفَ.

(شَأْ) كَلِمَة زَجْر لِلْبَعِيرِ. وَفِي هَذَا الْحَدِيث النَّهْي عَنْ لَعْن الدَّوَابّ.

فهذا كله يدلُّ على أنَّ دعاء الغضبانِ قد يُجاب إذا صَادف ساعةَ إجابةٍ، وأنَّه ينهى عن الدعاء على نفسه وأهله وماله في الغضب.

وقول النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا غَضِبَ أحَدُكُمْ، فليَسْكُتْ» (صحيح رواه الإمامُ أحمد) يدلُّ على أنَّ الغضبانَ مُكَلَّفٌ في حال غضبه بالسكوت، فيكون حينئذٍ مؤاخذًا بالكلام، وقد صحَّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم:أنَّه أمر من غضب أنْ يتلافى غضبَه بما يُسكنه من أقوال وأفعال، وهذا هو عينُ التكليف له بقطع الغضب.

وقال عطاءُ بنُ أبي رباح: «ما أبكى العلماءَ بكاء آخرِ العمرِ من غضبة يغضبُها أحدُهُم فتهدِمُ عملَ خمسين سنة، أو ستين سنة، أو سبعين سنة، وربَّ غضبة قد أقحمت صاحبها مقحمًا ما استقاله» .

وعن خويلة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أنَّها راجعت زوجَها، فغَضِبَ، فظاهر منها، وكان شيخًا كبيرًا قد ساء خُلُقُه وضَجِرَ، وأنَّها جاءت إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، فجعلت تشكو إليه ما تلقى من سوء خلقه، فأنزل الله آيةَ الظهار، وأمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكفارة الظِّهار (حسن رواه الإمام أحمد).

فهذا الرجل ظاهر في حال غضبه، وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يرى حينئذ أنَّ الظهارَ طلاق، وقد قال: إنَّها حَرُمَتْ عليه بذلك، يعني: لزمه الطلاق، فلما جعله الله ظهارًا مكفرًا ألزمه بالكفارة، ولم يُلْغِهِ.

وروى مجاهد عن ابنِ عباس: أنَّ رجلًا قال له: إني طلقت امرأتي ثلاثًا وأنا غضبان، فقال: إنَّ ابنَ عباس لا يستطيع أنْ يُحِلَّ لك ما حرَّم الله عليك، عصيتَ ربَّك وحرمت عليك امرأتك. (رواه الدارقطني بإسناد على شرط مسلم).

ص: 489

• حصاد الغضب:

قلة الحلم وكثرة الغضب آفتان عظيمتان، إذا انتشرتا في مجتمعٍ ما قوَّضَتَا بُنيانه، وهدَمَتا أركانه، وقادتا المجتمع إلى هوة سحيقة، ونخَرتا كما ينخر السوس في جسد المجتمع المسلم حتى يؤدي به إلى الهلاك والعياذ بالله.

ألسنا نرى ضياع المجتمعات الإسلامية، واندثار آدابها وكثرة الخلافات بين دولها وشعوبها فساعد ذلك على تقطيع الأواصر والروابط، وإشاعة أجواء التباغض والتدابر والتحاسد وإظهار الشماتة على الأمة المسلمة من قبل أعدائها.

انظروا مثلا إلى الحالات المتعددة والمنتشرة للطلاق أو ما يكون بين الزوجين من شقاق، مما أدى إلى التفريق، وهدم البيوت، وتفويض الأسر، أليس ذلك في الغالب نتيجة من الغضب وقلة الحلم؟

حيث ترى الزوج بعد ذهاب غضبه يندم ولاتَ ساعةَ مَنْدَم، ويتأسف على ما مضى، ويرى أنه قد جنى على نفسه بالحرمان وعلى زوجته بالعقوبة ولا ذنب لها، ويَتَّمَ أولاده وهو لم يزل حيًّا ثم يبحث لنفسه عن المعاذير، ويقلب في الفتاوى لدى المفتين لمحو غلطة ارتكبها دون تفكير أو روية، أو تدرُجٍ في التأديب، مما تسبب في هدمٍ كان بإمكانه علاجه لو ملك عقله، وأشهر حلمه، وكف غضبه.

وقد يغضب الإنسان غضباً شديداً فيعاقب أبناءه بما يندم عليه، أو يموت منه كمداً، وإن من نتائج الغضب وثمراته أنك ترى إخوة من أب واحد يختلفون فيما بينهم لأتفه الأسباب فيعمل الغضب فيهم عمله فيتعادون ويتقاطعون، فيتبدد بذلك شمل الأسر وتراهم يتسابُّون ويتشاتمون وقد أخذهم الغضب كل مأخذ.

بل أحيانًا يقتل المسلم أخاه أو زوجته نتيجة الغضب.

قال أحد السلف: ما تكلمت في غضبي قط بما أندم عليه إذا رضيت.

وقال بعض الحكماء لابنه: «يا بني لا يثبُتُ العقلُ عند الغضب كما لا تَثْبُتُ روحُ الحي في التَنَانِير المسجورة، فأقل الناس غضباً أعقلهم» . (التَنّور: الفرن يُخبَزُ فيه).

ص: 490