الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعناها
هذه الصلاة تؤدَّى بأية صيغة كانت، وأفضلها ـ كما قال كثير من العلماء ـ هي الصلاة الإبراهيميّة التي تُقال بعد التشهد الأخير في الصلاة؛ لأن الأحاديث الصحيحة وردت في أنها هي التي علَّمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه.
• بعض الأحاديث الواردة في كيفية الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم:
1 -
عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم وَنَحْنُ فِي مَجْلِسِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ لَهُ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ: أَمَرَنَا اللهُ تَعَالَى أَنَّ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ؛ فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟
فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم:«قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» (رواه مسلم).
ورواه الترمذي ولفظه:
…
قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: «قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ؛ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» (صحيح).
2 -
عن أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ رضي الله عنه أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: «قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ؛ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» (رواه البخاري).
3 -
عن عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى قَالَ لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ فَقَالَ: أَلَا أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً سَمِعْتُهَا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم؟ فَقُلْتُ: بَلَى، فَأَهْدِهَا لِي. فَقَالَ: سَأَلْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ فَإِنَّ اللهَ قَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ؟ قَالَ: «قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى
آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ؛ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ». (رواه البخاري).
قَوْلهم: (كَيْف نُسَلِّم عَلَيْك) قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فِيهِ إِشَارَة إِلَى السَّلَام الَّذِي فِي التَّشَهُّد وَهُوَ قَوْل: «السَّلَام عَلَيْك أَيّهَا النَّبِيّ وَرَحْمَة اللهِ وَبَرَكَاته» ؛ فَيَكُون الْمُرَاد بِقَوْلِهِمْ: «َكَيْف نُصَلِّي عَلَيْك» أَيْ بَعْد التَّشَهُّد.
4 -
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، هَذَا التَّسْلِيمُ فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ:«قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ. وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ» (رواه البخاري).
5 -
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا السَّلَامُ عَلَيْكَ فَكَيْفَ نُصَلِّي؟ قَالَ: «قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ» (رواه البخاري).
6 -
عن أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟
قَالَ: «قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ؛ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» (رواه البخاري ومسلم).
• وقد ذكر الشيخ الألباني رحمه الله ما ثبت من صيغ الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك في كتابه (صفة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم):
1 -
قال الشيخ الألباني: وهذا كان يدعو به هو نفسه صلى الله عليه وآله وسلم.
2 -
3 -
«اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ؛ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ؛ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» (رواه أحمد والنسائي وأبو يعلى).
4 -
5 -
«اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى ِإبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ» (رواه البخاري والنسائي والطحاوي وأحمد)
6 -
7 -
«اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ؛ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» (رواه النسائي والطحاوي).
• حكم كتابة (ص) و (صلعم) إذا ذُكِرَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بدلًا من كتابتها كاملة:
الذي ينبغي أن نعمله هو أن نصلي عليه صلى الله عليه وآله وسلم لفظًا كاملًا ونكتب ذلك كاملًا.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: «
…
وبما أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مشروعة في الصلوات في التشهد، ومشروعة في الخطب والأدعية والاستغفار، وبعد الأذان، وعند دخول المسجد، والخروج منه، وعند ذكره، وفي مواضع أخرى، فهي تتأكد عند كتابة اسمه في كتاب، أو مؤلَّف، أو رسالة، أو مقال، أو نحو ذلك.
والمشروع أن تكتب كاملةً تحقيقًا لما أمرنا الله تعالى به، ولِيَتَذَكّرها القارئ عند مروره عليها، ولا ينبغي عند الكتابة الاقتصار في الصلاة على رسول الله على كلمة (ص) أو (صلعم) وما أشبهها من الرموز التي قد يستعملها بعض الكتبة والمؤلفين؛ لما في ذلك من مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز بقوله:
{صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (الأحزاب:56).
مع أنه لا يتم بها المقصود وتنعدم الأفضلية الموجودة في كتابة صلى الله عليه وسلم كاملة. وقد لا ينتبه لها القارئ أو لا يفهم المراد بها، علمًا بأن الرمز لها قد كرهه أهل العلم وحذروا منه». (مجموع فتاوى الشيخ ابن باز (2/ 397 - 399).
• معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
معنى (اللهم):لا خلاف أن لفظة (اللهم) معناها: يا الله؛ ولهذا لا تستعمل إلا في الطلب، فلا يقال: اللهم غفور رحيم؛ بل يقال: اللهم اغفر لي وارحمني.
معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم:مَعْنَى صَلَاة اللهِ عَلَى نَبِيّه: ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ وَتَعْظِيمه.
وَصَلَاة الْمَلَائِكَة وَغَيْرهمْ عَلَيْهِ: طَلَب ذَلِكَ لَهُ مِنْ اللهِ تَعَالَى، وَالْمُرَاد طَلَب الزِّيَادَة لَا طَلَب أَصْل الصَّلَاة.
وَقِيلَ: صَلَاة اللهِ عَلَى خَلْقه تَكُون خَاصَّة وَتَكُون عَامَّة فَصَلَاتُه عَلَى أَنْبِيَائِهِ: هِيَ الثَّنَاء وَالتَّعْظِيم.
وَصَلَاتُه عَلَى غَيْرهمْ: الرَّحْمَة؛ فَهِيَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلّ شَيْء.
معنى (آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم):ذكر الإمام ابن القيم في (جلاء الأفهام) أن الناس اختلفوا في آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أربعة أقوال:
القول الأول: هم الذين حرمت عليهم الصدقة، وفيهم ثلاثة أقوال للعلماء:
1 -
أنهم بنو هاشم، وبنو المطلب.
2 -
أنهم بنو هاشم خاصة.
3 -
أنهم بنو هاشم ومَن فوقَهم إلى بني غالب.
القول الثاني: أن آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هم ذريته وأزواجه خاصة.
القول الثالث: أن آله صلى الله عليه وآله وسلم أتباعه إلى يوم القيامة.
القول الرابع: أن آله صلى الله عليه وآله وسلم هم الأتقياء من أمته.
ثم ذكر حجج هذه الأقوال، ثم قال:«والصحيح القول الأول ويليه القول الثاني. وأما الثالث والرابع فضعيفان» .
• معنى اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واشتقاقه:
هذا الاسم هو أشهر أسمائه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو في الأصل اسم مفعول من الحمد، وهو يتضمن الثناء على المحمود ومحبته وإجلاله وتعظيمه.
هذا هو حقيقة الحمد وبُني على زنة مُفَعَّل مثل مُعَظَّم، ومُحَبَّب، ومبجَّل، ونظائرها؛ لأن هذا البناء موضوع للتكثير.
فإن اشتق منه اسم فاعل، فمعناه من كثر صدور الفعل منه مرة بعد مرة، كمعلِّم، ومفهِّم، ومبيِّن، ومخلِّص، ونحوها، وإن اشتُقَّ منه اسم مفعول فمعناه من كثر تكرر وقوع الفعل عليه مرة بعد أخرى إما استحقاقًا أو وقوعًا.
فـ (محمَّد) هو الذي كثر حمد الحامدين له مرةً بعد أخرى، أوالذي يستحق أن يحمد مرة بعد أخرى.
فتسميته صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الاسم لما اشتمل عليه من مسماه وهو الحمد، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم محمودٌ عند الله، ومحمودٌ عند ملائكته، ومحمودٌ عند إخوانه من المرسلين، ومحمودٌ عند أهل الأرض كلهم، وإن كفر به بعضهم.
فإن ما فيه من صفات الكمال محمودٌ عند كل عاقل، وإن كابَرَ عقله جُحُودًا، أو عِنَادًا، أو جَهْلًا باتصافه بها، ولو عَلِمَ اتصافه بها لَحَمِدَهُ؛ فإنه يحمد من اتصف بصفات الكمال، ويجهل وجودها فيه، فهو في الحقيقة حامدٌ له.
وهو صلى الله عليه وآله وسلم اختُصَّ من مُسَمَّى الحمْد بما لم يجتمع لغيره؛ فإنه اسمه محمَّد وأحمد، وأمته الحمَّادون، يحمدون الله في السراء والضراء، وصلاتُه وصلاةُ أمَّتِه مفتَتَحة بالحمد
، وخطبته مفتَتَحة بالحمد، وكتابه ـ أي القرآن الكريم ـ مفتَتَح بالحمد، هكذا عند الله في اللوح المحفوظ أن خلفاءه وأصحابه يكتبون المصحف مفتتحًا بالحمد.
* وبيده صلى الله عليه وآله وسلم لواء الحمد (1) يوم القيامة، ولما يسجد بين يدي ربه عز وجل للشفاعة، ويُؤْذَنُ له فيها، يحمد ربه بمحامد يفتحها عليه حينئذ، وهو صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، قال تعالى:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (الإسراء:79).وإذا قام في ذلك المقام حَمِدَه حينئذ أهل الموقف كلهم مسلمُهم وكافرُهم أولهم وآخرهم.
* وهو محمود صلى الله عليه وآله وسلم بما ملأ الأرض من الهدى والإيمان والعلم النافع والعمل الصالح، وفتح به القلوب، وكشف به الظُلمة عن أهل الأرض، واستنقذهم من أسر الشياطين، ومن الشرك بالله والكفر به والجهل به، حتى نال به أتباعه شرف الدنيا والآخرة، فإن رسالته وافت أهل الأرض أحوج ما كانوا إليها، فإنهم كانوا بين عُبَّادِ أوْثان وعُبَّادِ صُلْبَان وعُبَّادِ نيران وعُبَّاد الكواكب، ومغضوبٍ عليهم قد باؤوا بغضب، وحَيران لا يعرف ربًا يعبده، ولا بماذا يعبده، والناس يأكلُ بعضُهم بعضًا، مَنْ استحسن شيئًا دعا إليه، وقاتل مَن خالَفه، وليس في الأرض موضع قدم مُشرقٌ بنورِ الرسالة.
وقد نظر الله سبحانه حينئذٍ إلى أهل الأرض، فمقَتَهم عرَبَهم وعَجَمَهم إلا بقايا على آثار مِن دينٍ صحيح، فأغاث الله به البلاد والعباد، وكشف به تلك الظُلَم، وأحيا به من الجهالة، وكثر بعد القلة، وأعز به بعد الذلة، وأغنى به بعد العَيْلة، وفتح به أعينًا عُميًا، وآذانًا صمًا، وقلوبًا غلفًا، فعرف الناس ربهم ومعبودهم.
وعرَّفهم الطريق الموصل لهم إلى ربهم ورضوانه ودار كرامته، ولم يدَعْ حسنًا إلا أمرهم به، ولا قبيحًا إلا نهى عنه، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:«إنَّه لَيْسَ شَيْءٌ يقرِّبُكُمْ إلى الجنَّة إلا قَدْ أمَرْتُكُمْ بِهِ، ولَيْسَ شيءٌ يقرِّبُكُمْ إلى النَّارِ إلا قَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْه» (حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة).
وعرَّفهم حالهم بعد القدوم على ربهم أتم تعريف، فكشف الأمر وأوضحه، ولم يدَعْ بابًا من العلمِ النافع للعباد المقرِّبِ لهم إلى ربهم إلا فتحه، ولا مشكلًا إلا بينه وشرحه، حتى هدى الله به القلوب من ضلالها وشفاها به من أسقامها، وأغاثها به من جهلها، فأي بشر أحق بأن يحمد منه صلى الله عليه وآله وسلم وجزاه عن أمته أفضل الجزاء.
* ومما يحمد عليه صلى الله عليه وآله وسلم ما جبله الله عليه من مكارم الأخلاق وكرائم الشيم، فإن من نظر في أخلاقه وشيمه صلى الله عليه وآله وسلم علم أنها خيرُ أخلاق، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم كان أعلم الخلق،
(1) عن أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ وَلَا فَخْرَ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمَ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَلَا فَخْرَ» . (صحيح رواه الترمذي).
قَوْلُهُ صلى الله عليه وآله وسلم: (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ) قَالَهُ إِخْبَارًا عَمَّا أَكْرَمَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ الْفَضْلِ وَالسُّؤْدُدِ، وَتَحَدُّثًا بِنِعْمَةِ الله تَعَالَى عِنْدَهُ وَإِعْلَامًا مِنْهُ لِأُمَّتِهِ لِيَكُونَ إِيمَانُهُمْ بِهِ عَلَى حَسْبِهِ وَمُوجِبِهِ، وَلِهَذَا أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ:
(وَلَا فَخْرَ) أَيْ أَنَّ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ الَّتِي نِلْتُهَا كَرَامَةً مِنْ اللهِ لَمْ أَنَلْهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِي وَلَا بَلَغْتُهَا بِقُوَّتِي فَلَيْسَ لِي أَنْ أَفْتَخِرَ بِهَا، قَالَهُ الْجَزَرِيُّ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ اِمْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّك فَحَدِّثْ} .
وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ مِنْ الْبَيَانِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ تَبْلِيغُهُ إِلَى أُمَّتِهِ لِيَعْرِفُوهُ وَيَعْتَقِدُوهُ وَيَعْمَلُوا بِمُقْتَضَاهُ فِي تَوْقيرِهِ صلى الله عليه وآله وسلم كَمَا أَمَرَهُمْ اللهُ تَعَالَى بِهِ» اِنْتَهَى.
«لِوَاءُ الْحَمْدِ» :اللواء: الرَّايَةُ، وَلَا يُمْسِكُهَا إِلَّا صَاحِبُ الْجَيْشِ.
ولِوَاءُ الْحَمْدِ عِبَارَةٌ عَنْ الشُّهْرَةِ وَانْفِرَادُهُ بِالْحَمْدِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِحَمْدِهِ لِوَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَقِيقَةً يُسَمَّى لِوَاءَ الْحَمْدِ.
قُلْت (أي المباركفوري ـ صاحب تحفة الأحوذي): حَمْلُ لِوَاءِ الْحَمْدِ عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ هُوَ الظَّاهِرُ بَلْ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُصَارُ إِلَى الْمَجَازِ مَعَ إِمْكَانِ الْحَقِيقَةِ.
«وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ» أَيْ لِلْبَعْثِ فَلَا يَتَقَدَّمُ أَحَدٌ عَلَيْهِ بَعْثًا، فَهُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وآله وسلم» اهـ بتصرف من (تحفة الأحوذي).
وأعظمهم أمانة، وأصدقهم حديثًا، وأجودهم وأسخاهم، وأشدهم احتمالًا، وأعظمهم عفوًا ومغفرةً، وكان لا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا.
كما روى البخاري في (صحيحه):عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ لَقِيتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي التَّوْرَاةِ.
(شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا):أَيْ شَاهِدًا عَلَى الْأُمَّة وَمُبَشِّرًا لِلْمُطِيعِينَ بِالْجَنَّةِ وَلِلْعُصَاةِ بِالنَّارِ، أَوْ شَاهِدًا لِلرُّسُلِ قَبْلَهُ بِالْإِبْلَاغِ.
(وَحِرْزًا) أَيْ حِصْنًا، وَالْأُمِّيِّينَ هُمْ الْعَرَب.
(سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّل) أَيْ عَلَى اللهِ؛ لِقَنَاعَتِهِ بِالْيَسِيرِ، وَالصَّبْر عَلَى مَا كَانَ يَكْرَه.
(لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظ) هُوَ مُوَافِق لِقَوْلِه تَعَالَى (فَبِمَا رَحْمَة مِنْ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنْت فَظًّا غَلِيظ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) وَلَا يُعَارِض قَوْله تَعَالَى: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} ؛ لِأَنَّ النَّفْي بِالنِّسْبَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْأَمْر بِالنِّسْبَةِ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ كَمَا هُوَ مُصَرَّح بِهِ فِي نَفْس الْآيَة.
(وَلَا سَخَّاب) السَّخَب وَيُقَال فِيهِ الصَّخَبُ بِالصَّادِ بَدَلَ السِّينِ: هُوَ رَفْع الصَّوْتِ بِالْخِصَامِ.
(وَلَا يَدْفَع السَّيِّئَة بِالسَّيِّئَةِ) هُوَ مِثْل قَوْله تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن} .
(وَلَنْ يَقْبِضه) أَيْ يُمِيته.
(حَتَّى يُقِيم بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ) أَيْ مِلَّةَ الْعَرَبِ، وَوَصَفَهَا بِالْعِوَجِ لِمَا دَخَلَ فِيهَا مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَالْمُرَاد بِإِقَامَتِهَا أَنْ يَخْرُجَ أَهْلُهَا مِنْ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ ويَنْفِيَ الشِّرْك وَيُثْبِت التَّوْحِيد.
قَوْله: (فَيَفْتَح بِهَا) أَيْ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيد (أَعْيُنًا عُمْيًا) أَيْ عَنْ الْحَقّ.
وَقَوْله: (وَقُلُوبًا غُلْفًا) أَي مُغَشَّاة مغطاة. وقيل: لا تفقه.
وقيل: عليها غشاوة. وقيل: عليها غلاف، وهو الغطاء.
صَلّى عليكَ اللهُ يا خيرَ الورَى
…
ما حنَّ مشتاقٌ إلي رؤْيَاكَا
وعلى صحابتِك الكرامِ جميعِهِم
…
والتابعينَ وكُلِّ مَن وَالاكَا
* قال الحسن البصري رحمه الله: «إن المؤمنَ رُزِقَ حلاوةً ومهابة» .
يعني يُحَب ويُهَاب ويُجَلّ بها، ألبسه الله سبحانه وتعالى من ثوب الإيمان المقتضي لذلك، ولهذا لم يكن بشرٌ أحبَّ إلى بشرٍ ولا أهيب وأجَلَّ في صدره من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صدر الصحابة رضي الله عنهم.
قَالَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ رضي الله عنه: «مَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَلَا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلَالًا لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ؛ لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ» (رواه مسلم).
فلما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مشتملًا على ما يقتضي أن يحمد مرة بعد مرة سمي محمدًا، وهو اسم موافق لمسماه، ولفظ مطابق لمعناه.
• ذكر إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام:
جعل الله سبحانه وتعالى إبراهيم الأب الثالث للعالم، فإن أبانا الأول آدم، والأب الثاني نوح، وأهل الأرض كلهم من ذريته، كما قال تعالى:{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} (الصافات:77).والأب الثالث إمام الحنفاء الذي اتخذه الله خليلًا، وجعل النبوة والكتاب في ذريته، ذاك خليل الرحمن.
ولم يأمر الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتبع ملة أحد من الأنبياء غيره، فقال تعالى:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين} (النحل:123)، وأمر أمَّتَه بذلك فقال تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} (الحج:78).
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوصي أصحابه رضي الله عنهم إذا أصبحوا أن يقولوا: «أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَعَلَى كَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ، وَعَلَى دِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وَعَلَى مِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ» . (صحيح رواه الدارمي وغيره).
وسماه الله سبحانه وتعالى إبراهيم: إمامًا وأمة، وقانتًا، وحنيفًا. وقال تعالى:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (البقرة:124)، فأخبر سبحانه أنه جعله إمامًا للناس، وأن الظالم من ذريته لا ينال رتبة الإمامة، والظالم هو المشرك، وأخبر سبحانه أن عهده بالإمامة لا ينال من أشرك به.
وقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (النحل:120 - 121).
فالأمَّة: هو القدوة المعلم للخير، والقانت: المطيع لله الملازم لطاعته، والحنيف المقبل على الله، المعرض عما سواه.
وكان خير بَنِيه ـ سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ـ يُجِلّه ويعظمه ويبجله ويحترمه؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم:«ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام» . (رواه مسلم).
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا» ، ثُمَّ قَرَأَ {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} ، وَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ» (رواه البخاري). (غُرْلًا):غَيْر مَخْتُونِينَ.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشبه الخلق بإبراهيم؛، كما في الصحيحين عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ:«رَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ ـ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ ـ فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا صَاحِبُكُمْ» يَعْنِي نَفْسَهُ».
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يُعَوِّذ أولاد ابنته: حَسَنًا وحُسَيْنًا رضي الله عنهما بتعويذ إبراهيم لإسماعيل وإسحاق عليهم السلام؛ ففي صحيح البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَيَقُولُ: «إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ»
(إِنَّ أَبَاكُمَا) يُرِيد إِبْرَاهِيم عليه السلام.
(بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ) الْمُرَاد بِالتَّامَّةِ: الْكَامِلَة، وَقِيلَ: النَّافِعَة، وَقِيلَ: الشَّافِيَة، وَقِيلَ: الْمُبَارَكَة، وَقِيلَ: الْقَاضِيَة الَّتِي تَمْضِي وَتَسْتَمِرّ وَلَا يَرُدّهَا شَيْء وَلَا يَدْخُلهَا نَقْص وَلَا عَيْب.
وكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَد رحمه الله يَسْتَدِلّ بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّ كَلَام اللهِ غَيْر مَخْلُوق، وَيَحْتَجّ بِأَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم لَا يَسْتَعِيذ بِمَخْلُوقٍ.
(مِنْ كُلّ شَيْطَان) يَدْخُل تَحْته شَيَاطِين الْإِنْس وَالْجِنّ.
(وَهَامَّة) وَاحِدَة الْهَوَامّ ذَوَات السَّمُوم، وَقِيلَ: كُلّ مَا لَهُ سُمٌّ يَقْتُل، وَقِيلَ: الْمُرَاد كُلّ نَسَمَة تَهُمُّ بِسُوءٍ.
قَوْلُهُ: (وَمِنْ كُلّ عَيْن لَامَّة) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَاد بِهِ كُلّ دَاء وَآفَة تُلِمّ بِالْإِنْسَانِ مِنْ جُنُون وَخَبَل.
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قال: {حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ؛ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وآله وسلم حِينَ قَالُوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (رواه البخاري).
•
معنى قول: اللَّهم بارك على محمّد وعلى آل محمّد:
البركة: النماء والزيادة.
والتبريك: الدعاء بذلك. ويقال: باركه الله وبارك فيه، وبارك عليه، وبارك له.
وفي القرآن الكريم: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاق} (الصافات:113)، وفيه:
{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} (الأنبياء:71).
وقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رضي الله عنهما:عَلَّمَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ إِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ» . (صحيح رواه أصحاب السنن).
والْمُبَارَك: الذي قد بارَكه الله سبحانه، كما قال المسيح عليه السلام:{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} (مريم:30 - 31).
وكتاب الله مبارَك، قال تعالى:{وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} (الأنبياء:50)، وقال:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (ص:29)، وهو أحق أن يسمى مباركا من كل شيء؛ لكثرة خيره ومنافعه، ووجوه البركة فيه.
والرب تعالي يقال في حقه: «تبارك» ، ولا يقال: مبارك.
وقال الحسن: «تبارك» :تجيء البركة من قِبَله.
وقال الضحاك: تبارك: تعاظم. وقال الخليل بن أحمد: تمجد.
وقال الحسين بن الفضل: تبارك في ذاته، وبارك فيمن شاء من خلقه.
قال الإمام ابن القيم: وهذا أحسن الأقوال.
ولا يوصف بهذه اللفظة إلا الله سبحانه وتعالى، ولا تتصرف هذه اللفظة في لغة العرب، لا يستعمل منها مضارع ولا أمر.
وقول: «وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ» :هذا الدعاء يتضمن إعطاءه من الخير ما أعطاه لآل إبراهيم، وإدامته وثبوته له، ومضاعفته له وزيادته، هذا حقيقة البركة.
وقد قال تعالى في إبراهيم وآله: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} (الصافات:112 - 113)، وقال تعالى فيه وفي أهل بيته:{قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} (هود:73).
وتأمل كيف جاء في القرآن: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} (الصافات:113) ولم يذكر إسماعيل؛ إيذانًا بما حصل لبَنِيهِ من الخير والبركة، لا سيما خاتمة بركتهم وأعظمها وأجلها برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنبهَهُم بذلك على ما يكون في بنيه من هذه البركة العظيمة الموافية على لسان المبارك صلى الله عليه وآله وسلم.
• اختتام الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم باسْمَيْن من أسماء الرب ـ وهما: الحميد والمجيد:
وذكر هذين الاسمين: الحميد والمجيد عقب الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مطابق لقوله تعالى: {رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} (هود:73).
ولما كانت الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ وهي ثناء الله تعالى عليه وتكريمه والتنويه به، ورفع ذكره، وزيادة حبه وتقريبه ـ كانت مشتملة على الحمد والمجد، فكأن المصلي طلب من الله تعالى أن يزيد في حمده ومجده، فإن الصلاة عليه هي نوع حمد له وتمجيد، هذا حقيقتها، فذكر في هذا المطلوب الاسمين المناسبين له، وهما اسما الحميد والمجيد.
والداعي يُشرَع له أن يختم دعاءه باسم من الأسماء الحسنى مناسب لمطلوبه، أو يفتتح دعاءه به، وهذا من قوله عز وجل:{وَلِلهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}
(الأعراف:180)، وقال سليمان؛ في دعائه: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي
لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (ص:35)، وقال الخليل وابنه إسماعيل سدد خطاكم في دعائهما:{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة:128).
وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ يُعَدُّ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةُ مَرَّةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقُومَ: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ» (صحيح رواه الترمذي).
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ:«قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي» (صحيح رواه الترمذي).
ولما كان المطلوب للرسول صلى الله عليه وآله وسلم حمدًا ومجدًا بصلاة الله عليه، ختم هذا السؤال باسمي الحميد والمجيد.
وأيضًا فإنه لما كان المطلوب للرسول صلى الله عليه وآله وسلم حمدًا ومجدًا، وكان ذلك حاصلًا له، ختم ذلك بالإخبار عن ثبوت هذين الوصفين للرب سبحانه وتعالى بطريق الأولى، وكل كمال في العبد غير مستلزم للنقص، فالرب أحق به.
وأيضًا فإنه لما طلب للرسول صلى الله عليه وآله وسلم حمدًا ومجدًا بالصلاة عليه ـ وذلك يستلزم الثناء عليه ـ خُتِمَ هذا المطلوب بالثناء على مُرسِله عز وجل بالحمد والمجد، فيكون هذا الدعاء متضمنًا لطلب الحمد والمجد للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والإخبار عن ثبوته للرب سبحانه وتعالى.