الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
38 - لا تَظالموا
عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فِيمَا رَوَى عَنْ اللهِ تبارك وتعالى أَنَّهُ قَالَ:
«يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا.
يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ.
يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ.
يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ.
يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ
…
لَكُمْ.
يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي.
يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا.
يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ.
يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ» (رواهُ مسلمٌ).
• حرم الله عز وجل الظلم على نفسه:
قوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يروي عن ربه: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي» ، يعني: أنَّه منع نفسه من الظلم لعباده، كما قال عز وجل:{وَمَا أَنَا بِظَلَاّمٍ لِلْعَبِيدِ} (ق:29)، وقال:{وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} (غافر:31) وقال: {وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} (آل عمران:108)، وقال:{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَاّمٍ لِلْعَبِيدِ} (فصلت:46)، وقال: {إِنَّ اللهَ
لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} (يونس:44)، وقال:{إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} (النساء:40)، وقال:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} (طه:112)، والهضمُ: أنْ يُنقَصَ من جزاء حسناته، والظُّلم: أنْ يُعاقب بذنوب غيره، ومثل هذا كثير في القرآن، وهو مما يدلُّ على أنَّ الله قادرٌ على الظلم، ولكنَّه لا يفعلُه فضلًا منه وجودًا، وكرمًا وإحسانًا إلى عباده.
وقد فسَّر كثيرٌ من العلماء الظلمَ: بأنَّه وضعُ الأشياء في غير موضعها.
وعَنْ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ قَالَ: وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْقَدَرِ خَشِيتُ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيَّ دِينِي وَأَمْرِي فَأَتَيْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَقُلْتُ: «أَبَا الْمُنْذِرِ إِنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْقَدَرِ فَخَشِيتُ عَلَى دِينِي وَأَمْرِي فَحَدِّثْنِي مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَنْفَعَنِي بِهِ» .
فَأَتَيْتُ عَبْدَ اللهِ فَسَأَلْتُهُ فَذَكَرَ مِثْلَ مَا قَالَ أُبَيٌّ وَقَالَ لِي: «وَلَا عَلَيْكَ أَنْ تَأْتِيَ حُذَيْفَةَ» ، فَأَتَيْتُ حُذَيْفَةَ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَا وَقَالَ:«ائْتِ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَاسْأَلْهُ» .
فَأَتَيْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ: «لَوْ أَنَّ اللهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ كَانَ لَكَ مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا ـ أَوْ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا ـ تُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ مَا قَبِلَهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلّه ِ؛ فَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ وَأَنَّكَ إِنْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ» (صحيح رواه ابن ماجه).
• الظُّلم نوعان:
وقوله عز وجل: «وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا» يعني: أنَّه تعالى حَرَّم الظلم على عباده، ونهاهم أنْ يتظالموا فيما بينهم، فحرامٌ على كلِّ عبدٍ أنْ يظلِمَ غيره، مع أنَّ الظُّلم في نفسه محرَّم مطلقًا، وهو نوعان:
أحدهما: ظلمُ النفسِ، وأعظمه الشِّرْكُ، كما قال تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان:13)، فإنَّ المشركَ جعل المخلوقَ في منزلةِ الخالق، فعبده وتألَّهه، فوضع الأشياءَ في غيرِ موضعها، وأكثر ما ذُكِرَ في القرآن مِنْ وعيد الظالمين إنَّما أُريد به المشركون، كما قال الله عز وجل:{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة:254)، ثمَّ يليه المعاصي على اختلاف أجناسها من كبائرَ وصغائرَ.
والثاني: ظلمُ العبدِ لغيره، وهو المذكورُ في هذا الحديث، وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته في حجة الوداع:«فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ» (رواه البخاري ومسلم).
وفي (الصحيحين) عن ابنِ عمر، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال:«الظُلمُ ظُلُماتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ» .وفيهما عن أبي موسى، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال:«إنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إذَا أخَذَهُ لم يُفْلِتْه» ، ثمَُّ قَرَأ:{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} . (هود:102).
رقدتْ عيونُ الظالمينَ ولم
…
ترقدْ لمظلومٍ مظالمُهُ
ومَن اعتدَى فاللهُ خاذلُهُ
…
ومَن اتقَى فاللهُ عاصمُهُ
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ» . (رواه البخاري).
أمَا واللهِ إنّ الظلمَ شُؤْمٌ وما زال الظلومُ هو الملومُ
إلى ديَّانِ يومِ الدينِ نمضي وعند اللهِ تجتمعُ الخصومُ
ستعلمُ في الميعادِ إذِ التقَيْنا
…
غدًا عند المليكِ مَن الظلومُ
• جميعَ الخلق مُفتقرون إلى الله:
«يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ.
يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ.
يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ.
يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ».
هذا يقتضي أنَّ جميعَ الخلق مُفتقرون إلى الله تعالى في جلب مصالحهم، ودفع مضارِّهم في أمور دينهم ودُنياهم، وإنَّ العباد لا يملِكُون لأنفسهم شيئًا مِنْ ذلك كلِّه، وإنَّ مَنْ لم يتفضَّل اللهُ عليه بالهدى والرزق، فإنَّه يُحرمهما في الدنيا، ومن لم يتفضَّل اللهُ عليه بمغفرة ذنوبه، أوْبَقَتْهُ خطاياه في الآخرة.
قال الله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} (الكهف:17)، ومثل هذا كثيرٌ في القرآن، وقال تعالى:{مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} (فاطر:2)، وقال:{إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (الذاريات:58)، وقال:{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} (العنكبوت:17)، وقال:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَاّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} (هود:6)
وقال تعالى حاكيًا عن آدم وزوجه أنَّهما قالا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الأعراف:23)، وعن نوح عليه السلام أنَّه قال:{وإلَاّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (هود:47).
وقد استدلَّ إبراهيمُ الخليلُ عليه السلام بتفرُّد الله عز وجل بهذه الأمور على أنَّه لا إله غيره، وإنَّ كلَّ ما أشرك معه، فباطل، فقال لقومه: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ
الأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَاّ رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} (الشعراء:75 - 82).
فإنَّ من تفرَّد بخلق العبد وبهدايته وبرزقه وإحيائه وإماتته في الدنيا، وبمغفرة ذنوبه في الآخرة، مستحقٌّ أنْ يُفرَدَ بالإلهية والعبادة والسؤال والتضرُّع إليه، والاستكانة له. قال الله عز وجل:{اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الروم:40).
وفي الحديث دليلٌ على أنَّ اللهَ يحبُّ أنْ يسألَه العبادُ جميعَ مصالح دينهم ودنياهم، مِنَ الطَّعام والشراب والكسوة وغير ذلك، كما يسألونه الهداية والمغفرة.
وكان بعضُ السَّلف يسأل الله في صلاته كلَّ حوائجه حتّى ملحَ عجينه وعلفَ شاته؛ فإنَّ كلَّ ما يحتاج العبد إليه إذا سأله من الله فقد أظهرَ حاجتَه فيه، وافتقاره إلى الله، وذلك يحبُّه الله عز وجل.
• الهدايةَ نوعان: قوله عز وجل: «كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ» .
أما سؤالُ المؤمن من الله الهداية، فإنَّ الهدايةَ نوعان:
هداية مجملة: وهي الهدايةُ للإسلام والإيمان وهي حاصلة للمؤمن.
وهدايةٌ مفصلة: وهي هدايته إلى معرفة تفاصيلِ أجزاء الإيمان والإسلام، وإعانتُه على فعل ذلك، وهذا يحتاج إليه كلُّ مؤمن ليلًا ونهارًا، ولهذا أمر الله عباده أنْ يقرؤوا في كُلِّ ركعةٍ من صلاتهم قوله:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} .
وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دعائه بالليلِ: «اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» (رواه مسلم)، ولهذا يُشمَّتُ العاطس، فيقال له:«يَرْحَمُكَ الله» فيقول: «يَهْدِيكُمُ اللهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ» كما جاءت السنة بذلك.
وقد أمرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم عليًّا رضي الله عنه بأنْ يسألَ الله عز وجل السَّداد والهدى، فعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «قُلْ اللهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي، وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ وَالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْمِ» (رواه مسلم).
وقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رضي الله عنهما:عَلَّمَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ إِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ» . (صحيح رواه أصحاب السنن).
«يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ» . الاستغفارُ من الذنوب، هو طلبُ المغفرة، والعبدُ أحوجُ شيءٍ إليه؛ لأنَّه يخطئ بالليل والنهار، وقد تكرَّر في القرآن ذكرُ التوبة والاستغفارِ، والأمرُ بهما، والحثُّ عليهما، وقال النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال:«كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَابُونَ» (حسن رواه الترمذي وابن ماجه).
يعني: أنَّ العباد لا يَقدِرُونَ أنْ يُوصِلُوا إلى الله نفعًا ولا ضرًّا، فإنَّ الله تعالى في نفسه غنيٌّ حميدٌ، لا حاجةَ له بطاعات العباد، ولا يعودُ نفعُها إليه، وإنَّما هُم ينتفعون بها، ولا يتضرَّرُ بمعاصيهم، وإنَّما هم يتضررون بها، قال الله تعالى:{وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا} (آل عمران:176).
وقال عز وجل: {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا} (آل عمران:144).
وقال الله عز وجل: {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} (النساء:131)، وقال حاكيًا عن موسى:{وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} (إبراهيم:8)، وقال:{وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (آل عمران:97)، وقال:{لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} (الحج:37).
والمعنى: أنَّه تعالى يُحبُّ من عباده أنْ يتَّقوهُ ويُطيعوه، كما أنَّه يكره منهم أنْ يَعْصُوه، ولهذا يفرح بتوبة التائبين أشدَّ من فرح من ضَلَّتْ راحلته التي عليها طعامُه وشرابُه بفلاةٍ مِنَ الأرض، وطلبها حتى أعيى وأيِسَ منها، واستسلم للموت، وأيس من الحياة، ثم غلبته عينُه فنام، فاستيقظ وهي قائمةٌ عنده، وهذا أعلى ما يتصوره المخلوقُ من الفرح.
هذا كلُّه مع غناه عن طاعات عباده وتوباتهم إليه، وإنَّه إنَّما يعودُ نفعُهَا إليهم دونه، ولكن هذا من كمال جوده وإحسّانه إلى عباده، ومحبته لنفعهم، ودفع الضَّرر عنهم، فهو يُحِبُّ من عباده أنْ يعرفوه ويحبُّوه ويخافوه ويتَّقوه ويطيعوه ويتقرَّبوا إليه، ويُحِبُّ أنْ يعلموا أنَّه لا يغفر الذنوب غيره، وأنَّه قادرٌ على مغفرة ذنوب عباده.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عز وجل قَالَ: «أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَالَ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تبارك وتعالى: «أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ» ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تبارك وتعالى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تبارك وتعالى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ؛ اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ». (رواه البخاري ومسلم).
قوْله عز وجل لِلَّذِي تَكَرَّرَ ذَنْبه: (اِعْمَلْ مَا شِئْت فَقَدْ غَفَرْت لَك) مَعْنَاهُ: مَا دُمْت تُذْنِب ثُمَّ تَتُوب غَفَرْتُ لَك.
وفي الصحيحين عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «واللهِِ لَلهُ أرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنَ الوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا» .
وتأملوا حال صبي يبكي وأمه تضرِبهُ، ثُمَّ أخرجَتْه من الدار، وأغلقت البابَ دونه، فجعل الصبيُّ يتلفَّتُ يمينًا وشمالًا لا يدري أين يذهب ولا أين يقصِدُ، فرجع إلى باب الدار، فجعلَ يبكي ويقول: يا أماه من يَفْتَحُ لي الباب إذا أغلقت عني بابَك؟ ومن يُدنيني من نفسه إذا طردتيني؟ ومن الذي يدنيني بعد أنْ غضبت عليَّ؟
فرَحِمَتْه أمُّه، فقامت، فنظرَتْ من خَلَلِ الباب، فوجدت ولدها تجري الدموعُ على خديه متمعِّكًا في التراب، ففتحت البابَ، وأخذته حتى وضعته في حجرها، وجعلت تُقبِّله، وتقول: يا قُرَّة عيني، ويا عزيز نفسي، أنتَ الذي حملتني على نفسك، وأنتَ الذي تعرَّضت لما حلَّ بك، لو كنتَ أطعتني لم تلقَ مني مكروهًا.
وتفكروا في قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَاّ اللهُ} (آل عمران:135)، فإنَّ فيه إشارةً إلى أنَّ المذنبين ليس لهم من يلجؤون إليه، ويُعوِّلون عليه في مغفرة ذنوبهم غيره، وكذلك قوله في حقِّ الثلاثة الذين خُلِّفوا:{حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَاّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (التوبة:118)، فرتَّب توبته عليهم على ظنِّهم أنْ لا ملجأ من الله إلا إليه.
فإنَّ العبدَ إذا خاف من مخلوقٍ، هرب منه، وفرَّ إلى غيره، وأمَّا من خاف من الله، فما له منْ ملجأ يلجأُ إليه، ولا مهرب يهربُ إليه إلَاّ هو، فيهرُب منه إليه، كما قَالَ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ قُلْ: اللهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَالْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، اللهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ» قَالَ: فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فَلَمَّا بَلَغْتُ: اللهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ» قُلْتُ: «وَرَسُولِكَ» ، قَالَ:«لَا، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ» (رواه البخاري ومسلم).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «أعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وبِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَبِكَ مِنْكَ» (رواه مسلم).
أسأتُ ولم أُحْسِنْ وجئتُكَ تائبًا
…
وأنَّى لِعَبْدٍ عن مواليه مَهْرَبُ
يُؤَمِّلُ غُفَرانًا فإنْ خَابَ ظَنُّه
…
فما أَحَدٌ منه على الأرضِ أخيَبُ