الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث التاسع
281/ 9/ 53 - عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن"(1).
الكلام عليه من وجوه:
والتعريف براويه سبق في الحديث السابع من باب الإِمامة. الأول: مقتضى النهي عن ثمن الكلب تحريم بيعه والعموم في كل كلب سواء المعلم وغيره وسواء ما يجوز اقتناؤه وغيره. وهو صريح في أنه لا يحل ثمنه ويلزم من ذلك أنه لا قيمة على متلفه وبهذا، قال جمهور العلماء: منهم أبو هريرة والحسن البصري وربيعة والأوزاعي والحكم وحماد والشافعي وأحمد وداود وابن المنذر وغيرهم.
(1) البخاري أطرافه (2237)، ومسلم (1567)، وأبو داود في البيوع (3428) باب: في حلوان الكاهن، والترمذي (2276)، والنسائي (7/ 309)، ومالك في الموطأ (2/ 656)، والشافعي في الأم (7/ 221)، وابن ماجه (2159)، والبيهقي (6/ 126)، والسنن الصغرى له (2/ 276)، ومعرفة السنن والآثار له (8/ 172).
وقال أبو حنيفة: يصح بيع الكلاب التي فيها منفعة وتجب القيمة على متلفيها.
وحكى ابن المنذر عن عطاء وجابر والنخعي جواز بيع كلب الصيد دون غيره.
وعن مالك روايات (1):
أحدها: لا يجوز بيعه لكن تجب القيمة على متلفه.
ثانيها: يصح بيعه وتجب القيمة.
وثالثها: لا. فيهما، ونقل الفاكهي عن بعضهم: أنه حكى عن مالك جواز بيع الكلب في ثلاثة مواضع في الشركة، وفي التفليس، وفي المغنم.
وقال ابن القاسم: يكره للبائع، ويجوز للمشتري للضرورة. حكاه القرطبي في "مفهمه"(2).
وقال المازري (3) منهم: سبب اختلاف أصحابنا في بيع كلب الصيد أن من لم يبلغه النهي فيه عدد منافع الكلب ونظر هل جميعها يحرم فيمنع البيع أو محلل فيجيزه أو مختلفة فينظر هل المقصود المحرم أو المحلل ويجعل الحكم للغالب أو يكون فيه منفعة واحدة محرمة خاصة وهي مقصودة فيمتنع أو يلتبس كونها مقصودة فيقف أو يقول بالكراهة؟
(1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 249).
(2)
المفهم (5/ 2797).
(3)
المعلم بفوائد مسلم (2/ 241).
قال: ومن كره البيع، قال: ليس إباحة المنفعة تجيز البيع كأم الولد ينتفع بها ولا تباع، قال: ومن أجازه حمل الحديث على ما لا يحل اقتناؤه واتخاذه أو على أنه كان حين أمر بقتل الكلاب (1) فلما وقعت الرخصة في كلب [الزرع](2) وما ذكر معه وأجيز اقتناؤه وقعت الرخصة.
واختلف أيضاً قول مالك في ما أبيح منها: [فقيل](3) بالإِجازة وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وقيل: بالمنع.
قلت: وحجة الجمهور هذا الحديث والذي بعده وغيرها من الأحاديث الصحيحة كحديث ابن عباس رضي الله عنه قال [نهى](4) رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، وقال:"إن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه تراباً"، رواه أبو داود بإسناد صحيح (5). وكحديث
(1) من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بقتل الكلاب، فننبعث في المدينة وأطرافها فلا ندع كلباً إلَاّ قتلناه حتى إنا لنقتل كلب المرية من أهل البادية يتبعها". البخاري (3223)، ومسلم (1570)، وأحمد (3/ 113)، والنسائي (7/ 184، 185)، وابن ماجه (3202) وجاء النسخ في حديث أبي هريرة ولفظه:"أمر بقتل الكلاب إلَاّ كلب صيد أو غنم أو ماشية". مسلم (1571).
(2)
في ن هـ (الضرع).
(3)
زيادة من ن هـ.
(4)
زيادة من ن هـ.
(5)
أخرجه أبو داود في البيوع (3482) باب: في أثمان الكلاب، والنسائي (7/ 309)، وأحمد (1/ 278، 289، 350، 235)، وابن حزم في المحلى (9/ 10)، والبيهقي في البيوع (6/ 6)، والطيالسي (1317). =
أبي هريرة رفعه: "لا يحل ثمن الكلب ولا حلوان الكاهن ولا مهر البغي". رواه أبو داود بإسناد حسن (1) وصح من حديث ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه" رواه أبو داود بإسناد صحيح (2).
قال ابن المنذر: لا معنى لقول من جوز بيع الكلب لأنه مخالف للثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ونهيه عليه الصلاة والسلام
= وسكت عنه المنذري في مختصر السنن (5/ 126).
وقال الحافظ ابن حجر في "تلخيص الحبير"(3/ 3): وأخرج أبو داود حديث ابن عباس وأبي هريرة ورجالهما ثقات. اهـ. وقال في الفتح (4/ 426): إسناده صحيح.
(1)
أبو داود في البيوع (3484) باب: في أثمان الكلاب، والنسائي (7/ 190)، والبيهقي (6/ 6)، والطحاوي (4/ 52).
وقال الحافظ في التلخيص (3/ 3): رجاله ثقات.
وسكت عنه المنذري في مختصر السنن (5/ 127).
وقال في الفتح (4/ 426): إسناده حسن. وصححه ابن القيم في زاد المعاد (5/ 746).
(2)
أبو داود في البيوع (3341) باب: في ثمن الخمر والميتة، وأحمد (1/ 247، 293، 322)، والبيهقي (6/ 13، 14)، وإسناده صحيح.
وقد ورد عن عمر من رواية ابن عباس، عند البخاري (2223)(3460)، ومسلم (1582)، وابن الجارود (577)، والبيهقي (8/ 286)، والبغوي (2041)، وأبو يعلى (1/ 178)، والنسائي (7/ 177)، وابن ماجه (3383)، وعبد الرزاق (8/ 195، 196)، والحميدي (13): ومن رواية أبي هريرة أيصاً، وجابر بن عبد الله.
عام يدخل فيه جميع الكلاب، قال: ولا يعلم خبراً عارض الأخبار الثابتة، يعني: صحيحاً.
وقال البيهقي (1): الاستثناء المذكور في كلب الصيد [ليس](2) ثابتاً في الأحاديث الصحيحة.
قلت: وأما الأحاديث الواردة في النهي عن ثمن الكلب إلَاّ [كلب](3) صيد فرواية: "ثلاث كلهن سحت فذكر كسب الحجام ومهر البغي وثمن الكلب إلَاّ كلباً ضارياً"(4)، وعن عثمان رضي الله عنه أغرم إنساناً ثمن كلب قتله عشرين بعيراً" (5). وعن ابن عمرو بن العاص التغريم في إتلافه فقضي في كلب صيد قتله رجل بأربعين درهماً، وفي كلب ماشية بكبش (6)، وكلها ضعيفة باتفاق أئمة الحديث كما نقله عنهم النووي في شرح مسلم (7).
(1) السنن الكبرى (6/ 6، 7)، والسنن والمعرفة (8/ 177) انظر ت (2) ص 126.
(2)
في ن هـ ساقطة.
(3)
في ن هـ ساقطة.
(4)
السنن الكبرى (6/ 6).
(5)
السنن الكبرى (6/ 7)، والأم (3/ 12)، والسنن والمعرفة (8/ 175). قال البيهقي: قال الشافعي: فكيف يأمر بقتل ما يغرم من قتله قيمته. وقال أيضاً: إنها رواية منقطعة. انظر: السنن والمعرفة (8/ 175)، والسنن (6/ 7).
(6)
السنن والمعرفة (8/ 176)، وقد ضعفها بالانقطاع بين ابن جريج وعمرو بن شعيب والطريق الثانية بجهالة أحد رواته. السنن الكبرى (6/ 7، 8). ونقل عن البخاري فيه: بأن هذا حديث لم يتابع عليه.
قال الشيخ: والصحيح عن عبد الله بن عمرو خلاف هذا. اهـ.
(7)
شرح مسلم (10/ 233).
وقال الشيخ تقي الدين (1): ورد في بيع المعلم منه حديث في ثبوته بحث يحال على علم الحديث.
واحتج من جوز البيع من القياس بأنه حيوان يجوز الانتفاع به فأشبه الفهد ولأنه يجوز الانتفاع به والوصية به فأشبه الحمار.
والجواب: عن الأول [أنه](2) لا يسلم القياس المذكور، فإنه ظاهر بخلاف الكلب. وعن الثاني: بأن الوصية تحتمل ما لا يحتمل غيرها بدليل جوازها بالمجهول والمعدوم والآبق والعلة في منع ثمنه عند الشافعي نجاسته مطلقاً وهي قائمة في المعلم وغيره.
ومن يرى طهارته اختلف قوله في المعلم منه وعلة المنع غير عامة عنده.
وقال القرطبي (3): جل مذهب مالك ومشهوره على جواز الاتخاذ، وكراهة البيع، ولا يفسخ إن وقع، قال: وكأنه لما لم يكن الكلب عنده نجساً، وكاد مأذوناً في اتخاذه لمنافعه الجائزة، كان حكمه حكم جميع المبيعات، لكن الشرع نهى عن بيعه تنزيهاً، لأنه ليس من مكارم الأخلاق، وهذا انتصاراً منه لمذهبه. ثم قال: فإن قيل: فقد سوى عليه الصلاة والسلام بين ثمنه، وبين مهر البغي،
(1) إحكام الأحكام (4/ 67)، وانظر: كلام الصنعاني في حاشيته، أي حديث استثناء كلب الصيد. وانظر: مبحث لابن القيم -رحمنا الله وإياه- في "زاد المعاد" على هذا الحديث وعلى المنع من بيعه (5/ 766، 772).
(2)
في ن هـ (أنا).
(3)
المفهم (4/ 444)، ذكره في فتح الباري (4/ 427).
وحلوان الكاهن، والمهر، والحلوان، محرمان بالإِجماع، فليكن ثمن الكلب كذلك.
الجواب: أنا كذلك نقول لكنه محمول على الكلب الغير مأذون فيه [قال](1)[لئن](2) سلمنا: أنه [مساوٍ](3) للكل، [لكان](4) هذا النهي هنا قُصد به القدر المشترك الذي بين التحريم والكراهة إذ كل واحد منهما منهي عنه. ثم تؤخذ خصوصية كل واحد منهما من دليل آخر، كما اتفق ها هنا فإنا إنما علمنا تحريم مهر البغي، وحُلوان الكاهن بالإِجماع، لا بمجرد النهي سلمنا ذلك، لكنا لا نسلم: أنه يلزم من الاشتراك في مجرد العطف الاشتراك في جميع الوجوه، إذ قد يعطف الأمر على النهي، والإِيجاب و [القبول](5) على النفي. وإنما ذلك في محل مخصوص كما هو مبين في الأصول.
تنبيه: وقع في "جواهر" القاضي نجم الدين القمولي رحمه الله حكاية وجه في مذهب الشافعي في بيع الكلب الذي يجوز اقتناؤه وهو وهم منه [وقد](6) حكاه هو في "البحر" أصل "الجواهر"(7) عن بعض أصحاب مالك فاجتنب ذلك.
(1) في هـ ساقطة.
(2)
زيادة من هـ، والمرجع السابق.
(3)
في المفهم (متناول).
(4)
في المرجع السابق (لكن).
(5)
في ن هـ ساقطة والمرجع السابق.
(6)
في ن هـ (وهو).
(7)
سبق التعريف بمؤلفه.
فرع: اختلف أصحابنا في صحة إجارة الكلب للصيد والحراسة على وجهين:
أحدهما: يصح لأنها منافع تستحق بالإِعارة، فاستحقت بالإِجارة كسائر المنافع.
وأصحها: لا. لأنه لا قيمة لعينه فكذا منفعته.
فرع: تصح الوصية بالكلب المعلم كما سبق لثبوت الاختصاص فيه وانتقاله من يد إلى يد بالإِرث.
قاعدة: منافع الأعيان المقصودة للمكلفين إما أن تكون كلها مباحة، أو محرمة، أو بعضها حراماً، وبعضها مباحاً.
فالأول: كالعروض.
والثاني: كالخمر والخنزير فيجوز بيع الأول إجماعاً دون الثاني.
أما الثالث: فإن كان الأغلب هو المقصود فالحكم له كالدابة تركب ولا تؤكل ولا يشرب لبنها وإن كان كلاهما مقصود غلب التحريم.
الوجه الثاني: "مهر البغي" هو ما تأخده الزانية على الزنا وسماه مهراً مجازاً أما مجاز التشبيه به صورة، إن لم يكن "المهر" في الوضع ما يقابل به النكاح. وإما المجاز اللغوي: إن كان وضعه فيها ذلك والإِجماع قائم على تحريم ذلك لما فيه من مقابلة الزنا بعوض.
الثالث: "البغي" -بفتح الباء وكسر الغين- الزانية، ووزن بغي فعول بمعنى فاعله.
وقيل: فعيل بمعنى فاعل ورد بأنه لو كان فعيلاً لزمه التاء كرجيمه بمعنى راجمة وأجيب، عن عدم لحاقه التاء بوجهين:
أحدهما: أنه للمبالغة.
ثانيهما: أنه على النسب كطالق وطامث.
وجمع البغي: بغايا، والبِغا في قوله تعالى:{عَلَى الْبِغَاءِ} (1) ممدود وهو الزنى والفجور، يقال: بغت المرأة تبغي بغا -بكسر الياء والمد- وامرأة بغي، ومنه قوله تعالى:{وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} (2).
وأصل البغي: الطلب غير أنه أكثر ما يستعمل في طلب الفساد وفي الزنا كما قاله القرطبي (3).
وحديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام: "نهى عن كسب الإِماء" رواه البخاري (4) والمراد به كسبهن بالزنا أيضاً وشبهه لا بالغزل والخياطة ونحوها بدليل رواية أبي داود (5) من حديث
(1) سورة النور: آية 33.
(2)
سورة مريم: آية 20.
(3)
المفهم (5/ 2802).
(4)
البخاري (2283، 5348)، وأبو داود في البيوع (3383) باب: في كسب الإِماء.
(5)
أبو داود في البيوع (3284) باب: في كسب الإِماء. قال الحافظ أبو القاسم الدمشقي في الإِشراف -عقيب هذا الحديث-: رافع هذا غير معروف. وقال غيره: مجهول. اهـ.
وذكره ابن حجر في الفتح (4/ 427) وسكت عنه، وقال أيضاً في الإِصابة (2/ 187) بعد ذكره للحديث وترجمة راويه: وقال أبو عمر رافع بن =
رفاعة بن رافع: "إلَاّ ما عملت يدها" هكذا بإصبعه نحو الخبز والغزل والنفش، قال الخطابي (1): والنفش: نتف الصوف أو ندفه. وفي حديث آخر (2): "نهى عن كسب الأمة، حتى يعلم من أين هو".
فرع: لو أكرهت على الزنا فليست ببغي ولها المهر إن كانت حرة ولا حد عليها. ولو طاوعت. وهي أمة فقيل: يجب المهر للسيد إذ لا يملك إسقاطه وإلَاّ صح المنع لهذا الحديث.
الرابع: "حلوان الكاهن" ما يعطى على كهانته وهو حرام بالإِجماع لما فيه من أخذ العوض على أمر باطل وفي معنى ذلك: حل ما يمنع منه الشرع من الرجم بالغيب كالتنجيم.
والحلوان: مصدر حلوته حلواناً إذا أعطيته. قال الهروي وغيره: أصله من الحلاوة شبه بالشيء الحلو من حيث أن مأخذه سهلاً بلا كلفة ولا في مقابلة مشقة، يقال: حلوته إذا أطعمته الحلو كأعسلته إذا أطعمته العسل.
= رفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان: لا تصح له صحبة والحديث غلط.
قال: لم أره في الحديث منسوباً فلم يتعين كونه رافع بن رفاعة بن مالك فإنه تابعي لا صحبة له بل يحتمل أن يكون غيره، وأما كون الإِسناد غلطاً فلم يوضحه وقد أخرجه ابن منده من وجه آخر عن عكرمة فقال عن رفاعة بن رافع، والله أعلم. اهـ. انظر: أسد الغابة (2/ 152).
(1)
معالم السنن (5/ 76).
(2)
أبو داود في البيوع (3285) باب: في كسب الإِماء، وذكره ابن حجر في الفتح (4/ 427).
قال أبو عبيد (1): ويطلق الحلوان أيضاً على غير هذا وهو أن يأخذ الرجل مهر ابنته لنفسه وذلك عيب عند النساء قالت امرأة: تمدح زوجها.
لا يأخذ الحلوان عن بناتنا (2).
والحلوان: أيضاً الرشوة.
ونَقل الخطابي (3) عن ابن الأعرابي: أنه يقال: لحلوان الكاهن النَّشْغُ، والصِّهْميم، ونقل البغوي (4) والقاضي عياض: إجماع المسلمين علي تحريم حلوان الكاهن لأنه عوض عن محرم ولأنه أكل المال بالباطل وكذلك أجمعوا على تحريم أُجرة المغنية بالغناء والنائحة بالنوح، قال الخطابي (5): وحلوان العراف أيضاً حرام.
(1) غريب الحديث لأبي عبيد (1/ 52)، وانظر أيضاً: المنتخب لكراع (772).
(2)
ذكره في غريب الحديث (1/ 52) ولم يعزه.
(3)
غريب الحديث (1/ 243).
(4)
شرح السنة (8/ 23).
(5)
معالم السنن (5/ 370).
قال الشيخ سليمان -رحمنا الله وإياه- في تيسير العزيز الحميد (360، 363): قوله: قال البغوي: العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك، وقيل: هو الكاهن والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل، وقيل الذي يخبر عما في الضمير، وقال أبو العباس ابن تيمية: العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحرهم، ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق.
ش: البغوي -بفتحتين- اسمه الحسين بن مسعود بن الفراء المعروف بمحيي السنة الشافعي صاحب التصانيف، وعام أهل خراسان وكان ثقة =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فقهاً زاهداً، مات في شوال سنة ست عشرة وخمسمائة.
قوله: العراف الذي يدعي معرفة الأمور إلى آخره. هذا تفسير حسن وظاهره يقتضي أن العراف هو الذي يخبر عن الواقع كالمسروق والضالة ، وأحسن منه كلام شيخ الإِسلام: أَن العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم. كالحازر الذي يدعي علم الغيب أو يدعي الكشف. وقال أيضاً: والمنجم يدخل في اسم العراف وعند بعضهم هو في معناه. وقال أيضاً: والمنجم يدخل في اسم الكاهن عند الخطابي وغيره من العلماء وحكى ذلك عن العرب وعند آخرين من جنس الكاهن وأسوء حالاً منه، فيلحق به من جهة المعنى، وقال الإِمام أحمد: العراف طرف من السحر والساحر أخبث. وقال أبو السعادات: العراف المنجم والحازر الذي يدعي علم الغيب وقد استأثر الله تعالى به، وقال ابن القيم: من اشتهر بإحسان الزجر عندهم سموه عائفاً وعرافاً. والمقصود من هذا معرفة أن من يدعي علم شيء من المغيبات فهو إما داخل في اسم الكاهن، وإما مشارك له في المعنى فيلحق به، وذلك أن إصابة المخبر ببعض الأمور الغائبة في بعض الأحيان يكون بالكشف ومنه ما هو من الشياطين ويكون بالفأل والزجر والطير والضرب بالحصى والخط في الأرض والتنجيم والكهانة السحر ونحو هذا من علوم الجاهلية. ونعني بالجاهلية: كل من ليس من اتباع الرسل كالفلاسفة والكهان والمنجمين وجاهلية العرب الذين كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. فإن هذه علوم قوم ليس لهم علم بما جاءت به الرسل عليهم السلام. وكل هذه الأمور يسمى صاحبها كاهناً وعرافاً أو في معناهما فمن أَتاهم فصدقهم بما يقولون لحقه الوعيد. وقد ورث هذه العلوم عنهم أَقوام فادعوا بها علم الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه، وادعوا أنهم أَولياء وأن ذلك كرامة، ولا ريب أَن من ادعى الولاية واستدل عليها بأخباره ببعض المغيبات، فهو من أَولياء الشيطان لا من أولياء =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الرحمن، إذ الكرامة أَمر يجريه الله على يد عبده المؤمن المتقي، إما بدعاء أو أعمال صالحة لا صنع للولي فيها. ولا قدرة له عليها بخلاف من يدعي أنه ولي الله ويقول للناس إعلموا إني أعلم المغيبات فإن مثل هذه الأمور قد تحصل بما ذكرنا من الأسباب وإن كانت أسباباً محرمة كاذبة في الغالب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في وصف الكهان:"فيكذبون معها مائة كذبة". فبين أنهم يصدقون مرة ويكذبون مائة. وهكذا حال من سلك سبيل الكهان ممن يدعي الولاية والعلم بما في ضمائر الناس مع أن نفس دعواه دليل على كذبه لأن في دعواه الولاية تزكية النفس المنهي عنها بقوله: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [سورة النجم: آية 32]. وليس هذا من شأن الأولياء بل شأنهم الإِزراء على نفوسهم وعيبهم لها وخوفهم من ربهم فكيف يأتون الناس يقولون: اعرفوا أنّا أولياء وأنّا نعلم الغيب. وفي ضمن ذلك طلب المنزلة في قلوب الخلق، واقتناص الدنيا بهذه الأمور وحسبك بحال الصحابة والتابعين وهم سادات الأولياء أفكان عندهم من هذه الدعاوى والشطحات شيء؟ لا والله. بل كان أحدهم لا يملك نفسه من البكاء إذا قرأ القرآن كالصديق. وكان عمر يسمع نشيجه من وراء الصفوت يبكي في صلاته، وكان يمر بالآية في ورده بالليل فيمرض منها ليالي يعودونه الناس، وكان تميم الداري يتقلب في فراشه لا يستطيع النوم إلَاّ قليلاً خوفاً من النار، ثم يقوم إلى صلاته ويكفيك في صفات الأولياء ما ذكر الله تعالى من صفاتهم في سورة الرعد، والمؤمنين، والفرقان، والذاريات، والطور، فالمتصفون بتلك الصفات هم الأولياء الأصفياء لا أهل الدعوى والكذب، ومنازعة رب العالمين فيما اختص من الكبرياء والعظمة، وعلم الغيب بل مجرد دعواه علم الغيب كفر، فكيف يكون المدعي لذلك ولياً لله؟ ولقد عظم الضرر واشتد الخطب بهؤلاء المفترين الذين ورثوا هذه العلوم عن المشركين ولبسوا بها على خفافيش البصائر. =
والفرق بين الكاهن والعراف:
أن الكاهن: إنما يتعاطى الأخبار عن الكائنات في مستقبل الزمان ويدعي معرفة الأسرار.
والعراف: هو الذي يدعي معرفة الشيء المسروق ومكان الضالة ونحوها من الأمور، وقال في موضع آخر الكاهن هو الذي يدعي مطالعة الغيب ويخبر الناس عن الكوائن، قال: وكان في العرب كهنة يدعون أنهم يعرفون كثيراً من الأمور فمنهم من كان يزعم أن له رئياً من الجن وتابع يلقي إليه الأخبار ومنهم من كان يدعي أنه يستدرك الأمور بفهمه الذي أعطيه، وكان منهم من يسمى عرافاً وهو الذي يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقفها كالشيء يسرق فيعرف المظنون به السرقة، ومتهم المرأة بالريبة فيعرف من صاحبها ونحو ذلك من الأمور، ومنهم من كان يسمى المنجم كاهناً، قال: وحديث النهي عن إتيان الكاهن (1) يشتمل على النهي عن إتيان هؤلاء كلهم وعن النهي عن تصديقهم والرجوع إلى قولهم.
= نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والآخرة. اهـ.
(1)
لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "من أتى عرافاً، أو ساحراً، أو كاهناً، فسأله فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم". أخرجه البزار (2067)، وأبو يعلى (5408)، وأورده ابن حجر في المطالب العالية (2/ 356). وذكره في مجمع الزوائد (5/ 118) وقال:"رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح خلا هبيرة بن يريم وهو ثقة". وقد ورد من رواية بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم (2230)، وأحمد (4/ 68)(5/ 380). ويشهد له حديث أبي هريرة عند أحمد (2/ 429) وصححه الحاكم.
ومنهم من كان يدعو الطبيب كاهناً وربما دعوه عرافاً فهذا غير داخل في جعلة النهي وإنما هو مغالطة في الأسماء وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطب وأباح العلاج والتداوي هذا آخر كلامه (1).
قال الماوردي في آخر "أحكامه السلطانية"(2): ويمنع المحتسب من يكتسب بالكهانة واللهو ويؤدب عليه الآخذ والمعطي.
…
(1) عن أسامة بن شريك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تداووا، فإن الله لم ينزل داءً إلَاّ وقد أنزل له شفاء، إلَاّ السام والهرم". أخرجه الحميدي (824)، وابن ماجه (3436)، وأحمد (4/ 278)، والبخاري في "الأدب المفرد"(291)، وأبو داود (3855) في الطب، باب: في الرجل يتداوى، والترمذي (2038)، والبيهقي (9/ 343)، والبغوي في شرح السنة (3226)، والطيالسي (1232).
قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في زاد المعاد (4/ 15): وفي هذه الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفعُ داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلَاّ بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدراً وشرعاً، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجزٌ ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا يدفع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلَاّ كان معطلاً للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً، ولا توكله عجزاً. اهـ.
(2)
الأحكام السلطانية (258).