الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السادس
288/ 6/ 54 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: عام الفتح: "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام، فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: "لا هو حرام" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، عند ذلك (قاتل الله اليهود إن الله تعالى لما حرم عليهم شحومها، جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه"(1) جملوه: [أي](2) أذابوه.
(3)
[الكلام عليه من وجوه:
الأول: "العام" اسم للسنَّة سميت بذلك لأن الشمس والقمر
(1) البخاري في أطرافه (2236)، ومسلم (1581)، وأبو داود في البيوع (3487)، باب: في ثمن الخمر والميتة، والترمذي (1297)، والنسائي (7/ 309، 310)، وابن ماجه (2167)، وابن الجارود (578)، وأحمد (3/ 326)، والبغوي في تقسيمه (2/ 139)، والبيهقي (5/ 354).
(2)
في هـ ساقطة.
(3)
من هنا بداية سقط في هـ، وينتهي في بداية الوجه الثالث من حديث عمر رضي الله عنه في الوقف ص 434.
والليل والنهار يعوم فيها في الفلك ومنه قوله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)} (1) وهو مصدر عام يعوم عوماً وعاما وعاومت النخلة إذا حملت سنة ولم تحمل أخرى (2).
"والفتح" هو فتح مكة وكان في عشرين رمضان في السنة الثانية من الهجرة كما سلف في باب حرمة مكة وإنما قيده "بعام الفتح" تنبيها على ما كانوا يعتمدونه في الأحكام من الأخذ بالآخر فلآخر منها.
الثاني: قوله "إن الله ورسوله حرم" كذا الرواية "حرّم" مسند إلى ضمير الواحد. وكأن أصله: حَرَّما. لأنه تقدم اثنان، لكن تأدب صلى الله عليه وسلم، فلم يجمع بينه وبين اسم الله تعالى في ضمير الاثنين، لأن هذا من نوع [مارد] (3) على الخطيب الذي قال:"ومن يعصهما فقد غوى. فقال له: بئس الخطيب أنت. قل: ومن يعص الله ورسوله"(4)
(1) سورة يس: آية 40.
(2)
انظر: تهذيب اللغة للأزهري (3/ 252).
(3)
في الأصل (ما ورد)، وبه لا يستقيم الكلام.
(4)
أحمد (4/ 379)، ومسلم (870) في الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، وأبو داود في الصلاة، باب: الرجل يخطب على قوس (1099)، وفي الأدب، باب:[85]، والنسائي (1/ 90)، والحاكم (1/ 289)، والطحاوي في مشكل الآثار (4/ 296).
قال النووي -رحمنا الله وإياه- في معنى هذا في شرح مسلم (6/ 159): (قوله: (إن رجلاً خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بئس =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الخطيب أنت قل ومن يعص الله ورسوله فقد غوى"). قال القاضي وجماعة من العلماء: إنما أنكر عليه لتشريكه في الضمير المقتضي للتسوية، وأمره بالعطف تعظيماً لله تعالى بتقديم اسمه، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: "لا يقل أحدكم: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن ليقل: ما شاء الله ثم شاء فلان"، والصواب أن سبب النهي أن الخطب شأنها البسط والإِيضاح واجتناب الإِشارات والرموز ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً ليفهم. وأما قول الأوليين فيضعف بأشياء، منها: أن مثل هذا الضمير قد تكرر في الأحاديث الصحيحة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله صلى الله عليه وسلم: "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" وغيره من الأحاديث، وإنما ثنى الضمير ههنا لأنه ليس خطبة وعظ، وإنما هو تعليم حكم، فكلما قل لفظه كان أقرب إلى حفظه بخلاف خطبة الوعظ، فإنه ليس المراد حفظه وإنما يراد الاتعاظ بها. ومما يؤيد هذا ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الحاجة: "الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلَاّ الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلَاّ نفسه ولا يضر الله شيئاً". والله أعلم.
وقال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (7/ 468) على قوله صلى الله عليه وسلم "إن الله ورسوله ينهيانكم": في رواية سفيان "ينهاكم" بالإِفراد وفي رواية عبد الوهاب بالتثنيه، وهو دال على جواز جمع اسم الله مع غيره في ضمير واحد، فيرد به على من زعم أن قوله للخطيب:"بئس خطيب القوم أنت"، لكونه قال:"ومن يعصهما فقد غوى".
قال الشيخ سليمان بن عبد الله -رحمنا الله وإياه- في تيسير العزيز =
وصار هذا مثل قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} (1) نبه عليه القرطبي في "مفهمه"(2) وقال غيره هو من وادي قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} (3) ومذهب سيبويه فيه وهو المختار أن الجملة الأولى حذفت لدلالة الثانية عليها تقديره عنده والله أحق أن ترضوه ورسوله أحق أن ترضوه فالهاء في ترضوه تعود على الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال المبرد: لا حذف في الكلام ولكن فيه تقديم وتأخير تقديره: والله أحق أن ترضوه ورسوله، فالهاء على هذا تعود
= الحميد (420): على قوله "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما": فيه جمع ضمير الرب سبحانه، وضمير الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أنكره على الخطيب، لما قال: ومن يعصهما، فقد غوى. وأحسن ما قيل فيه، قولان:
أحدهما: ما قاله البيضاوي وغيره، أنه ثنى الضمير هنا؛ إيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب إلى المحبتين، لا كل واحدة، فإنها وحدها لاغية، وأمر بالإِفراد في حديث الخطيب، إشعاراً بأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزام الغواية، إذ العطف في تقدير التكرير، والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم. قلت: وهذا جواب بليغ جداً.
الثاني: حمل حديث الخطيب على الأدب، والأولى، وهذا على الجواز.
وجواب ثالث: وهو أن هذا ورد على الأصل، وحديث الخطيب ناقل، فيكون أرجح. اهـ.
وانظر أيضاً: كلام صديق جنس خان في كتابه: السراج الوهاج من كشف طالب صحيح مسلم بن الحجاج (1/ 261).
(1)
سورة التوبة: آية 3.
(2)
المفهم (4/ 461).
(3)
سورة التوبة: آية 62.
على الله تعالى جل ذكره، وقال الفراء (1): المعنى: ورسوله أحق أن ترضوه والله افتتاح كلام وهو بعيد وألزم المبرد أن يجيز ما شاء الله وشئت بالواو ولأنه يجعل الكلام ملة واحدة وقد نهى عن ذلك [الأثيم](2) ولا يلزم ذلك سيبويه لجعله الكلام جملتين.
وقيل: أحق أن ترضوه خبر عن الاسمين لأن الرسول تابع لأمر الله {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} (3){مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ} (4) وقيل: "إفراد الضمير وهو في موضع التثنية".
الثالث: "الخمر" هو الشراب المعروف وهي مؤنثة على اللغة الفصحى المشهورة وذكر أبو حاتم السجستاني (5) في كتابه " [المذكر] (6) والمؤنث" في موضعين منه أن قوماً فصحاء يذكرونها
(1) معاني القرآن للفراء (1/ 445).
(2)
هكذا في الأصل، ولعلها (الخطيب) كما يتضح من السياق.
(3)
سورة الفتح: آية 10.
(4)
سورة النساء: آية 80.
(5)
هو أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني، توفي في رجب سنة خمس وخمسين ومائتين. انظر: مراتب النحويين (130، 132)، وأخبار النحويين البصريين (93، 96)، وتاريخ العلماء النحوين (73، 74).
(6)
في الأصل (المذكور)، وما أثبت من تاريخ العلماء النحويين (81، 82)، لالك هذه الحكاية منه رزقنا الله وإياك العلم النافع والعمل الصالح.
وحدَّث سَهْلُ بن محمد، قال: كنتُ أنا والتَّوَّزِيّ عندَ أبي الحسن الأخْفَشِ، فقال لي التَّوَّزِيّ: ما صَنَعْتَ في كتاب "المُذكَّر والمُؤنَّث"؟ قلتُ: قد جمعتُ منه شيئاً. قال: فما تقولُ في الفِرْدَوْس؟ قلتُ: مُذكَّر.
قال: فإنَّ الله تعالى يقول: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} . =
قال سمعت ذلك ممن أثق به وذكرها ابن قتيبة في "أدب الكاتب"(1) ما جاء فيه لغتان التذكير والتأنيث ولا يقال خمره بالهاء في اللغة الفصيحة وقد تكرر استعمالها بالهاء في "الوسيط" وهي لغة قليلة فلا إنكار عليه وفي "المقدمات" أنه عليه الصلاة والسلام قال: (الشيطان يحب الخمرة) وكذا هو في الرواية بالهاء وكذا ذكر هذه اللغة الجوهري (2) وغيره، قال الجوهري خمرة، وخمر، وخمور، كتمرة وتمر، وتمور، وقال ابن مالك (3): في مثلث الخمرة الخمر، ولماذا سميت بذلك؟ أقوال:
أحدها: لسترها العقل وأصل هذا الحرف التغطية.
ثانيها: لأنها تغطى حتى يدرك.
ثالثها: لأنها تخامر العقل أي تخالطه قاله ابن الأنباري (4) ومنه سمي الخمار لأنه يغطي الرأس.
= قلتُ: ذَهَب إلى مَعْنَى الجَنَّة، كما قال:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} ، فأَنَّثَ الْمِثْلَ. وكما قال الشاعر:
وإنَّ كِلاباً هذه عَشْرُ أَبْطُنٍ
…
وأنتَ بَرِىءٌ مَن قَبائِلِهَا الْعَشْرِ
فقال لي: يا عاقل، أليسَ الناسُ يقولون: نسألُك الفِرْدَوْسَ الأعْلَى؟ فقلتُ: يا نائِم، هذه الحُجَّةُ حُجَّتِي، لأنَّ الأعْلَى مِن صِفَاتِ المُذكَّرِ، ولو كان مُؤَنَّثاً لقِيل، العُلْيَا.
(1)
أدب الكاتب (225، 226)، ط. محمد محيي الدين عبد الحميد.
(2)
مختار الصحاح (85).
(3)
وانظر أيضاً: المثلث لابن السيد البطليوسي (1/ 503، 509).
(4)
الزاهر (1/ 436).
رابعها: لأنها تركت فاختمرت واختمارها تغيرها قاله ابن الأعرابي.
ولها عدة أسماء ذكر ابن بري (1): منها نحو المائة، وابن المعتز مائة وعشرة. وزاد عليه أبو القاسم علي بن جعفر اللغوي مائتين وأربعين اسماً وتوسط ابن دحية فبلغها في كتابه "تنبيه البصائر في أسماء أم الكبائر" إلى مائة وتسعين وقد ذكرتها ملخصة في "لغات المنهاج" فمن أراده راجعه منها.
الرابع: "الميتة" بفتح الميم ما زالت عنه الحياة لا بذكاة شرعية وبالكسر الهيئة يقال: مات فلان مَيْوَتة حسنة والأصل في موته المفتوحة الميم مَوْتَة فلما اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء فبقيت ميتة بالتشديد ثم خففت بحذف إحدى اليائين كما فعلوا ذلك في هبن ولبن وشبههما فهي تكتب سواء ووصل ابن درستويه أسماء الموت إلى مائة وعشرة اسماً وزاد عليه أبو القاسم علي بن جعفر اللغوي ثلاثمائة وخمسين اسماً.
الخامس: "لخنزير" بكسر الخاء معروف، قال ابن الأثير في كتابه "المرصع في الآباء والأمهات" هو أبو جهيم، وأبو زرعة، وأبو دلف، وأبو عقبة، وأبو علبة، وأبو قادم.
(1) هو جمال العلماء وتاج الأدباء، أبو محمد عبد الله بن بري له مؤلفات منها "حواشي على الصحاح" و"حواشي على درة الغواص" مات في شوال سنة (582)، وكانت ولادته في الخامس من شهر رجب سنة (599) ترجمته في بغية الوعاة (2/ 34)، ووفيات الأعيان (3/ 108).
قال أبو البقاء في "إعرابه"(1) النون: في خنزير أصل وهو على مثال غربيب، قال: وقيل زائدة.
قلت: ولم يذكر الجوهري غيره وقال اللبلي: وزنه فعليل ويحتمل أن تكون النون زائدة لأنها قد يزاد ما فيه فيكون وزنه فعليلا، قال عبد الحق: واشتقاقه من الخزر وهو النظر بمؤخر العين وكل خنزير أخزر.
السادس: "الأصنام" جمع صنم وهو الوثن أيضاً كما قاله الجوهري (2).
وقال غيره: الوثن: ما كان غير مصور.
وقيل: ما كان له جثة من خشب، أو حجر، أو فضة، أو جوهر، أو غيره سواء المصور أو غيره.
والصنم: صورة بلا جثة (3).
"والسفن": واحدها سفينة، قال ابن دريد: هي فعلية بمعنى فاعلة لأنها تسفن الماء أي تقشره (4).
السابع: الحديث دال على تحريم بيع الخمر وهو إجماع كما
(1) إملاء ما منَّ به الرحمن عن وجوه الإِعراب والقراءات في جميع القرآن. للعكبري (1/ 319).
(2)
انظر: مختار الصحاح (158).
(3)
انظر: قصد السبيل (2/ 234).
(4)
انظر: لسان العرب (6/ 286).
نقله ابن المنذر وغيره وذلك إما لنجاستها كما سيأتي وإما أنه ليس فيها منفعة مباحة مقصودة أو للمبالغة في التنفير عنها وقول بعض أصحابنا في الخمرة المحترمة إنها طاهرة ويجوز بيعها شاذ، وأقوى في الشذوذ منه القول بجواز بيعها مع نجاستها حكاه ابن الرفعة وكذا قول بعضهم بجواز بيع العنقود المستحيل باطنه خمراً كل ذلك لا يلتفت مع هذا الإِجماع.
وفيه دلالة على تحريم شربها وهو إجماع أيضاً وقد لعن صلى الله عليه وسلم عشرة بسببها (1) وقال: (من شربها لم تقبل له صلاة أربعين
(1) ولفظه من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله الخمر، ولعن شاربها، وساقيها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وآكل ثمنها"، وفي لفظ "لعنت الخمر على عشرة وجوه: لعنت الخمر بعينها
…
إلخ". أخرجه أحمد (2/ 25، 71، 97)، وأبو داود في الأشربة (3674) باب: العنب يعصر للخمر، وابن ماجه (3380)، والبيهقي (8/ 287)، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي (4/ 144)، والنسائي في الكبرى ()، وصححه أحمد شاكر في المسند (7/ 12، 206)(8/ 80)، وطرقه كثيرة في المسند. وصححه الألباني في إرواء الغليل (1529، 2385)، وله شواهد من حديث أنس وابن عباس.
أما رواية ابن عباس. فأخرجها أحمد (1/ 316)، والطبراني في الكبير (12976)، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي (4/ 145).
أما رواية أنس فهي عند ابن ماجه (3381)، والترمذي (1295). قال المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 180): رواته ثقات، وأيضاً الحافظ في التلخيص (4/ 73).
صباحاً) (1)"ومن شربها في الدنيا لم يشربها في الآخرة"(2) "ومن شربها في الدنيا ولم يتب منها سقاه الله من طينة الخبال وهي صديد
(1) ولفظه عن ابن عمر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شرب خمراً فسكر، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً، فإن مات منها دخل النار". أخرجه البغوي مطولاً (11/ 357)، والطيالسي (1/ 339)، وأحمد (2/ 35)، وحسنه أحمد شاكر في المسند (7/ 60)، الترمذي (1863) وقال:"هذا حديث حسن. وقد روي نحو هذا عن عبد الله بن عمرو، وابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم". في النسائي (8/ 316)، وعبد الرزاق في المصنف.
وله شاهد من رواية عبد الله بن عمرو مطولاً عند أحمد (2/ 189، 176، 197)، وابن ماجه (3377)، والنسائي (8/ 314، 317)، والدارمي (2/ 111)، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي (4/ 145، 146)، البزار (3/ 357) وقال: رواه النسائي وابن ماجه خلا قوله "لم يتب الله عليه"، وابن أبي شيبة (8/ 200) موقوفاً، وصححه أحمد شاكر في المسند (6644، 6659، 6773) فإنه قد أطال الكلام عليه فراجعه.
وله شاهد آخر من رواية عياض بن غنم عند أبي يعلى (12/ 206) وذكره في مجمع الزوائد (5/ 70) وقال: رواه أبو يعلى والطبراني، وفيه المثنى بن الصباح وهو متروك، وقد وثقه أبو محصن حصين بن نمير، والجمهور على ضعفه. اهـ.
(2)
البخاري (5575)، ومسلم (2003)، وأبو داود في الأشربة (3679) باب: النهي عن المسكر البغوي (3013)، والترمذي (1861)، والنسائي (8/ 296، 297)، والدارقطني (4/ 248)، ومالك (2/ 746) علماً أن هذه الأحاديث يدخل بعضها في بعض ولكون المؤلف لم يسقها نصاً خرجتها لإِطلاع القارىء على مواضعها.
أهل النار وعصارتهم" وورد "أن مد منها كعابد وثن" (1).
فرع: انفرد أبو حنيفة فقال: يجوز أن يوكل المسلم ذمياً في بيع الخمر وشرائه حكاه النووي في "شرح المهذب" ثم قال: وهو فاسد منابذ للأحاديث الصحيحة في النهي عن بيعها وانفرد أيضاً بقوله: إنه لا يحرم على أهل الذمة بيعها والمسئلة مبنية على خطاب الكافر بالفروع.
الثامن: الحديث دال أيضاً على تحريم بيع الميتة وهو إجماع أيضاً كما نقله ابن المنذر وغيره وأخذ من تحريم بيعها نجاستها وكذا أخذ من تحريم بيع الخمر والخنزير نجاستهما وعدو العلة فيها بالنجاسة إلى تحريم بيع كل نجس فإن الانتفاع بها لم يعدم.
أما الميتة: فإنه ينتفع بها في إطعام الجوارح، وأكل المضطرين إذا أشرفوا على الهلاك.
(1) ولفظه من حديث ابن عباس "من لقي الله مدمن خمر، لقيه كعابد وثن". انظر: أحمد (1/ 272)، والبزار (2934)، والطبراني في الكبير (12428)، وعبد الرزاق (17070)، وأورده ابن أبي حاتم في العلل (2/ 26)، وضعفه أيضاً أحمد شاكر في المسند (4/ 150)، وذكره في مجمع الزوائد (5/ 74) وقال:"رواه أحمد، والبزار، والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح، إلَاّ أنَّ ابن المنكدر، قال: حدثت عن ابن عباس". اهـ.
وله شاهد من رواية أبي هريرة عند ابن أبي شيبة (8/ 193، 119)، وابن ماجه (3375)، وقال البخاري في التاريخ (1/ 129): ولا يصح حديث أبي هريرة في هذا. اهـ.
وأما الخمر: فينتفع بها وجوباً في الغاص بلقمة، إذا لم يجد غيرها. وغير ذلك.
وقد نقل ابن المنذر الإِجماع على نجاسة الخنزير لكن مذهب مالك طهارته وحكى الماوردي عن داود طهارة شحمه لأن الله تعالى إنما حرم لحمه اقتصاراً على النص وهو عجيب (1) فإن الشحم مع اللحم.
وانفرد مالك بطهارة الكلب وأنه يغسل من ولوغه تعبداً كما أسلفناه عنه في كتاب الطهارة مع حكاية الخلاف عنه أيضاً فيه.
فرع: اختلف في الانتفاع بشعر الخنزير فمنعه ابن سيرين والحاكم وحماد والشافعي وأحمد وإسحاق ورخص فيه الحسن البصري والأوزاعي ومالك وأبو حنيفة وأبو يوسف حكاه كله ابن المنذر.
التاسع: جميع أجزاء الميتة يحرم بيعها (2) كما قررناه حتى
(1) قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في زاد المعاد (5/ 761): وأما تحريمُ بيع الخنزير، فيتناولُ جملته، وجميعَ أجزائه الظاهرة والباطنة، وتأمل كيف ذكر لحمه عند تحريم الأكل إشارة إلى تحريم أكله ومعظمه اللحم، فذكر اللحم تنبيهاً على تحريم أكلِه دونَ ما قبله، بخلاف الصيد، فإنه لم يقل فيه: وحرم عليكم لحم الصيد، بل حرم نفس الصيد، ليتناول ذلك أكله وقتله. وههنا لما حرم البيع ذكر جملته، ولم يخص التحريمَ بلحمه ليتناول بيعه حياً وميتاً. اهـ.
(2)
قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في زاد المعاد (5/ 753، 756): ويدخل في تحريمِ بيعِ الميتة بيعُ أجزائها التي تحلُّها الحياة، وتُفارقها =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= بالموت، كاللحم والشحم والعصب، وأما الشعرُ والوبرُ والصوف، فلا يدخل في ذلك، لأنه ليس بميتة، ولا تحله الحياة. وكذلك قال جمهورُ أهل العلم: إن شعور الميتة وأصوافها وأوبارَها طاهرة إذا كانت من حيوان طاهر، هذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل، والليث، والأوزاعي، والثوري، وداود، وابن المنذر، والمزني، ومن التابعين: الحسن، وابن سيرين، وأصحاب عبد الله بن مسعود، وانفرد الشافعي بالقول بنجاستها، واحتجَّ له بأن اسمَ الميتة يتناولُها كَما يتناول سائر أجزائها بدليل الأثر والنظر، أما الأثُر، ففي "الكامل" لابن عدي: من حديث ابن عمر يرفعه: "ادْفِنُوا الأَظْفَارَ، والدَّمَ والشَّعَرَ، فَإنَّها مَيْتَةٌ". وأما النظر، فإنه متصل بالحيوان ينمو بنمائه، فينجس بالموت كسائر أعضائه، وبأنه شعر نابت في محل نجس، فكان نجساً كشعر الخنزير، وهذا لأن ارتباطه بأصله خِلقة يقتضي أن يثبت له حكمُه تبعاً، فإنه محسوب منه عرفاً، والشارع أجرى الأحكامَ فيه على وفق ذلك، فأوجب غسله في الطهارة، وأوجبَ الجزاء بأخذه من الصيد كالأعضاء، وألحقه بالمرأة في النكاح والطلاقِ حِلاً وحرمة، وكذلك هاهنا، وبأن الشارعَ له تشوف إلى إصلاح الأموالِ وحفظها وصيانتها، وعدم إضاعتها. وقد قال لهم في شاة ميمونة:"هلَاّ أَخْذْتُم إهَابَها فَدَبغْتُمُوه فَانْتَفَعْتُم بِهِ". ولو كان الشعر طاهراً، لكان إرشادُهم إلى أخذه أولى، لأنه أقلُّ كلفة، وأسهل تناولاً.
قال المطهِّرُونَ للشعور: قال الله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80]، وهذا يعم أحياءها وأمواتَها، وفي مسند أحمد: عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: مرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بشاة لميمونة ميتة، فقال: ألَاّ انتفعتم "بإهابها"، قالوا: وكيفَ وهي ميتة؟ قال: "إنَّما حَرُمَ لَحْمُهَا". وهذا ظاهرٌ جداً في =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= إباحة ما سوى اللحم، والشحمُ، والكبدُ والطحال، والألية كُلُّها داخلة في اللحم، كما دخلت في تحريم لحم الخنزير، ولا ينتقِضُ هذا بالعظم والقَرن، والظفر والحافِر، فإن الصحيحَ طهارة ذلك كما سنقرره عقيب هذه المسألة.
قالوا: ولأنه لو أُخِذَ حال الحياة، لكان طاهراً فلم ينجس بالموت، كالبيض، وعكسه الأعضاء. قالُوا: ولأنه لما لم ينجس بجزه في حال حياة الحيوان بالإِجماع، دل على أنه ليس جزءاً مِن الحيوان، وأنه لا روح فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما أُبيِنَ مِنْ حَيَّ، فَهُوَ مَيْتَةٌ"، رواه أهل السنن. لأنه لا يتألَّم بأخذه، ولا يُحس بمسه، وذلك دليلُ عدم الحياة فيه، وأما النماء، فلا يدل على الحياة والحيوانية التي يتنجَّس الحيوان بمفارقتها، فإن مجرد النماء لو دلَّ على الحياة، ونجس المحل بمفارقة هذه الحياة، لتنجس الزرعُ بيُبسه، لمفارقة حياة النمو والاغتذاء له.
قالوا: فالحياةُ نوعان: حياة حس وحركة، وحياة نمو واغتذاء، فالأولى: هي التي يُؤثر فقدُها في طهارة الحي دون الثانية.
قالوا: واللحمُ إنما ينجسُ لاحتقان الرطوبات والفضلات الخبيثة فيه، والشعورُ والأصواف بريئة مِن ذلك، ولا ينتقض بالعظام والأظفار لما سنذكره.
قالوا: والأصلُ في الأعيان الطهارة، وإنما يطرأ عليها التنجيس باستحالتها، كالرجيع المستحيل عن الغذاء، وكالخمر المستحيل عن العصير وأشباهها، والشعور في حال استحالتها كانت طاهرة، ثم لم يعرض لها ما يُوجب نجاستَها بخلاف أعضاء الحيوان، فإنها عرض لها ما يقتضي نجاستها، وهو احتقان الفضلات الخبيثة.
قالوا: وأما حديثُ عبد الله بن عمر، ففي إسنادِه عبد الله بن عبد العزيز بن أبي رَوَّاد. قال أبو حاتم الرازي: أحاديثُه منكرة ليس محله عندي =
قرنها وعظمها، قال القرطبي (1): ويستثنى عندنا ما لا تحله الحياة كالشعر، والصوف، والوبر، فإنه طاهر منها، وهو قول أبي حنيفة أيضاً، وزاد أبو حنيفة وابن وهب من المالكية: عظم الفيل وغيره، والسن، والقرن، والظلف، فلا تنجس بالموت لأن الحياة لا تحلها (2).
= الصدق، وقال علي بن الحسين بن الجنيد: لا يُساوي فلساً، يُحدث بأحاديث كذب.
وأما حديثُ الشاة الميتة، وقوله:"ألا انتفعتم بإهابها"، ولم يتعرض للشعر، فعنه ثلاثةُ أجوبة.
أحدها: أنه أطلق الانتفاع بالإِهاب، ولم يأمرهم بإزالة ما عليه من الشعر، مع أنه لا بُدَّ فيه من شعر، وهو صلى الله عليه وسلم لم يُقيد الإِهابَ المنتفع به بوجه دون وجه، فدل على أن الانتفاع به فرواً وغيره مما لا يخلو من الشعر.
والثاني: أنه صلى الله عليه وسلم قد أرشدهم إلى الانتفاعِ بالشعر في الحديث نفسِه حيث يقول: "إنَّمَا حَرُمَ مِنَ المَيْتَةِ أَكْلُها أَوْ لحْمُها".
والثالث: أن الشعرَ ليس من الميتة ليتعرض له في الحديث، لأنه لا يحلُّه الموتُ، وتعليلُهم بالتبعية يبطلُ بجلد الميتة إذا دُبغَ، وعليه شعر، فإنه يطهرُ دونَ الشعر عندهم، وتمسكهم بغسله في الطهارة يَبْطُلُ بالجبيرة، وتمسكهم بضمانه من الصيد يبطُل بالبيض، وبالحمل. وأما في النكاح، فإنه يتبع الجملة لاتصاله، وزوال الجملة بانفصاله عنها، وهاهنا لو فارق الجملة بعد أن تبعها في التنجس، لم يُفارقها فيه عندهم، فعلم الفرق. اهـ.
(1)
المفهم (4/ 462، 463).
(2)
قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في زاد المعاد (5/ 757)(761، 762): فإن قيل: فهل يدخُل في تحريم بيعها تحريمُ بيع عظمها وقرنها =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وجلدها بعد الدباغ لشمول اسم الميتة لذلك؟ قيل. الذي يحرم بيعُه منها هو الذي يحرم أكلُه واستعمالُه، كما أشار إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"إنَّ اللهَ تَعَالى إذَا حَرَّمَ شيئاً حَرَّم ثَمَنَهُ". وفي اللفظ الآخر: "إذَا حَرَّمَ أَكْلَ شيءٍ، حَرَّمَ ثَمَنَهُ". فنبَّه على أن الذي يحرم بيعُه يحرم أكله.
وقال أيضاً (5/ 761، 762): وأما تحريمُ بيع الأصنام، فيُستفاد منه تحريم بيع كُلِّ آلة متخذة للشرك على أي وجه كانت، ومن أي نوع كانت صنماً أو وثناً أو صليباً، وكذلك الكُتب المشتمِلَةُ على الشرك، وعبادة غير الله، فهذه كلها يجب إزالتها وإعدامها، وبيعُها ذريعةٌ إلى اقتنائها واتخاذها، فهو أولى بتحريم البيع مِن كل ما عداها، فإن مفسدةَ بيعها بحسب مفسدتها في نفسها والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يُؤخر ذِكرها لخفة أمرها، ولكنه تدرَّج من الأسهل إلى ما هو أغلظ منه، فإن الخمرَ أحسنُ حالاً مِن الميتة، فإنها قد تصيرُ مالاً محترماً إذا قلبها اللهُ سبحانه ابتداء خلَاّ، أو قلبها الآدمي بصنعته عند طائفة من العلماء، وتُضمن إذا أتلفت على الذمي عند طائفة بخلاف الميتة، وإنما لم يجعل الله في أكل الميتة حداً اكتفاء بالزاجر الذي جعله الله في الطباع مِن كراهتها، والنفرة عنها، وإبعادها عنها، بخلاف الخمر، والخنزير أشدُّ تحريماً من الميتة، ولهذا أفرده الله تعالى بالحكم عليه أنه رجس في قوله:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا} [الأنعام: 145]، فالضمير في قوله:"فإنه" وإن كان عوده إلى الثلاثة المذكورة باعتبار لفظ المحرم، فإنه يترجح اختصاص لحم الخنزير به لثلاثة أوجه.
أحدها: قربُه منه، والثاني: تذكيرُه دون قوله، فإنها رجس، والثالث: أنه أتى "بالفاء" و"إن" تنبيهاً على علة التحريم لتزجر النفوسُ عنه، ويقابل هذه العلة ما في طباع بعض الناس من استلذاذه، واستطابته، فنفى عنه =
قال: والجمهور على خلافهما في العظم، وما ذكر معه، فإنها تحلها الحياة. وهو الصحيح. فإن العظم والسن يألم، وتُحَسُ به الحرارة والبرودة، بخلاف الشعر، وهذا معلوم بالضرورة.
قال: وأما أطراف القرون، والأظلاف، وأنياب الفيل: فاختلف فيها. هل حكمها حكم أصولها فتنجس؟ أو حكمها حكم الشعر؟ على قولين.
قالوا: أما الريش: فالشَّعريُّ منه شعرٌ، وأسفله عظم، ومتوسطه، هل يلحق بأصله أم بأطرافه قولان؟
قال: وقد قال بنجاسة الشعور الحسن، والليث، والأوزاعي، لكنها تطهر بالغسل عندهم ، وكأنها عندهم نجسة بما يتعلق بها من رطوبات الميتة. وإلى نحو من هذا ذهب ابن القاسم في أنياب الفيل.
فقال: تطهر، إن سلقت بالماء. والأصح عند الشافعية نجاسة شعر الميتة إلَاّ الآدمي.
وأما جلد الميتة: فلا تباع قبل الدباغ، ولا يُنتفع به، لأنه كلحم الميتة.
نعم يجوز استعماله في اليابسات.
= ذلك، وأخبر أنه رجس، وهذا لا يحتاج إليه في الميتة والدم، لأن كونهما رجساً أمر مستقر معلوم عندهم، ولهذا في القرآن نظائر، فتأملها. ثم ذكر بعدُ تحريمَ بيع الأصنام وهو أعظم تحريماً وإثماً، وأشد منافاة للإِسلام من بيع الخمر والميتة والخنزير. اهـ.
وانفرد أبو حنيفة بجواز بيعه وهو مذهب جماعة من أهل العلم فلا يجوز بيعها ولا الصلاة عليها ولا بها ولا ينتفع بها إلَاّ في اليابسات دون المائعات إلَاّ في الماء وحده.
وذهب الجمهور سلفاً وخلفاً: إلى طهارتها طهارة مطلقة (1)
(1) قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في تهذيب السنن (6/ 67، 68): حديث ابن عكيم وكلام المنذري، ثم قال: وقال أبو الفرج بن الجوزي: حديث ابن عكيم مضطرب جداً. فلا يقاوم الأول واختلف مالك والفقهاء في حديث ابن عكيم وأحاديث الدباغ.
فطائفة قدمت أحاديث الدباغ عليه، لصحتها، وسلامتها من الاضطراب، وطعنوا في حديث ابن عكيم بالاضطراب في إسناده.
وطائفة قدمت حديث ابن عكيم لتأخره، وثقه رواته، ورأوا أن هذا الاضطراب لا يمنع الاحتجاج به.
وقد رواه شعبة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبيد الله بن عكيم. فالحديث محفوظ.
قالوا: ويؤيده: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن افتراش جلود السباع والنمور، كما سيأتي.
وطائفة عملت بالأحاديث كلها، ورأت أنه لا تعارض بينها، فحديث ابن عكيم إنما فيه النهي عن الانتفاع بإهاب الميتة. والإِهاب: هو الجلد الذي لم يدبغ، كما قاله النضر بن شميل، وقال الجوهري: الإِهاب الجلد ما لم يدبغ، والجمع: أهب. وأحاديث الدباغ: تدل على الاستمتاع بها بعد الدباغ، فلا تنافى بينها.
وهذه الطريقة حسنة لولا أن قوله في حديث ابن عكيم "كنت رخصت لكم في جلود الميتة فإذا أتاكم كتابي فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" والذي كان رخص فيه هو المدبوغ. بدليل حديث ميمونة. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقد يجاب عن هذا من وجهين.
أحدهما: أن هذه الزيادة لم يذكرها أحد من أهل السنن في هذا الحديث، وإنما ذكروا قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تنتفعوا من الميتة -الحديث" وإنما ذكرها الدارقطني، وقد رواه خالد الحذاء وشعبة عن الحكم، فلم يذكرا "كنت رخصت لكم" فهذه اللفظة في ثبوتها شيء.
والوجه الثاني: أن الرخصة كانت مطلقة غير مقيدة بالدباغ، وليس في حديث الزهري ذكر الدباغ، ولهذا كان ينكره ويقول:"نستمتع بالجلد على كل حال" فهذا هو الذي نهى عنه أخيراً. وأحاديث الدباغ قسم آخر لم يتناولها النهي، وليست بناسخة ولا منسوخة، وهذه أحسن الطرق.
ولا يعارض ذلك نهيه عن جلود السباع، فإنه نهى عن ملابستها باللبس والافتراش، كما نهى عن أكل لحومها، لما في أكلها ولبس جلودها من المفسدة، وهذا حكم ليس بمنسوخ، ولا ناسخ أيضاً، وإنما هو حكم ابتدائي رافع لحكم الاستصحاب الأصلي.
وبهذه الطريقة تأتلف السنن، وتستقر كل سنة منها في مستقرها، وبالله التوفيق.
وانظر ما قاله المنذري في مختصر السنن والخطابي في معالم السنن.
وقال أيضاً في زاد المعاد (5/ 757، 758): وأما الجلد إذا دبغ، فقد صار عيناً طاهرة ينتفع في اللبس والفرش، وسائِر وجوه الاستعمال، فلا يمتنع جوازُ بيعه، وقد نص الشافعي في كتابه القديم على أنه لا يجوز بيعُه، واختلف أصحابُه، فقال القفال: لا يتجه هذا إلَاّ بتقدير قول يُوافق مالكاً في أنه يطهر ظاهرُه دون باطنه، وقال بعضُهم: لا يجوز بيعُه، وإن طهر ظاهره وباطنه على قوله الجديد، فإنه جزءٌ من الميتة حقيقة، فلا يجوز بيعه كعظمها ولحمها. وقال بعضُهم: بل يجوزُ بيعه بعد الدبغ لأنه عين بيعه كعظمها ولحمها. وقال بعضُهم: بل يجوزُ بيعه بعد الدبغ لأنه =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= عين طاهرة يُنتفع بها، فجاز بيعها كالمذكَّى، وقال بعضهم: بل هذا ينبني على أن الدبغ إزالة أو إحالة، فإن قلنا: إحالة، جاز بَيعُه لأنه قد استحال من كونه جزء ميتة إلى عين أخرى، وإن قلنا: إزالة، لم يجزْ بيعُه، لأن وصف الميتة هو المحرمُ لبيعه، وذلك باق لم يستحل.
وبنوا على هذا الخلاف جواز أكله، ولهم فيه ثلاثة أوجه: أكله مطلقاً، وتحريمه مطلقاً، والتفصيلُ بين جلد المأكول وغير المأكول، فأصحاب الوجه الأول، غلبوا حكم الإِحالة وأصحاب الوجه الثاني، غلَّبوا حكم الإِزالة، وأصحاب الوجه الثالث أجروا الدباغَ مجرى الذكاة، فأباحوا بها ما يُباح أكله بالذكاة إذا ذكي دون غيره، والقولُ بجواز أكله باطل مخالف لصريح السنَّة، ولهذا لم يُمكن قائلُه القول به إلَاّ بعد منعه كونَ الجلد بعد الدبغ ميتة، وهذا منع باطل، فإنه جلد ميتة حقيقة، وحساً وحكماً، ولم يحدث له حياةٌ بالدبغ ترفع عنه اسم الميتة، وكون الدبغ إحالةً باطل حساً، فإن الجلد لم يستحل ذاتُه وأجزاؤه، وحقيقته بالدباغ، فدعوى أن الدباغ إحالة عن حقيقة إلى حقيقة أخرى، كما تُحيل النارُ الحطب إلى الرماد، والملَاّحة ما يُلقى فيها من الميتات إلى الملح دعوى باطلة.
وأما أصحاب مالك رحمه الله ففي "المدونة" لابن القاسم المنعُ من بيعها وإن دبغت، وهو الذي ذكره صاحب "التهذيب". وقال المازَري: هذا هو مقتضى القول بأنها لا تطهرُ بالدباغ. قال: وأما إذا فرعنا على أنها تطهر بالدباغ طهارة كاملة، فإنا نُجيز بيعها لإِباحة جملة منافعها.
قلت: عن مالك في طهارة الجلد المدبوغ روايتان. إحداهما: يطهر ظاهرُه وباطنُه، وبها قال وهب، وعلى هذه الرواية جوز أصحابُه بيعه.
والثانية: -وهي أشهر الروايتين عنه- أنه يطهر طهارة مخصوصة يجوز معها استعمالُه في اليابسات، وفي الماء وحده دون سائر المائعات، قال أصحابه: وعلى هذه الرواية لا يجوز بيعُه، ولا الصلاة فيه، ولا الصلاةُ عليه. =
وإليه ذهب الشافعي ومالك في رواية ابن وهب.
قال القرطبي: وهو الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم: "أيما إهاب دُبغ فقد طهر"(1)، وقوله:"دباغ الأديم ذكاته"(2).
فرع: ما لا يجوز بيعه لأنه ميتة جسد الكافر، وقد أعطي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق في جسد نوفل بن عبد الله المخزومي عشرة آلاف درهم فلم يأخذها ودفعها إليهم وقال:"لا حاجة لنا بجسده ولا ثمنه"، وذكر الترمذي حديثاً نحوه (3).
= وأما مذهب الإِمام أحمد: فإنه لا يصح عنده بيع جلد الميتة قبل دبغه. وعنه في جوازه بعد الدبغ روايتان، هكذا أطلقهما الأصحابُ، وهما عندي مبنيتان على اختلاف الرواية عنه في طهارته بعد الدباغ.
(1)
مسلم (366)، والموطأ (2/ 498)، والبغوي (303)، والدارمي (2/ 86)، والطيالسي (1/ 43)، وأحمد (1/ 279، 280)، والدارقطني (1/ 46)، وأبو عوانة (1/ 212، 213)، والحميدي (486)، وأبو داود (4123)، والترمذي (1728)، والنسائي (7/ 173)، وابن الجارود (61).
(2)
من رواية عائشة النسائي (7/ 174)، والدارقطني (1/ 44)، وأحمد (6/ 154، 155).
(3)
الترمذي (4/ 214)، وأحمد (1/ 248)، والطبري في تاريخه (3/ 49)، وابن كثير في البداية وذكره بأسانيد كثيرة (4/ 107)، والبيهقي من طريق حجاج بن أرطاة (9/ 133)، والبيهقي أيضاً في دلائل النبوة (3/ 404) بدون إسناد وفي آخر من رواية ابن إسحاق (4/ 437)، وصحح إسناده أحمد شاكر في المسند (4/ 53) بألفاظ مختلفة.
قال البخاري -رحمنا الله وإياه- في صحيحه في كتاب الجزية والموادعة (6/ 282) باب: طراح جيف المشركين في البئر: ولا يؤخذ لهم ثمن. =
فرع: يستثنى من الميتة السمك والجراد وقد نص الشارع في حديث آخر على حل أكلهما (1) فيحل بيعها ويستثنى من الخنزير خنزير البحر على القول بحل أكله لكن لا يعرف العرب في البحر خنزيراً وسئل مالك عن خنزير البحر فقال اسم يسمونه خنزيراً أي
= وساق الحديث رقم (3185) أطرافه (240).
قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (6/ 282): على قوله "ولا يؤخذ لهم ثمن": أشار به إلى حديث ابن عباس: "إن المشركين أرادوا أن يشتروا جسد رجل من المشركين فأبى صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم". أخرجه الترمذي وغيره، وذكر ابن إسحاق في المغازي "إن المشركين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم جسد نوفل بن عبد الله بن المغيرة، وكان اقتحم الخندق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا حاجة لنا بثمنه ولا جسده"، فقال ابن هشام: بلغنا عن الزهري أنهم بذلوا فيه عشرة آلاف، وأخذه من حديث الباب من جهة أن العادة تشهد أن أهل قتلى بدر لو فهموا أنه يقبل منهم فداء أجسادهم لبذلوا فيها ما شاء الله، فهذا شاهد لحديث ابن عباس وإن كان إسناده غير قوي. اهـ.
(1)
من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحلت لنا ميتتان ودمان: الميتتان: الحوت والجراد، والدمان: "أحسبه قال الكبد والطحال". انظر: البغوي (11/ 244)، وأحمد (2/ 97)، وابن ماجه (3314)، والدارقطني (4/ 272)، والبيهقي (1/ 254)، وصححه البيهقي وصححه أحمد شاكر في المسند (8/ 79، 80)، والزيلعي في نصب الراية (4/ 202) ،والألباني في صحيح الجامع (1/ 119)، والسلسلة الصحيحة (3/ 111)، والمشكاة (4132) وقال أنه جيد. ونسبه إلى الحاكم فيهما، وأحمد شاكر قال إنه لا يوجد فيه. المسند (8/ 80).
لا تسميه العرب بذلك وأبقاه مالك مرة أخرى من جهة الورع (1) والأصح عند الشافعية حل أكله (2).
العاشر: الحديث دال أيضاً على تحريم بيع الأصنام والعلة فيه كونها ليس فيها منفعة مباحة وقد يكون منع بيعها مبالغة في التنفير عنها وفي بيع الأصنام والصور عند الشافعية ثلاثة أوجه:
أصحها: المنع لما قلناه.
وثانيها: الصحة للانتفاع بكسرها، وتأول الحديث على ما لا ينتفع بمنفصله أو على كراهة التنزيه.
ثالثها: واختاره الإِمام والغزالي أنه إن اتخذ من جوهر نفيس صح بيعها فإنها مقصودة في نفسها، وإن اتخذت من خشب ونحوه فلا.
وقال القاضي مجلى: إن كانت من جوهر نفيس يقصد رضاضه صح، ومن أصحابنا من منع وإن لم يقصد ولكنه متمول فالظاهر أنه لا يصح، ومن أصحابنا من قال يصح، وصحح المتولى الصحة فيما إذا كانت محلولة تصلح لمنفعة مباحة وإلَاّ فلا وبه جزم الماوردي لكنه قال يكره البيع إذا صلحت لمنفعة مباحة.
فرع: الصور التي على الأباريق والأسرة ونحوها مما المقصود غيرهما لا يفسد البيع لأنها تبع. نعم: يكره اتخاذها ويلزم تغييرها قاله القاضي عياض.
(1) الاستذكار (15/ 304).
(2)
الاستذكار (15/ 305).
فرع: الصليب الذي يظهر فيه إلحاقه بالأصنام.
فرع: يلتحق ببيع الأصنام نحتها وتصويرها وكذا جميع ما كان على صور الحيوانات على سقف أو جدار أو وسادة منصوبة أو ستر أو ثوب ملبوس ويجوز ما على الأرض وبساط ومخدة ومقطوع الرأس وصور شجر.
الحادي عشر: "فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة؟ " إنما جمعه لاختلاف أنواعه فإنه إسم جنس وحقه الإِفراد.
الثاني عشر: يؤخذ مما ذكره في الشحوم أن ما لا يحل أكله والانتفاع به لا يجوز بيعه ولا يحل أكل ثمنه.
واعترض بعض اليهود والملاحدة: بأن الابن إذا ورث من أبيه جارية كان وطئها الأب فإنها تحرم عل الابن ويحل له بيعها بالإِجماع ويأكل ثمنها وهذا تمويه منهم على من لا حاصل عنده لأن جارية الأب لم يحرم على الابن غير الاستمتاع دون غيره من الناس ويحل لهذا الولد الانتفاع بها في جميع الأشياء سوى الاستمتاع وغيره بخلاف الشحوم فإنها محرمة المقصود منها وهو الأكل منها على جميع اليهود وكذلك شحوم الميتة محرَّمة الأكل على كل أحد فكان ما عدا الأكل تابعاً له بخلاف موطوؤة الأب (1).
الثالث عشر: الصحيح من مذهب الشافعي جواز الانتفاع بشحوم الميتة في طلي السفن والاستصباح بها وغير ذلك ما لم تؤكل
(1) انظر: شرح مسلم للنووي (11/ 8).
أو تستعمل في بدن آدمي وبه قال عطاء وابن جرير (1).
وقال الجمهور كما حكاه النووي في "شرح مسلم"(2): عنهم لا يجوز الانتفاع به في شيء أصلاً لعموم النهي عن الانتفاع بالميتة إلَاّ ما خص بدليل وهو الانتفاع بجلدها المدبوغ.
وأما الزيت والسمن ونحوهما من الأدهان: التي أصابتها نجاسة فهل يجوز استعمالها بالاستصباح وغيره في غير الأكل وغير البدن أو يجعل الزيت النجس في صابون أو يطعم العسل المتنجس للنحل أو يطعم الميتة لكلابه أو يطعم الطعام النجس لدوابه كل ذلك فيه خلاف بين السلف.
والصحيح من مذهبنا: جواز جميع ذلك (3) ونقله القاضي عياض عن مالك وكثير من أصحابه والشافعي والثوري وأبي حنيفة والليث.
قال: وروى نحوه، عن علي، وابن عمر، وأبي موسى
(1) انظر: شرح مسلم (11/ 6).
(2)
المرجع السابق.
(3)
قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في زاد المعاد (5/ 752): والمقصود: أنه لا يلزم من تحريم بيع الميتة تحريم الانتفاع بها في غير ما حرَّم الله ورسولُه منها، كالوقيذ، وإطعام الصقورِ والبُزاةِ وغير ذلك. وقد نص مالك على جواز الاستصباح بالزَّيْتِ النَّجس في غير المساجد، وعلى جوازِ عملِ الصابون منه، وينبغي أن يُعْلَمَ أنَّ بَابَ الانتفاعِ أوسعِ من بابِ البيعِ، فليس كُلُّ مَا حَرُم بيعه حَرُمَ الانتفاع به، بل لا تلازم بينهما، فلا يُؤخذ تحريمُ الانتفاع مِن تحريم البيع. اهـ.
والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وقال البغوي في "شرح السنة" (1): جواز الاستصباح به قول أكثر أهل العلم.
قال القاضي: وأجاز أبو حنيفة وأصحابه والليث وغيرهم بيع الزيت النجس إذا بينه.
وقال عبد الملك: والإِمام أحمد (2) وأحمد بن صالح لا يجوز الانتفاع بشيء من ذلك كله في شيء من الأشياء، وقد فرق بعضهم بين شحوم الميتة وبين ما تنجس بعارض، فقال: ينتفع بهذا دون الأول حكاه القرطبي (3) ووهاه ونقل الفاكهي أن مذهبهم جواز الاستصباح بالدهن النجس في غير المساجد وعمله في الصابون وإن أوجبنا تطهير الثوب منه بعد غسله، قال: والمشهور عندنا منع بيعه وأنه لا يطهر إذا غسل.
واعلم أنه قد استدل بقوله عليه الصلاة والسلام "لا هو حرام"(4)
(1) البغوي في شرح السنة (8/ 29).
(2)
في شرح مسلم زيادة (بن الماجشون وأحمد).
(3)
المفهم (4/ 465).
(4)
قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في زاد المعاد (5/ 749، 753): لهم في بيع الشحوم لهذه المنافع التي ذكروها، فلم يفعل. ونهايةُ الأمر أن الحديثَ يحتمل الأمرين، فلا يحرم ما لم يعلمْ أنَّ الله ورسوله حَرَّمه.
قالوا: وقد ثبت عنه أنه نهاهم عن الاستسقاء مِن آبار ثمود، وأباح لهم أن يُطْعِمُوا ما عجنُوا مِنه من تلك الآبار للبهائم، قالوا: ومعلوم أن إيقادَ النجاسةِ والاستصباحَ بها انتفاعٌ خالٍ عن هذه المَفْسدَةِ، وعن ملابستها باطناً وظاهراً، فهو نَفْعٌ مَحْضٌ لا مفسدة فيه. وما كان هكذا، فالشريعةُ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= إنما تحرِّم المفاسدَ الخالصةَ أو الراجحةَ، وطرفَها وأسبابها الموصلةَ إلها.
قالوا: وقد أجاز أحمد في إحدى الروايتين الاستصباحَ بشحوم الميتة إذا خالطت دُهناً طاهراً، فإنه في أكثر الروايات عنه يجوز الاستصباحُ بالزيت النجسِ، وطليُ السفن به، وهو اختيارُ طائفة من أصحابه، منهم: الشيخ أبو محمد، وغيره، واحتج بأن ابن عمر أمر أن يُستصبَح به.
وقال في رواية ابنيه: صالح وعبد الله: لا يعجبني بيع النَّجِس، ويستصبحُ به إذا لم يمسوه، لأنه نجس، وهذا يعم النَّجسَ، والمتنجَّس، ولو قُدَّرَ أنه إنما أراد به المتنجِّس، فهو صريحٌ في القول بجواز الاستصباح بما خالطه نجاسة ميتة وغيرها، وهذا مذهبُ الشافعي، وأيُّ فرق بين الاستصباح بشحم الميتة إذا كان منفرداً، وبين الاستصباح به إذا خالطه دهن طاهر فنجسه؟
فإن قيل: إذا كان مفرداً، فهو نَجِسُ العين، وإذا خالطه غيره تنجس به، فأمكن تطهيره بالغسل، فصار كالثوب النَّجِسِ، ولهذا يجوز بيع الدُّهْن المتنجِّس على أحد القولين دون دهن الميتة.
قيل: لا ريبَ أنَّ هذا هو الفرق الذي عَوَّل عليه المفرِّقون بينهما، ولكنه ضعيف لوجهين.
أحدهما: أنه لا يعرف عن الإِمام أحمد، ولا عن الشافعي ألبتة غسل الدهن النجَّس، وليس عنهم في ذلك كلمةٌ واحدةٌ، وإنما ذلك من فتوى بعض المنتسبين، وقد رُوي عن مالك، أنه يَطْهُر بالغسل، هذه رواية ابن نافع، وابن القاسم عنه.
الثاني: أن هذا الفرق وإن تأتَّى لأصحابه في الزيت والشيرج ونحوهما، فلا يتأتَّى لهم في جميع الأدهان، فإن منها ما لا يُمكن غسله، وأحمد والشافعي قد أطلقا القولَ بجواز الاستصباح بالدهن النجس من غير =
على منع طلي السفن ودهن الجلود والاستصباح بها وفيه نظرٌ لأن
= تفريق.
وأيضاً فإن هذا الفَرق لا يُفيد في دفع كونه مستعملاً للخبيث والنجاسة، سواء كانت عينيةً أو طارئةً، فإنه إن حرم الاستصباح به لما فيه من استعمال الخبيث، فلا فرق، وإن حرم لأجل دُخان النجاسة، فلا فرق، وإن حرم لكون الاستصباح به ذريعة إلى اقتنائه، فلا فرق، فالفرق بين المذهين في جواز الاستصباح بهذا دونَ هذا لا معنى له.
وأيضاً فقد جوز جمهورُ العلماء الانتفاعَ بالسِّرقين النَّجس في عمارةِ الأرض للزَّرْع، والثمر، والبقل مع نجاسة عينهِ ، وملابسةِ المستعمل له أكثر من ملابسة الموقَدِ، وظهورِ أثره في البقول والزروع، والثمار، فوق ظهور أثر الوقيد، وإحالةُ النار أتم من إحالة الأرض، والهواء والشمس للسِّرقين، فإن كان التحريم لأجل دُخَان النَّجَاسَةِ، فَمن سَلَّمَ أن دُخَان النجاسةِ نجس، وبأيَّ كتاب، أم بأيَّةِ سُنَّةٍ ثبت ذلك؟ وانقلابُ النجاسةِ إلى الدُّخان أتمُّ من انقلابِ عينِ السرقينِ والماءِ النبي صلى الله عليه وسلم ثمراً أو زرعاً، وهذا أمر لا يُشَكُّ فيه، بل معلوم بالحسَّ والمشاهدةِ، حتى جوز بعضُ أصحاب مالك، وأبي حنيفة -رحمهما الله- بَيْعَه، فقال ابن الماجشون: لا بأس ببيع العَذِرةِ، لأن ذلك من منافع الناس. وقال ابن القاسم: لا بأس ببيع الزَّبْل.
قال اللخميُّ: وهذا يدل من قوله على أنه يرى بيع العَذِرةِ. وقال أشهب في الزَّبْل: المشتري أعذر فيه من البائع، يعني في اشترائه. وقال ابن عبد الحكم: لم يَعْذُرِ الله واحداً منهما، وهما سِيَّان في الإِثم.
قال: وهذا هو الصوابُ، وأن بيع ذلك حَرَامٌ وإن جاز الانتفاع به، والمقصود: أنه لا يلزم من تحريم بيع الميتة تحريم الانتفاع بها في غير ما حرم الله ورسوله منها إلى أنه قال: فليس كل ما حرم بيعه حرم الانتفاع به، بل لا تلازم بينهما، فلا يؤخذ تحريم الانتفاع من تحريم البيع. اهـ.
الضمير في هو يعود في البيع لا على الانتفاع "لا تبيعوا الشحوم فإن بيعها حرام"، فكأنه عليه الصلاة والسلام أعاد تحريم البيع بعد ما بين القائل له أن فيه منفعة إهداراً لتلك المنافع التي ذكرت وبهذا يقوى مذهب الشافعي في جواز الانتفاع بها.
وادعى بعضهم: أنه جاء في رواية لما قيل إنه يدهن بها السفن، فقال:"لا تنتفعوا من الميتة بشيء" فيحمل على الكراهة ويحترز من النجاسة أن تمسه.
قلت: وفي الباب حديث صريح في الاستصباح بالدهن النجس وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن فأرة وقعت في السمن فقال: "إن كان جامداً فخذوها وما حولها فألقوه وإن كان ذائباً أو مائعاً فاستصبحوا أو فانتفعوا به" رواه الطحاوي في "بيان المشكل"(1)، وقال: عبد الواحد بن زياد المذكور
(1) الطحاوي في مشكل الآثار "المعتصر"(1/ 272).
وقد ورد من رواية أبي هريرة عند أبي داود ولفظه "إذا وقعت الفأرة في السمن: فإن كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه".
أخرجه أبو داود في الأطعمة (3694) باب: في الفأرة تقع في السمن، وأحمد (2/ 233، 265، 490)، وهذا التفريق غلط كما بينه البخاري. والترمذي (1798)، وأبو حاتم الرازي في العلل (2/ 9، 12)، والدارقطني وغيرهم.
قال المنذري -رحمنا الله وإياه- في مختصر السنن (5/ 339): وذكره الترمذي معلقاً (1798) وقال: هو حديث غير محفوظ، سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: هذا خطأ. قال: والصحيح حديث =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة. وسأنقل لك كلام ابن القيم -رحمنا الله وإياه- عليه من تهذيب السنن. والحديث أخرجه اليخاري أطرافه (235)، وأبو داود في الأطعمة (3693) باب. في الفأرة تقع في السمن، والترمذي (1798)، والنسائي (7/ 178)، وأحمد (6/ 329، 330، 335)، والبيهقي (9/ 353)، والطبراني في الكبير (23/ 429)، (24/ 15)، والدرامي (1/ 188)، ومالك (2/ 972)، وعبد الرزاق (1/ 84)، والحميد (1/ 149)، وابن شيبة (8/ 380). ولفظه "عن ميمونة بنت الحارث رضي الله عنهما:"أن فأرة وقعت في سمن، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ألقوا ما حولها وكلوا".
قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في تهذيب السنن (5/ 336، 341): (حديث: "الفأرة تقع في السمن" قد اختلف فيه إسناداً ومتناً، والحديث من حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: أنه سمع ابن عباس يحدث عن ميمونة، ولفظه:"أن فأرة وقعت في سمن فماتت، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ألقوها وما حولها وكلوه" رواه الناس عن الزهري بهذا المتن والإِسناد، ومتنه خرجه البخاري في صحيحه والترمذي والنسائي، وأصحاب الزهري كالمجمعين عليه.
وخالفهم معمر في إسناده ومتنه، فرواه عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال فيه:"إن كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه".
ولما كان ظاهر هذا الإِسناد في غاية الصحة: صحح الحديث جماعة، وقالوا: هو على شرط الشيخين، وحكي عن محمد بن يحيى الذهلي تصحيحه.
ولكن أئمة الحديث طعنوا فيه؛ ولم يروه صحيحاً، بل رأوه خطأً محضاً.
قال الترمذي في جامعه: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: حديث معمر =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= عن الزهري عن سعيد بن المسيب في هذا خطأ، وقد أشار أيضاً إلى علة حديث معمر من وجوه.
فقال: باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد، أو الذائب، ثم ذكر حديث ميمونة.
وقال عقبه: قيل لسفيان: فإن معمراً يحدثه عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة؟ قال: ما سمعت الزهري يقوله إلَاّ عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولقد سمعته منه مراراً.
ثم قال: حدثنا عبدان حدثنا عبد الله عن يونس، عن الزهري:"سئل عن الدابة تموت في الزيت والسمن، وهو جامد، أو غير جامد: الفأرة أو غيرها؟ قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بفأرة ماتت في سمن، فأمر بما قرب منها فطرح، ثم أكل".
فذكر البخاري فتوى الزهري في الدابة تموت في السمن وغيره، الجامد والذائب: أنه يؤكل.
واحتجاجه بالحديث من غير تفصيل: دليل على أن المحفوظ من رواية الزهري إنما هو الحديث المطلق الذي لا تفصيل فيه، وأنه مذهبه، فهو رأيه وروايته، ولو كان عنده حديث التفصيل بين الجامد والمائع لأفتى به واحتج به، فحيث أفتى بحديث الإِطلاق، واحتج به: دل على أن معمراً غلط عليه في الحديث إسناداً ومتناً.
ثم قد اضطرب حديث معمر، فقال عبد الرزاق عنه:"فلا تقربوه"، وقال عبد الواحد بن زياد عنه:"وإن كان ذائباً أو مائعاً لم يؤكل".
وقال البيهقي: وعبد الواحد بن زياد أحفظ منه -يعني: من عبد الرزاق.
وفي بعض طرقه "فاستصبحوا به" وكل هذا غير محفوظ في حديث الزهري. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فإن قيل: فقد رواه أبو حاتم البستي في صحيحه من رواية الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الفأرة تموت في السمن؟ فقال: إن كان جامداً فألقوها وما حولها وكلوه، وإن كان ذائباً فلا تقربوه" رواه عن عبد الله بن محمد الأزدي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا سفيان عن الزهري، وكذلك هو في مسند إسحاق.
فالجواب: أن كثيراً من أهل الحديث جعلوا هذه الرواية موهومة معلولة، فإن الناس إنما رووه عن سفيان، عن الزهري مثل ما رواه سائر الناس عنه، كمالك وغيره من غير تفصيل. كما رواه البخاري وغيره.
وقد رد أبو حاتم البستي هذا، وزعم أن رواية إسحاق هذه ليست موهومة برواية معمر عن الزهري، فقال: ذكر خبر أوهم بعض من لم يطلب العلم من مظانه: أن رواية ابن عيينة هذه معلولة أو موهومة -ثم ساق من طريق عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة الحديث:"إن كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه".
وهذا لا يدل على أن حديث إسحاق محفوظ، فإن رواية معمر هذه خطأ، كما قاله البخاري وغيره، والخطأ لا يحتج به على ثبوت حديث معلول، فكلاهما وهم.
ثم قال أبو حاتم: ذكر الخبر الدال على أن الطريقين جميعاً محفوظان: حدثنا عبد الله بن محمد الأزدي، حدثنا إسحاق، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة -فذكره، قال:"إن كان جامداً ألق ما حولها وكله، وإن كان مائعاً لم تقربه".
قال عبد الرزاق: وأخبرني عبد الرحمن بن بوذويه أن معمراً كان يذكر أيضاً عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
فهذه مثل رواية سفيان عن الزهري عن عبيد الله بالتفصيل.
فتصير وجوه الحديث أربعة.
وجهان عن معمر، وهما:
أحدهما: عبد الرزاق عنه عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة بذكر التفصيل.
الثاني: عبد الرحمن بن بوذويه عنه عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة بالتفصيل أيضاً.
ووجهان عن سفيان.
أحدهما: رواية الأكثرين عنه عن الزهري عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة بالإِطلاق من غير تفصيل.
والثاني: رواية إسحاق عنه، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة بالتفصيل.
وأما رواية معمر: فإنه خالف أصحاب الزهري في حديثه المفصل في إسناده ومتنه في حديث أبي هريرة، وخالف أصحاب الزهري في المتن في حديث عبيد الله، عن ابن عباس، ووافقهم في الإِسناد.
وهذا يدل على غلطه فيه، وأنه لم يحفظه كما حفظ مالك وسفيان وغيرهما من أصحاب الزهري.
وأما حديث سفيان: فالمعروف عن الناس منه: ما رواه البخاري في صحيحه، عن الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله أنه سمع ابن عباس عن ميمونة -فذكره من غير تفصيل، وكذلك رواه سعيد بن عبد الرحمن وأبو عمار عن سفيان.
قال البخاري في صحيحه: باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب: حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا الزهري قال: أخبرني =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: أنه سمع ابن عباس يحدث عن ميمونة "أن فأرة وقعت في سمن، فماتت، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها؟ فقال: ألقوها وما حولها وكلوه"، قيل لسفيان: فإن معمراً يحدثه عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة؟ قال: ما سمعت الزهري يقوله إلَاّ عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد سمعته منه مراراً.
حدثنا عبدان، حدثنا عبد الله عن يونس، عن الزهري: سئل عن الدابة تموت في الزيت والسمن وهو جامد أو غير جامد، الفأرة أو غيرها؟ قال: بلغنا "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بفأرة ماتت في سمن فأمر بما قرب منها فطرح، ثم أكل" كذا من حديث عبيد الله بن عبد الله.
حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا مالك عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، قالت:"سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن فأرة سقطت في سمن؟ فقال: ألقوها وما حولها وكلوه". هذا آخر كلام البخاري.
وأما الحديث الذي رواه ابن وهب عن عبد الجبار بن عمر، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت في سمن؟ فقال: ألقوها وما حولها، وكلوا ما بقي، فقيل: يا نبي الله، أرأيت إن كان السمن مائماً؟ قال: انتفعوا به، ولا تأكلوه" فعبد الجبار بن عمر ضعيف، لا يحتج به.
وروي من وجه آخر ضعيف عن ابن جريج عن ابن شهاب.
قال البيهقي: والصحيح عن ابن عمر من قوله في فأرة وقعت في زيت، قال:"استصبحوا به وادهنوا به أدمكم".
وفيه دليل: على أن ما لا نفس له سائلة إذا مات في الماء القليل لم ينجسه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وذلك: أن غمس الذباب في الإِناء قد يأتي عليه، فلو كان نَجَّسَه إذا مات فيه لم يأمره بذلك؛ لما فيه من تنجيس الطعام، وتضييع المال، وهذا قول عامة العلماء، إلَاّ أن الشافعي قد علق القول فيه، فقال في أحد قوليه: إن ذلك ينجسه.
وقد روي عن يحيى بن أبي كثير أنه قال في العقرب يموت في الماء "إنها تنجسه".
وعامة أهل العلم على خلافه.
وقد تكلم على هذا الحديث بعض من لا خلاق له. وقال: كيف يكون هذا؟ وكيف يجتمع الداء والشفاء في جناحي الذبابة؟ وكيف تعلم ذلك من نفسها حتى تقدم جناح الداء، وتؤخر جناح الشفاء، وما أرَبُها إلى ذلك؟
قلت: وهذا سؤال جاهل، أو متجاهل، وإن الذي يجد نفسه ونفوس عامة الحيوان قد جُمع فيها بين الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، وهي أشياء متضادة، إذا تلاقت تفاسدت، ثم يرى أن الله سبحانه قد ألَّف بينها، وقهرها على الاجتماع، وجعل منها قوى الحيوان التي بها بقاؤها وصلاحها. لجدير أن لا يُنكر اجتماع الداء والشفاء في جزأين من حيوان واحد، وأن الذي ألهم النَّحْلة أن تتخذ البيت العجيب الصنعة، وأن تَعْسِل فيه، وألهم الذَّرَّة أن تكتسب قوتها وتدَّخره لأوان حاجتها إليه: هو الذي خلق الذبابة، وجعل لها الهداية إلى أن تقدَّم جَناحاً وتؤخر جناحاً، لما أراد من الابتلاء الذي هو مَدْرَجة.
وقد روي هذا الحديث عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد، ولكن الصواب: أنه موقوف عليه، ذكره البيهقي) اهـ. وابن عباس راوي الحديث أفتى فيما إذا ماتت أن تلقى وما حولها وتؤكل.
انظر: مجموع الفتاوى (20/ 519)(21/ 491، 498)، فقد فصل وأجاد وأفاد رحمه الله.
فيه ثقة: إذا انفرد بحديث قبل حديثه وكذلك إذا انفرد بزيادة قبلت زيادته، وانفرد داود فقال بجواز بيع الزيت النجس دون السمن (1).
الرابع عشر: [قوله](2) عليه الصلاة والسلام: "قاتل الله اليهود" أي: قتلهم. كقوله تعالى: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} قاله الهروي، قال: وسبيل (فَاعَلَ) أن يكون من اثنين، وربما يكون من واحد، كقولك: سافرتُ وطارقت النعل.
وقال ابن عباس: لعنهم. وقد جاء مصرحاً به في رواية أخرى (3)، وقال غيره: عاداهم.
الخامس عشر: قوله: "قاتل الله اليهود" إلى آخره فيه تنبيه على تعليل تحريم بيع هذه الأشياء وأن العلة تحريماً فقط فإنه عليه الصلاة والسلام وجه اللوم على اليهود في تحريم أكل الثمن بتحريم أكل الشحوم.
السادس عشر: استدلت المالكية بهذا على سد الذرائع من حيث أن اليهود توجه عليهم اللوم بتحريم أكل الثمن من جهة تحريم أكل الأصل وأكل الثمن ليس هو أكل الأصل بعينه لكن لما كان مسبباً إلى أصل الأصل بطريق المعنى استحقوا اللوم به.
(1) قال الخطابي في معالم السنن -رحمنا الله وإياه- (5/ 339): وقال داود: إن كان هذا سمناً. فلا يجوز تناوله ولا بيعه. وإن كان زيتاً لم يحرم تناوله وبيعه. وذلك أنه زعم أن الحديث إنما جاء في السمن، وهو لا يعدو لفظه ولا يقيس عليه من طريق المعنى غيره. اهـ.
(2)
زيادة يقتضيها السياق.
(3)
انظر: الوجه العشرون، وقد سبق تخريجه.
السابع عشر: يؤخذ منه جواز الدعاء على من فعل المحرم أو إستباحه أو تحيل على فعله أما من تحيل على الخلاص من فعله والخروج منه فليس داخلاً في جواز الدعاء عليه وذمه وقد أمر الله تعالى أيوب بالضرب بشمراخ النخل وهو الضغث لما حلف على الضرب بمائة سوط (1).
(1) انظر: المفهم (4/ 466). وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمنا الله وإياه- في "الفتاوى"(33/ 147، 148) في إيضاح هذه الآية: أنه لم يكن في شرع من قبلنا كفارة اليمين بل كانت اليمين توجب عليهم فعل المحلوف عليه أمر الله أيوب أن يأخذ بيده ضغثاً فيضرب به ولا يحنث، لأنه لم يكن في شرعه كفارة يمين، ولو كان في شرعه كفارة يمين كان ذلك أيسر عليه من ضرب امرأته ولو بضغث، فإن أيوب كان قد رد الله عليه أهله ومثلهم معهم، لكن لما كان ما يوجبونه باليمين بمنزلة ما يجب بالشرع كانت اليمين عندهم كالنذر والواجب بالشرع قد يرخص فيه عند الحاجة، كما يرخص في الجلد الواجب في الحد إذا كان المضروب لا يحتمل التفريق، بخلاف ما النزمه الإِنسان بيمينه في شرعنا فإنه لا يلزم بالشرع فيلزمه ما التزمه، وله مخرج في شرعنا بالكفارة، ولكن بعض علمائنا لما ظنوا أن الأيمان من ما لا مخرج لصاحبه منه بل يلزمه ما التزمه، فظنوا أن شرعنا في هذا الموضع كشرع بني إسرائيل احتاجوا إلى الاحتيال في الأيمان. اهـ. محل المقصود منه.
وقال العلَاّمة صديق حسن خان -رحمنا الله وإياه- في تفسيره "فتح البيان"(8/ 177):
(وخذ) معطوف على اركض، أو على وهبنا، أو التقدير وقلنا له خذ (بيدك ضغثاً) هو عثكال النخل بشماريخه، وقيل هو قبضة من حشيش مختلط رطبها بيابسها، وقيل الحزمة الكبيرة من القضبان، وأصل المادة =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= تدل على جمع المختلطات، قال الواحدي: الضغث ملء الكف من الشجر والحشيش والشماريخ، وعن ابن عباس قال: الضغث هو الأسل، وقال أيضاً: الضغث القبضة من المرعى الرطب، وقال أيضاً: الحزمة.
(فاضرب به) أي: بذلك الضغث (ولا تحنث) في يمينك والحنث الإِثم ويطلق على فعل ما حلف على تركه. أو ترك ما حلف على فعله، لأنهما سببان فيه، وكان أيوب قد حلف في مرضه أن يضرب امرأته مائة جلدة، واختلف في سبب ذلك فقال سعيد بن المسيب إنها جاءته بزيادة على ما كانت تأتيه به من الخبز فخاف خيانتها فحلف ليضربنها، وقال يحيى بن سلام وغيره: إن الشيطان أغواها أن تحمل أيوب على أن يذبح سخله تقرباً إليه فإنه إذا فعل ذلك برىء. فحلف ليضربنها إذا عوفي مائة جلدة، وقيل: باعت ذؤابتها برغيفين إذ لم تجد شيئاً وكان أيوب يتعلق بها إذا أراد القيام، فلهذا حلف ليضربنها. وأخرج أحمد في الزهد عن ابن عباس قال: إن إبليس قعد على الطريق وأخذ تابوتاً يداوي الناس، فقالت أمرأة أيوب: يا عبد الله إن ههنا مبتلى من أمره كذا وكذا فهل لك أن تداويه، قال: نعم بشرط إن أنا شفيته أن يقول أنت شفيتني لا أريد منه أجراً غيره. فأتت أيوب فذكرت له ذلك، فقال: ويحك ذاك الشيطان، لله علي إن شفاني الله أن أجلدك مائة جلدة، فلما شفاه الله أمره أن يأخذ ضغثاً فيضربها به، فأخذ عذقاً فيه مائة شمراخ فضربها به ضربة واحدة
…
إلى أن قال:
وقد اختلف العلماء هل هذا خاص بأيوب أو عام للناس كلهم؟ وأن من حلف خرج من يمينه بمثل ذلك؟ قال الشافعي: إذا حلف ليضربن فلاناً مائة جلدة أو ضرباً ولم يقل ضرباً شديداً ولم ينو بقلبه فيكفيه مثل هذا الضرب المذكور في الآية، حكاه ابن المنذر عنه، وعن أبي ثور =
وأمر به عليه الصلاة والسلام في ذاك الزاني الذي أفتى أن يضربوه بها ضربة واحدة (1).
= وأصحاب الرأي. وقال عطاء هو خاص بأيوب، ورواه ابن القاسم عن مالك. اهـ.
(1)
عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رجلاً قال أحدهما: أحبن المستسقي من الحبن وهو داء يأخذ في البطن فيعظم منه ويرم -وقال الآخر: مقعد- كان عند جواري سعد فأصاب امرأة حبل، فرمته به، فسئل فاعترف، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم به، قال أحدهما: فجلد بأثكال النخل، وقال الآخر بأثكول النخل". أخرجه البغوي (10/ 302) الشافعي (2/ 288) ومن طريقه البيهقي في السنن (8/ 230). الدارقطني (3/ 100) النسائي (8/ 242، 243). انظر: كلام صاحب التعليق المغنى على الدارقطني (3/ 100)، وأبو داود في الحدود (4472)، في باب إقامة الحد على المريض.
قال المنذري: وقد روي عن أبي أمامة بن سهل عن أبي سعيد الخدري، وعن أبي أمامة عن أبيه، وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي أمامة عن سعيد بن سعد بن عبادة، وروي أيضاً عن أبي حازم عن سهل بن سعد. وانظر: جميع هذه الروايات في المعجم الكبير (5446، 5521، 5522، 5568، 5587، 5820)، والدارقطني (3/ 100)، والنسائي (8/ 242، 243) الكبرى له.
وأخرجه أحمد في المسند من رواية سعد بن عبادة (5/ 222)، وابن ماجه (2574). قال في الزوائد: مدار الإِسناد على محمد بن إسحاق وهو مدلس وقد رواه بالعنعنة البغوي (2591)، والبيهقي في السنن (8/ 230).
قال الحافظ في تلخيص الحبير (4/ 59): ورواه الدارقطني من حديث فليح =
وأمر أيضاً بوضع اليد على الأنف عند الخروج من الصلاة بالحدث إيهاماً للرعاف (1) وبهذا يرد على ما أطلقه القاضي من قوله
= عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: وهم فيه فليح، والصواب عن أبي حازم عن أبي أمامة بن سهل، ورواه أبو داود (4472) من حديث الزهري عن أبي أمامة، عن رجل من الأنصار ورواه النسائي من حديث أبي أمامة بن سهل ابن حنيف، عن أبيه، ورواه الطبراني من حديث أبي أمامة بن سهل، عن أبي سعيد الخدري، فإن كانت الطرق كلها محفوظة، فيكون أبو أمامة قد حمله عن جماعة من الصحابة وأرسله مرة، وقال في "بلوغ المرام"(314) إسناد هذا الحديث حسن، ولكن اختلف في وصله وإرساله.
وورد أيضاً من رواية عبد الله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة زمنة ضعيفة لا تقدر أن تمتنع ممن أرادها، ورآها عظيمة البطن، حبلى، فقال لها ممن؟ فذكرت رجلاً أضعف منها
…
إلخ. أخرجه العقيلي في الضعفاء (3/ 81).
(1)
ابن ماجه (1222)، قال البوصيري في مصباح الزجاجة:(إسناد صحيح رجاله ثقات). انظر: الدارقطني (1/ 157)، وابن خزيمة (1018)، وأبو داود (1114)، والحاكم (1/ 184، 260)، وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي (2/ 254). والمنتقى لابن الجارود (222).
قال أبو داود -رحمنا الله وإياه-: رواه حماد بن سلمة، وأبو أسامة عن هشام عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكرا عائشة رضي الله عنها. وانظر أيضاً كلام البيهقي.
ولفظه: "إذا أحدث أحدكم وهو في الصلاة، فليأخذ على أنفه ثم لينصرف". =
في الحديث دلالة على إبطال الحيل والحجة على من قال بها في إسقاط حدود الشرع من الكوفيين فالتفصيل الذي ذكرناه هو الصواب.
الثامن عشر: يؤخذ منه أيضاً أن المحرم إذا أحرم، حرم عليه جميع ما يتعلق به ما هو سبب إلى تحليله فإنه عليه الصلاة والسلام دعا على اليهود حيث أذابوا الشحوم وباعوها وأكلوا أثمانها لأن تحريمها لذاتها لا لوصفها فإن التحريم للوصف يزول بزواله ألا ترى إلى قوله في حديث بريدة الآتي في كتاب الفرائض (1) في ذلك اللحم الذي تصدق بها "هو عليها صدقة ولنا هدية" فلما تغير الوصف من الصدقة إلى الهدية صار حلالاً بخلاف المحرم لعينه.
التاسع عشر: قد فسر المصنف معنى "جملوه" يقال: أجمل الشحم. وجاء رباعي وثلاثي، والجميل: الشحم المذاب. وفي رواية "اجتملوها"، قال أبو عبيد (2): يقال: جملت، وأجملت، واجتملت.
= قال الخطابي -رحمنا الله وإياه- في معالم السنن (1/ 248): إنما أمره أن يأخذ بأنفه ليوهم القوم أن به رُعافاً، وفي هذا باب من الأخذ بالأدب في ستر العورة، وإخفاء القبيح من الأمر، والتورية بما هو أحسن منه، وليس يدخل في هذا الباب الرياءُ والكذب، وإنما هو من باب التجمل واستعمال الحياء، وطلب السلامة من الناس. اهـ.
(1)
الحديث الرابع من كتاب الفرائض سيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى.
(2)
غريب الحديث (3/ 407).
العشرون: روى أبو داود (1) بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا عند الركن فرفع بصره إلى السماء فضحك فقال: لعن الله اليهود ثلاثاً وفي لفظ قاتل الله اليهود إن الله حرم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها وأن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه" وهذا محمول على ما المقصود منه الأكل بخلاف ما المقصود منه غيره كالعبد، والبغل، والحمار الأهلي فإن أكلها حرام ويجوز بيعها بالإِجماع.
…
(1) سبق تخريجه وصححه ابن القيم في زاد المعاد (5/ 746). انظر: الحديث التاسع، في باب: ما ينهى عنه من البيوع حديث أبي مسعود.