المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث العاشر 282/ 10/ 53 - عن رافع بن خديج رضي - الإعلام بفوائد عمدة الأحكام - جـ ٧

[ابن الملقن]

الفصل: ‌ ‌الحديث العاشر 282/ 10/ 53 - عن رافع بن خديج رضي

‌الحديث العاشر

282/ 10/ 53 - عن رافع بن خديج رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثمن الكلب خبيث ومهر البغي خبيث وكسب الحجام خبيث"(1).

الكلام عليه من وجوه:

أحدها: هذا الحديث معدود في أفراد مسلم كما نبه عليه عبد الحق وغيره فإن ينبغي للمصنف أن ينبه عليه لئلا يوهم أنه من المتفق عليه ولم ينبه على ذلك أحد من الشراح فتنبه له وأغرب الحميدي فلم يذكره رأساً في "جمعه بين الصحيحين" في ترجمة رافع مع أن مسلماً كرره في البيوع من صحيحه وفي بعض ألفاظه "شر الكسب مهر البغي وثمن الكلب وكسب الحجام".

الثاني: في التعريف براويه وهو أبو عبد الله، ويقال: أبو رافع، ويقال: أبو خديج رافع بن خديج بفتح الخاء المعجمة ثم قال مهملة مكسورة ثم مثناة تحت ثم جيم بن رافع بن عدي بن يزيد بالمثناة فوق ثم زاي ثم مثناة تحت ثم دال مهملة الأنصاري الحارثي

(1) مسلم (1568)، والترمذي (1275)، وأبو داود في الإِجارة (3421) باب: في كسب الحجام، وأحمد (3/ 464، 465).

ص: 122

من بني حارثة المديني شهد أُحد وما بعدها له أحاديث مجموعها ثمانية وسبعون حديثاً اتفقا على خمسة منها وانفرد مسلم بثلاثة كذا قالوا وهذه الأحاديث قد عدها الحميدي في "جمعه" فلم يذكر هذا الحديث [قلت](1): فيكون مسلم انفرد إذن بأربعة كان يخضب بالصفرة ويحفي شاربه وكان يعد من الرماة أصيب بسهم يوم أحد في ترقوته، فقال عليه الصلاة والسلام:"إن شئت نزعت السهم وتركت القطيفة وشهدت لك يوم القيامة أنك شهيداً"(2) فتركها لا يحس منها شيئاً [دهراً](3) وكان إذا ضحك فاستغرق بدأ ذلك السهم وانتقضت جراحته في زمن عبد الملك ابن مروان ومات يالمدينة قبل ابن عمر بيسير سنة أربع وسبعين أو في أول سنة ثلاث وسبعين وهو ابن ست وثمانين سنة (4). روى له الشيخان وأصحاب السنن والمسانيد،

(1) زيادة من ن هـ.

(2)

ذكره في الإِصابة (2/ 187).

(3)

في ن هـ ساقطة.

(4)

قال ابن حجر في الإِصابة -رحمنا الله وإياه- (2/ 187): [رافع] بن خديج بن رافع بن عدي بن يزيد بن جشم بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسى الحارثي أبو عبد الله أو أبو خديج أمه حليمة بنت مسعود بن سنان بن عامر من بني بياضة

عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فاستصغره وأجازه يوم أحد فخرج بها وشهد ما بعدها وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمه ظهير بن رافع وروى عنه ابنه عبد الرحمن وحفيده عباية بن رفاعة والسائب بن يزيد ومحمود بن لبيد وسعيد بن المسيب ونافع بن جبير وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو النجاشي مولى رافع وسليمان بن يسار وآخرون =

ص: 123

وروى عنه ابنه رفاعة وخلق وعنه ابن عمر والسائب بن يزيد من الصحابة [وغيرهما](1) من التابعين.

فائدة:

خديج يشتبه بخديج -بضم الخاء المهملة ثم دال مفتوحة ثم ياء مثناة تحت ثم جيم- وهم جماعة منهم معاوية بن خُديج الصحابي.

= واستوطن المدينة إلى أن انتقضت جراحته في أول سنة أربع وسبعين فمات وهو ابن ست وثمانين سنة وكان عريف قومه بالمدينة، كذا قال الواقدي في وفاته.

وقد ثبت أن ابن عمر صلَّى عليه وصرح بذلك الواقدي وابن عمر في أول سنة أربع كان بمكة عقب قتل ابن الزبير ثم مات من الجرح الذي أصابه من زج الرمح فكأن رافعاً تأخر حتى قدم ابن عمر المدينة فمات فصلى عليه ثم مات ابن عمر بعده أو مات رافع في أثناء سنة ثلاث قبل أن يحج ابن عمر فإنه ثبت أن ابن عمر شهد جنازته فقد أخرج من طريق أبي نصرة، قال أبو نصرة، خرجت جنازة رافع بن خديج وفي القوم ابن عمر فخرج نسوة يصرخن فقال ابن عمر اسكتن فإنه شيخ كبير لا طاقة له بعذاب الله. وقال يحيى بن بكير: مات أول سنة ثلاث وسبعين فهذا أشبه. وأما البخاري فقال: مات في زمن معاوية وهو المعتمد وما عداه واهٍ وسيأتي مسنده في ذلك في ترجمة أم عبد الحميد في كنى النساء. وأرخه ابن قانع سنة تسع وخمسين. وأخرج ابن شاهين من طريق محمد بن يزيد عن رجاله أصاب رافعاً سهم يوم أحد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئت نزعت السهم وتركت القطيفة وشهدت لك يوم القيامة إنك شهيد، فلما كانت خلافة عثمان انتقض به ذلك الجرح فمات منه. كذا قال، والصواب خلافة معاوية كما تقدم ويحتمل أن يكون بين الانتقاض والموت مدة. اهـ.

(1)

في ن هـ ساقطة.

ص: 124

الوجه الثالث: "الخبيث" الردي من كل شيء وقد تقدم الكلام على ثمن الكلب (1) ومهر البغى (2) في الحديث قبله وإطلاق الخبيث على ثمن الكلب يقتضى التعميم في كل كلب ولم يثبت تخصيص شيء منه كما سبق فيجب إجراؤه على ظاهره والخبيث من حيث هو لا يدل على الحرمة صريحاً وكذلك جاء في كسب الحجام أيضاً ولم يحمل على التحريم عند جمهور العلماء غير أن ذلك بدليل خارج وهو أنه عليه الصلاة والسلام "احتجم وأعطى الحجام أجرة" أخرجه الشيخان (3) في صحيحهما "ولو كان حراماً لم يعطه"(4) فإن ثبت أن

(1) ص 107.

(2)

ص 114.

(3)

البخاري (2102، 2277، 2281)، ومسلم (1577)(64)، وأبو داود في البيوع (3424) باب: في كسب الحجام، والترمذي (1278)، وابن ماجه (3483)، والدارمي (2/ 272)، والطيالسي (1/ 262)، والبيهقي (9/ 337)، والطحاوي (4/ 131)، والحميدي (1217)، وأحمد (3/ 100، 182): هذا من رواية أنس وقد ورد من رواية ابن عباس وجابر رضي الله عنهم ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 94).

(4)

من كلام ابن عباس رضي الله عنهما البخاري (1835)، ومسلم (1202)، وأبو داود في المناسك (1835) باب: المحرم يحتجم، والترمذي (839)، والنسائي (5/ 193)، والدارمي (2/ 37)، والحميدي (500، 501)، وابن ماجه (3081)، والدارقطني (1/ 239)، البيهقي (4/ 263)، وأحمد (1/ 215، 221).

قال في شرح السنة للبغوي (8/ 18): اختلف أهل العلم في كسب الحجام، فذهب قوم إلى تحريمه. وذهب بعضهم إلى أن الحجام، إن =

ص: 125

لفظة الخبيث ظاهرة في التحريم بخروجها عن ذلك في كسب الحجام بدليل، لا يلزم منه خروجها في غيره بغير دليل.

قال الشيخ تقي الدين (1): "وأما الكلب": فإذا قيل بثبوت الحديث الذي يدل على جواز بيع كلب الصيد. كان ذلك دليلاً على طهارته وليس يدل النهي عن بيعه على نجاسته لأن علة منع البيع متعددة لا تنحصر في النجاسة.

قلت: قد قدمنا في الحديث قبله نقل اتفاق الحفاظ على ضعفه فالحديث باق على عمومه إذن (2).

= كان حراً، فهو حرام، وإن كان عبداً، فإنه يعلفه دوابه، وينفقه على عبيده قولاً بظاهر الحديث. وذهب الأكثرون إلى أنه حلال، والنهي على جهة التنزيه عن الكسب الدنيء، والترغيب فيما هو أطيب وأحسن من المكاسب، يدل عليه أنه أمره بعد المعاودة بأن يُطعم رقيقه، ولولا أنه حلال مملوك له لكان لا يجوز أن يطعم منه رقيقه، لأنه لا يجوز أن يُطعم رقيقه إلَاّ من مال ثبت عليه ملكه، كما لا يجوز أن يأكل بنفسه، والدليل عليه ما في المتفق عليه من حديث أنس بن مالك قال: "حجم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو طيبة فأمر له بصاع من تمر، وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه. اهـ.

(1)

إحكام الأحكام مع الحاشية (4/ 70).

(2)

قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في زاد المعاد (5/ 770) أنه لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم استثناء كلب الصيد بوجه. أما حديث جابر رضي الله عنه، فقال الإِمام أحمد وقد سئل عنه: هذا من الحسن بن أبي جعفر، وهو ضعيف، وقال الدارقطني: الصواب أنه موقوف على جابر، وقال الترمذي: لا يصح إسناد هذا الحديث. اهـ. =

ص: 126

الوجه الرابع: قد نقلنا عن الجمهور أنه لا يحرم كسب الحجام فهو مكروه كراهة تنزيه سواء فيه الحر والعبد وبه قال أحمد في المشهور عنه، وقال: في رواية أخرى وبها قال (فقهاء المحدثين يحرم على الحر دون العبد احتجاجاً بالحديث الذي أسلفناه (1) فإن الذي حجمه أبو طيبة وأمر صلى الله عليه وسلم[أهله](2) أن يخففوا عنه من خراجه (3).

وحمل الجمهور الأحاديث الواردة فيه على منع التنزيه والارتفاع عن دنىء الأكساب ولو كان حراماً لم يفرق فيه بين الحر والعبد فإنه لا يجوز للرجل يطعم عبده ما لا يحل (4).

قال القاضي عياض (5): وجعلوا إباحته هذه ناسخة لقوله: "إنه خبيث" قال: والخبيث الحرام، قال: ولأنه آخر الأمر من نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وقد قيل إن النهي عنه قد يحتمل أن يكون ببيع

= ولفظ الحديث: عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن ثمن الكلب، إلَاّ كلب الصيد". رواه الترمذي (1281).

(1)

ص 125.

(2)

في ن هـ ساقطة.

(3)

انظر التعليق (1) و (2)(ص 125). وحديث تخفيفه عن أبي طيبة الخراج من رواية جابر رضي الله عنهما عند أحمد (3/ 353) الطحاوي في معاني الآثار (4/ 130)، والطيالسي (1/ 261)، وذكره في مجمع الزوائد (4/ 94) وقال: رواه أحمد، وأبو يعلى ورجاله ثقات، إلَاّ أنه من رواية جعفر بن أبي وحشية، عن سليمان بن قيس، وقيل: إنه لم يسمع منه.

(4)

انظر كلام البغوي -رحمنا الله وإياه- في ت (4/ 117).

(5)

ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 251).

ص: 127

ما يقصده من الحيوانات لمن يستجيز أكلها من الكفرة أو لاستعمالها في بعض الأشياء.

واحتج لذلك: برواية: "نهى عن ثمن الدم"(1) قال

(1) البخاري أطرافه (2086)، وأبو داود في البيوع (3483) باب: في أثمان الكلب، والبيهقي (6/ 6)، والبغوي (2039)، وأحمد (4/ 308، 309) من رواية أبي جحيفة. قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في زاد المعاد (5/ 790):

فصل

الحكم السادس: خبثُ كسبِ الحجَّام، ويدخُلُ فيه الفاصد والشارِط، وكل من يكون كسبُه من إخراج الدم، ولا يدخل فيه الطبيب، ولا الكحَّال ولا البيطارُ لا في لفظه ولا في معناه، وصحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم "أنَّه حكم بخُبثه وأَمَرَ صَاحِبَه أَنْ يَعْلِفَه نَاضِحَه أَوْ رَقيقَهُ"، وصحَّ عنه "أنه احتجمَ وأعطى الحجامَ أجرَهُ". فأشكل الجمعُ بينَ هذين على كثير من الفقهاء، وظنوا أن النهيَ عن كسبه منسوخٌ بإعطائه أجره، وممِن سلك هذا المسلكَ الطحاوي، فقال في احتجاجه للكوفيين في إباحة بيع الكلابِ، وأكلِ أثمانها: لما أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقتل الكلابِ، ثم قال:"ما لي وللكلاب"، ثم رخص في كلب الصيد، وكلبِ الغنم، وكان بيعُ الكلاب إذ ذاك والانتفاعُ به حراماً، وكان قاتله مؤدياً للفرض عليه في قتله، ثم نُسِخَ ذلك، وأباح الاصطيادَ به، فصار كسائر الجوارح في جواز بيعه، قال: ومثلُ ذلك نهيُه صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام، وقال:"كسبُ الحجام خبيث" ثم أعطى الحجام، أجرَه، وكان ذلك ناسخاً لمنعه وتحريمه ونهيه. انتهى كلامه. وأَسهلُ ما في هذه الطريقة أنها دعوى مجردة لا دليلَ عليها، فلا تُقبل، كيف وفي الحديث نفسه ما يُبطلها، فإنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتلِ الكلاب، ثم قال:"ما بالُهم وبالُ الكلاب" ثم رخَّص لهم في كلب الصيد. =

ص: 128

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وقال ابنُ عمر: أمرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بقتلِ الكِلابِ إلَاّ كَلْبَ الصيدِ أو كلب غَنمٍ أو ماشية.

وقال عبدُ الله بن مغفَّل: أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلابِ ثم قال ما بالُهم وبَالُ الكِلَاب، ثم رخَّصَ في كلب الصيد، وكلب الغنم. والحديثانِ في "الصحيح" فدلَّ على أن الرخصةَ في كلب الصيد وكلب الغنم وقعت بعد الأمر بقتل الكلاب، فالكلبُ الذي أذن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في اقتنائه هو الذي حرَّم ثمنه، وأخبر أنه خبيثٌ دونَ الكلب الذي أمر بقتله، فإن المأمورَ بقتله غيرُ مستبقى حتى تحتاج الأمة إلى بيان حكم ثمنه، ولم تجر العادةُ ببيعه وشرائه بخلاف الكلب المأذون في اقتنائه، فإن الحاجة داعية إلى بيان حكم ثمنه أولى مِن حاجتهم إلى بيان ما لم تجرِ عادتُهم ببيعه، بل قد أُمِرُوا بقتله.

ومما يُبين هذا أنه صلى الله عليه وسلم ذكر الأربعة التي تُبذل فيها الأموال عادة لحرص النفوس عليها وهي ما تأخذُه الزانية والكاهِنُ والحجَّامُ وبائع الكلب فكيف يُحمل هذا على كلب لم تَجْرِ العادةُ ببيعه، وتخرج منه الكلاب التي إنما جرت العادة ببيعها هذا من الممتنع البينِ امتناعُه، وإذا تبين هذا، ظهر فساد ما شبه به من نسخ خُبثِ أجرة الحجام، بل دعوى النسخ فيها أبعد. وأما إعطاءُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الحجام أجره، فلا يُعارض قوله:"كسب الحجام خبيث" فإنه يقل: إن إعطاءه خبيث، بل إعطاؤه إما واجب، وإما مستحب، وإما جائز، ولكن هو خبيثٌ بالنسبة إلى الآخذ، وخبثُه بالنسبة إلى أكله، فهو خبيثُ الكسب، ولم يلزم من ذلك تحريمُه، فقد سمى النبيُّ صلى الله عليه وسلم الثوم والبصل خبيثين مع إباحة أكلهما، ولا يلزم من إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم الحجَّام أجرَه حِل أكلِه فضلاً عن كون أكله طيباً، فإنه قال:"إنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ العَطِيَّةَ يَخْرُجُ بِهَا يَتَأبَّطُهَا نَارَاً"، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم قد كان يُعطي المؤلفةَ قلوبُهم مِن مال الزكاة والفيء مع غناهم، وعدم حاجتهم =

ص: 129

[وقد](1) قيل إنما كره ذلك لأنه لم يشترط أجرة معلومة قبل العمل وإنما يعمل غالباً بأجر مجهول، قال: وهذا لا تعلق فيه وقد أجاز العلماء مثل هذا على ما استمرت به العادة في المكارمة وإن كان لابن حبيب ما ظاهره المنع في كل إجارة حتى تسمى الأجر.

= إليه، ليبذُلوا من الإِسلام والطاعة ما يَجِبُ عليهم بذلُه بدون العطاء، ولا يَحِلُّ لهم توقُف بذله على الأخذ، بل يجبُ عليهم المبادرةُ إلى بذله بلا عوض.

وهذا أصل معروف مِن أصول الشرع أن العقد والبذل قد يكونُ جائزاً، أو مستحباً، أو واجباً من أحد الطرفين، مكروهاً أو محرماً من الطرف الآخر، فيجب على الباذِل أن يَبْذُلَ، ويحرم على الآخذ أن يأخذه.

وبالجملة فخبثُ أجرِ الحجَّام من جنس خُبث أكل النوم والبصل، لكن هذا خبيثُ الرائحة، وهذا خبيثٌ لكسبه.

فإن قيل: فما أطيبُ المكاسب وأحلُّها؟ قيل هذا فيه ثلاثةُ أقوال للفقهاء: أحدها: أنه كسبُ التجارة.

والثاني: أنَّه عملُ اليد في غير الصنائع الدنيئة كالحجامة ونحوِها.

والثالث: أنه الزَّراعةُ، ولكل قولٍ مِن هذه وجه من الترجيح أثراً ونظراً، والراجح أن أحلَّها الكسبُ الذي جعل منه رِزق رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو كسبُ الغانمين وما أُبيح لهم على لسان الشارع، وهذا الكسبُ قد جاء في القرآن مدحُه أكثرَ مِن غيره، وأثني على أهله ما لم يُثْنَ على غيرهم، ولهذا اختاره الله لخيرِ خلقه، وخاتم أنبيائه ورسله حيث يقولُ:"بُعِثْتُ بالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَي السَّاعَةِ حَتَّى يُعْبَدَ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وجُعِلَ رِزْقي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ والصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي"، وهو الرزقُ المأخوذ بعزة وشرف وقهر لأعداء الله، وجعل أحب شيء إلى الله، فلا يُقاومه كسب غيره، والله أعلم.

(1)

زيادة من ن هـ.

ص: 130

خاتمة:

جاء في "صحيح مسلم"(1) النهي عن ثمن السنور أيضاً فأخذ بظاهره أبو هريرة وطاووس ومجاهد وجابر بن زيد فقالوا لا يجوز بيعه وعامة العلماء على خلافه وحملوا النهي على ما لا ينتفع به أو على أنه نهي تنزيه ليعتاد الناس هبته وإعارته كما هو الغالب (2) وتضعيف الخطابي (3) وابن عبد البر (4) النهي لا يقبل بل الجواب

(1) مسلم (1569)، وابن ماجه (2161)، وأبو داود في البيوع (3479) باب: في ثمن السنور، والترمذي (1279)، والنسائي (7/ 309)، وأحمد (3/ 297، 339، 349، 386)، والدارقطني (271).

(2)

قال في حياة الحيوان للدميري (1/ 577) بعد ما ذكر، كما هو الغالب، فإن كان مما ينفع وباعه صَحَّ البيع، وكان ثمنه حلالاً، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة إلَاّ ما حكى ابن المنذر عن أبي هريرة، وطاووس، ومجاهد، وجابر بن زيد، أنه لا يجوز بيعه محتجين بهذا الحديث، وأجاب الجمهور بأنه محمول على ما ذكرنا وهذا هو المعتمد.

(3)

انظر: معالم السنن (5/ 125). قال بعد كلام سبق: وقد تكلم بعض العلماء في إسناد هذا الحديث، وزعم أنه غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(4)

قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (20/ 125): وقد روى في ثمن الهر حديث لا يثبت رفعه في النهي عنه. اهـ. وقال أيضاً في التمهيد (8/ 402): بعد سياق الحديث: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب والسنور"، قال: وحديث أبي سفيان عن جابر لا يصح لأنها صحيفة. وقال أيضاً (8/ 403): وليس في السنور شيء صحيح وهو على أجل الإِباحة. وبالله التوفيق. اهـ.

أقول: وقد صحح النووي -رحمنا الله وإياه- الحديث في شرحه لمسلم (10/ 234)، قال متعقباً ابن عبد البر: وهذا غلط من ابن عبد البر لأن =

ص: 131

عنه ما ذكرناه.

= مسلماً قد رواه كما ترى في صحيحه من رواية معقل بن عبيد الله عن أبي الزبير فهذان ثقتان روياه عن أبي الزبير وهو ثقة أيضاً والله أعلم، قال ابن القيم -رحما الله وإياه- في زاد المعاد (5/ 773).

الحكم الثاني: تحريمُ بيع السِّنور، كما دل عليه الحديثُ الصحيح الصريح الذي رواه جابر، وأفتى بموجبه، كما رواه قاسم بن أصبغ، حدثنا محمد بن وضَّاح، حدثنا محمد بن آدم، حدثنا عبد الله بن المبارك، حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، أنه كره ثمن الكلب والسنور. قال أبو محمد: فهذه فتيا جابر بن عبد الله، أنه كره بما رواه، ولا يُعرف له مخالف مِن الصحابة، وكذلك أفتى أبو هريرة رضي الله عنه، وهو مذهبُ طاووس، ومجاهد، وجابر بن زيد، وجميع أهل الظاهر، وإحدى الروايتين عن أحمد، وهي اختيارُ أبي بكر عبد العزيز، وهو الصواب لصحة الحديث بذلك، وعدم ما يُعارضه، فوجب القولُ به.

قال البيهقي: ومن العلماء من حمل الحديث على أن ذلك حين كان محكوماً بنجاستها، فلما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"الهِرَّةُ لَيْسَتْ بِنَجَسٍ". أخرجه مالك (1/ 23) أحمد (5/ 303). صار ذلك منسوخاً في البيع. ومنه من حمله على السنور إذا توحَّش، ومتابعة ظاهر السنَّة أولى. ولو سمع الشافعي رحمه الله الخبر الواقع فيه، لقال به إن شاء الله، وإنما لا يقول به مَنْ توقَّف في تثبيت روايات أبي الزبير، وقد تابعه أبو سفيان عن جابر على هذه الرواية من جهة عيسى بن يونس، وحفص بن غياث عن الأعمش، عن أبي يسفيان. انتهى كلامه.

ومنهم من حمله على الهرِّ الذي ليس بمملوك، ولا يخفى ما في هذه المحامل من الوهن.

ص: 132