الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثامن
(1)
305/ 8/ 58 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: تصدق عليّ أبي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضي حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أفعلت هذا بولدك كلهم؟ ".
قال: لا. قال: "اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم"، فرجع أبي، فرد تلك الصدقة.
وفي لفظ، قال:"فلا تشهدني إذًا، فإني لا أشهد على جور"، وفي لفظ:"فأشهد على هذا غيري"(2).
(1) في إحكام الأحكام السابع فليتنبه.
(2)
البخاري (2586)، ومسلم في كتاب الهبات، باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة (1623) النووي. وأبو داود (3542، 3543، 3544)، النسائي (6/ 258، 260)، وفي الكبرى له (4/ 117)، ومالك (2/ 576)، وابن الجارود (ح 991، 992)، والحميدي (2/ 411) ، وابن ماجه (2/ 795)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 176)، والبغوي في شرح السنة (8/ 296)، وابن أبي شيبة (7/ 316)، وعبد الرزاق (9/ 97)، وأحمد (4/ 269، 270).
الكلام عليه من وجوه:
الأول: هذا الحديث ترجم عليه البخاري (1) باب: الإشهاد في الهبة، ثم ساقه من حديث الشعبي: سمعت النعمان بن بشير وهو على المنبر يقول أعطاني أبي عطية فقالت عمرة بنت رواحة (2) لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة" عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله قال:(أعطيت ساير ولدك مثل هذا؟ قال: لا. قال: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)، قال فرجع فرد عطيته.
وترجم عليه مثل ذلك الهبة للولد (3)، ثم ساقه مختصرًا من حديث ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، ومحمد بن النعمان بن بشير أن أباه أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني نحلت ابني هذا غلامًا، فقال: أكل ولدك نحلت مثله؟ قال: لا، قال: فأرجعه (4).
ورواه مسلم من طرق. منها: هذه الطريق بهذا اللفظ أيضًا (5).
بلفظ "فرده".
(1) الفتح رقم (2587).
(2)
زيادة من هـ.
(3)
الفتح حديث رقم (2586).
(4)
ومما ترجم عليه البخاري:
1 -
في كتاب الشهادات، باب: لا يشهد على جور حديث (2650).
(5)
في هـ زيادة (ومنها هذا الطريق).
ومنها: الطريق الأول بلفظ المصنف الأول ولم يقل سمعت النعمان، وإنما قال: عن النعمان ثم رواه باللفظ الثاني الذي ذكره المصنف، ثم باللفظ الثالث، وقال في آخره:"أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟ قال: بلى. قال: "فلا إذًا، وكلاهما أيضًا من طريق الشعبي.
قال عبد الحق: ولم يذكر البخاري هذا، ولم يقل من هذه الألفاظ إلَّا قوله:"فلا تشهدني على جَوْر" وهو عنده على الشك ثم قال: وقال أبو جرير عن الشعبي: "لا أشهد على جور" ليس عنده إلَّا هذا.
ورواه مسلم من حديث أبي الزُّبير عن جابر أيضًا وفيه: "فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد إلَّا على حق".
الثاني: وقع في "بسيط" الغزالي "ووسيطه" أن الواهب هو النعمان بن بشير، وغلطوه في [ذلك وإنما هو الموهوب له لكنه لم ينفرد بذلك، فقد رواه المزني عن الشافعي كذلك](1).
ونبه عليه البيهقي (2): أن الصواب خلافه.
الثالث: [قوله](3): "ببعض ماله" قد عرفت من رواية الصحيحين أنه كان غلامًا، وفي رواية لمسلم:"إني قد نحلت النعمان، كذا وكذا من مالي".
الرابع: سلف التعريف براوي الحديث في باب الصفوف.
(1) في ن هـ ساقطة.
(2)
معرفة السنن والآثار (9/ 62).
(3)
زيادة من ن هـ.
وأما [أمه](1): فهي أخت عبد الله بن رواحة، وزوج [بشير](2) بن سعد الأنصاري، لما ولدت النعمان حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بتمرة، فمضغها، ثم ألقاها في فيه، فحنكه بها. فقالت: يا رسول الله اُدعُ اللهَ أن يكثر ماله وولده، فقال:"أما ترضين أن يعيش كما عاش خاله حميدًا، وقتل شهيدًا، ودخل الجنة، ومن حديثها "وجب الخروج -يعني في الجهاد- على كل ذات نطاق" (3).
[الخامس](4): "الجور" لغة الميل عن السواء والاعتدال، فكلما خرج عن ذلك فهو جور، سواء [كان حرامًا أو مكروهًا، وقد يكون تارة لهذا، وتارة لهذا وقد استعمل فيه بمعنى الضلال](5) وبمعنى الظلم وكلاهما محرمان.
السادس: في أحكام الحديث:
الأول: [(6)] في جواز تسمية الهبة صدقة.
الثاني: شرعية الإِشهاد عليها، كما أسلفناه عن ترجمة البخاري والاحتياط في العقود، بشهادة الأفضل والأكبر.
(1) في الأصل أخته وما أثبت من ن هـ.
(2)
زيادة من ن هـ.
(3)
أخرجه أحمد في مسند (6/ 358)، وقد ساقه في الإصابة (8/ 146)، خطأ في لفظه "فرحت الخزرج على ذات نطاق" فليصحح وسياقه في أسد الغابة في ترجمتها على الصواب.
(4)
في الأصل الثامن وما أثبت من ن هـ.
(5)
في ن هـ ساقط.
(6)
في الأصل زيادة (في)، وما أثبت من هـ.
الثالث: أن للأم كلامًا في مصلحة الولد وماله وأنه مسموع.
الرابع: أن المفتى والشاهد لا يفتي ولا يشهد إلَّا بما يسوغ شرعًا.
الخامس: الرجوع في المعاملات ونحوها إلى العلماء.
السادس: سؤال المفتي والشاهد عن شرط الحكم وما يسوغ فعله، سواء كان الشرط واجبًا أو مندوبًا.
السابع: أمر مخالف ذلك بتقوى الله، والعدل بين البقية.
الثامن: المبادرة إلى قبول قول الحق، من غير تأخير ولا حرج في النفس.
التاسع: التسوية بين الأولاد في العطية من غير تفضيل. وقد نبه على الحكمة في ذلك، وهي محبة الوالد أن يكون برهم له على السواء، فكذلك عطيته لهم، فإن التفضيل يؤدي إلى الانحباس والتباغض، وهل ذلك على الإِيجاب [أو](1) الندب؟ فيه قولان للعلماء.
قال مالك وأبو حنيفة والشافعي: بالثاني، وحكاه القرطبي (2) عن الجمهور وأن التفضيل مكروه فقط، والهبة صحيحة (3).
(1) في هـ (واو).
(2)
المفهم (4/ 585، 586).
(3)
قال الشافعية والمالكية وأبو يوسف من الحنفية وهو رأي الجمهور: يستحب للأب أن يسوى بين الأولاد الذكور والإناث في العطية، فتعطى الإِناث مثل ما يعطى الذكور، لقوله صلى الله عليه وسلم:"سووا بين أولادكم في العطية، ولو كنت مؤثرًا لآثرت النساء على الرجال"، وفي رواية للبخاري:"اتقوا الله وأعدلوا بين أولادكم"، ولأن العدل في القسمة والمعاملة مطلوب، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقد حملوا الأمر في هذه الأحاديث على الندب. اهـ. من الفقه الإِسلامي (5/ 34).
* وقال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (22/ 293)، نقلًا عنهم: لا بأس أن يفضل بعض ولده بالنحلة دون بعض، ويؤثره بالعطية دون سائر ولده، وهم مع ذلك يكرهون ذلك مع ما سنذكره عنهم إن شاء الله، والتسوية في العطايا إلى البنين أحب إلى جميعهم.
* وكان مالك رحمه الله يقول: إنما معنى هذا الحديث الذي جاء فيه فيمن نحل بعض ولده ماله كله.
* قال: وقد نحل أبو بكر عائشة دون ولده -قال أبو عمر- ذكره في الموطأ ثم ساقه إسناده عنها إلى أن قال.
* واستدل الشافعي بأن هذا الحديث على الندب، بنحو ما استدل به مالك من عطية أبي بكر عائشة دون سائر ولده.
* وبما ذكرناه من رواية داود وغيره عن الشعبي، عن النعمان بن بشير، عن النبي صلى الله عليه وسلم "أيسرك أن يكونوا لك في البر".
* وقال الشافعي: ترك التفضيل في عطية الأبناء فيه حسن الأدب، ويجوز له ذلك في الحكم. اهـ. محل المقصود.
وقال الحنابلة ومحمد بن الحنفية: للأب أن يقسم بين أولاده على حسب قسمة الله تعالى في الميراث فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، لأن الله تعالى قسم بينهم كذلك، وأولى ما اقتدى به: هو قسمة الله، ولأن العطية في الحياة أحد حالي العطية، فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين كحال الموت، والميراث المترتب عليه، يدل لهذا أن العطية استعجال لما يكون بعد الموت، فينبغي أن تكون على حسبه. اهـ. من الفقه الإِسلامي (5/ 34). وحجتهم في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فارتجعه" وقوله "فاردده" من حديث مالك وغيره.
وقال الغزالي: ليس مكروهًا، بل تاركًا للأحب وهو ظاهر نصه.
وقال طاووس وعروة ومجاهد والثوري وأحمد وإسحاق وداوود: بالأول وأن التفضيل حرام مردود، واحتجوا برواية "لا أشهد على جور"، ونحوها.
واستدل الأولون بالرواية الأخرى: "فأشهد على هذا غيري".
قالوا: ولو كان حرامًا أو باطلًا لما قال هذا الكلام، وامتناعه عليه الصلاة والسلام من الشهادة على وجه التنزيه.
وأجابوا: عن رواية: "لا أشهد على جور" بما أسلفناه من أن الجور في اللغة، هو الميل عن الاستواء والاعتدال، سواء كان حرامًا أو مكروهًا، فتأول هنا على المكروه جمعًا بين الروايتين.
وللأولين أن يقولوا: قوله: "فأشهد على هذا غيري" جاء على طريق التهديد والتنفير الشديد، مع ما انضاف إلى ذلك من امتناعه عليه الصلاة والسلام عن المباشرة لهذه الشهادة معَلِلًا بأنها جور، والمتبادر إلى الذهن عند إطلاق الجور التحريم لا الكراهة، فتخرج الصيغة عن ظاهر الأذن لهذه القرائن، ويقوى ذلك أيضًا:"فاتقوا الله" فإن ذلك يؤذن بأن التقوى هنا التسوية، وأن التفضيل ليس بتقوى.
وأجاب النووي (1) عن هذا بأن قال: الأصل في كلام الشارع
(1) شرح مسلم (11/ 67).
غير التهديد، ويحتمل عند إطلاقه صيغة أفعل على الوجوب أو الندب، فإن تعذر ذلك فعلى الإِباحة.
ومما يستدل به على الجواز: أن الصديق نحل عائشة جذاذ عشرين وسقًا (1).
وفضل عمر عاصمًا بشيء، وفضل ابن عوف ابنته أم كلثوم.
وقطع ابن عمر ثلاثة أرؤس أو أربعة لبعض ولده دون بعض، وفضل القاسم بن محمَّد بعض ولده (2).
(1) الموطأ (2/ 752).
(2)
انظر: معجم السلف (6/ 151، 154)، ولنختم هذه المسألة بنقل عن ابن القيم في تهذيب السنن (5/ 191)، وفي لفظ في الصحيح:"أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ قال: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأرجعه".
وفي لفظ: قال: "فرده".
وفي لفظ آخر فيه: "فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، فرجع أبي في كل الصدقة".
وفي لفظ لهما: "فلا تشهدني إذن، فإني لا أشهد على جور".
وفي آخر: "فأشهد على هذا غيري".
وفي آخر: "أيسرك أن يكون بنوك في البر سواء؟ قال: بلى. قال: فلا يأذن".
وفي لفظ آخر: "أفكلهم أعطيت كما أعطيته؟ قال: لا. قال: فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد إلَّا على حق" وكل هذه الألفاظ في الصحيح، وغالبها في صحيح مسلم. وعند البخاري منها:"لا تشهدني على جور"، قوله:"لا أشهد على جور" والأمر برده، وفي لفظ:"سوَّ بينهم"، وفي لفظ:"هذا جور، أشهد على هذا غيري". =
العاشر: اختلف أصحابنا في صفة هذه التسوية.
فقيل: كقسمة الأرث والأصح أن يجعل الأنثى كالذكر، وهو ظاهر الحديث (1) وأبعد بعضهم فحكى وجهًا أن الأنثى تفضل عليه، حكيته في "شرح المنهاج" وهو غريب.
وبالأول قال ابن شعبان من المالكية وحكاه القرطبي (2) عن عطاء، والثوري، ومحمد بن الحسن، وأحمد، وإسحاق.
= وهذا صريح في أن قوله: "أشهد على هذا غيري" ليس إذنًا، بل هو تهديد لتسميته إياه جورًا.
وهذه كلها ألفاظ صحيحة صريحة في التحريم والبطلان من عشرة أوجه من الحديث. ومنها قوله: "أشهد على هذا غيري"، فإن هذا ليس بإذن قطعًا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأذن في الجور، وفيما لا يصلح، وفي الباطل فإنه قال:"إني لا أشهد إلَّا على حق" فدل ذلك على أن الذي فعله أبو النعمان لم يكن حقًا، فهو باطل حقًا، فقوله إذن "أشهد على هذا غيري" حجة على التحريم قوله تعالى:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} ، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا لم تستح فاصنع ما شئت"، أي: الشهادة على هذا ليست من شأني، ولا تبغي لي، وإنما هي من شأن من يشهد على الجور والباطل، وما لا يصلح، وهذا في غاية الوضوح. اهـ. وانظر: بدائع الفوائد (3/ 101، 102، 151، 152)، (4/ 128)، وأعلام الموقعين (2/ 205، 310)، وإغاثة اللهفان (1/ 365).
(1)
واستدلوا بحديث يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "سووا بين أولادكم، فلو كنت مؤثرًا أحد أثرت النساء على الرجال" من رواية ابن عباس، وظاهر رواية النسائي:"ألا سويت بينهم"، ورواية ابن حبان:"سووا بينهم".
(2)
المفهم (4/ 585).
وبالثاني: قال ابن العطار منهم.
واختلف أصحاب مالك فيمن أخرج الإِناث من تحبيسه: هل ينفذ الحبس أم لا؟
فقيل: يفسخ مطلقًا.
وقيل: ما لم يمت ولم يجز عنه، قال الإِمام منهم. قال: بعض الشيوخ إن هذه الأقوال تجري في هبة بعض البنين دون بعض.
الحادي عشر: جواز رجوع الوالد في هبته لولده على من يقول بصحة التفضيل، ووقع في كلام الشيخ تقي الدين (1) أنه لا يجوز رجوعه في الصدقة على ولده، وتبعه ابن العطار، والأصح المنصوص خلافه، لأنها هبة، وصححه الرافعي هنا، نعم جزم في أوائل العارية بالمنع، وصححه في "الشرح الصغير" هنا، لأن قصد المتصدق الثواب في الآخرة، وهو موعود به فتنبه لذلك.
الثاني عشر: أن قبض الأب لابنه الصغير ما وهبه له جائز، فإن النعمان كان صغيرًا إذ ذاك.
قال القاضي (2) عياض: ولا خلاف في هذا بين العلماء فيما يعرف بعينه.
واختلف المذهب فيما لا يعرف بعينه كالمكيل والموزون، وكالدراهم. هل يجزي تعيينه والإِشهاد عليه والختم عليه عن القبض
(1) إحكام الأحكام (4/ 138).
(2)
ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 332).
أم لا، حتى يخرجها من يده إلى غيره، وأجاز ذلك أبو حنيفة وإن لم يخرجه من يده.
خاتمه: ذهب الإِمام أبو حاتم بن حبان (1) من أصحابنا إلى أنه لا يجوز التفضيل بين الأولاد وبسطه في "صحيحه" بسطًا حسنًا، فأردت أن أذكره لك ملخصًا لكثرة فوائده، فإنه ذكره من طرق، وجمع بين ما قد يفهم تعارضه فقال ذكر الأمر الذي ورد بلفظ الرد والإرجاع مراده نفي جواز ذلك الفعل دون إجازته وإمضائه، ثم روى الحديث من طريق ابن شهاب السالفة، وفيه هذا "العبد" بدل "غلامًا" وفي آخره، قال:"فأردده"، ثم قال: ذكر الأمر بالتسوية بين الأولاد في النحل إذ تركه حيف. ثم ذكر الحديث بلفظ "سوِّو بينهم"، وبلفظ:"فأرجعه"، ثم قال: ذكر البيان، بأن قوله:"فأرجعه"، أراد به لأنه غير الحق، ثم رواه من حديث جابر باللفظ [المذكور](2)، ثم رواه من حديث النعمان، وفيه "لا تشهدني على جور"، وترجم [عليه] (3) نفي جواز الإيثار في النحل بين الأولاد. ثم قال: ذكر خبر آخر يصرح بأن الإِيثار بين الأولاد في النحل حيف غير جائز استعماله. وروى حديث النعمان وفيه "فإني لا أشهد على هذا. هذا جور، أشهد على هذا غيري، أعدلوا بين أولادكم في النحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف" ثم قال قوله: "أشهد على هذا غيري"، أراد به الإِعلام بنفي جواز استعمال الفعل المأمور به
(1) ابن حبان (11/ 496، 508).
(2)
في ن هـ السالف.
(3)
زيادة من ن هـ.
ولو فعله، فزجر عن الشيء بلفظ الأمر بضده، كما قال لعائشة "اشترطي لهم الولاء فإنما الولاء، لمن أعتق"، ثم روى من حديث النعمان أن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن عمرة بنت رواحة نُفست بغلام، وإني سميته: نعمان، وإنها أبت أن تربيه وحتى جعلتُ له حديقة، في أفضل مالي هو، وأنها قالت: أشهد النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هل لك ولد غيره"؟ قال: نعم، قال:"لا تشهدني إلَّا على عدل، وإني لا أشهد على جور".
قال أبو حاتم بن حبان: (1)[لا تضاد بين ما ذكرناه من هذه القصة] ، لأن النحل من بشير لابنه كان في موضعين متباينين، وذلك أن أول ما ولد النعمان أبت عمرة أن تربيه حتى يجعل له بشير حديقة، ففعل ذلك، وأراد الإِشهاد على ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تشهدني إلَّا على عدل، فإني لا أشهد على جور"، [(2)] هذا [تصريح](3) بأن الحيف في النحل [بين الأولاد](4) غير جائز، فلما أتى على الصبي مدة، قالت عمرة. لبشير: أنحل ابني هذا، فالتوى عليها مدة سنة أو سنتين [(5)]، فنحله غلامًا، فلما جاء المصطفى صلى الله عليه وسلم
(1) العبارة هكذا (تباين الألفاظ في قصة النحل الذي ذكرناه قد يوهم عالمًا من الناس أن الخبر في تضاد وتهاتر وليس كذلك).
(2)
في الإِحسان زيادة (على ما في خبر أبي حريز).
(3)
في المرجع السابق (تصرح هذه اللفظة).
(4)
زيادة من ن هـ وابن حبان.
(5)
في المرجع السابق زيادة (على ما في خبر أبي حيان التيمي والمغيرة عن الشعبي).
ليشهده قال: "لا تشهدني على جور"، قال ويشبه أن يكون [النعمان](1) قد نسي الحكم الأول، أو توهم أنه قد نسخ، وقوله عليه الصلاة والسلام[في الكرة الثانية "لا تشهدني على جور"](2)، زيادة تأكيد في نفي جوازه، [وما يدل على الثاني] (3) أنه عليه الصلاة والسلام قال له:"ما هذا الغلام"؟ قال: [(4)] أعطانيه أبي، [والنحل الأول كان عند امتناع عمرة من تربيته عند ولادته](5) هذا آخر كلامه (6). وهو نفيس [وروى الخطابي خبر
(1) هكذا هنا وأيضًا في صحيح ابن حبان ولعله بشير لأن الهبة قد وقعت منه فلعله وقع سهوًا أو سبق قلم فلينتبه له.
(2)
في المرجع السابق والمخطوط تقديم وتأخير.
(3)
في المرجع السابق زيادة (والدليل على أن النحل في الغلام للنعمان كان ذلك والنعمان مترعرع، أن في خبر أبي عاصم عن الشعبي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "ما هذا الغلام؟ ".
(4)
في المرجع السابق زيادة (غلام).
(5)
في العبارة هكذا في المرجع السابق (فدلتك هذه اللفظة على أن هذا النحل غير النحل الذي في خبر أبي حريز في الحديقة، لأن ذلك عند امتناع عمرة عن تربية النعمان عندما ولدته، ضد قول من زعم أن أخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم تتضاد وتتهاتر، وأبو حريز كان قاضي سجستان). انظر تلخيص ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 212).
(6)
قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 212)، بعد سياقه لجمع ابن حبان. قال وهو جمع لا بأس به، إلَّا أنه يعكر عليه أنه يبعد أن ينسى بشير بن سعد مع جلالته الحكم في المسألة حتى يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيستشهده على العطية الثانية بعد أن قال له في الأولى: "لا أشهد على =
النعمان هذا جابر السالف، وقال إنه أولى منه لأن جابرًا احفظ له وأضبط، لأن النعمان كان صغيرًا وفي حديث جابر أنه شاوره عليه الصلاة والسلام قبل الهبة فدله على ما هو الأولى به] (1).
قال القرطبي (2): حديث النعمان كثرت طرقه باختلاف ألفاظه حتى قال بعض الناس: إنه مضطرب، وليس كذلك، لأنه ليس في ألفاظه تناقض، والجمع ممكن. قال: ومن أبعد التأويلات أن النهي إنما يتناول من وهب ماله كله لبعض ولده، كما ذهب إليه سحنون،
= جور" وجوز ابن حبان أن يكون بشير ظن نسخ الحكم. وقال غيره: يحتمل أن يكون حمل الأمر الأول على كراهة التنزيه، أو ظن أنه لا يلزم من الامتناع في الحديقة الامتناع في العبد لأن ثمن الحديقة في الأغلب أكثر من ثمن العبد، ثم ظهر لي وجه آخر من الجمع يسلم من هذا الخدش ولا يحتاج إلى جواب وهو أن عمرة لما امتنعت من تربيته إلَّا أن يهب له شيئًا يخصه به وهبه الحديقة المذكورة تطييبًا لخاطرها، ثم بداله فارتجعها لأنه لم يقبضها منه أحد غيره، فعاودته عمرة في ذلك فمطلها سنة أو سنتين ثم طابت نفسه أن يهب له بدل الحديقة غلامًا ورضيت عمرة بذلك، إلَّا أنها خشيت أن يرتجعه أيضًا، فقالت: أشهد على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم تريد بذلك تثبيت العطية وأن تأمن من رجوعه فيها، ويكون مجيئه إلى النبي صلى الله عليه وسلم للإشهاد مرة واحدة وهي الأخيرة، وغاية ما فيه أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ البعض، أو كان النعمان يقص بعض القصة تارة ويقص بعضها أخرى فسمع كل ما رواه فاقتصر عليه. والله أعلم. اهـ.
(1)
زيادة من هـ. انظر: معالم السنن (5/ 191).
(2)
المفهم (4/ 584).
وكأنه لم يسمع في الحديث نفسه: أن الموهوب كان غلامًا، فإنه إنما وهبه له لما سألته أمه بعض الموهبة من ماله، وهذا يعلم منه على القطع أنه كان له مال غيره.
تتمات:
أحدها: الكراهة والتحريم ظاهر فيما إذا استوى على أولاده في الحاجة وقدرها أو عدمها، فإن تفاوتوا فليس في التفضيل والتخصيص المحذور [السالف](1) فتنبه له.
ثانيها: الأم في ذلك كالأب كما صرح به النووي في الروضة (2). قال: وكذا الجد والجدة، وكذا الولد إذا وهب لوالديه، قال الدارمي (3): فإن فضل فليفضّل الأم.
وافهم كلام الغزالي وغيره أن الأقارب كالأخوة لا يجري فيهم الحكم المذكور، ولا يبعد طرده فيهم، لما فيه من الإِيحاش، نعم المحذور في الأولاد عدم البر بخلاف هذا، كما نبه عليه صاحب "المطلب" (4) قال: وعلى الجملة لا شك أن التسوية بينهم مطلوبة،
(1) زيادة من هـ.
(2)
روضة الطالبين (5/ 379).
(3)
هو محمَّد بن عبد الواحد بن محمَّد بن عمر بن ميمون أبو الفرج المعروف بالدارمي البغدادي نزيل دمشق مولده سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة. توفي بدمشق في ذي القعدة سنة ثمان وأربعين وأربعمائة. انظر: تاريخ بغداد (2/ 361، 362)، وابن هداية (149)، وابن قاضي شهبة (1/ 234).
(4)
كتاب في شرح الوسيط في نحو أربعين مجلدًا، وقد أثنى على المؤلف العلماء في كثرة استحضاره للنصوص مؤلفة ابن الرفعة: أحمد بن =
لكنها دون طلب التسوية بين الأولاد.
ثالثها: إذا خالف فخص أو فضل، فالأولى أن يعطي للثاني ما يحصل به العدل، وإلَّا استحب له أن يرجع.
…
= محمد بن علي. وقد سبقت ترجمته من هذا الكتاب. انظر: طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (2/ 211).