الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني
291/ 2/ 56 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه كان يسير على [جمل فأعيا](1)، فأراد أن يسيبه (2)، فلحقني النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا لي وضربه، فسار سيراً لم يسر مثله (3) قال:"بعنيه بأوقية". قلت: لا، ثم قال:"بعنيه"، فبعته بأُوقية، واستثنيت حملانه إلى أهلي، فلما بلغت أتيته بالجمل فنقدني ثمنه، ثم رجعت، فأرسل في أثري، فقال:"أتراني ماكستك لأخذ جملك؟ خذ جملك ودراهمك فهو لك"(4).
هذا حديث عظيم مشتمل على فوائد جمة.
والكلام عليه من وجوه:
(1) في متن العمدة: (جمل له، قد أعيا).
(2)
في متن العمدة زيادة: قال.
(3)
في متن العمدة زيادة: قط ثم.
(4)
البخاري (2718)، ومسلم (715) ، والنسائي (7/ 297، 298)، والنسائي في الكبرى (4/ 45/ 6233)، وأحمد (3/ 299، 314، 325، 328، 350، 362)، وأبو داود (3505)، والترمذي (1253)، والبيهقي (5/ 337)، وشرح السنة للبغوي (8/ 56).
الأول: معنى "أعي" كلَّ. يقال: أعيا الرجل في الشيء فهو معيي، ولا يقال عيان، وأعياه الله. وأعيا عليه الأمر، وتعايا ويعيا بمعنى (1).
وقوله: "فأراد أن يسيبه"، أي يطلقه متجرد منه لا أن يجعله سائبة لا يركبه أحد، كما كانت الجاهلية تفعله.
الثاني: "الوقية" بحذف الألف لغة، كما أسلفته في الحديث قبله، والأشهر إثباتها.
الثالث: وقع هنا أنه باعه "بأُوقية". قاله وهب وزيد بن أسلم أيضاً (2).
وفي رواية "بأربعة دنانير" قال عطاء (3): وهو سواء على حساب الدينار عشرة دراهم؛ وهذا وقع في كتاب الشروط للبخاري في قوله: "بأربعة دنانير" هذا يكون أوقية على حساب الدينار بعشرة،
(1) فائدة: عَيِىَ في اللسان. وأعْيَ: كَلَّ وتَعِب. اهـ من طبقات الشافعية لابن السبكي (4/ 328).
(2)
هذه الرواية وما بعدها برقم (2718)، والفتح (5/ 314).
(3)
قال ابن حجر-رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 320) على قوله: "وهذا يكون أوقية على حساب الدينار بعشرة" هو من كلام المصنف، قصد به الجمع بين الروايتين، وهو كما قال بناء على أن المراد بالأوقية، أي من الفضة، وهي أربعون درهماً، وقوله:"الدينار" مبتدأ. وقوله: "بعشرة" خبره، أي دينار ذهب بعشرة دراهم فضة، ونسب شيخنا ابن الملقن هذا الكلام إلى رواية عطاء -كما في سياقه هنا- ولم أر ذلك في شيء من الطرق لا في البخاري ولا في غيره، وإنما هو من كلام البخاري. اهـ.
وفي الصحيح (1) أيضاً "بأوقية ذهب"، وفي البخاري (2)، وقال: داود بن قيس عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر "اشتراه بطريق تبوك، أحسبه قال: بأربعة أواق"، "وقال أبو إسحاق عن سالم، عن جابر بمائتي درهم"، وقال أبو نضرة عن جابر:"اشتراه بعشرين ديناراً".
قال البخاري: قول الشعبي "بوقية" أكثر.
وعزا النووي في شرحه (3) إلى البخاري، أنه رواه بثمانمائة درهم، ولم أرها فيه. ولعله بمائتي درهم كما أسلفته، لكن ذكرها ابن التين أيضاً.
وجمع الداودي بين هذه الروايات فقال: ليس لأوقية الذهب وزن معلوم. وأوقية الفضة أربعون درهماً. قال: وسبب الاختلاف أنهم رووه بالمعنى. فالمراد وقية ذهب، كما سبق، ويحمل عليها من قال:"أُوقية" وأطلق، ومن قال:"خمس أواق"، فالمراد: خمس أواق من الفضة، وهي بقدر قيمة أوقية من ذهب في ذلك الوقت، فيكون الإِخبار بأُوقية الذهب عما وقع عليه العقد وبأواقي الفضة عما حصل به الإِيفاء، ويحتمل أن هذا كله زيادة على الأوقية كما قال في رواية "فما زال يزيدني" ورواية "أربعة دنانير" موافقة، أو يحتمل أن أوقية الذهب إذ ذاك وزن أربعة دنانير. ورواية "أوقيتين" يحتمل أن
(1) المرجع السابق.
(2)
المرجع السابق إلى آخر كلام البخاري.
(3)
شرح مسلم (11/ 31). وانظر: رد ابن حجر هذه الرواية في الفتح (5/ 320).
أحدهما وقع بها البيع، والأُخرى زيادة، كما قال في رواية "وزادني أوقية" ورواية "درهم أو درهم" موافقة لرواية "وزادني قيراطاً" ورواية "عشرين ديناراً" محمولة على دنانير صغار كانت لهم، ورواية "أربعة أواق" شك فيها الراوي، فلا اعتبار بها، وفي هذا الجمع نظر، وكيف يعمل في رواية الثمانمائة درهم، ورواية الطحاوي "سبع أواق" أو "تسع أواق" لا جرم. قال القرطبي (1): إنه تكلف بيِّن وتقدير أمر لم يصح نقلاً، ولا استقام ضبطه مع أنه لا يتعلق بتحقيق ذلك حكم، والحاصل أن البيع وقع بثمن معلوم لهما، وزاده عند القضاء زيادة محققة ولا يضرنا جهلنا بمقدار ذلك (2).
وعند ابن إسحاق (3): أنه أعطاه فيه درهماً، فقال اغبن يا رسول الله.
قال السهيلي (4): وروى من وجه صحيح أنه كان يقول له كلما زاده درهماً قد أخذته بكذا والله. يغفر لك. فكأنه أراد بإعطائه إياه درهماً درهماً أن يكثر استغفاره له.
وما ذكرناه عن الداودي من أنه ليس لأوقية الذهب وزن معلوم، يخالفه قول الخليل: إنها سبعة مثاقيل.
(1) المفهم (5/ 2877).
(2)
انظر: فتح الباري، فإنه وجه الروايات حسب توجيه المصنف (5/ 320).
(3)
السيرة لابن إسحاق (3/ 218)، ومسند أحمد (3/ 375).
(4)
الروض الأنف (3/ 254). أخرجه ابن حبان (7141، 7142)، والنسائي في فضائل الصحابة (144)، والترمذي (3852)، والحاكم (3/ 565).
وقال غيره: بسبعة ونصف حكاها صاحب "المغيث"(1).
وقال ابن سيده (2): الأوقية: زنة سبعة مثاقيل، وزنه أربعين درهماً.
الرابع: هذا الشراء منه صلى الله عليه وسلم كان بطريق تبوك، كما قدمناه عن رواية البخاري.
وفي "طبقات ابن سعد"(3): إن ذلك كان من رجوعه من غزوة ذات الرقاع. وكذا ذكره ابن إسحاق (4)، وفي البخاري (5): في "باب: من ضرب دابة غيره في الغزو"، عن جابر قال: سافرت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره -قال أبو عقيل: أحد رواته لا أدري غزوة أم عمرة- وساق الحديث.
وفي رواية له في "باب: استئذان الرجل الإِمام"[في الجهاد (6)](7)"غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم" وساق الحديث.
وكذا ذكره (8) في "باب: طلب الولد" من كتاب النكاح.
(1) انظر: هذا وما قبله المجموع المغيث (1/ 109).
(2)
المخصص (12/ 266).
(3)
طبقات ابن سعد (2/ 61).
(4)
في السيرة (3/ 218).
(5)
الفتح (6/ 65) ح (2861).
(6)
غير موجودة في الفتح.
(7)
المرجع السابق (6/ 121) ح (2967).
(8)
أي البخاري (9/ 341) ح (5245، 5246).
وفي رواية له (1): "فأعطاني ثمن الجمل والجمل وسهمي مع القوم".
وفي رواية الطحاوي (2): أن بيعه الجمل كان حين أقبلوا من مكة إلى المدينة.
الخامس: "واستثنيت حُملانة" هو بضم الحاء وسكون الميم، أي الحمل عليه، والمفعول محذوف، أي حملانه إياي أو متاعي أو نحو ذلك، فالمصدر فيه مضاف إلى الفاعل.
وقوله: "فأرسل في إثري" هو بكسر الهمزة وسكون الثاء وبفتحها، وفي رواية لمسلم (3):"فلما وليت قال: "ادعوا لي جابراً"، قلت: الَآن يرد عليّ الجمل، ولم يكن شيء أبغض إلي منه، فقال: "خذ جملك، ولك ثمنه".
(1) في البخاري كتاب الاستقراض، باب: الشفاعة في وضع الدين ح (2405، 2406)، والفتح (5/ 67).
(2)
عند ابن حبان (6517، 4911)، وأبو يعلى (1898). انظر كلام ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 320) حيث جمع بن مختلف الروايات ورجح أنه كان في غزوة، وأنها غزوة ذات الرقاع، وعلل ذلك بأن ذات الرقاع بعد أُحد بسنة واحدة على الصحيح، لأنه سأله: هل تزوج أم لا؟ فأجابه بأنه تزوج ثيباً لأن أباه استشهد بأُحد وترك أخواته، فتزوج ثيباً لتمشطهن وتقوم عليهن. وكانت غزوة تبوك بعدها بسبع سنين.
(3)
مسلم ص (1079)، وفي البخاري أيضاً كتاب: البيوع، باب: شراء الدواب والحمير. ح (2097)، والفتح (4/ 320)، وابن حبان (7143).
السادس: قوله عليه الصلاة والسلام: "أتراني ماكستك؟ ". قال أهل اللغة: المماكسة: المكالمة في النقص من الثمن، وأصلها النقص، ومنه مكس الظالم وهو ما يأخذه وينتقصه من أموال الناس.
قال ابن الأثير (1): وذكر الزمخشري في "فائقه"(2) أنه روى "ماكستُك" من المكاس، ومعناه ظاهر، وروى:"أنما كِسْتُك" وهو من كايسته فَكِسْتُهُ، أي كنت أكيس منه.
وقوله: "لأخذ جملك"، قال القرطبي (3): هو بكسر لام كي، ونصب الفعل المضارع. كذا جميع الرواة، قال: وقد قُيِّد على أبي بحر "لا. خُذ جملك" على "لا" النافية "وخذ" على الأمر، قال: والمعنيان واضحان.
قلت: والأول أوضح لأن في الثاني نوع تأكيد فيه "خذ جملك" مرة أخرى.
السابع: استدل بهذا الحديث الإِمام أحمد ومن وافقه على جواز بيع الدابة، ويشترط البائع لنفسه ركوبها؛ وبه قال ابن شبرمة وجماعة، وجوّزه مالك إذا كانت مسافة الركوب قريبة، وحمل الحديث على هذا.
ومذهبنا ومذهب أبي حنيفة أنه لا يجوز ذلك مطلقاً، سواء قلَّت المسافة أو كثُرت. ولا ينعقد احتجاجاً بالنهي عن بيع وشرط.
(1) جامع الأصول (1/ 519).
(2)
الفائق (3/ 290). وزاد رواية "إنما ماكستك"، من المكاس. اهـ.
(3)
المفهم (5/ 2874).
قال القرطبي (1): وزاد أن هذا أولى من حديث جابر إما لأنه ناسخ له، أو مرجح عليه.
وأجابوا عن هذا الحديث: بأنها واقعة عين تطرق إليها احتمالات.
قالوا: ولأنه عليه الصلاة والسلام: أراد أن يعطيه الثمن، ولم يرد حقيقة البيع.
قالوا: ويحتمل أن الشرط لم يكن في نفس العقد، ولعله كان نسأها، فلم يؤثر ثم تبرع عليه الصلاة والسلام بذلك.
قلت: وهو صريح رواية النسائي الآتية: "أخذته بكذا وكذا، وقد أعرتك ظهره إلى المدينة". وظاهر إحدى روايات الصحيح "فبعته منه بخمس أواق، قال: قلت: علي أن لي ظهره إلى المدينة.
قال: ولك ظهره إلى المدينة. فلما قدمت المدينة أتيته به فزادني وقية ثم وهبه لي"، فهذا شاهد كون الاشتراط وقع بعد العقد، وأيَّد القاضي أبو الطيب هذا بأنه جاء في بعض ألفاظ الخبر "فلما نقدني الثمن شرطت حملاني إلى المدينة". وهذه الرواية إن ثبتت كان معنى "نقدني الثمن" قرره لي، إذ صريح الروايات أنه إنما وفاه الثمن بالمدينة، وظاهر رواية الكتاب تدل على أنه وقع الشرط في العقد. وجاء ذلك لأنه لم يكن بيعاً مقصوداً وإنما منفعته لا مبايعته. وكذا رواية البخاري على "أن لي فقار ظهره" و"شرط ظهره إلى المدينة"،
(1) المفهم (5/ 2872).
وقوله عليه الصلاة والسلام: "لك ظهره" و"تبلغ عليه إلى أهلك"(1).
(1) انظر اختلاف الروايات في الفتح (5/ 314) ح (2718)، قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 318).
قوله: (قال أبو عبد الله) هو المصنف: (الاشتراط أكثر وأصح عندي) أي أكثر طرقاً وأصح مخرجاً، وأشار بذلك إلى أن الرواة اختلفوا عن جابر في هذه الواقعة: هل وقع الشرط في العقد عند البيع أو كان ركوبه للجمل بعد بيعه إباحة من النبي صلى الله عليه وسلم بعد شرائه على طريق العارية؟ وأصرح ما وقع في ذلك رواية النسائي المذكورة، لكن اختلف فيها حماد بن زيد وسفيان بن عيينة، وحماد أعرف بحديث أيوب من سفيان، والحاصل أن الذين ذكروه بصيغة الاشتراط أكثر عدداً من الذين خالفوهم، وهذا وجه من وجوه الترجيح فيكون أصح، ويترجح أيضاً بأن الذين رووه بصيغة الاشتراط معهم زيادة، وهم حفاظ فتكون حجة، وليست رواية من لم يذكر الاشتراط منافية لرواية من ذكره، لأن قوله:"لك ظهره" و"أفقرناك ظهره" و"تبلغ عليه" لا يمنع وقوع الاشتراط قبل ذلك. وقد رواه عن جابر بمعنى الاشتراط أيضاً أبو المتوكل عند أحمد ولفظه "فبعني ولك ظهره إلى المدينة" لكن أخرجه المصنف في الجهاد من طريق أخرى عن أبي المتوكل. فلم يتعرض للشرط إثباتاً ولا نفياً، ورواه أحمد من هذا الوجه بلفظ:"أتبيعني حملك؟ قلت: نعم. قال: أقدم عليه المدينة" ورواه أحمد من طريق أبي هبيرة عن جابر بلفظ: "فاشترى مني بعيراً فجعل لي ظهره، حتى أقدم المدينة" ورواه ابن ماجه وغيره من طريق أبي نضرة عن جابر بلفظ: "فقلت يا رسول الله هو ناضحك إذا أتيت المدينة". ورواه أيضاً عن جابر نبيح العنزي عند أحمد فلم يذكر الشرط، ولفظه: "قد أخذته بوقية، قال: فنزلت إلى الأرض، فقال: ما لك؟ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قلت: جملك. قال: اركب، فركبتت حتى أتيت المدينة"، ورواه أيضاً من طريق وهيب بن كيسان عن جابر، فلم يذكر الشرط، قال فيه: "حتى بلغ أوقية، قلت: قد رضيت، قال: نعم، قلت: فهو لك، قال: قد أخذته. ثم قال: يا جابر هل تزوجت" الحديث. وما جنح إليه المصنف من ترجيح رواية الاشتراط هو الجاري على طريقة المحققين من أهل الحديث، لأنهم لا يتوقفون عن تصحيح المتن إذا وقع فيه الاختلاف، إلَاّ إذا تكافأت الروايات، وهو شرط الاضطراب الذي يرد به الخبر، وهو مفقود هنا مع إمكان الترجيح، قال ابن دقيق العيد: إذ اختلفت الروايات وكانت الحجة ببعضها دون بعض توقف الاحتجاج بشرط تعادل الروايات، أما إذا وقع الترجيح لبعضها بأن تكون رواتها أكثر عدداً أو أتقن حفظاً فيتعين العمل بالراجح، إذ الأضعف لا يكون مانعاً من العمل الأقوى، والمرجوح لا يمنع التمسك بالراجح، وقد جمح الطحاوي إلى تصحيح الاشتراط لكن تأوله بأن البيع المذكور لم يكن على الحقيقة لقوله في آخره: "أتراني ماكستك
…
إلخ" قال: فإنه يشعر بأن القول المتقدم لم يكن على التبايع حقيقة، ورده القرطبي بأنه دعوى مجردة وتغيير وتحريف لا تأويل، قال: وكيف يصنع قائله في قوله: "بعته منك بأُوقية" بعد المساومة؟ وقوله: "قد أخذته" وغير ذلك من الألفاظ المنصوصة في ذلك؟ واحتج بعضهم بأن الركوب إن كان من مال المشتري فالبيع فاسد، لأنه شرط لنفسه ما قد ملكه المشتري، وإن كان من ماله ففاسد، لأن المشتري لم يملك المنافع بعد البيع من جهة البائع، وإنما ملكها لأنها طرأت في ملكه. وتعقب بأن المنفعة المذكورة قدرت بقدر من ثمن المبيع، ووقع البيع بما عداها، ونظيره من باع نخلاً قد أبرت واستثنى ثمرتها، والممتنع إنما هو استثناء شيء مجهول للبائع والمشتري، أما لو علماه معاً فلا مانع، فيحمل ما وقع في هذه القصة على ذلك. وأغرب =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ابن حزم فزعم أنه يؤخذ من الحديث أن البيع لم يتم لأن البائع بعد عقد البيع مخير قبل التفرق، فلما قال في آخره:"أتراني ماكستك" دل على أنه كان اختار ترك الأخذ، وإنما اشترط لجابر ركوب حمل نفسه، فليس فيه حجة لمن أجاز الشرط في البيع، ولا يخفى ما في هذا التأويل من التكلف. وقال الإِسماعيلي: قوله: "ولك ظهره" وعد قام مقام الشرط، لأن وعده لا خلف فيه، وهبته لا رجوع فيها، لتنزيه الله تعالى له عن دناءة الأخلاق، فلذلك ساغ لبعض الرواة أن يعبر عنه بالشرط، ولا يلزم أن يجوز ذلك في حق غيره. وحاصله أن الشرط لم يقع في نفس العقد، وإنما وقع سابقاً أو لاحقاً، فتبرع بمنفعته أو لا، كما تبرع برقبته أخراً.
ووقع في كلام القاضي أبي الطيب الطبري من الشافعية أن في بعض طرق هذا الخبر "فلما نقدني الثمن شرطت حملاني إلى المدينة" واستدل بها على أن الشرط تأخر عن العقد، لكن لم أقف على الرواية المذكورة، وإن ثبتت فيتعين تأويلها على أن معنى "نقدني الثمن" أي قرره لي، واتفقنا على تعيينه، لأن الروايات الصحيحة صريحة في أن قبضه الثمن إنما كان بالمدينة، وكذلك يتعين تأويل رواية الطحاوي "أتبيعني جملك هذا إذا قدمنا المدينة بدينار" الحديث، فالمعنى أتبيعني بدينار أوفيكه إذا قدمنا المدينة. وقال المهلب: ينبغي تأويل ما وقع في بعض الروايات من ذكر الشرط على أنه شرط تفضل، لا شرط في أصل البيع ليوافق رواية من روى "أفقرناك ظهره" و"أعرتك ظهره" وغير ذلك مما تقدم، قال: ويؤيده أن القصة جرت كلها على وجه التفضل والرفق بجابر، ويؤيده أيضاً قول جابر "هو لك، قال: لا بل بعنيه" فلم يقبل منه إلَاّ بثمن رفقا به، وسبق الإِسماعيلي إلى نحو هذا، وزعم أن النكتة في ذكر البيع أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يبر جابراً على وجه لا يحصل لغيره طمع في مثله، فبايعه في جمله على اسم البيع ليتوفر عليه بره، ويبقى البعير قائماً على ملكه، فيكون ذلك أهنأ =
قال البخاري (1): "والاشتراط أكثر وأصح عندي".
وقال المغيرة (2): هذا في قضائنا حسن، لا نرى به بأساً.
وعند الطحاوي (3): "يا جابر أتبيعني ناضحك هذا إذا قدمنا المدينة بدينار؟ والله يغفر لك"، قلت: يا رسول الله إذا قدمنا المدينة فهو لك، قال: فبعنيه بدينارين والله يغفر لك" الحديث. وهي مخالفة لما سلف.
واعلم: أن بعضهم أشار إلى اختلاف الرواة في ألفاظ الحديث
= لمعروفه. قال: وعلى هذا المعنى أمره بلالاً أن يزيده على الثمن زيادة مهمة في الظاهر، فإنه قصد بذلك زيادة الإِحسان إليه من غير أن يحصل لغيره تأميل في نظير ذلك. وتعقب بأنه لو كان المعنى ما ذكر، لكان الحال باقياً في التأميل المذكور عند رده عليه البعير المذكور والثمن معاً، وأجيب بأن حالة السفر غالباً تقتضي قلة الشيء بخلاف حالة الحضر فلا مبالاة عند التوسعة من طمع الآمل. واقوى هذه الوجوه في نظري ما تقدم نقله عن الإِسماعيلي من أنه وعد حل محل الشرط. وأبدى السهيلي في قصة جابر مناسبة لطيفة غير ما ذكره الإِسماعيلي، ملخصها أنه صلى الله عليه وسلم لما أخبر جابراً بعد قتل أبيه بأحد أن الله أحياه وقال: ما تشتهي فأزيدك، أكد صلى الله عليه وسلم الخبر بما يشتهيه فاشترى منه الجمل، وهو مطيته بثمن معلوم، ثم وفر عليه الجمل والثمن وزاده على الثمن، كما اشترى الله من المؤمنين أنفسهم بثمن هو الجنة ثم رد عليهم أنفسهم وزادهم، كما قال تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} . اهـ.
(1)
المرجع السابق.
(2)
البخاري، الفتح (6/ 121).
(3)
ابن حبان (7141)، وقد سبق تخريجه.
مما يمنع الاحتجاج به على هذا المطلب، فإن بعض الألفاظ صريح في الاشتراط، وبعضها ليس بصريح.
قال الشيخ تقي الدين: وإذا اختلفت الروايات وكانت الحجة ببعضها دون بعض توقف الاحتجاج. قال: وهذا صحيح بشرط تكافؤ الروايات، أو تقاربها.
أما إذا كان الترجيح واقعاً لبعضها -إما لأن رواته أكثر، أو أحفظ- فينبغي العمل بها. إذ الأضعف لا يكون مانعاً من العمل بالأقوى، والمرجوح لا يمنع التمسك بالراجح. فتمسك بهذا الأصل. فإنه نافع في مواضع عديدة.
منها: أن المحدثين يعللون الحديث بالاضطراب، ويجمعون الروايات العديدة. فيقوم في الذهن منها صورة توجب التضعيف. والواجب أن ينظر إلى تلك الطرق، فما كان منها ضعيفاً أسقط عن درجة الاعتبار، ولم يجعل مانعاً من التمسك بالصحيح القوي.
قال: ومذهب مالك، وإن [قال بظاهر](1) الحديث فهو يخصصه باستثناء الزمن اليسير (2).
وربما قيل إنه ورد ما يقتضي ذلك (3).
(1) في الأصل [وإن كان ظاهر]، وما أثبت من إحكام الأحكام (4/ 104).
(2)
قال الشيخ علي الهندي -رحمنا الله وإياه- في تعليقه على حاشية إحكام الأحكام (4/ 105) كذا. ولعله المجهول. اهـ.
(3)
قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في حاشية إحكام الأحكام (4/ 105) على هذه العبارة: أي الاستثناء الزمن اليسير، وكأنه يريد حديث:"إلا أن يكون معلوماً".
قلت: لعله أشار إلى رواية البخاري "أنه كان بطريق تبوك".
تنبيه: اختلف الناس في بيع وشرط:
فصححهما ابن شبرمة لهذا الحديث (1). وأبطلهما أبو حنيفة: لحديث النهي عن بيع وشرط (2).
(1) ودليلهم حديث الباب قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (19/ 75)، وأما أحمد بن حنبل، فمذهبه الذي لا اختلاف عنه فيه أن البيع إذا كان فيه شرطٌ واحدٌ، وهو بيعٌ جائزٌ، وإذا كان فيه شرطان بطل البيع على ظاهر حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يحل شرطان في بيع، ولا بيع وسلف، ولا تبع ما ليس عندك".
قال أحمد: ومن شرطين في بيع أن يقول: أبيعك بكذا على أن آخذ منك الدينار بكذا، وكذلك إن باعه بدراهم على أن يأخذ ذهباً، أو يبيع منه بذهب على أن يأخذ منه دراهم.
وحجته في بطلان البيع بشرطين حديث عبد الله بن عمرو: "لا يحل بيع وسلف، ولا شرطان في بيع ولا تبع ما ليس عندك". وقال ابن حجر في الفتح (5/ 315) في إسناده مقال، وهو قابل للتأويل. اهـ.
(2)
قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- (19/ 73) وحجة من رأى أن البيع في ذلك فاسداً أن البائع لم تطب نفسه على البيع، إلَاّ بأن يلتزم المشتري شرطه، وعلى ذلك ملكه ما كان يملكه، ولم يرض بإخراج السلعة من يده إلَاّ بذلك، فإذا لم يُسلم له شرط لم يملك عليه ما ابتاعه بطيب نفس منه، فوجب فسخ البيع بينهما لفساد الشرط الذي يمنع منه المبتاع من التصرف فيما ابتاعه تصرف ذي الملك في ملكه.
وقالوا أيضاً إن هذا الحديث -أي حديث الباب- اختلفت ألفاظه اختلافاً لا تقوم معه حجة. لأن منها ألفاظاً تدل على أن الخطاب الذي جرى بين =
وصحح ابن أبي ليلى البيع وأبطل الشرط تمسكاً بحديث بريرة السالف (1)، وفي ذلك حكاية مشهورة (2).
= جابر وبين النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه بيان أن الشرط كان في نص العقد، ومنها ما يدل على أنه لم يكن بيعاً، ومنها ما يدل على أن البيع وقع على ذلك الشرط ومع هذا الاختلاف لا تقوم معه حجة. اهـ.
(1)
جاء في رواية عن الشافعي، كما رواه عنه أبو ثور أن البيع جائز، والشرط فاسد. انظر: الاستذكار (19/ 72).
وقال فيه: وقول ابن أبي ليلى في هذا الباب كله مثل قول أبي ثور على حديث عائشة في قصة بريرة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز البيع وأبطل الشرط.
وقول أبي ثور في هذا: كل شرط اشترط البائع على المبتاع مما كان البائع يملكه، فهو جائز مثل ركوب الدابة، وسكنى الدار، وما كان من شرط على المشتري بعد ملكه مما لم يكن في ملك البائع، مثل أن يعتق العبد، ويكون ولاؤه للبائع، وأن لا يبيع، ولا يهب، فهذا شرط لا يجوز، والبيع فيه جائز، والشرط باطل. اهـ.
(2)
قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (23/ 203).
* ومن قال من أهل العلم من يرى أن الشرط الفاسد يفسد البيع، ومنهم من يرى أنه لا ينعقد بيع، ولا شرط أصلاً، ومنهم من يرى أن الشرط لا يضر البيع كائناً ما كان.
* وهذه أصول يحتمل أن يفرد لها كتاب.
* وقد ذكرنا في "التمهيد" خبر عبد الوارث بن سعيد الثوري، قال: قدمت مكة، فوجدت أبا حنيفة، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، فسألت أبا حنيفة، فقلت: ما تقول في رجل باع بيعاً وشرط شرطاً؟ فقال: البيع باطل، والشرط باطل، ثم أتيت ابن أبي ليلى، فسألته، فقال: البيع =
الثامن: قد يؤخذ من الحديث جواز بيع الدار المستأجرة بأن يجعل هذا الاستثناء المذكور في الحديث أصلاً، ويجعل بيع الدار المستأجرة مساوياً له في المعنى، فيثبت الحكم.
قال الشيخ تقي الدين (1): إلَاّ أن في كون مثل هذا معدوداً فيما يؤخذ من الحديث وفائدة من فوائده نظر.
التاسع: في الحديث علم من أعلام النبوة ومعجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم في ابتعاث جمل جابر وإسراعه بعد إعيائه.
وفي رواية في "الصحيح"(2): أنه عليل فزجره ودعا له، فما زال بين يدي الإِبل قدامها يسير، فقال لي: كيف ترى بعيرك؟ قلت: بخير، قد أصابته بركتِك. قال: أفتبيعنيه؟، فاستحييت، ولم يكن لنا
= جائز، والشرط باطل، ثم أتيت ابن شبرمة، فسألته، فقال: البيع جائز، والشرط جائز، فقلت: يا سبحان الله! ثلاثة من فقهاء العراق، اختلفوا في مسألة واحدة، فأتيت أبا حنيفة، فأخبرته، فقال: لا أدري ما قالا، حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع، وشرط البيع باطل، ثم أتيت ابن أبي ليلى، فأخبرته، فقال: لا أدري ما قالا، حدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت:"أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أشتري بريرة، فأعتقها، وإن اشترط أهلها الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق"، البيع جائز، والشرط باطل، ثم أتيت ابن شبرمة، فأخبرته، فقال: لا أدري ما قالا لك، حدثني مسعر بن كدام، عن محارب بن دثار، عن جابر، قال: بعت من النبي صلى الله عليه وسلم ناقة، وشرط لي حملانها، أو ظهرها إلى المدينة" البيع جائز، والشرط جائز. وانظر التمهيد (22/ 185).
(1)
إحكام الأحكام (4/ 105).
(2)
مسلم بشرح النووي (11/ 31)، والبخاري الفتح (6/ 121 ح (2967).
ناضح غيره. قال: فقلت: نعم فسبقته إلى المدينة ولا مني خالي على بيعه".
وفي رواية أخرى في الصحيح (1): "فنخسه فوثب، فكنت بعد ذلك أحبس خطامه لأسمع حديثه فما أقدر عليه".
وفي رواية أخرى فيه (2)"فنخسه ثم قال لي: اركب بسم الله فما زال يزيدني ويقول والله يغفر لك".
وفي رواية "أنه ضربه بقضيب"، وفي النسائي (3):"فأخذ بذنبه ثم زجره".
وعند ابن إسحاق (4): "فجعل يواهق النبي صلى الله عليه وسلم"(5).
فائدة استطرادية: هذا الخال الذي لامه في بيع الجمل ذكر ابن نقطة أنه كان منافقاً قال: واسمه الجد بن قيس السلمي، وهو ابن عم البراء [بن مالك](6)، وقيل: إنه تاب وحسنت توبته، وتوفي في خلافة عثمان (7).
(1) مسلم بشرح النووي (11/ 34).
(2)
المرجع السابق.
(3)
البخاري (2309).
(4)
(7/ 298) ح (4639).
(5)
السيرة (3/ 217)، ومعنى المواهقة: المسابقة والمجاراة والمعارضة في المشي والسرعة.
(6)
هكذا ابن مالك، والصحيح أنه ابن معرور كما في الفتح (7/ 222).
انظر: ما بعده.
(7)
قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 316)، فقدمت المدينة، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فأخبرت خالي ببيع الجمل فلامني. ووقع عند أحمد من رواية نبيح المذكورة: "فأتيت عمتي بالمدينة، فقلت لها: ألم ترى أني بعت ناضحنا، فما رأيتها أعجبها ذلك"، وسيأتي القول في بيان تسمية خاله في أوائل الهجرة إن شاء الله تعالى.
وجزم ابن لقطة -هكذا، ولعله ابن نقطة كما في أعلى فلتصحح- بأنه جد بفتح الجيم وتشديد الدال بن قيس، وأما عمته فاسمها هند بنت عمرو، ويحتمل أنهما جميعاً لم يعجبهما بيعه لما تقدم من أنه لم يكن عنده ناضح غيره.
وقال أيضاً في الفتح (7/ 221 - 222).
قوله: (شهد بي خالاي العقبة) لم يسمهما في هذه الرواية، ونقل عن عبد الله بن محمد -وهو الجعفي- أن ابن عيينة قال: أحدهما البراء بن معرور، كذا في رواية أبي ذر، ولغيره: قال أبو عبد الله يعني المصنف، فعلى هذا فتفسير المبهم من كلامه، لكنه ثبت أنه من كلام ابن عيينة من وجه آخر عند الإِسماعيلي، فترجحت رواية أبي ذر. ووقع في رواية الإِسماعيلي "قال سفيان: خالاه البراء ابن معرور وأخوه" ولم يسمه. والبراء بتخفيف الراء ومعرور بمهملات يقال: إنه كان أول من أسلم من الأنصار، وأول من بايع في العقبة الثانية كما تقدم، ومات قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بشهر واحد، وهو أول من صلى إلى الكعبة في قصة ذكرها ابن إسحاق وغيره، وقد تعقبه الدمياطي فقال: أم جابر هي أنيسة بنت غنمة بن عدي وأخواها ثعلبة وعمرو وهما خالا جابر، وقد شهدا العقبة الأخيرة. وأما البراء بن معرور فليس من أخوال جابر قلت: لكن من أقارب أمه، وأقارب الأم يسمون أخوالاً مجازاً، وقد روى ابن عساكر بإسناد حسن عن جابر قال: "حملني خالي الحر ابن قيس -هكذا هنا والذي في الإِصابة (1/ 239) جد ابن قيس فليتنبه له- في السبعين راكباً =
العاشر: فيه جواز ضرب الدابة حثاً على السير.
الحادي عشر: قال الفاكهي: انظر هل فيه رواية الحديث بالمعنى لقوله: "فدعا لي" ولم يصرح باللفظ المدعو به؟
قلت: قد أسلفنا أنه: "دعا له بالمغفرة"، لكن الظاهر أنه كان بعد ذلك.
= الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار، فخرج إلينا معه العباس عمه فقال: يا عم، خذ لي على أخوالك" فسمى الأنصار أخوال العباس لكون جدته أم أبيه عبد المطلب منهم، وسمى الحر ابن قيس خاله لكونه من أقارب أمه وهو ابن عم البراء بن معرور، فلعل قول سفيان "وأخوه" عني به الحر ابن قيس، وأطلق عليه أخا وهو ابن عمر لأنهما في منزلة واحدة في النسب، وهذا أولى من توهيم مثل ابن عيينة، لكن لم يذكر أحد من أهل السير الحر بن قيس في أصحاب العقبة، فكأنه لم يكن أسلم، فعلى هذا فالخال الآخر لجابر إما ثعلبة وإما عمرو، والله أعلم. قوله في الطريق الثانية (أخبرنا هشام) هو ابن يوسف الصنعاني، وعطاء هو ابن أبي رباح.
قوله (أنا وأبي) عبد الله بن عمرو بن حرام بالمهملتين، وقد تقدم أنه كان من النقباء. قوله (وخالاي) تقدم القول فيهما، وقرأت بخط مغلطاي: بريد عيسى بن عامر بن عدي بن سنان وخالد بن عمرو بن عدي بن سنان لأن أم جابر أنيسة بنت غنمة بن عدي بن سنان، يعني فكل منهما ابن عمها بمنزلة أخيها، فأطلق عليهما جابر أنهما خالاه مجازاً. قلت: إن حمل على الحقيقة تعين كما قاله الدمياطي، وإلَاّ فتغليط ابن عيينة مع أن كلامه يمكن حمله على المجاز بأمر فيه مجاز ليس بمتجه، والله المستعان. ووقع عند ابن التين "وخالي" بغير ألف تشديد التحتانية وقال: لعل الواو واو المعية أي مع خالي، ويحتمل أن يكون بالإِفراد بكسر اللام وتخفيف الياء". اهـ.
وفي "جامع الترمذي"(1): "استغفر لي رسول الله - صلي الله عليه وسلم - ليلة البعير خمساً وعشرين مرة"، ثم قال حسن غريب.
وفي رواية النسائي (2): "تبيعنيه يا جابر؟ قلت: بل هو لك، قال: اللهم اغفر له، وارحمه، قد أخذته بكذا وكذا، وقد أعرتك ظهره إلى المدينة". وفيه رواية في الصحيح أنه للجمل أيضاً.
الثاني عشرة: فيه تفقد الأمير والكبير والعالم أحوال أصحابه وسؤاله عن أحوالهم وإعانتهم عليها بما تيسر من حال أو مال في السفر والحضر.
الثالث عشر: فيه استعمال مكارم الأخلاق، وذلك بأن يجعل ما يفعله من الإِعانة على سبيل المعاوضة، لتطيب خاطر من يفعل ذلك به، ويكون قصده بذلك ثواب الآخرة.
الرابع عشر: فيه جواز طلب البيع وثمنه، والمناقصة حال المساومة، وأما بعد العقد واستقرار الثمن ممن لم يعرض سلعته للبيع.
الخامس عشر: فيه أنه لا بأس بمحاورة الأكابر بكلمة "لا"، وأنه لا تقتضي التأثيم.
السادس عشر: فيه التعبير بصيغة الأمر عن غير الأمر، وهو قوله عليه الصلاة والسلام:"بعنيه".
(1) الترمذي (3852)، والنسائي فضائل الصحابة (144)، والحاكم (3/ 565)، وابن حبان (7142).
(2)
(7/ 299).
السابع عشر: فيه المبادرة إلى تسليم المبيع إلى البائع وقت تسليمه، ونقد المشتري الثمن عقب تسليمه.
الثامن عشر: فيه أن لفظة "خذ" صريح في الهبة.
التاسع عشرة: فيه أن الهبة لا تقع إلا على الأعيان بعد قبضها وتسليمها.
العشرون: قد يؤخذ منه أن الهبة لا تحتاج إلى قبول إذ لم يذكر في الحديث، وهو مذهب مالك، فتصح عنده. بدون إيجاب وقبول خلافاً للشافعية.
الحادي والعشرون: فيه إضافة الجمل والدراهم إلى جابر إضافة إحسان وتكريم بدليل بدليل قوله: "فهو لك"، وذلك يحتمل إما للإِخبار عما كان في ضميره، وإما إنشاء التمليك له.
الثاني والعشرون: ترجم عليه ابن حبان (1) في صحيحه وقوع البيع بالمراضاة من غير إيجاب وقبول.
خاتمة: هذا الحديث ذكره مسلم في صحيحه من طرق إلى جابر.
وأما البخاري: فإنه ذكره في [ستة عشر](2) موضعاً من صحيحه فيما حضرني، وفي بعضها التعرض للشرط، وفي بعضها السكوت عنه وذكر غيره.
(1) ابن حبان (11/ 278).
(2)
ذكرها في عشرين موضعاً، ولعله خطأ من النساخ. انظر: أطرافه في ح (443).
الأول: في كتاب الوكالة (1) في باب إذا وكل [رجل](2) رجلاً أن يعطي شيئاً ولم يبين كم يعطي، فأعطى على ما يتعارفه الناس. ولم يذكر فيه اشتراط الركوب، وفيه أنه باعه بوقية بأربعة دنانير وزاده في المدينة قيراطاً، فلم يكن القيراط يفارق جراب جابر: وفي رواية لمسلم "فأخذه أهل الشام يوم الحرة"(3).
الثاني: في باب (4): الاستقراض في باب: من اشترى بالدين وليس عنده ثمنه، أو ليس بحضرته.
(1) الفتح (4/ 485) ح (2309).
(2)
زيادة من المرجع السابق.
(3)
الحرة: هي حرة واقم، وتقع شرقي المدينة. وقع فيها القتال بين أهل الشام وأهل المدينة سنة 63.
قال ابن حزم في جوامع السيرة -رحمنا الله وإياه- (357 - 358) من أكبر مصائب الإِسلام وخرومه، لأن أفاضل المسلمين وبقية الصحابة، وخيار المسلمين من جلة التابعين قُتِلُوا جهراً ظلماً في الحرب وصبراً، وجالت الخيل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وراثت وبالت في الروضة بين القبر والمنبر، ولم تصل جماعة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ولا كان فيه أحد حاشا سعيد بن المسيب، فإنه لم يفارق المسجد، ولولا شهادة عمرو بن عثمان بن عفان ومروان بن الحكم عند مجرم بن عقبة المري، بأنه مجنون لقتله، وأكره الناس على أن يبايعوا يزيد بن معاوية على أنهم عبيد له إن شاء باع وإن شاء أعتق، وهل مسرف أو مجرم الإِسلام هتكاً وأنهب المدينة ثلاثاً، واستخف بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدت الأيدي إليهم، وانتهبت دورهم
…
إلخ. انظر الروض الأنف (3/ 256).
(4)
في البخاري "كتاب" بدل "باب" الفتح (5/ 53) ح (2385).
الثالث: فيه أيضاً في باب: حسن القضاء (1).
الرابع: في باب: الشفاعة في وضع الدين (2). ووصله بقصة.
الخامس: في كتاب: الهبة. في باب: الهبة المقبوضة وغير المقبوضة (3).
السادس: في كتاب الشروط: في باب: إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى جاز (4).
السابع: في كتاب الجهاد (5): في باب: من ضرب دابة غيره في الغزو، وفيه:"اتبيع الجمل؟ قلت: نعم. فلما دخلنا المدينة ودخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد في طوائف أصحابه، فدخلت عليه وعقلت الجمل في ناحية البلاط. فقلت له: هذا جملك، فخرج فجعل يطيف بالجمل ويقول: الجمل جملنا. فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أواق من ذهب، فقال: أعطوها جابراً. ثم قال: استوفيت الثمن؟ قلت: نعم قال: الثمن والجمل لك".
الثامن: في باب: استئذان الرجل الإِمام (6).
التاسع: في باب: الصلاة إذا قدم من سفر (7).
(1) الفتح (5/ 59) ح (2394).
(2)
الفتح (5/ 67) ح (2406).
(3)
الفتح (5/ 225) ح (2603، 2604).
(4)
الفتح (4/ 314) ح (2718).
(5)
الفتح (6/ 65) ح (2861).
(6)
الفتح (6/ 121) ح (2967).
(7)
الفتح (6/ 193) ح (3087) في الجهاد.
العاشر: فيه في باب: الطعام عند القدوم (1).
الحادي عشر: في كتاب: الصلاة إذا قدم من سفر (2).
الثاني عشر: في كتاب النكاح (3): في باب: تزويج الثيبات، وذكر فيه قصة تزويجه أيضاً.
الثالث عشر: فيه في باب: طلب الولد (4).
الرابع عشر: فيه عقب هذا في باب: تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة (5).
الخامس عشر: في كتاب النفقات: في باب: عون المرأة زوجها (6) في ولده. ولم يذكر فيه قضية البيع، بل قضية التزويج فقط.
السادس عشر: كتاب الدعوات (7) في باب: الدعاء
(1) الفتح (6/ 194) ح (3089، 3090).
(2)
هذه الترجمة مكررة بهذا اللفظ، ولم يسبق أن عقد رحمه الله تراجم مكررة سوى هذه فلينتبه. كتاب الصلاة (443).
(3)
الفتح (9/ 121) ح (5079، 5080).
(4)
الفتح (9/ 341) ح (5245، 5246).
(5)
الفتح (9/ 342) ح (5247).
(6)
الفتح (9/ 513) ح (5367).
(7)
الفتح (11/ 190) ح (6387)، فنقول وبالله التوفيق، ومنه استمد العون والتسديد، فات المؤلف -رحمنا الله وإياه- ذكر هذه الأبواب، وهي:
1 -
كتاب العمرة، باب: لا يطرق أهله إذا بلغ المدينة، الفتح (3/ 620) ح (1801). =
للمتزوج، وهذه عادة البخاري تكرار الحديث الواحدة في عدة أبواب، كما كرر حديث:"إنما الأعمال بالنيات"(1) في سبعة مواضع كما سلفت لك أول الباب وحديث أبي سفيان وهرقل في عشرة مواضع (2).
وحديث الألف دينار التي رميت في البحر في سبعة مواضع (3)، ونعمت العادة رضي الله عنه وعنا به (4).
فائدة: جليلة أبداها السهيلي رحمه الله (5) - حيث قال: في الحكمة في اشترائه الجمل وإعطائه ثمنه لطيفة جداً، لأنه كان يمكنه أن يعطيه ذلك العطاء دون مساومة الجمل، ولا شراء ولا شرط
= 2 - كتاب البيوع، باب: شراء الدواب والحمير، الفتح (4/ 320) ح (2097).
3 -
باب من عقل بعيره على البلاط، أو باب المسجد. الفتح (5/ 117) ح (2470).
4 -
باب إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما، وعلى الله فليتوكل المؤمنون. الفتح (7/ 357) ح (4052).
5 -
باب لا يطرق أهله ليلاً إذا أطال الغيبة، مخافة أن يخونهم أو يلتمس عثراتهم. الفتح (9/ 339) ح (5243، 5244).
(1)
سبق تخريجه أول الكتاب.
(2)
انظر فتح الباري أطرافه في حديث رقم (7).
(3)
الفتح (3/ 362)، أطرافه (1498).
(4)
هذا من التوسل البدعي فلا يجوز.
(5)
في الروض الأنف (3/ 255)، لعبد الرحمن السهيلي. وُلد سنة (508، 581) تح عد الرحمن الوكيل. بتصرف.
توصيل، وذلك أنه سأله: هل تزوجت؟ فذكر له مقتل أبيه وما خلف من البنات. وقد كان الرسول أخبر جابراً أن الله تعالى قد أحيا أباه ورد عليه روحه، وقال: ما تشتهي فأزيدك. فأكد الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الخبر بما يشتبهه، فاشترى منه الجمل، وهو مطيته، كما اشترى الله تعالى من المؤمنين والشهداء أنفسهم بثمن هو الجنة، ونفس الإِنسان مطيته، كما قال عمر بن عبد العزيز:"إن نفسي مطيتي"، ثم زادهم زيادة فقال:"للذين أحسنوا الحسنى وزيادة"(1)، ثم رد عليهم أنفسهم التي اُشتُرِيَتْ منهم، فقال:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} (2)، فأشار صلى الله عليه وسلم باشتراء الجمل من جابر وأعطائه الثمن وزيادة، ثم رد الجمل المشترى عليه، أشار بذلك كله إلى تأكيد الخبر الذي أخبر به عن فعل الله تعالى بأبيه فشاكل الفعل مع الخبر كما تراه، وحاشى لأفعاله عليه الصلاة والسلام أن تخلوا من حكمة بل كلها ناظرة إلى القرآن العظيم ومنتزعة منه.
…
(1) سورة يونس: آية 75.
(2)
سورة آل عمران: آية 76.