الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني عشر
309/ 12/ 58 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمنعن جارٌ جارَهُ أن يغرز خشبةً في جداره. ثم يقول أبو هريرة: مالي أراكم عنها معرضين؟ والله لأرمين بها بين أكتافكم)(1).
الكلام عليه من وجوه:
الأول: هذا الحديث ذكره البخاري (2) في كتاب المظالم من "صحيحه" باللفظ المذكور [إلَّا أنه قال: "لا يمنع"، بدل "لا يمنعن"، وقال:"لأرمينها"، بدل "لأرمين بها"، وفي نسخة منه:"لأرمين بها".
ورواه مسلم بلفظ:] (3)"لا يمنع أحدكم جاره" إلى آخره.
(1) البخاري أطرافه (2463)، ومسلم (1609)، والترمذي (1353)، وأبو داود (3634)، في الأقضية باب أبواب من القضاء، وابن ماجه (2335)، والحميدي (1077)، والبيهقي (6/ 68)، ومالك (2/ 745)، وأحمد (240/ 2، 396، 463)، والبيهقي في معرفة السنن (9/ 33).
(2)
الفتح (5/ 110)، ح (2463).
(3)
في ن هـ ساقط.
الثاني: اختلف أصحابنا فيما إذا أوصى لجيرانه على أوجه كثيرة أوضحتها في "شرح المنهاج" والأصح عندهم أنه [تصرف](1) إلى أربعين دارًا من كل جانب، وهو قول الأوزاعي، فإنه قال أربعون دارًا من كل ناحية جار.
وقال قوم: من سمع الإِقامة فهو جار المسجد ويقرر ذلك في الدور.
وقال آخرون: من سمع الأذان.
وقال آخرون: من ساكن رجلًا في محلة أو مدينة فهو جاره، ومنه قوله تعالي:{لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60)} (2).
واختلف المفسرون في قوله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} (3) على أقوال:
أحدها: أن الأول الجار القريب النسيب.
والثاني: الجار الذي لا قرابة بينك وبينه، قاله ابن عباس وطائفة.
ثانيها: أن الأول المسلم.
والثاني: الذمي.
ثالثها: أن الأول القريب المسكن منك.
والثاني: البعيد.
(1) في ن هـ ساقطة.
(2)
سورة الأحزاب: آية 60.
(3)
سورة النساء: آية 36.
قال ابن عطية (1): وهذا منتزع من حديث عائشة يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدى؟ قال: إلى أقربهما منك بابًا" (2).
وقيل: إن الثاني: الزوجة، وقال بعض الأعراب: هو الذي يجيء فيحل حيث تقع عينك عليه.
قلت: وكأن الجار من الألفاظ المشترك فيقع على المخالطة ومنه قول الأعشى (3): أجارتنا بيني فإنك طالقة.
وعلى من بينه وبينه أربعون دارًا من كل جانب.
الثالث: روى خشبه بالأفراد والجمع.
قال القاضي عياض: رويناه في "صحيح مسلم" وغيره من الأصول والمصنفات بهما.
وقال الطحاوي (4): عن روح بن الفرج سألت أبا زيد، والحارث بن مسكين، ويونس بن عبد الأعلى فقالوا: كلهم بالتنوين على الأفراد. قال عبد الغنى بن سعيد: كل الناس يقولونه بالجمع إلَّا الطحاوي (5).
(1) المحرر الوجيز (4/ 110).
(2)
البخاري الفتح (2259).
(3)
انظر: مشارق الأنوار (1/ 245)، وشرح مسلم للنووي (11/ 47)، نقلًا عنه سبق في ت (1) ص 421.
(4)
المفهم (5/ 2911)، نقلًا عنه، وشرح مسلم للنووي (11/ 47)، والفتح (5/ 110).
(5)
قال ابن حجر في الفتح (5/ 110)، بعده: وما ذكرته من اختلاف الرواة =
قال القرطبي (1): وإنما اعتنى هؤلاء الأئمة بتحقيق الرواية في هذا الحرف، لأن أمر الخشبة الواحدة يخف على الجار المسامحة (2) بخلاف الجمع.
الرابع: الجِدَارُ، والجُدُرُ: الحائط قال الجوهري (3): الجِدارِ: جُدُر، وجمع الجِدْرِ [جُدْران](4).
= في الصحيح يرد على عبد الغني بن سعيد إلَّا إن أراد خاصًا من الناس كالذين روى عنهم الطحاوي فله اتجاه. اهـ.
(1)
المفهم (5/ 2911)، مختصرًا قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 110)، على باب: لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره، قال: كذا لأبي ذر بالتنوين علي إفراد الخشبة، ولغيره بصيغة الجمع وهو الذي في حديث الباب، قال ابن عبد البر: روى اللفظان في الموطأ والمعنى واحد لأن المراد بالواحد الجنس. اهـ. وهذا الذي يتعين للجمع بين الروايتين، وإلَّا فالمعنى قد يختلف باعتبار أن أمر الخشبة الواحدة أخف في مسامحة الجار بخلاف الخشب الكثير. اهـ.
أقول وبالله التوفيق ومنه العون والتسديد: فكلام ابن عبد البر في التمهيد (10/ 221)، قد روى اللفظان جميعًا في الموطأ عن مالك وقد اختلف علينا فيها الشيوخ في موطأ يحيى على الوجهين جميعًا، والمعنى واحد، لأن الواحد يقوم مقام الجميع في هذا المعنى إذا أتى بلفظ النكرة عند أهل اللغة العربية. اهـ. ولعل ابن حجر ساقه بالمعنى فليتنبه لذلك.
(2)
في ن هـ زيادة بها.
(3)
انظر: مختار الصحاح (48).
(4)
في ن هـ جدرات وما أثبت من الأصل ومختار الصحاح.
الخامس: الضمير في "بها" وبعده في "عنها" عائد إلى غير مذكور لفظًا بل معنى وهي السنة، أي: فوالله لأرمين، بهذه السنة، وألزمكم العمل بها.
وقال القاضي حسين والإِمام من أصحابنا: قيل: أراد لأكلفنكم ذلك، ولأضعن جذوع الجار بين أكتافكم قصده به المبالغة، وقالا: إن ذلك جرى منه حين ولي مكة أو المدينة. وجاء في سنن أبي داود (1): "فنكسوا رؤوسهم، فقال: ما لي أراكم قد أعرضتم؟. . ." الحديث.
السادس: "أكتافكم" هو بالمثناة فوق، أي: بينكم، ورواه بعض رواة الموطأ (2):"بالنون"، ومعناه أيضًا بينكم.
والكتف: الجانب ومعنى الأول، أي: أصرح بينكم وأوجعكم بالتقريع بها كما يضرب الإنسان بالشيء بين كتفيه.
وفي رواية في بعض نسخ مسلم، وعليها شرح القرطبي (3):"بين أظهركم" وفي رواية لأبي عمر (4): "بين أعينكم وإن كرهتم".
السابع: في أحكام الحديث:
الأول: مراعاة حق الجار في كل شيء، حتى في دخول الضرر في ملكه.
(1) سبق تخريجه ت (1) ص 498.
(2)
في التمهيد (10/ 221)، وكذلك اختلفوا علينا في:"أكتافكم"، و"أكنافكم"، والصواب فيه إن شاء الله: وهو أكثرُ التاء. اهـ.
(3)
المفهم (5/ 2912).
(4)
الاستذكار (22/ 231)، والمفهم (5/ 2912).
الثاني: تقديم حق الشرع على حظ النفس في الأملاك.
الثالث: قبول الشرع وإن كرهته النفس والانشراح له من غير إعراض عنه.
الرابع: عدم منع الجار من وضع خشبة على حائط جاره عارية إذا كانت خفيفة لا تضر.
واختلف العلماء في هذا المنع هل هو للتحريم أو للكراهة؟ وفيه قولان للشافعي.
أحدهما: وهو نصه في القديم، وفي البويطي أيضًا، وهو من الجديد أنه للتحريم (1).
وثانيهما: أنه للتنزيه (2)، وحمل الحديث -إذا كان بصيغة
(1) قال البيهقي -رحمنا الله وإياه- في معرفة السنن (9/ 37)، وأما حديث الخشب في الجدار، فإنه حديث صحيح ثابت لم نجد في سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعارضه، ولا تصح معارضته بالعمومات.
* وقد نص الشافعي في القديم والجديد على القول به، ولا عذر في مخالفته، وبالله التوفيق. اهـ.
(2)
قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- فى إحكام الأحكام (4/ 148)، على قوله:"أنها لا تجب" -أي: بمعنى أنها للتنزيه-، قالوا: إذ لو كان واجبًا لما أطبقوا على خلافه ولا أعرضوا حين حدثهم، قال النووي: كان العمل في ذلك العصر على خلافه إذ لو كان واجبًا لما أعرض الصحابة عنه، ولا أعرضوا حين حدثهم، ومثله قال المهلب، قال الحافظ ابن حجر في الفتح (5/ 111): لا أدري من أين له أن المعرضين كانوا صحابة؟ ولم لا يجوز أن يكونوا غير فقهاء؟ بل هو المتعين، إذ لو كانوا صحابة أو فقهاء يواجههم بذلك، وقد قوى الشافعي في القديم القول بالوجوب بأن عمر قضى به ولم يخالفه أحد، الخ. . .
النهي -على التنزيه- وإذا كان بصيغة الأمر -على الاستحباب، وهذا القول هو الصحيح من مذهب مالك أيضًا، وبه قال: "أبو حنيفة (1) والكوفيون وعزى إلى الأكثرين. وبالأول قال أحمد
(1) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (22/ 225، 226). واختلف الفقهاء في معنى هذا الحديث:
فقال منهم قائلون: معناه الندب إلى بر الجار، والتجاوز له والإحسان إليه، وليس ذلك على الوجوب.
وممن قال ذلك؛ مالك، وأبو حنيفة، وأصحابهما.
ومن حجتهم قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلَّا عن طيب نفس منه".
وذكر ابن عبد الحكم، عن مالك، قال: ليس يقضى على رجل أن يغرز خشبة في جداره لجاره، وإنما نرى أن ذلك كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوصاية بالجار.
قال: ومن أعار صاحبه خشبة يغرزها في جداره، ثم أغضبه، فأراد أن ينزعها، فليس له ذلك، وأما إن احتاج إلى ذلك بأمر نزل به، فذلك له. قال: وإن أراد أن يبيع داره، فقال: انزع خشبك فليس ذلك له.
قال أبو حنيفة، وأصحابه: معنى الحديث المذكور الاختيار، والندب في إسعاف الجار وبرِّه -إذا سأله ذلك- وهو مثل معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد، فلا يمنعها"، وهذا معناه عند الجميع الندب على حسب ما يراه الزوج من الصلاح والخير في ذلك.
وقال ابن القاسم: سئل مالك عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره".
قال مالك: ما أرى أن يقضي به، وما أراه إلا من وجه المعروف من النبي صلى الله عليه وسلم. =
وأبو ثور وأصحاب الحديث (1): لظاهر قول أبي هريرة وإشعاره
= قال ابن القاسم: وسئل مالك عن رجل كان له حائط، فأراد جاره أن يبني عليه سترة يستتر بها منها؟
قال: لا أرى ذلك له إلَّا بإذن صاحبه.
وقال آخرون: ذلك على الوجوب إذا لم تكن في ذلك مضرَّة بيِّنة على صاحب الجدار.
وممن قال بهذا: الشافعي، وأصحابه، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وداود بن علي، وجماعة أهل الحديث، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمنع الجار جاره من ذلك، ألا ترى أن أبا هريرة رأى الحجة فيما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أرى من ذلك، وقال: والله لأرمين بها بين أكتافكم، وهذا بيِّن في حمله ذلك على الوجوب عليهم، ولو كرهوا، ولولا أنه فهم فيما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم معنى الوجوب ما كان ليوجب عليهم غير واجب. اهـ.
(1)
وقال أيضًا: (22/ 226، 227).
وهو مذهب عمر بن الخطاب، قضى به على محمَّد بن مسلمة للضحاك بن خليفة. وقضى بمثل ذلك لعبد الرحمن بن عوف على جد يحيى بن عمارة الأنصاري.
والقضاء بالمرفق خارج بالسنَّة عن معنى قوله: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه"؛ لأن هذا معناه التمليك، والاستهلاك، وليس المرفق من ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد فرق في الحكم بينهما فغير واجب أن بجمع ما فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحكى مالك أنه كان بالمدينة قاضٍ يقضي به يسمى "المطَّلب".
وروى ابن نافع أنه سئل عن معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره" هل ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه الوصاية بالجار أم يقضي به القضاة؟ =
بالوجوب.
وقوله: (ما لي أراكم عنها معرضين) إلى آخره يقتضي التشديد، ولحوق المشقة فيه، والكراهة لهم، لأنهم فهموا من الحديث الندب دون الإيجاب ، فرده عليهم ، وبعض من انتصر للثاني أعاد الضمير في جداره إلى الجار، أي إذا وضع خشبة على جدار نفسه، ليس لجاره منعه وإن تضرر بمنع الضوء ونحوه فيكون (1) موافقًا للأصول، ورجح بأن الضمير يعود إلى أقرب مذكور.
واختار الروياني: التفصيل من أن يظهر بعيب فاعله أم لا، وإنما يجبر على القول بشروط محل الخوض فيها كتب الفروع فإنه أليق بها، وقد ذكرتها في "شرح المنهاج" وغيره ولله الحمد.
الخامس: تبليغ العلم لمن [لم](2) يرده ولا استدعاه إذا كان من الأمور المهمة وإقامة الحجة على المخالف ليرجع.
= فقال: أرى ذلك أمرًا دل الناس عليه، وأمروا به في حق الجار.
قيل: أفترى أن يقضي به القضاة؟
قال: قد كان المطلب يقضي به عندنا، وما أراه إلَّا دليلًا على المعروف، وإني منه لفي شك. اهـ.
(1)
قال ابن حجر في الفتح (5/ 111)، بعد سياقه: ولا يخفى بعده، وقد تعقبه ابن التين بأنه إحداث قول ثالث في معنى الخبر، وقد رده أكثرُ أهل الأصول، وفيما قال نظر لأن لهذا القائل أن يقول: هذا مما يستفاد من عموم النهي لا أنه المراد فقط، والله أعلم. اهـ.
(2)
في ن هـ لا.