الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الْأَمْرُ]
قُدِّمَ الْكَلَامُ فِيهِ عَلَى الْكَلَامِ فِي النَّهْيِ، لِتَقَدُّمِ الْإِثْبَاتِ عَلَى النَّفْيِ، أَوْ؛ لِأَنَّهُ طَلَبُ إيجَادِ الْفِعْلِ، وَالنَّهْيُ طَلَبُ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى عَدَمِهِ، فَقُدِّمَ الْأَمْرُ تَقْدِيمَ الْمَوْجُودِ عَلَى الْمَعْدُومِ، وَهُوَ التَّقْدِيمُ بِالشَّرَفِ، وَلَوْ لُوحِظَ التَّقْدِيمُ الزَّمَانِيُّ لَقُدِّمَ النَّهْيُ تَقْدِيمَ الْعَدَمِ عَلَى الْمَوْجُودِ؛ لِأَنَّ الْعَدَمَ أَقْدَمُ. وَجَمَعَهُ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى أَوَامِرَ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ أَنَّهُ بِمَعْنَى الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ يُطْلَقُ عَلَى أَوَامِرَ، وَبِمَعْنَى الْفِعْلِ عَلَى أُمُورٍ، وَلَمْ يُسَاعِدْهُمْ عَلَى هَذَا الْجَمْعِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ سِوَى الْجَوْهَرِيِّ فِي الصِّحَاحِ "، وَأَمَّا الْأَزْهَرِيُّ فَقَالَ فِي التَّهْذِيبِ ": الْأَمْرُ ضِدُّ النَّهْيِ وَاحِدُ الْأُمُورِ وَذَكَرَ ابْنُ سِيدَهْ فِي الْمُحْكَمِ ": أَنَّ الْأَمْرَ لَا يُكَسَّرُ عَلَى غَيْرِ أُمُورٍ، وَأَمَّا أَئِمَّةُ النَّحْوِ قَاطِبَةً فَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ " فَعْلًا " يُكَسَّرُ عَلَى " فَوَاعِلَ " مَعَ ذِكْرِهِمْ الصِّيَغَ الشَّاذَّةِ وَالْمَشْهُورَةِ.
وَقَدْ تَنَبَّهَ لِهَذَا الْمَوْضِعِ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْإِبْيَارِيُّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ " وَذَكَرَ أَنَّ قَوْلَ الْجَوْهَرِيِّ شَاذٌّ غَيْرُ مَعْرُوفٍ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ. قُلْت: ذَكَرَ ابْنُ جِنِّي فِي كِتَابِ " التَّعَاقُبِ " لَهُ نَظِيرًا، وَعَلَّلَ هَاتَيْنِ اللَّفْظَتَيْنِ أَعْنِي أَوَامِرَ وَنَوَاهٍ بِمَا يُسَوِّغُ إجَازَتَهُمَا، ثُمَّ ذَكَرَ الْإِبْيَارِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ
أَنَّ الْأَوَامِرَ جَمْعُ آمِرٍ وَهَذَا فِيهِ تَجَوُّزٌ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ حَقِيقَةً هُوَ الْمُتَكَلِّمُ، وَنَقْلُهُ إلَى الْمَصْدَرِ مَجَازٌ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ الْمُرَادَ الصِّيغَةُ فَإِنَّهُ قَدْ تُسَمَّى الصِّيغَةُ آمِرَةً تَجَوُّزًا وَإِذَا كَانَ الْمُفْرَدُ فَاعِلَهُ، صَحَّ الْجَمْعُ عَلَى أَوَامِرَ " فَوَاعِلَ " اسْمًا كَانَ الْمُفْرَدُ كَفَاطِمَةَ وَفَوَاطِمَ، أَوْ صِفَةً كَكَاتِبَةٍ وَكَوَاتِبَ. قَالَ: وَهَذَا بَعِيدٌ فِي التَّجَوُّزِ، وَلَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ هَاهُنَا؛ إذْ الْكَلَامُ فِي الْأَمْرِ الْحَقِيقِيِّ لَا فِي الْأَلْفَاظِ. وَحَكَى الْأَصْفَهَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمَحْصُولِ " عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّ الْأَوَامِرَ جَمْعُ الْجَمْعِ، فَالْأَوَامِرُ أَوَّلًا جُمِعَ جَمْعَ قِلَّةٍ عَلَى (أَأْمُرٍ) بِوَزْنِ أَفْعُلٍ ثُمَّ جُمِعَ هَذَا عَلَى أَوَامِرَ، نَحْوَ كَلْبٍ وَأَكَالِب، فَإِنَّهُ أَفَاعِلُ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ أَوَامِرَ لَيْسَ أَفَاعِلَ بَلْ هُوَ فَوَاعِلُ بِخِلَافِ أَكَالِبَ فَإِنَّهُ أَفَاعِلُ ثُمَّ قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: وَهَذَا لَا يَتِمُّ فِي النَّوَاهِي فَإِنَّ النُّونَ فَاءُ الْكَلِمَةِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ كَمَا فِي الْغَدَايَا وَالْعَشَايَا، وَيُمْكِنُ رَدُّ النَّوَاهِي أَيْضًا إلَى أَنَّهُ جَمْعُ نَاهِيَةٍ مَصْدَرٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآمِرَةِ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمَصَادِرَ مَسْمُوعَةٌ، وَلَا يَدْخُلُهَا الْقِيَاسُ. إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ هَاهُنَا مَبَاحِثَ: أَحَدُهَا: فِي لَفْظِ الْأَمْرِ، وَالثَّانِي: فِي مَدْلُولِهِ، وَالثَّالِثُ: فِي صِيغَةِ " افْعَلْ " فَأَمَّا لَفْظُ " أَمْرٍ " فَإِنَّهُ يُطْلَقُ لُغَةً عَلَى ضِدِّ النَّهْيِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى:{وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] أَيْ: فِعْلُهُ، فَإِذَنْ لَفْظُ الْأَمْرِ عَامٌّ لِلْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ وَالْفِعْلِ، وَكُلُّ لَفْظٍ عَامٍّ لِشَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي كُلِّ وَاحِدٍ، أَوْ لَا، وَالثَّانِي مَجَازٌ، وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَتَّفِقَا فِي اللُّغَةِ أَيْضًا، وَهُوَ الْمُتَوَاطِئُ أَوْ لَا يَتَّفِقَا، وَهُوَ الْمُشْتَرَكُ، فَهَذِهِ ثَلَاثُ احْتِمَالَاتٍ قَدْ ذَهَبَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا صَائِرٌ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ إطْلَاقَهُ عَلَى الْقَوْلِ الطَّالِبِ لِلْفِعْلِ حَقِيقَةً، وَهُوَ قَوْلُك:" افْعَلْ " وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِهِ عَلَى الْعَقْلِ وَنَحْوِهِ مِنْ الشَّأْنِ وَالصِّفَةِ وَالْقِصَّةِ وَالْمَقْصُودِ وَالْغَرَضِ، عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْكُلِّ فَإِنَّ الْقَائِلَ لَوْ قَالَ: " أَمْرٌ " لَا يَدْرِي السَّامِعُ أَيَّ الْأُمُورِ أَرَادَ فَإِذَا قَالَ: أَمْرٌ بِكَذَا فُهِمَ الْقَوْلُ فَإِذَا قَالَ: أَمْرُ فُلَانٍ مُسْتَقِيمٌ فُهِمَ الشَّأْنُ وَالطَّرِيقَةُ، فَإِذَا قَالَ: زَيْدٌ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ فُهِمَ الْفِعْلُ، وَحَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَالْبَاجِيُّ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، قَالَ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ " وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ أَفْعَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ مَجَازٌ فِي الْفِعْلِ، وَوَجْهُ الْعَلَاقَةِ فِيهِ الْمُشَابَهَةُ، فَإِنَّ الْفِعْلَ يُشْبِهُ الْقَوْلَ فِي الِافْتِقَارِ إلَى مَصْدَرٍ يَصْدُرُ بِهِ، وَهَذَا يَعُمُّ الْأَفْعَالَ وَالْأَقْوَالَ، وَقِيلَ: لِأَنَّ جُمْلَةَ أَفْعَالِ الْإِنْسَانِ لَمَّا دَخَلَ فِيهَا الْأَقْوَالُ سُمِّيَتْ الْجُمْلَةُ بِاسْمِ جُزْئِهَا، وَنَقَلَهُ فِي الْمَحْصُولِ " عَنْ الْجُمْهُورِ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ " عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِمْ مَعَ أَنَّهُ فِي الْإِفَادَةِ " حَكَى الْأَوَّلَ عَنْهُمْ، وَعَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَالثَّانِيَ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ خَاصَّةً. قَالَ الْبَاجِيُّ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُعْتَزِلَةُ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْإِفَادَةِ " عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ " وَالْمَصَادِرِ " عَنْ الْأَكْثَرِينَ. وَحَكَى صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " عَنْ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا. وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ وَتَبِعَهُ
ابْنُ الْحَاجِبِ قَوْلًا عَلَى جِهَةِ الْإِلْزَامِ أَنَّهُ مُتَوَاطِئٌ بَيْنَهُمَا. وَاخْتَارَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ فِي الْمُعْتَمَدِ " أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الشَّيْءِ وَالصِّفَةِ وَالشَّأْنِ وَالطَّرِيقِ وَبَيْنَ جُمْلَةِ الشَّأْنِ وَالطَّرِيقِ وَبَيْنَ الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ. انْتَهَى. وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ عِنْدَهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ، لَكِنَّهُ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ " فَسَّرَ الشَّأْنَ وَالطَّرِيقَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَيَكُونُ الْحَاصِلُ أَرْبَعَةً، وَنَقَلَ الْبَيْضَاوِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْفِعْلِ بِخُصُوصِهِ حَتَّى يَكُونَ مُشْتَرَكًا، وَهُوَ غَلَطٌ، فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لَهُ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الشَّأْنِ. وَحَكَى صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْبُسْتِيِّ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ وَالشَّأْنِ وَالطَّرِيقِ دُونَ آحَادِ الْأَفْعَالِ قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ؛ لِأَنَّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ فِعْلٌ قَلِيلٌ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ، كَتَحْرِيكِ أَصَابِعِهِ وَأَجْفَانِهِ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ: إنَّهُ مَشْغُولٌ بِأَمْرٍ، أَوْ هُوَ فِي أَمْرٍ. قَالَ: وَاَلَّذِي أَدَّاهُمْ إلَى هَذَا الْبَحْثِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافُهُمْ فِي أَفْعَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَلْ هِيَ عَلَى الْوُجُوبِ أَمْ لَا؟ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ ": أَفْعَالُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم هَلْ تَتَضَمَّنُ أَمْرًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا. وَفَرَّعَ عَلَيْهِ فِي الْمَحْصُولِ " مَا لَوْ قَالَ: إنْ أَمَرْت فُلَانًا فَعَبْدِي حُرٌّ، ثُمَّ أَشَارَ بِمَا يُفْهَمُ مِنْهُ مَدْلُولُ الصِّيغَةِ فَإِنْ لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِي غَيْرِ الْقَوْلِ لَزِمَ الْعِتْقُ. قَالَ: وَلَا يُعَارَضُ هَذَا بِمَا إذَا خَرِسَ وَأَشَارَ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ؛ لِأَنَّا نَمْنَعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ.