الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ فِي الْقَوَاطِعِ ": وَهَذَا لَا يَعْرِفُهُ الْفُقَهَاءُ. قُلْت: لَكِنَّهُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ يَكُونُ مِنْ عُمُومِ الْمَفْهُومِ، فَلَمَّا قَالَ: عَلَيَّ أَلْفٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا غَيْرُهَا، وَهَذَا عَامٌّ فَاسْتَثْنَى مِنْهُ أَلْفَيْنِ. وَتَجِيءُ بِمَعْنَى " غَيْرَ "، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وَجَعَلَ الْخَطَّابِيُّ مِنْهُ قَوْلَنَا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. قَالَ: فَإِلَّا هُنَا بِمَعْنَى غَيْرَ لَا بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إمَّا مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَمَنْ تَوَهَّمَ فِي صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدًا مِنْ الْأَمْرَيْنِ فَقَدْ أَبْطَلَ. قَالَ عَبْدُ الْقَاهِرِ: وَهَذَا تَوَهُّمٌ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ، وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ لَا تَكُونَ " إلَّا " فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 77] وَقَوْلُهُ {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67] اسْتِثْنَاءٌ وَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى " غَيْرَ " وَلَا يَقُولهُ أَحَدٌ؛ لِأَنَّ " إلَّا " إذَا كَانَتْ صِفَةً كَانَ الِاسْمُ الْوَاقِعُ بَعْدَهَا إعْرَابَ الْمَوْصُوفِ بِهِ، أَوْ كَانَ تَابِعًا لَهُ فِي الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْجَرِّ. قَالَ: وَالِاسْمُ بَعْدَ " إلَّا " فِي الْآيَتَيْنِ مَنْصُوبٌ كَمَا تَرَى، وَلَيْسَ قَبْلَ " إلَّا " فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَنْصُوبٌ، فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مَوْصُوفٌ بِإِلَّا.
[مِنْ أَدَوَات الْمَعَانِي ثُمَّ]
ثُمَّ: يَتَعَلَّقُ الْكَلَامُ فِيهَا بِمَبَاحِثَ.
الْأَوَّلُ: فِي التَّرْتِيبِ، وَهُوَ يَقْتَضِي عَلَى الصَّحِيحِ، وَنَقَلَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ عَنْ ابْنِ عَاصِمٍ الْعَبَّادِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا كَالْوَاوِ فِي اقْتِضَاءِ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ. وَوَجَّهَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ " وَقَفْت " إنْشَاءٌ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ التَّرْتِيبُ، كَقَوْلِك: بِعْتُك هَذَا ثُمَّ هَذَا، وَهَذَا غَلَطٌ، وَإِنَّمَا قَالَ الْعَبَّادِيُّ ذَلِكَ إذَا قَالَ: وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِي بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ أَنَّهَا لِلْجَمِيعِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ عِنْدَهُ لِلْجَمْعِ لَا لِلتَّرْتِيبِ، وَالْكَلَامُ بِآخِرِهِ، فَالْجَمْعُ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ لَا مِنْ جِهَةِ " ثُمَّ ". وَنَقَلَ صَاحِبُ الْبَسِيطِ " مِنْ النَّحْوِيِّينَ عَنْ ابْنِ الدَّهَّانِ أَنَّ الْمُهْلَةَ وَالتَّرْتِيبَ فِي الْمُفْرَدَاتِ، وَأَمَّا الْجُمَلُ فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِيهَا بَلْ قَدْ يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا.
قَالَ: وَالْأَصَحُّ الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَعْنَاهَا أَيْنَمَا وَقَعَتْ وَتَأْوِيلُ مَا خَالَفَ مَعْنَاهَا وَنَقَلَ ابْنُ الْخَبَّازِ عَنْ شَيْخِهِ: أَنَّ " ثُمَّ " إذَا دَخَلَتْ عَلَى الْجُمَلِ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13] إلَى قَوْلِهِ {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17] فَحَصَلَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَمَّا فِي الزَّمَانِ نَحْوُ {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى} [المؤمنون: 45] وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ - ثُمَّ جَعَلْنَاهُ} [المؤمنون: 12 - 13] أَوْ فِي الْمَرْتَبَةِ نَحْوُ {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82] أَوْ لِلتَّرْتِيبِ فِي الْأَخْبَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9]{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29] وَالسَّمَاءُ مَخْلُوقَةٌ قَبْلَ الْأَرْضِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] وَقَالَ الرَّاغِبُ: تَقْتَضِي تَأَخُّرَ مَا بَعْدَهَا عَمَّا قَبْلَهُ إمَّا تَأَخُّرًا بِالذَّاتِ أَوْ بِالْمَرْتَبَةِ أَوْ بِالْوَضْعِ، وَنَقَلَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ " فَصْلًا عَنْ
الْإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ بَرِّيٍّ فِي التَّرْتِيبِ بِ " ثُمَّ " ضَعَّفَ فِيهِ الْقَوْلَ بِالتَّرْتِيبِ الْإِخْبَارِيِّ.
قَالَ: بَعْدَ أَنْ قَرَرْت أَنَّ " ثُمَّ " لِتَرْتِيبِ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ فِي الْوُجُودِ بِمُهْلَةٍ بَيْنَهُمَا فِي الزَّمَانِ أَنَّ " ثُمَّ " تَأْتِي أَيْضًا لِتَفَاوُتِ الرُّتْبَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَيَجِيءُ هَذَا الْمَعْنَى مَقْصُودًا بِالْفَاءِ الْعَاطِفَةِ، نَحْوَ خُذْ الْأَفْضَلَ فَالْأَكْمَلَ، وَاعْمَلْ الْأَحْسَنَ فَالْأَجْمَلَ، وَنَحْوُ «رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ فَالْمُقَصِّرِينَ» ، فَالْفَاءُ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ لِتَفَاوُتِ رُتْبَةِ الْفَضْلِ مِنْ الْكَمَالِ وَالْحُسْنِ فِي الْحَالِ، وَفِي الثَّانِي لِتَفَاوُتِ رُتْبَةِ الْمُحَلِّقِينَ مِنْ الْمُقَصِّرِينَ بِالنِّسْبَةِ إلَى حَلْقِهِمْ وَتَقْصِيرِهِمْ. وقَوْله تَعَالَى {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} [الصافات: 1] {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} [الصافات: 2] تَحْتَمِلُ الْفَاءُ فِيهِ الْمَعْنَيَيْنِ مَجَازًا، فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ تَفَاوُتُ رُتْبَةِ الصَّفِّ مِنْ الزَّجْرِ، وَرُتْبَةِ الزَّجْرِ مِنْ التِّلَاوَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا تَفَاوُتُ رُتْبَةِ الْجِنْسِ الصَّافِّ مِنْ الْجِنْسِ الزَّاجِرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى صَفِّهِمْ وَزَجْرِهِمْ، وَرُتْبَةُ الْجِنْسِ الزَّاجِرِ مِنْ الثَّانِي بِالنِّسْبَةِ إلَى زَجْرِهِ وَتِلَاوَتِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: هِيَ لِتَرْتِيبِ الْجُمَلِ فِي الْأَخْبَارِ لَا لِتَرْتِيبِ الْخَبَرِيَّةِ فِي الْوُجُودِ؛ لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ فِي الْمَعْنَى لِبُعْدِ الْمُهْلَةِ فِيهِ حَقِيقَةً. وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِهِ بِقَوْلِ:
إنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لِتَفَاوُتِ رُتْبَةِ الِابْنِ مِنْ أَبِيهِ أَوْ لِتَفَاوُتِ رُتْبَةِ سِيَادَتِهِ مِنْ سِيَادَةِ أَبِيهِ.
وَمَجَازُ اسْتِعْمَالِهَا لِتَفَاوُتِ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْمُهْلَةِ وَالتَّفَاوُتُ بِمُهْلَةٍ فِي الْمَعْنَى، وَلِأَنَّ بَيْنَهُمَا قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَهُوَ الِانْفِصَالُ. قُلْت: وَهَذَا طَرِيقٌ آخَرُ لِلتَّرْتِيبِ وَهُوَ التَّرْتِيبُ بِالرُّتَبِ. أَعْنِي تَفَاوُتَ
رُتَبِ الْفِعْلِ أَوْ رُتَبِ الْفَاعِلِينَ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ فِي الْفَاءِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] فَالْفَاءُ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] إنَّمَا دَخَلَتْ لِتُبَيِّنَ حُكْمَ الْمَوْلَى فِي زَمَنِ التَّرَبُّصِ بِجُمْلَتَيْ الشَّرْطِ بَعْدَهَا لَا لِتَعْقِيبِهَا زَمَنَ التَّرَبُّصِ. وَهَكَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. قَالَ: وَلَا يُفْصَلُ بِ ثُمَّ، وَالْفَاءُ فِي هَذَا الْمَعْنَى تَرْتِيبٌ وُجُودِيٌّ بَلْ تَفْصِيلٌ مَعْنَوِيٌّ أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَك: اغْتَسَلَ، فَأَفَاضَ الْمَاءَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ لَيْسَ الْقَصْدُ بِهِ إلَّا الْبَيَانَ لَا التَّرْتِيبَ؟ فَلَوْ قَدَّمْتَ أَوْ أَخَّرْتَ جَازَ، وَكَذَا لَوْ أَتَيْتَ بِالْفَاءِ مَوْضِعَ " ثُمَّ " فَإِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ يَحْتَمِلُ التَّرْتِيبَ جَازَ أَنْ يُقْصَدَ التَّرْتِيبُ، وَجَازَ أَنْ يُقْصَدَ التَّفْصِيلُ، نَحْوُ تَوَضَّأَ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثُمَّ يَدَيْهِ. فَإِنْ أَرَدْتَ التَّرْتِيبَ لَا يَجُوزُ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ وَإِنْ أَرَدْتَ التَّفْصِيلَ جَازَ. وَإِنَّمَا اُسْتُعْمِلَتْ ثُمَّ وَالْفَاءُ لِلتَّفْصِيلِ حَمْلًا عَلَى " أَوْ " فِي نَحْوِ قَوْلِك: الْجِسْمُ إمَّا سَاكِنٌ أَوْ مُتَحَرِّكٌ.
الْإِنْسَانُ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى. قَالَ الشَّيْخُ: وَمَا حَكَيْنَاهُ عَنْ ابْنِ بَرِّيٍّ مِنْ أَنَّ التَّفْصِيلَ الْمُبْهَمَ لَا يُوجِبُ التَّرْتِيبَ قَدْ وَافَقَهُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ. الْمَبْحَثُ الثَّانِي: فِي اقْتِضَائِهَا التَّرَاخِيَ، وَكَمَا يُوجِبُ التَّرْتِيبَ يُوجِبُ تَرَاخِيَ الثَّانِي عَنْ الْأَوَّلِ وَالْمُهْلَةَ بَيْنَهُمَا، وَعَدَمَ الْفَوْرِيَّةِ وَالْمُهْلَةِ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ ابْنُ الْخَشَّابِ بِامْتِنَاعِ وُقُوعِ مَا بَعْدَهَا جَوَابًا لِلشَّرْطِ، كَمَا جَازَ ذَلِكَ فِي الْفَاءِ، فَلَا تَقُولُ: إنْ تَقُمْ ثُمَّ أَنَا أَقُومُ كَمَا قُلْت: إنْ تَقُمْ فَأَنَا أَقُومُ وَقَالَ ابْنُ يَعِيشَ: وَلَمَّا تَرَاخَى لَفْظُهَا بِكَثْرَةِ حُرُوفِهَا تَرَاخَى مَعْنَاهَا؛ لِأَنَّ
قُوَّةَ اللَّفْظِ مُؤْذِنَةٌ بِقُوَّةِ الْمَعْنَى. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ تَرَاخِيَ مَعْنَاهَا يَقَعُ كَتَرَاخِي لَفْظِهَا، وَهُوَ مَعْلُولٌ لَهُ. قَالَ: وَهُوَ عَكْسُ مَا وَجَدْتُهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ عُصْفُورٍ، فَإِنَّهُ لَمَّا تَعَرَّضَ لِبَيَانِ قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ إنَّ " ثُمَّ " مِثْلُ الْفَاءِ إلَّا أَنَّ فِيهَا مُهْلَةً. قَالَ: فَإِنَّمَا يَعْنِي أَنَّهَا مِثْلُهَا فِي التَّرْتِيبِ إلَّا أَنَّهُ تَرْتِيبٌ فِيهِ مُهْلَةٌ وَتَرَاخٍ، وَكَأَنَّهُ لَمَّا اخْتَصَّتْ بِمَعْنًى يَزِيدُ عَلَى مَعْنَى الْفَاءِ خُصَّ لَفْظُهَا بِلَفْظٍ أَزْيَدَ مِنْ لَفْظِ الْفَاءِ وَكَانَتْ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ حَرْفٍ، وَالْفَاءُ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ زِيَادَةُ اللَّفْظِ تَبَعًا لِزِيَادَةِ الْمَعْنَى، وَيَكُونُ اللَّفْظُ مُوَافِقًا لِمَا ذُكِرَ عَنْ ابْنِ دُرُسْتَوَيْهِ أَنَّ الْوَاوَ وَهِيَ الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْوَاوُ وَالْمِيمُ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَخْرَجِ؛ إذْ الْفَاءُ مِنْ بَاطِنِ الشَّفَةِ وَالْوَاوُ وَالْمِيمُ مِنْ نَفْسِ الشَّفَةِ، فَلِذَلِكَ جُعِلَتْ هَذِهِ الْحُرُوفُ الثَّلَاثَةُ تَجْمَعُ مَا بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَخُصَّتْ بِالِاسْتِعْمَالِ دُونَ غَيْرِهَا. وَلَمَّا اخْتَصَّتْ " ثُمَّ " بِمَعْنًى زَائِدٍ عَلَى الْفَاءِ اخْتَصَّتْ بِالثَّاءِ الْمُقَارِبَةِ لِمَخْرَجِ الْفَاءِ لِتَدُلَّ عَلَى مَعْنًى ثَالِثٍ، ثُمَّ لَا خِلَافَ فِي اقْتِضَائِهَا التَّرَاخِيَ.
وَكَلَامُ ابْنِ الْخَشَّابِ يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِالْمُفْرَدَاتِ وَأَنَّهُ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ كَمَا سَبَقَ مِثْلُهُ فِي التَّرْتِيبِ. قَالَ: وَقَدْ يَتَجَرَّدُ عَنْ التَّرَاخِي إذَا كُرِّرَتْ عَلَى التَّعْظِيمِ وَالتَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ - ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الانفطار: 17 - 18] وَالْمَعْطُوفُ هُنَا هُوَ لَفْظُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَكَقَوْلِهِ:{كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ - ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 3 - 4] وَالْمَعْطُوفَاتُ كُلُّهَا جُمَلٌ فِيهَا مَعْنَى التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: التَّرَاخِي ظَاهِرٌ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَأَخُّرِ الْعَوْدِ عَنْ الظِّهَارِ بِفَصْلٍ، وَهُوَ زَمَنُ إمْكَانِ الطَّلَاقِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي أَثَرِ التَّرَاخِي، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ رَاجِعٌ إلَى التَّكَلُّمِ بِمَعْنَى الِانْقِطَاعِ الْمُطْلَقِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سَكَتَ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ قَوْلًا بَعْدَ الْأَوَّلِ. وَقَالَ صَاحِبَاهُ: رَاجِعٌ إلَى الْحُكْمِ مَعَ الْوَصْلِ فِي الْمُتَكَلِّمِ لِمُرَاعَاةِ مَعْنَى الْعَطْفِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ مُنْفَصِلٌ حَقِيقَةً أَوْ حِسًّا، فَيَكُونُ فِي الْحُكْمِ كَذَلِكَ فَإِذَا قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٍ إنْ دَخَلْت الدَّارَ. فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَمَّا كَانَ فِي الْحُكْمِ مُنْقَطِعًا وَقَعَ وَاحِدَةٌ فِي الْحَالِ، وَيُلْغَى الْبَاقِي، لِعَدَمِ الْمَحَلِّ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَتَعَلَّقْ الطَّلَاقُ بِالشَّرْطِ فَكَذَا هُنَا، وَعِنْدَهُمَا لَمَّا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ مُتَّصِلًا حُكْمًا تَعَلَّقَتْ جَمِيعًا بِالشَّرْطِ إلَّا أَنَّهُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ يَقَعُ وَاحِدَةٌ عَمَلًا بِالتَّرَاخِي. الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ: إذَا ثَبَتَ أَنَّهَا لِلتَّرَاخِي فَلَا دَلِيلَ عَلَى مِقْدَارِهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ. وَقَالَهُ غَيْرُهُ: الْمُرَادُ بِالتَّرَاخِي الزَّمَانِيُّ فَإِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ، فَإِنْ اُسْتُعْمِلَ فِي تَرَاخِي الرُّتْبَةِ أَوْ فِي تَرَاخِي الْأَخْبَارِ كَانَ مَجَازًا. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي أَمْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ أَعْنِي التَّرَاخِيَ فِي الزَّمَانِ وَالرُّتْبَةِ وَالْأَخْبَارِ.
الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ: أَنَّ التَّرَاخِيَ قَدْ يَتَزَايَدُ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ فَإِذَا قُلْت: جَاءَ زَيْدٌ ثُمَّ جَاءَ عَمْرٌو كَانَ أَدَلَّ عَلَى التَّرَاخِي مِنْ قَامَ زَيْدٌ ثُمَّ عَمْرٌو، فَإِنْ تَغَايَرَ الْفِعْلَانِ فَقُلْت: قَامَ زَيْدٌ ثُمَّ انْطَلَقَ كَانَ كَالثَّانِي، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28] فَعَطَفَ أَوَّلًا بِالْفَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا نُطَفًا فَجَعَلَ فِيهِمْ حَيَاةً عَقِبَ حَالَةِ كَوْنِهِمْ أَمْوَاتًا، ثُمَّ تَرَاخَى حَالَةَ إمَاتَتِهِمْ بِمُدَّةِ حَيَاتِهِمْ وَآجَالِهِمْ الْمَقْسُومَةِ فَعَطَفَ الْإِمَاتَةَ، ثُمَّ تَرَاخَى الْإِحْيَاءُ الْمُتَعَقِّبُ عَنْ الْإِمَاتَةِ بِمُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِي الْبَرْزَخِ فَعَطَفَ {يُحْيِيكُمْ} بِ ثُمَّ، ثُمَّ تَرَاخَى الْإِحْيَاءُ لِلْبَعْثِ عَنْ الْإِمَاتَةِ بِمُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِي الْبَرْزَخِ فَعَطَفَ عَلَيْهِمْ بِ ثُمَّ، ثُمَّ إلَيْهِ الرُّجُوعُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ.