الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[أَدَوَاتُ الْمَعَانِي]
وَإِنَّمَا احْتَاجَ الْأُصُولِيُّ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَتَخْتَلِفُ الْأَحْكَامُ الْفِقْهِيَّةُ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ مَعَانِيهَا. قَالَ ابْنُ السَّيِّدِ النَّحْوِيُّ يُخْبِرُ عَمَّنْ تَأَمَّلَ غَرَضَهُ وَمَقْصِدَهُ فَإِنَّ الطَّرِيقَةَ الْفِقْهِيَّةَ مُفْتَقِرَةٌ إلَى عِلْمِ الْأَدَبِ، مُؤَسَّسَةٌ عَلَى أُصُولِ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَأَنَّ مَثَلَهَا وَمَثَلَهُ قَوْلُ أَبِي الْأَسْوَدِ:
فَإِنْ لَا يَكُنْهَا أَوْ تَكُنْهُ فَإِنَّهُ
…
أَخُوهَا غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلَبَانِهَا
قَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي كِتَابِ " فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ ": رَأَيْت أَصْحَابَنَا الْفُقَهَاءَ يُضَمِّنُونَ كُتُبَهُمْ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ حُرُوفًا مِنْ حُرُوفِ الْمَعَانِي، وَمَا أَدْرِي مَا الْوَجْهُ فِي اخْتِصَاصِهِمْ إيَّاهَا دُونَ غَيْرِهَا، فَذَكَرْت عَامَّةَ الْمَعَانِي رَسْمًا وَاخْتِصَارًا. اهـ.
وَأَقُولُ: تَنْقَسِمُ حُرُوفُ الْمَعَانِي إلَى مَا هُوَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى حَرْفَيْنِ وَمَا هُوَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. فَمِنْ الْأَوَّلِ: الْوَاوُ الْعَاطِفَةُ: وَفِيهَا مَذَاهِبُ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ لَا فِي الْفِعْلِ كَالْفَاءِ، وَلَا فِي الْمَنْزِلَةِ كَثُمَّ، وَلَا فِي الْأَحْوَالِ كَ حَتَّى، وَإِنَّمَا هُوَ لِمُجَرَّدِ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ كَالتَّثْنِيَةِ، فَإِذَا قُلْت: مَرَرْت بِزَيْدٍ وَعَمْرٍو، فَهُوَ كَقَوْلِك: مَرَرْت بِهِمَا. قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي مَرَرْت بِرَجُلٍ وَحِمَارٍ: لَمْ يَجْعَلْ الرَّجُلَ بِمَنْزِلَةِ تَقْدِيمِك إيَّاهُ يَكُونُ بِهَا أَوْلَى مِنْ الْحِمَارِ، كَأَنَّك قُلْت: مَرَرْت بِهِمَا، وَلَيْسَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ بَدَأَ بِشَيْءٍ قَبْلَ شَيْءٍ. انْتَهَى. فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهَا لِمُجَرَّدِ الْجَمْعِ، وَأَنَّهَا كَالتَّثْنِيَةِ لَا تَرْتِيبَ فِيهَا وَلَا مَعِيَّةَ، فَلِذَلِكَ تَأْتِي بِعَكْسِ التَّرْتِيبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} [الشورى: 3] وَالْمَعِيَّةُ، نَحْوُ اخْتَصَمَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو، وَلِلتَّرْتِيبِ، نَحْوُ {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] وَلَمْ تُوضَعْ لِشَيْءٍ بِخُصُوصِهِ، بَلْ لِمَا يَعُمُّهَا مِنْ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ. وَفَهِمَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنْهُ تَعَيُّنَ إرَادَةِ الْجَمْعِ، فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ: جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو لَا تَفْهَمُ الْعَرَبُ مَجِيئَهُمَا مَعًا بَلْ يُحْتَمَلُ الْمَعِيَّةُ وَالتَّرْتِيبُ. وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ هَذَا خِلَافُ مُرَادِهِمْ، وَإِنَّمَا عَنَوْا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّشْرِيكِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي أُسْنِدَ إلَيْهِمَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَدُلَّ عَلَى أَنَّهُمَا مَعًا بِالزَّمَانِ، أَوْ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ.
وَنَقَلَ الْفَارِسِيُّ وَالسِّيرَافِيُّ فِي " شَرْحِ سِيبَوَيْهِ " وَالسُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُمْ إجْمَاعَ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَيْهِ قِيلَ: وَنَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ فِي سَبْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا مِنْ " كِتَابِهِ "، وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي " شَرْحِ الْكِفَايَةِ " عَنْ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ، وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: هُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَسْرِهِمْ وَمُعْظَمِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. قُلْت: وَهُوَ الَّذِي صَحَّ عَنْ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ وَقْفٌ عَلَى أَوْلَادِي وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي أَنَّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: ثُمَّ أَوْلَادِي، فَلَوْ كَانَتْ الْوَاوُ كَ " ثُمَّ " لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُشَارِكَ كَمَا فِي " ثُمَّ ". وَنَصَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ: إذَا مِتُّ فَسَالِمٌ وَغَانِمٌ وَخَالِدٌ أَحْرَارٌ، وَكَانَ الثُّلُثُ لَا يَفِي إلَّا بِأَحَدِهِمْ: فَإِنَّهُ يُقْرَعُ، فَلَوْ اقْتَضَتْ الْوَاوُ التَّرْتِيبَ لَعَتَقَ سَالِمٌ وَحْدَهُ. وَمِنْ حُجَجِهِمْ قَوْله تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ مُنْكِرِي الْبَعْثِ:{إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} [المؤمنون: 37] اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ الْخَشَّابِ وَابْنُ مَالِكٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ.
وَمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ، وَلَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ» فَلَوْ كَانَتْ لِلتَّرْتِيبِ لَسَاوَتْ " ثُمَّ " وَلَمَا فُرِّقَ عليه الصلاة والسلام بَيْنَهُمَا. قَالَ ابْنُ الْخَشَّابِ: إذَا تَأَمَّلْت الْوَاوَ الْعَاطِفَةَ فِي التَّنْزِيلِ وَجَدْتهَا كُلَّهَا جَامِعَةً لَا مُرَتَّبَةً، وَكَذَا فِي غَيْرِ التَّنْزِيلِ. قَالَ: وَمَا أَحْسَنَ مَا سَمَّى النَّحْوِيُّونَ الْحَرَكَةَ الْمَأْخُوذَةَ مِنْ الْوَاوِ وَهِيَ بَعْضُهَا عِنْدَهُمْ بِالضَّمَّةِ؛ لِأَنَّ الضَّمَّ الْجَمْعُ، فَكَانَ مَا هُوَ مِنْ الضَّمِّ لِلْجَمْعِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى التَّرْتِيبِ. قَالَ: وَهَذَا مِنْ بَابِ إمْسَاسِ الْأَلْفَاظِ أَشْبَاهَ الْمَعَانِي، وَهُوَ بَابٌ شَرِيفٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ جِنِّي فِي " الْخَصَائِصِ " وَغَيْرِهِ. الثَّانِي: أَنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ الْعَطْفُ فِي الْمُفْرَدَاتِ وَالْجُمَلِ. صَحَّ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا سَيَأْتِي، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ. مِنْهُمْ ثَعْلَبٌ وَالْفَرَّاءُ وَهِشَامٌ وَأَبُو عَمْرٍو الزَّاهِدُ، وَمِنْ الْبَصْرِيِّينَ قُطْرُبٌ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الرَّبَعِيُّ وَابْنُ دُرُسْتَوَيْهِ.
حَكَاهُ عَنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ النُّحَاةِ، وَعُزِيَ لِلشَّافِعِيِّ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ " أَحْكَامِ
الْقُرْآنِ "، وَبَعْضُهُمْ أَخَذَهُ مِنْ لَازِمِ قَوْلِهِ فِي اشْتِرَاطِ التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ وَمَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ. وَالْحَقُّ: أَنَّهُ لَيْسَ مَدْرَكُهُ فِي ذَلِكَ كَوْنَهَا لِلتَّرْتِيبِ بَلْ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ، وَإِنَّمَا هَذَا وَجْهٌ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَأَغْرَبَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ: الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ وَالِابْتِدَاءِ بِفِعْلِ مَا بُدِئَ بِذِكْرِهِ فِي الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ انْتَهَى. وَكَذَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ الْوُضُوءِ مِنْ " الْحَاوِي " عَنْ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا، وَكَذَا الصَّيْدَلَانِيُّ فِي " شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيّ "، فَقَالَ: وَقَوْلُنَا: إنَّ الْوَاوَ تُوجِبُ التَّرْتِيبَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ وَالْفَرَّاءِ وَغُلَامِ ثَعْلَبٍ. انْتَهَى.
وَعِبَارَةُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْأَسَالِيبِ ": وَصَارَ عُلَمَاؤُنَا أَنَّ الْوَاوَ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، وَتَكَلَّفُوا نَقْلَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ. انْتَهَى.
وَكَذَا قَالَ فِي " الْبُرْهَانِ ": إنَّهُ الَّذِي اُشْتُهِرَ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَنَصَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " التَّبْصِرَةِ ". وَحَكَى ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ " عَنْ قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ مَعَ التَّشْرِيكِ. قُلْت: وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ سُرَيْجٍ فِي كِتَابِ " الْوَدَائِعِ "، وَاعْتَمَدَهُ فِي وُجُوبِ التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ، وَعِبَارَتُهُ: وَوَاوُ النَّسَقِ تَدُلُّ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ مُتَوَالِيًا، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ. هَذَا لَفْظُهُ. وَنَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " التَّبْصِرَةِ " كَوْنَهَا لِلتَّرْتِيبِ عَنْ ثَعْلَبٍ وَأَبِي عُمَرَ الزَّاهِدِ غُلَامِهِ، وَفِي ذَلِكَ، نَظَرٌ فَفِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيَّ: قَالَ
لِي أَبُو عُمَرَ وَغُلَامُ ثَعْلَبٍ: الْوَاوُ عِنْدَ الْعَرَبِ لِلْجَمْعِ، وَلَا دَلَالَةَ عِنْدَهُمْ فِيهَا عَلَى التَّرْتِيبِ، وَأَخْطَأَ مَنْ قَالَ: إنَّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ. انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ ": ادَّعَى جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ، وَنَسَبُوهُ لِلشَّافِعِيِّ، حَكَى عَنْ بَعْضِ نُحَاةِ الْكُوفَةِ، وَأَمَّا عَامَّةُ أَهْلِ اللُّغَةِ فَعَلَى أَنَّهَا لِلْجَمْعِ، وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ التَّرْتِيبُ بِقَرَائِنَ. انْتَهَى.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَصِحَّ هَذَا النَّقْلُ عَنْ الشَّافِعِيِّ بَلْ الْوَاوُ عِنْدَهُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، وَإِنَّمَا نُسِبَ لِلشَّافِعِيِّ مِنْ إيجَابِهِ التَّرْتِيبَ فِي الْوُضُوءِ، وَلَمْ يُوجِبْهُ مِنْ الْوَاوِ بَلْ لِدَلِيلٍ آخَرَ، وَهُوَ قَطْعُ النَّظِيرِ عَنْ النَّظِيرِ، وَإِدْخَالُ الْمَمْسُوحِ بَيْنَ الْمَغْسُولَيْنِ، وَالْعَرَبُ لَا تَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا إذَا أَرَادَتْ التَّرْتِيبَ. قُلْت: وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْوَاوَ عِنْدَهُ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ لُغَةً وَتُفِيدُ فِي الِاسْتِعْمَالِ الشَّرْعِيِّ فَإِنَّهُ أَوْجَبَ التَّرْتِيبَ فِي الْوُضُوءِ لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَيْهَا بَلْ تَمَسَّكَ بِمَا صَحَّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ سَمِعْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ وَهُوَ يُرِيدُ الصَّفَا يَقُولُ:«نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ فَبَدَأَ بِالصَّفَا» وَعَلَى هَذَا فَإِذَا تَرَدَّدْنَا فِيهِ وَجَبَ حَمْلُهَا عَلَى الْمَحْمَلِ الشَّرْعِيِّ فَإِنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى اللُّغَوِيِّ، وَبِهَذَا يَجْتَمِعُ كَلَامُهُ، وَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ وَيَزُولُ الِاسْتِشْكَالُ.
وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي مُصَنَّفِهِ " الْمُفْرَدِ " فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: وَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ دُرُسْتَوَيْهِ وَالزَّاهِدِ وَابْنِ جِنِّي وَابْنِ بَرْهَانٍ وَالرَّبَعِيِّ مِنْ اقْتِضَائِهَا التَّرْتِيبَ
فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَكُتُبُهُمْ تَنْطِقُ بِضِدِّ ذَلِكَ. نَعَمْ، لَمَّا ذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الرَّبَعِيُّ فِي " شَرْحِ كِتَابِ الْجَرْمِيِّ " أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ قَالَ: هَذَا مَذْهَبُ النَّحْوِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ إلَّا الشَّافِعِيَّ، وَلِقَوْلِهِ وَجْهٌ. انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ إلَيْهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ: حِكَايَةُ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهَا لِلْجَمْعِ غَيْرُ صَحِيحٍ.
وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي " شَرْحِ الْكَافِيَةِ ": زَعَمَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ أَنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ، وَعُلَمَاءُ الْكُوفَةِ بَرَاءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ النَّحْوِيُّ عَنْ قُطْرُبٍ وَالرَّبَعِيِّ وَاسْتَدَلَّ لَهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: - {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18] وَبِقَوْلِهِ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1]{وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 2] ثُمَّ رُدَّ ذَلِكَ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ لِلتَّرْتِيبِ بِقَوْلِهِ:{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 16] قَالَ: وَالنُّذُرُ قَبْلَ الْعَذَابِ بِدَلِيلِ {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] .
وَمِنْ حُجَجِ الْقَائِلِينَ بِالتَّرْتِيبِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: «أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُ وَأُسْلِمُ؟ قَالَ: أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ، فَأَسْلَمَ ثُمَّ قَاتَلَ فَقُتِلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَمِلَ قَلِيلًا وَأُوجِرَ كَثِيرًا» . وَأَسْنَدَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " التَّمْهِيدِ " إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا نَدِمْت عَلَى شَيْءٍ لَمْ أَكُنْ عَمِلْت بِهِ مَا نَدِمْت عَلَى الْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَنْ لَا أَكُونَ مَشَيْت، لِأَنِّي سَمِعْت «رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ حِينَ ذَكَرَ إبْرَاهِيمُ وَأُمِرَ أَنْ يُنَادِيَ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ {يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] فَبَدَأَ
بِالرِّجَالِ قَبْلَ الرُّكْبَانِ» . قَالَ: فَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْوَاوَ تُوجِبُ عِنْدَهُ التَّرْتِيبَ، انْتَهَى.
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِحَدِيثِ: «بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ» فَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا نَهَاهُ؛ لِأَنَّ الْأَدَبَ أَنْ لَا يَجْمَعَ بَيْنَ اسْمِ اللَّهِ وَغَيْرِهِ فِي ضَمِيرٍ، وَلِهَذَا قَالَ:{قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب: 22] وَلَمْ يَقُلْ: وَصَدَقَا بَلْ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهَا لِلْجَمْعِ لَا لِلتَّرْتِيبِ، وَذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ هَذَا الضَّمِيرِ وَهُوَ " هُمَا " بِمَنْزِلَةِ التَّثْنِيَةِ فِي الْأَسْمَاءِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَّفِقَةِ فِي قَوْلِك: الزَّيْدَانِ وَالْعَمْرَانِ، وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ أَصْلَ التَّثْنِيَةِ الْعَطْفُ، وَحُكْمُ ضَمِيرِ التَّثْنِيَةِ حُكْمُ التَّثْنِيَةِ فِي أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا تَرْتِيبٌ فِي الْمَعْنَى وَلَا تَقْدِيمُ احْتِفَالٍ فِي اللَّفْظِ. وَأَمَّا وُجُوبُ التَّرْتِيبِ فِي قَوْله تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 277] حَيْثُ رَتَّبَ الْعَمَلَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ بِدُونِهِ، فَلَمْ يُسْتَفَدْ ذَلِكَ مِنْ الْوَاوِ بَلْ مِنْ دَلِيلٍ خَارِجِيٍّ. وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [طه: 112] .
الثَّالِثُ: أَنَّهَا لِلْجَمْعِ تُفِيدُ الْمَعِيَّةَ فَإِذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ كَانَتْ مَجَازًا وَنُسِبَ لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ: لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِغَيْرِ كَوْنِ الْوَاوِ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِاقْتِرَانٍ، وَلَا تَرْتِيبٍ، وَنَسَبَهُ بَعْضُهُمْ لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِمَا فِيمَا إذَا عَقَدَ
رَجُلٌ لِغَيْرِهِ نِكَاحَ أُخْتَيْنِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ فَإِنَّهُمَا قَالَا: إذَا بَلَغَهُ الْخَبَرُ فَإِنْ أَجَازَ نِكَاحَهُمَا مَعًا بَطَلَ فِيهِمَا، وَإِنْ أَجَازَ نِكَاحَ إحْدَاهُمَا ثُمَّ نِكَاحَ الْأُخْرَى بَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ، وَإِنْ قَالَ: أَجَزْت نِكَاحَ فُلَانَةَ وَفُلَانَةَ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَجَازَ نِكَاحَهُمَا مَعًا، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْجَمْعِ تُفِيدُ الْمَعِيَّةَ كَمَا لَوْ أَجَازَ نِكَاحَهُمَا مَعًا. وَمِنْ قَوْلِهِمَا فِيمَا إذَا قَالَ: إنْ دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ فَطَالِقٌ: تَقَعُ الثَّلَاثُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَاحِدَةٌ، وَرُبَّمَا نُسِبَ هَذَا الْمَذْهَبُ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَلِمَالِكٍ حَيْثُ قَالَا فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ تَقَعُ الثَّلَاثُ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ تُوجِبُ الْمُقَارَنَةَ.
الرَّابِعُ: أَنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ حَيْثُ يَسْتَحِيلُ الْجَمْعُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] حَكَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ الْفَرَّاءِ وَاحْتَجَّ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي آيَةِ الْوُضُوءِ. قَالَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيّ: وَيُشْبِهُ إنْ صَحَّ هَذَا عَنْ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ فِي الْمَعْنَى يُفِيدُ التَّرْتِيبَ إذَا كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَا يَصْلُحُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ، وَلِأَنَّ اللَّفْظَ لَوْ أَفَادَ ذَلِكَ لَأَفَادَهُ، وَإِنْ صَحَّ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ لَا يَتَغَيَّرُ كَمَا لَا يَتَغَيَّرُ مَا يَقْتَضِيهِ " ثُمَّ "، وَالْفَاءُ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ بُعْدٌ فَقَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ الْمَرَاغِيُّ: نَظَرْت فِي كِتَابِ الْفَرَّاءِ فَمَا أَلْفَيْت فِي شَيْءٍ مِنْهَا هَذَا، ثُمَّ فِيهِ دَلَالَةٌ لَوْ صَحَّ عَلَى أَنَّ أَصْلَهَا الْجَمْعُ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لَهَا التَّرْتِيبُ لِاسْتِحَالَةِ الْجَمْعِ. الْخَامِسُ: وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ إنْ دَخَلَتْ بَيْنَ أَجْزَاءِ بَيْنِهَا ارْتِبَاطٌ اقْتَضَتْ التَّرْتِيبَ، كَآيَةِ الْوُضُوءِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ هِيَ أَجْزَاءُ فِعْلٍ وَاحِدٍ مَأْمُورٍ بِهِ
وَهُوَ الْوُضُوءُ، فَدَخَلَتْ الْوَاوُ بَيْنَ الْأَجْزَاءِ لِلرَّبْطِ، فَأَفَادَتْ التَّرْتِيبَ، وَإِنْ دَخَلَتْ بَيْنَ أَفْعَالٍ لَا ارْتِبَاطَ بَيْنَهَا نَحْوُ {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] لَا تُفِيدُهُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مُوسَى مِنْ الْحَنَابِلَةِ، وَرَجَّحَهُ بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ.
السَّادِسُ: إنَّمَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ فِي عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ دُونَ عَطْفِ الْجُمَلِ. حَكَاهُ ابْنُ الْخَبَّازِ مِنْ النُّحَاةِ عَنْ شَيْخِهِ. السَّابِعُ: أَنَّهَا لِلْعَطْفِ وَالِاشْتِرَاكِ، وَلَا تَقْتَضِي بِأَصْلِهَا جَمْعًا وَلَا تَرْتِيبًا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْ أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَيْهَا. حَكَاهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ فِي " تَعْلِيقِهِ " عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ. قَالَ: وَكَانَ سَيِّئَ الرَّأْيِ فِي قَوْلِ التَّرْتِيبِ وَفِي قَوْلِ الْجَمْعِ. قَالَ: وَأَنْكَرَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ هَذَا، وَقَالَ: الْقَائِلُ قَائِلَانِ، قَائِلٌ بِالْجَمْعِ وَقَائِلٌ بِالتَّرْتِيبِ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى ذَلِكَ، فَإِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ لَا يَجُوزُ. اهـ.
وَنَقَلْته مِنْ فَوَائِدِ رِحْلَةِ ابْنِ الصَّلَاحِ بِخَطِّهِ، لَكِنَّ الْقَاضِيَ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ الْخِلَافِيَّةِ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْوَاوِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَقْتَضِي الْجَمْعَ وَالثَّانِي: تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وَالثَّالِثُ: لَا تَقْتَضِي وَاحِدًا مِنْهَا، وَإِنَّمَا تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الْمَعْنَى وَالْإِعْرَابِ فَقَطْ. الثَّامِنُ: وَحَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ الْقَاضِي الْمَاوَرْدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْوَاوُ لَهَا ثَلَاثَةُ مَوَاضِعَ: حَقِيقَةٌ مَجَازٌ وَمُخْتَلَفٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ.
فَالْحَقِيقَةُ أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِي الْعَطْفِ لِلْجَمْعِ وَالِاشْتِرَاكِ، كَقَوْلِك: جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو. وَالْمَجَازُ أَنْ تُسْتَعْمَلَ بِمَعْنَى " أَوْ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] . وَالْمُخْتَلَفُ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي التَّرْتِيبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] فَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّهَا تَكُونُ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي التَّرْتِيبِ مَجَازًا، وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إلَى أَنَّهَا تَكُونُ حَقِيقَةً فِيهِ، فَإِذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي مَوْضِعٍ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ حُمِلَتْ عَلَى التَّرْتِيبِ دُونَ الْجَمْعِ لِزِيَادَةِ الْفَائِدَةِ. وَحَيْثُ قُلْنَا بِالصَّحِيحِ قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ وَاحْتِمَالُ تَأْخِيرِ الْمَعْطُوفِ كَثِيرٌ وَتَقَدُّمُهُ قَلِيلٌ، وَالْمَعِيَّةُ احْتِمَالٌ رَاجِحٌ. هَذَا كَلَامُهُ فِي الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ.
أَمَّا الَّتِي بِمَعْنَى " مَعَ " فِي الْمَفْعُولِ مَعَهُ، قَالَ الْهِنْدِيُّ: فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ تَقْتَضِي الْجَمْعَ بِصِفَةِ الْمَعِيَّةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: جَاءَ الْبَرْدُ وَالطَّيَالِسَةُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي الْوَاوِ نُكْتَةٌ بَدِيعَةٌ لَا تُوجَدُ فِي سَائِرِ حُرُوفِ الْعَطْفِ، وَهِيَ أَنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى الْجَمْعِ أَعَمُّ مِنْ دَلَالَتِهَا عَلَى الْعَطْفِ. بَيَانُهُ: أَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ الْجَمْعِ، وَتَخْلُو عَنْ الْعَطْفِ، كَوَاوِ الْمَفْعُولِ مَعَهُ وَوَاوِ الْقَسَمِ؛ لِأَنَّهَا نَائِبَةٌ عَنْ الْبَاءِ وَهِيَ لِلْإِلْصَاقِ، وَالشَّيْءُ إذَا لَاصَقَ الشَّيْءَ بَعْدُ جَامَعَهُ، وَوَاوُ الْحَالِ لَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْمُصَاحَبَةِ، وَكَذَا قَوْلُهُمْ: لَا تَأْكُلْ السَّمَكَ وَتَشْرَبْ اللَّبَنَ لِلْجَمْعِ دُونَ الْعَطْفِ. قِيلَ: وَقَوْلُهُمْ: الْوَاوُ حَرْفُ عَطْفٍ فِيهِ تَجَوُّزٌ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ اسْمٌ لَيْسَتْ حَرْفًا، وَإِنَّمَا الْعَطْفُ " وَ " وَحْدَهُ. وَقَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ فِي " شَرْحِ الْإِيضَاحِ ": إنَّ الْخِلَافَ فِي أَنَّ الْوَاوَ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ مَحَلُّهُ مَا إذَا كَانَ الْفِعْلُ صُدُورُهُ مِنْ وَاحِدٍ، فَأَمَّا نَحْوُ اخْتَصَمَ
زَيْدٌ وَعَمْرٌو، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، وَذَكَرَ فِي " شَرْحِ الْجُمَلِ " مُحْتَجًّا عَلَى الْقَائِلِينَ بِالتَّرْتِيبِ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ، فَكَذَلِكَ غَيْرُهَا. فَائِدَتَانِ إحْدَاهُمَا قَالَ الْإِمَامُ فِي " الْبُرْهَانِ ": إنَّ الْوَاوَ إذَا دَخَلَتْ فِي الْجُمَلِ فَلَيْسَ لَهَا فَائِدَةٌ إلَّا التَّحْسِينُ اللَّفْظِيُّ.
وَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِيهِ " بِالْفَاءِ وَثُمَّ فَإِنَّك لَوْ قُلْت: قَامَ زَيْدٌ فَخَرَجَ، أَوْ ثُمَّ خَرَجَ عَمْرٌو، فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ الْمُفْرَدِ وَهُوَ أَنَّ هَذَا يُشْعِرُ بِالتَّعْقِيبِ، وَلَا مُهْلَةَ، وَهَذَا يُشْعِرُ بِالتَّعْقِيبِ وَالْمُهْلَةِ. إلَّا أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمُفْرَدَاتِ أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي إعْرَابٍ بِعَامِلٍ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ.
الثَّانِيَةُ قَالَ ابْنُ أَبِي الرَّبِيعِ: جَالِسْ الْحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ؛ لِأَنَّك أُمِرْت بِمُجَالَسَتِهِمَا مَعًا وَتَقُولُ أَيْضًا هَذَا وَأَنْتَ تُرِيدُ أَنَّهُمَا جَمِيعًا أَهْلُ الْمُجَالَسَةِ، فَإِنْ أَرَدْت وَجَالِسْ أَحَدَهُمَا لَمْ تَكُنْ عَاصِيًا، وَعَلَى هَذَا أَخَذَ مَالِكٌ قَوْله تَعَالَى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] وَعَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ أَظْهَرُ، وَقَوْلُ مَالِكٍ مُمْكِنٌ إنْ عُضِّدَ بِدَلِيلٍ خَارِجِيٍّ.