الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[أَقْسَامُ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ]
ِ] وَأَقْسَامُهَا أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى مَعْلُومَيْنِ لِأَهْلِ اللُّغَةِ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَضَعُوا ذَلِكَ الِاسْمَ لِذَلِكَ الْمَعْنَى. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا غَيْرَ مَعْلُومَيْنِ لَهُمْ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مَعْلُومًا لَهُمْ وَالْمَعْنَى غَيْرَ مَعْلُومٍ. الرَّابِعُ: عَكْسُهُ، وَالْمَنْقُولَةُ الشَّرْعِيَّةُ أَخَصُّ مِنْ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ. ثُمَّ مِنْ الْمَنْقُولَةِ مَا نُقِلَ إلَى الدِّينِ وَأُصُولِهِ كَالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ وَالْفِسْقِ، وَتُخَصُّ بِالدِّينِيَّةِ، وَمَا نُقِلَ إلَى فُرُوعِهِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَتَخْتَصُّ بِالْفَرْعِيَّةِ. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْبَهُ وُقُوعُهَا. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَكَلَفْظِ الرَّحْمَنِ لِلَّهِ، فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ كَانَ مَعْلُومًا لَهُمْ، وَالثَّانِي: كَأَوَائِلِ السُّوَرِ، وَالثَّالِثُ: كَلَفْظِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَالرَّابِعُ كَلَفْظِ الْأَبِّ وَلِهَذَا لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] قَالَ عُمَرُ: مَا الْأَبُّ؟ اهـ.
وَالنِّزَاعُ فِي الْكُلِّ عَلَى السَّوَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فِي " الْمَحْصُولِ " فَتَابَعُوهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " عَلَى أَصْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَكَذَلِكَ تَفْسِيرُ الشَّرْعِيِّ بِمَا سَبَقَ، وَهُوَ مَاشٍ عَلَى مَذْهَبِهِمْ الْآتِي وَأَمَّا عَلَى أَصْلِنَا فَلَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ
بَلْ الشَّرْطُ كَمَا قَالَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ: كَوْنُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجَازٌ لُغَوِيٌّ يَعْلَمُهَا أَهْلُ اللُّغَةِ، لِاسْتِحَالَةِ نَقْلِ الشَّرْعِ لَفْظَةً لُغَوِيَّةً إلَى مَعْنَى مَجَازِ لُغَةٍ، وَلَا يَعْرِفُهُمَا أَهْلُ اللُّغَةِ. الثَّانِي: فِي إمْكَانِهَا عَقْلًا، وَنَقَلَ الْإِمَامُ فِي " الْمَحْصُولِ " وَالْآمِدِيَّ فِي " الْإِحْكَامِ " الْإِجْمَاعَ عَلَى إمْكَانِ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَأَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي الْوُقُوعِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَفِي " شَرْحِ الْعُمَدِ " لِأَبِي الْحُسَيْنِ عَنْ قَوْمٍ إنْكَارُ إمْكَانِهَا، فَقَالَ: وَقَدْ أَبَى قَوْمٌ جَوَازَ ذَلِكَ، وَاخْتَلَفَ تَعْلِيلُهُمْ، فَعِلَّةُ بَعْضِهِمْ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ مَنَعَ مِنْ إمْكَانِ ذَلِكَ، وَعِلَّةُ الْآخَرِينَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُمْ مَنَعُوا مَنْ حَسَّنَهُ. اهـ.
وَمِمَّنْ حَكَى الْخِلَافَ أَيْضًا ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " فَقَالَ: وَأَمَّا إمْكَانُ نَقْلِ الْأَسَامِي، أَوْ نَقْلِهَا مِنْ اللُّغَةِ إلَى الشَّرْعِ فَقَدْ جَوَّزَهُ كَافَّةُ الْعُلَمَاءِ، وَمَنَعَهُ طَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ، وَبِنَاءُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ نَقْلَهَا مِنْ اللُّغَةِ إلَى الشَّرْعِ لَا يُؤَدِّي إلَى قَلْبِ الْحَقَائِقِ، وَعِنْدَهُ يُؤَدِّي. الثَّالِثُ: أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ إمْكَانُهُ فَهُوَ حَسَنٌ وَلَيْسَ بِقَبِيحٍ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَثَابَةِ النَّسْخِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُهَا وَتَبْدِيلُهَا بِاعْتِبَارِ الْمَصَالِحِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ حَسَنًا، فَلَأَنْ يَحْسُنَ ذَلِكَ فِي الْأَسَامِي أَوْلَى. وَقِيلَ: وَإِنْ جَازَ عَقْلًا لَكِنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ؛ لِأَنَّهُ قَبِيحٌ لِإِفْضَائِهِ إلَى إسْقَاطِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالنَّسْخِ، ذَكَرَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ.
الرَّابِعُ: إنَّهُ إذَا ثَبَتَ هَذَا فَهَلْ وَقَعَ أَوْ لَا؟ فِيهِ مَذَاهِبُ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاقِعَةٍ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ الدِّينِيَّةُ وَهِيَ الْمُتَعَلِّقَةُ بِأُصُولِ
الدِّينِ كَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَالْفَرْعِيَّةُ وَهِيَ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْفُرُوعِ. قَالَ الْمَازِرِيُّ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ ": وَهُوَ رَأْيُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَئِمَّتِنَا الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَالْإِمَامِ أَبِي نَصْرِ بْنِ الْقُشَيْرِيّ، وَنَقَلَهُ عَنْ أَصْحَابِنَا، فَقَالَ: وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَمْ يَنْقُلْ الشَّرْعُ شَيْئًا مِنْ الْأَسَامِي اللُّغَوِيَّةِ، بَلْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَلَّمَ الْخَلْقَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ، وَإِلَى هَذَا مَيْلُ الْقَاضِي. اهـ.
وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ الْمَرُّوذِيِّ وَالشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ فَقَالَ: أَجْمَعَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ نُقِلَ بِالشَّرْعِ أَسْمَاءٌ كَثِيرَةٌ عَنْ مَعَانِيهَا فِي اللُّغَةِ إلَى مَعَانٍ سِوَاهَا إلَّا أَبَا حَامِدٍ الْمَرُّوذِيَّ، فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْأَسَامِيَ كُلَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى مُقْتَضَاهَا فِي اللُّغَةِ قَبْلَ الشَّرْعِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ، وَمِثَالُ ذَلِكَ: الْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى التَّصْدِيقِ، وَقَدْ صَارَ بِالشَّرْعِ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ اسْمًا لِجَمِيعِ الطَّاعَاتِ، وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ الْآنَ أَيْضًا بِمَعْنَى التَّصْدِيقِ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ أَسْمَاءٌ لِأَفْعَالٍ مَخْصُوصَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى مَا كَانَ مَفْعُولًا مِنْهَا فِي اللُّغَةِ قَبْلَ الشَّرْعِ عِنْدَنَا، وَهِيَ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ ثَابِتَةٌ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الشَّرْعِ إلَّا أَنَّهَا لَا يَحْتَسِبُ بِهَا إلَّا إذَا أَتَى عَلَى الشُّرُوطِ الَّتِي عَلَّقَتْهَا الشَّرِيعَةُ بِهَا. اهـ. وَكَذَلِكَ حَكَاهُ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ فِي جُزْءٍ جَمَعَهُ فِي بَيَانِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ. فَقَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ، هَلْ نَقَلَتْ الشَّرِيعَةُ أَسْمَاءَ اللُّغَةِ عَنْ مَوْضُوعَاتِهَا إلَى غَيْرِهَا؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهَا نَقَلَتْ، وَإِنَّ مِنْ ذَلِكَ الْإِيمَانَ، فَإِنَّهُ لُغَةً التَّصْدِيقُ، وَإِنَّمَا قِيلَ فِي الشَّرِيعَةِ لِلطَّاعَاتِ: كُلُّهَا إيمَانٌ، وَذَلِكَ شَرْعِيٌّ لَا لُغَوِيٌّ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالْحَجُّ وَالْوُضُوءُ، فَجَمْعُهُ مَنْقُولٌ عَنْ اللُّغَةِ.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ: إنَّ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا لُغَوِيَّةٌ، وَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ مِنْهَا شَيْءٌ عَنْ مَوْضُوعِ اللُّغَةِ، وَأَنْ لَا إيمَانَ إلَّا بِتَصْدِيقٍ، وَأَنْ لَا تَصْدِيقَ إلَّا بِإِيمَانٍ، وَقَالَ: إنَّ الصَّلَاةَ لُغَةً: الدُّعَاءُ، وَالْحَجَّ: الْقَصْدُ، وَالزَّكَاةَ: النَّمَاءُ، وَالْوُضُوءَ: النَّظَافَةُ، وَلَكِنَّ الشَّرْعَ أَتَى بِفِعْلِهَا عَنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ. وَفَرَّقَ أَبُو الْحَسَنِ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، فَقَالَ: كُلُّ إيمَانٍ إسْلَامٌ، وَلَيْسَ كُلُّ إسْلَامٍ إيمَانًا، وَقَالَ: إنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ وَالْمُتَابَعَةُ لِلَّهِ فِي طَاعَاتِهِ، وَالْإِيمَانُ بِهِ، وَهُوَ الِاسْتِسْلَامُ لَهُ بِالتَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ، وَقَالَ: إنَّ الْمُنَافِقَ مُسْلِمٌ غَيْرُ مُؤْمِنٍ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَسْلِمٌ فِي الظَّاهِرِ غَيْرُ مُصَدِّقٍ فِي الْبَاطِنِ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] فَفَرَّقَ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ. اهـ.
[النَّافُونَ لِلْحَقِيقَةِ] ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّافُونَ عَلَى مَذْهَبَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهَا مُقَرَّةٌ عَلَى حَقَائِقِ اللُّغَاتِ، لَمْ تُنْقَلْ وَلَمْ يُزَدْ فِي مَعْنَاهَا، وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا أَقَرَّتْ وَزِيدَ فِي مَعْنَاهَا فِي الشَّرْعِ، وَنَقَلَاهُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ. قُلْت: وَهُوَ مَا نَصَّهُ ابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ: وَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَقْلِ الِاسْمِ عَنْ اللُّغَةِ إلَى الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا هُوَ إبَانَةُ مَوْضِعِ مَا أُرِيدَ بِإِيقَاعِهِ فِيهِ، فَالصَّلَاةُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ مَعَانِيهَا الدُّعَاءُ، وَلَمْ يَخْرُجْ بِالشَّرْعِ عَنْ مَعْنَاهُ، بَلْ أَتَى بِوَضْعِهِ الَّذِي جُعِلَ فِيهِ، فَقِيلَ: نَدْعُو عَلَى صِفَةِ كَذَا، وَلَا يَتَغَيَّرُ مَعْنَى الِاسْمِ بِذَلِكَ. اهـ.
وَيَخْرُجُ مِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ التَّفْضِيلُ بَيْنَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالِاسْمِ فَرْضٌ فَلَا يَجُوزُ نَقْلُهُ عَنْ مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ النَّقْلَ يُؤَدِّي إلَى تَغْيِيرِ الْأَحْكَامِ، وَبَيْنَ أَنْ لَا، فَلَا يَمْتَنِعُ، وَقَدْ سَبَقَ نَقْلُهُ صَرِيحًا فِي الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَائِلَهُ يَطْرُدُهُ هُنَا. الْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهَا وَاقِعَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُعْتَزِلَةِ كَمَا قَالَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ "، وَحَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَصَحَّحَهُ،
وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي كَيْفِيَّةِ وُقُوعِهَا عَلَى مَذْهَبَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهَا حَقَائِقُ وَضَعَهَا الشَّارِعُ مُبْتَكَرَةً لَمْ يُلَاحَظْ فِيهَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ أَصْلًا، وَلَيْسَ لِلْعَرَبِ فِيهَا تَصَرُّفٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ. قَالُوا: وَتَارَةً يُصَادِفُ الْوَضْعُ الشَّرْعِيُّ عَلَاقَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، فَيَكُونُ اتِّفَاقِيًّا غَيْرَ مُلْتَفَتٍ إلَيْهِ، وَتَارَةً لَا يُصَادِفُهُ، وَقَالُوا: نَقَلَ الشَّارِعُ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ مُسَمَّيَاتِهَا اللُّغَوِيَّةِ، وَابْتِدَاءً وَضْعَهَا لِهَذِهِ الْمَعَانِي، فَلَيْسَتْ حَقَائِقَ لُغَوِيَّةً، وَلَا مَجَازَاتٍ عَنْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْحَقَائِقِ اللُّغَوِيَّةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ بِأَنْ يَكُونَ اُسْتُعِيرَ لَفْظُهَا لِلْمَدْلُولِ الشَّرْعِيِّ لِعَلَاقَةٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ فِي " الْمَحْصُولِ "، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَوَسَّطَ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَرَ أَنَّ الشَّرْعَ نَقَلَهَا نَقْلًا كُلِّيًّا، فَإِنَّ مَعَانِيَ اللُّغَةِ لَا تَخْلُو مِنْهَا، وَلَا اسْتَعْمَلَهَا اسْتِعْمَالًا كُلِّيًّا، وَإِلَّا لَتَبَادَرَ الذِّهْنُ إلَى حَقَائِقِهَا اللُّغَوِيَّةِ فَلَمْ يَسْتَعْمِلْهَا فِي حَقِيقَتِهَا اللُّغَوِيَّةِ، بَلْ فِي مَجَازِهَا اللُّغَوِيِّ، فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِالْحَقِيقَةِ كَمَا يَتَكَلَّمُونَ بِالْمَجَازِ، وَمِنْ مَجَازِهَا: تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ أَجْزَائِهِ، وَالصَّلَاةُ
كَذَلِكَ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ جُزْءٌ مِنْهَا، بَلْ الْمَقْصُودُ مِنْهَا، قَالَ: فَلَمْ يَخْرُجْ اسْتِعْمَالُهُ عَنْ وَضْعِ اللُّغَةِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي ذَيْلِ الْمَسْأَلَةِ: وَهُوَ مِمَّنْ صَحَّحَ الْوُقُوعَ رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّهَا مَجَازَاتٌ شَرْعِيَّةٌ، ثُمَّ قَالَ: وَالْأَصَحُّ: أَنَّهَا حَقَائِقُ شَرْعِيَّةٌ، ثُمَّ حَقَّقَ، وَقَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْأَسْمَاءُ حَقَائِقُ شَرْعِيَّةٌ فِيهَا مَعْنَى اللُّغَةِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَخْلُو عَنْ الدُّعَاءِ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ، وَالْأَخْرَسُ نَادِرٌ، وَلِأَنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَا ذَلِكَ فَقَدْ يَخْلُو فِي بَعْضِ الْمَرْضَى عَنْ مُعْظَمِ الْأَفْعَالِ، وَبِهَذَا اللَّفْظِ لَا بَأْسَ بِهِ اهـ.
وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الشَّارِعَ تَجَوَّزَ، وَوَضَعَ اللَّفْظَ بِإِزَاءِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ وَضْعًا حَقِيقِيًّا. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: ثَبَتَ مِنْهَا قَصْرُ التَّسْمِيَةِ عَلَى بَعْضِ مُسَمَّيَاتِهَا، فَإِنَّ الصَّلَاةَ لُغَةً: الدُّعَاءُ، وَقَصَرَهُ الشَّرْعُ عَلَى دُعَاءٍ مَخْصُوصٍ، وَثَبَتَ أَيْضًا إطْلَاقُهَا عَلَى الْأَفْعَالِ مِنْ السُّجُودِ وَنَحْوِهِ تَوَسُّعًا وَاسْتِعَارَةً مِنْ الدُّعَاءِ، لِأَنَّ الدَّاعِيَ خَاضِعٌ، فَكَذَلِكَ السَّاجِدُ، فَالْمُثْبِتُ لِلنَّقْلِ إنْ أَرَادَ الْقَصْرَ أَوْ التَّجَوُّزَ فَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِهِ، وَإِنْ أَرَادَ غَيْرَهُ فَبَاطِلٌ، وَنَازَعَهُ الْمَازِرِيُّ، وَقَالَ الْقَصْرُ وَالتَّجَوُّزُ لَا تَغْيِيرَ فِيهِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ قَدْ تَقْصُرُ الشَّيْءَ عَلَى غَيْرِ مَا وَضَعَتْهُ لَهُ، وَيَصِيرُ بِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ حَقِيقَةً مَهْجُورَةً كَمَا فِي {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا تَحْرِيمُ الْوَطْءِ وَهُوَ مَجَازٌ وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: الزِّيَادَةُ عَلَى وَضْعِهِمْ تَغْيِيرٌ، فَكَذَلِكَ النَّقْصُ مِنْهُ، لِتَعَدِّيهِ إلَى غَيْرِهِ. وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ: أَنَّ الْمَوْضُوعَاتِ الشَّرْعِيَّةَ مُسَمَّيَاتٌ لَمْ تَكُنْ مَعْهُودَةً مِنْ
قَبْلُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَسَامِي تُعْرَفُ بِهَا تِلْكَ الْمُسَمَّيَاتُ، وَعِنْدَ هَذَا لَا بُدَّ مِنْ الْجَوَابِ عَنْ شُبْهَةِ الْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: هَذَا وُضِعَ ابْتِدَاءً مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ، وَنَحْنُ نَقُولُ فِي الْجَوَابِ: جَعْلُهُ عُرْفِيًّا عَلَى مِثَالِ أَهْلِ الْعُرْفِ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّ الشَّارِعَ يَضَعُ الشَّرْعِيَّاتِ أَبَدًا عَلَى وَزْنِ الْعُرْفِيَّاتِ حَتَّى تَكُونَ الطِّبَاعُ أَقْبَلَ عَلَيْهَا. الثَّانِي: أَنَّ اللَّفْظَ أُطْلِقَ وَأَمْكَنَ اعْتِبَارُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ التَّقْرِيرُ، وَفِيمَا قُلْنَاهُ تَقْرِيرٌ مِنْ وَجْهٍ، وَعِنْدَ هَذَا يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ وَالْخَبَرِ؛ لِأَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْإِيمَانِ عَنْ الصَّلَاةِ، وَبِالصَّلَاةِ عَنْ الْإِيمَانِ، إنَّمَا كَانَ لِنَوْعِ تَعَلُّقٍ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ دَلِيلُ الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ شَرْطُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَفِي اللُّغَةِ يَجُوزُ التَّعْبِيرُ بِأَحَدِ الْمُتَعَلِّقَيْنِ عَنْ الْآخَرِ. وَمِنْ فَوَائِدِ هَذَا الْخِلَافِ الثَّانِي أَنَّهُ هَلْ يَحْتَاجُ الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ إلَى عَلَاقَةٍ أَمْ لَا؟ فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَحْتَاجُ، وَعَلَى الثَّانِي نَعَمْ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ مِنْ " الْحَاوِي ": وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الشَّرْعَ لَاحَظَ فِيهَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ. قُلْت: وَنَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي " الْأُمِّ " صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا مَجَازَاتٌ لُغَوِيَّةٌ، قَالَهُ ابْنُ اللَّبَّانِ فِي تَرْتِيبِ الْأُمِّ ".
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُثْبِتُونَ فِي وُقُوعِ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّهُ هَلْ وَقَعَ النَّقْلُ فِيهَا مُطْلَقًا سَوَاءٌ تَعَلَّقَتْ بِأُصُولِ الدِّينِ كَالْإِيمَانِ أَوْ فُرُوعِهِ أَوْ إنَّمَا وَقَعَ فِي فُرُوعِهِ فَقَطْ؟ فَذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ إلَى الْأَوَّلِ إلَّا أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا فِي التَّسْمِيَةِ، فَخَصُّوا اللَّفْظَ الْمُتَعَلِّقَ بِالْفُرُوعِ بِالشَّرْعِيِّ،
وَبِالْأُصُولِ بِالدِّينِيِّ، وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ إلَى أَنَّ النَّقْلَ إنَّمَا وَقَعَ فِي فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ فَقَطْ، وَهُوَ رَأْيُ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي " شَرْحِ اللُّمَعِ " وَابْنُ الصَّبَّاغِ، فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْفَرْعِيَّةَ مَحَلُّ وِفَاقٍ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الدِّينِيَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ فَحَكَى الْخِلَافَ فِي الشَّرْعِيَّةِ وَالْقَطْعَ بِالْمَنْعِ فِي الدِّينِيَّةِ، وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي " الْقَوَاطِعِ ": وَصُورَةُ الْخِلَافِ فِي الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْمَشْهُورُ: الْأَوَّلُ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ مِنْ النَّاس مَنْ نَفَى النَّقْلَ مُطْلَقًا فِي الدِّينِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ كَالْقَاضِي، وَمَنْ أَثْبَتَهُ مُطْلَقًا كَالْمُعْتَزِلَةِ، وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الدِّينِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ، فَأَثْبَتَ الشَّرْعِيَّةَ وَنَفَى الدِّينِيَّةَ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِعَكْسِهِ، فَالْقَاضِي يَقُولُ: إنَّهَا مُقَرَّةٌ عَلَى حَقَائِقِهَا فِي اللُّغَةِ لَمْ تُنْقَلْ وَلَمْ يُزَدْ فِيهَا، وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَقُولُ: كَذَلِكَ زِيدَ فِي الِاعْتِدَادِ بِمَدْلُولَاتِهَا أُمُورٌ أُخْرَى. وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ يَقُولُ: إنَّهَا مُقَرَّةٌ عَلَى مَجَازَاتِهَا اللُّغَوِيَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ يَقُولُونَ: نُقِلَتْ عَنْ مَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّةِ نَقْلًا بِالْكُلِّيَّةِ إلَى مَعَانٍ أُخْرَى شَرْعِيَّةٍ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ النَّقْلِ إلَى الْمَجَازِ اللُّغَوِيِّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ يَقُولَانِ: اسْتَعْمَلَهَا الشَّارِعُ مَجَازَاتٍ ثُمَّ اُشْتُهِرَتْ فَصَارَتْ حَقَائِقَ شَرْعِيَّةً، لِغَلَبَتِهَا فِيمَا نُقِلَتْ إلَيْهِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ الرَّازِيَّ، وَلِهَذَا نَقَلَ الْهِنْدِيُّ عَنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثِ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا مِنْ الْمَنْقُولَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مَا كَانَ لُغَوِيًّا كَمَا فِي الْحَقَائِقِ الْعُرْفِيَّةِ دُونَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، بِأَنْ كَانَ مَنْقُولًا عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلِيَّيْنِ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ نَفَى النَّقْلَ جُمْلَةً، وَأَمَّا
مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَشْتَرِطُوا فِي النَّقْلِ أَنْ يَكُونَ الْمَنْقُولُ إلَيْهِ مَجَازًا لُغَوِيًّا. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: عِنْدَنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ مَجَازَاتٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَضْعِ اللُّغَةِ، فَإِنَّهُ أُفِيدَ بِهَا مَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ، وَهِيَ حَقَائِقُ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَضْعِ الشَّرْعِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَضَعْهَا إلَّا لِتِلْكَ الْمَعَانِي، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ حَقِيقَةً وَمَجَازًا بِاعْتِبَارَيْنِ. وَتَوَقَّفَ الْآمِدِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ فَلَمْ يَخْتَرْ شَيْئًا.
تَنْبِيهَانِ [التَّنْبِيهُ] الْأَوَّلُ هَذَا الْخِلَافُ يَضْمَحِلُّ إذَا حُقِّقَ الْأَمْرُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ يُسْتَفَادُ مِنْهَا فِي الشَّرْعِ زِيَادَةٌ عَلَى أَصْلِ وَضْعِ اللُّغَةِ لَكِنْ اخْتَلَفُوا هَلْ ذَلِكَ الْمَعْنَى يُصَيِّرُ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ مَوْضُوعَةً كَالْوَضْعِ الِابْتِدَائِيِّ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ، أَوْ هِيَ مُبْقَاةٌ عَلَى الشَّرْعِ، أَوْ هِيَ مُبْقَاةٌ عَلَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، وَالشَّرْعُ إنَّمَا تَصَرَّفَ فِي شُرُوطِهَا وَأَحْكَامِهَا؟ فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ، وَإِذَا قُلْنَا بِأَنَّ الشَّارِعَ تَصَرَّفَ فِيهَا، فَذَكَرَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ مِنْ " تَعْلِيقِهِ " كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ، فَقَالَ: الْأَسْمَاءُ الَّتِي نَقَلَهَا الشَّارِعُ مِنْ اللُّغَةِ إلَى الشَّرْعِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا زَادَ فِيهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَالصَّلَاةِ، فَإِنَّهَا فِي اللُّغَةِ الدُّعَاءُ، فَأَبْقَاهَا الشَّارِعُ عَلَى مَعْنَى الدُّعَاءِ، وَزَادَ الْقِرَاءَةَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ. وَالثَّانِي: مَا نَقَصَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَالْحَجِّ فَإِنَّهُ فِي اللُّغَةِ الْقَصْدُ، وَفِي الشَّرْعِ: الْقَصْدُ إلَى بَيْتِهِ الْحَرَامِ.
الثَّالِثُ: مَا نَقَصَ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ وَزَادَ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ كَالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ فِي اللُّغَةِ الْإِمْسَاكُ، وَفِي الشَّرْعِ: إمْسَاكٌ مَخْصُوصٌ مَعَ شُرُوطٍ وَالنِّيَّةِ وَغَيْرِهَا. [التَّنْبِيهُ] الثَّانِي إذَا أَثْبَتْنَا النَّقْلَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَكَلَّمَ الشَّارِعُ بِالِاسْمِ الشَّرْعِيِّ، وَنَعْنِي بِهِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيَّ، وَنَعْلَمُ أَنَّهُ عَنَى بِبَيَانٍ مُتَقَدِّمٍ، أَوْ مُقَارَنٍ، إنْ مَنَعْنَا تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ، أَوْ بَيَانٍ مُتَأَخِّرٍ إنْ جَوَّزْنَاهُ.
الْبَحْثُ الْخَامِسُ فِي تَبَيُّنِ الْمُرَادِ بِالدِّينِيِّ وَالشَّرْعِيِّ: قَسَّمَتْ الْمُعْتَزِلَةُ اللَّفْظَ إلَى دِينِيٍّ وَشَرْعِيٍّ فَالْأَسْمَاءُ الدِّينِيَّةُ ثَلَاثَةٌ: الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ وَالْفِسْقُ، وَهِيَ عِنْدَهُمْ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الشَّرْعِ فِي غَيْرِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ حَقِيقَةً وَمَجَازًا، وَغَرَضُهُمْ أَنَّ الشَّرْعَ اسْتَعْمَلَهَا فِي غَيْرِ مَا اسْتَعْمَلَهَا الْوَاضِعُ اللُّغَوِيُّ؛ وَلِهَذَا أَثْبَتُوا الْوَاسِطَةَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ. وَأَمَّا الشَّرْعِيَّةُ فَهِيَ عِنْدَهُمْ أَسْمَاءٌ لُغَوِيَّةٌ نُقِلَتْ فِي الشَّرْعِ عَنْ أَصْلِ وَضْعِهَا إلَى أَحْكَامٍ شَرْعِيَّةٍ، كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ، فَزَعَمُوا أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ إنَّمَا حَدَثَتْ فِي الشَّرْعِ، نُقِلَتْ إلَيْهَا هَذِهِ الْأَسْمَاءُ مِنْ اللُّغَةِ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَفْسِيرِ الدِّينِيَّةِ صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي فِي " الْقَرِيبِ "، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيصِ " " وَالْبُرْهَانُ " وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَفِي " الْمَحْصُولِ " عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ: أَنَّ الشَّرْعِيَّةَ تَخْتَصُّ بِأَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَالدِّينِيَّةُ بِأَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ كَالْمُؤْمِنِ وَالْفَاسِقِ، وَقَضِيَّتُهُ:
أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ دَاخِلٌ فِي الشَّرْعِيِّ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ وَالْفِسْقُ فِي الشَّرْعِيَّةِ، وَيَخْرُجُ عَنْ الدِّينِيَّةِ، وَأَنَّ أَسْمَاءَ الْفَاعِلِينَ كُلَّهَا دِينِيَّةٌ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُصَلِّي وَالْمُزَكِّي، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُمَا تَابِعَانِ لِلصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّهُمَا شَرْعِيَّانِ، وَالْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ أَصْلٌ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فَهُمَا مِنْ الدِّينِيَّةِ. وَالصَّوَابُ: أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا عَمَلِيَّةٌ، وَهِيَ الشَّرْعِيَّةُ، أَوْ اعْتِقَادِيَّةٌ وَهِيَ الدِّينِيَّةُ.
الْبَحْثُ السَّادِسُ: أَنَّ الشَّرْعِيَّةَ تُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: مَا فِي كَلَامِ الشَّارِعِ، وَمَا فِي كَلَامِ حَمَلَةِ الشَّرْعِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَهَذَا الْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى كَلَامِ الشَّارِعِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُتَشَرِّعَةِ فَلَيْسَتْ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً بَلْ عُرْفِيَّةً، وَلَيْسَتْ مِنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ فِي شَيْءٍ، وَلَمْ أَرَ مَنْ نَبَّهَ عَلَى الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ غَيْرَ الْقَاضِي عَضُدِ الدِّينِ رحمه الله. الْبَحْثُ السَّابِعُ: أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ تَرْجَمَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِأَنَّ الْحَقِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ هَلْ هِيَ وَاقِعَةٌ أَمْ لَا كَمَا فِي " الْمَحْصُولِ "، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرْجَمَهَا بِالْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ كَمَا عَبَّرَ بِهِ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي " الْمُنْتَهَى "، وَالْبَيْضَاوِيُّ فِي مِنْهَاجِهِ "، وَهُوَ الصَّوَابُ، لِيَشْمَلَ كُلًّا مِنْ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْمَجَازَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّ الْبَحْثَ جَارٍ فِيهِمَا وِفَاقًا وَخِلَافًا.
الْبَحْثُ الثَّامِنُ: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: هَذِهِ أَوَّلُ مَسْأَلَةٍ نَشَأَتْ فِي
الِاعْتِزَالِ، وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ بِمَنْزِلَةٍ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، أَيْ جَعَلُوا الْفِسْقَ مَنْزِلَةً مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّ الْإِيمَانَ فِي اللُّغَةِ التَّصْدِيقُ، وَالْفَاسِقُ مُوَحِّدٌ وَمُصَدِّقٌ، فَقَالُوا: هَذِهِ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ فِي اللُّغَةِ، وَنُقِلَ فِي الشَّرْعِ إلَى مَنْ يَرْتَكِبُ شَيْئًا مِنْ الْمَعَاصِي. فَمَنْ ارْتَكَبَ شَيْئًا مِنْهَا خَرَجَ عَنْ الْإِيمَانِ، وَلَمْ يَبْلُغْ الْكُفْرَ، ثُمَّ أَجَازَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ أَنَّ الْإِيمَانَ يَبْقَى عَلَى مَوْضُوعِهِ فِي اللُّغَةِ، وَأَنَّ الْأَلْفَاظَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَنْقُولَةٌ، قَالَ: وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ النَّقْلِ أَنْ يَكُونَ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ عَلَى حَسَبِ مَا يَقُومُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ. وَنَقَلَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّارِعَ نَقَلَ الْإِيمَانَ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ إلَى الشَّرْعِيِّ بِأَنَّهُ نَقَلَ الصَّلَاةَ وَالْحَجَّ وَنَحْوَهُمَا إلَى مَعَانٍ أُخْرَى قَالَ: فَمَا بَالُ الْإِيمَانِ؟ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ الْخِلَافِ بِالْإِيمَانِ، وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ النِّزَاعُ فِي ظُهُورِ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: حَرْفُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْقَضَاءَ بِنَقْلِ الْأَسَامِي لَا يُفْضِي إلَى تَفْسِيقِ الصَّحَابَةِ، وَلَا إلَى خُرُوجِ الْفَاسِقِ إلَى الْإِيمَانِ، وَعِنْدَهُمْ يُفْضِي إلَى ذَلِكَ
الْبَحْثُ التَّاسِعُ: أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَظْهَرُ فَائِدَتُهُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ. إحْدَاهُمَا وَهُوَ أَصْلُهُ أَنَّهُ هَلْ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَاسِطَةٌ وَهُوَ الْفِسْقُ أَمْ لَا؟ فَأَهْلُ السُّنَّةِ لَا يُثْبِتُونَهُ، وَأَثْبَتَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ قَائِلِينَ بِأَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وَلَا
كَافِرٍ، أَمَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِكَافِرٍ فَبِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ فَلِأَنَّ الْإِيمَانَ فِعْلُ الْوَاجِبِ الَّذِي مِنْهُ كَفُّ النَّفْسِ عَنْ الشَّهَوَاتِ، وَقَدْ أَخَلَّ بِهِ فَرَأَوْا أَنَّ التَّعْبِيرَ بِالتَّسْمِيَةِ وَقَعَ مِنْ الشَّرْعِ، وَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَعْنًى لَمْ تُرِدْهُ الْعَرَبُ، وَحَمَلُوا عَلَى ذَلِكَ ظَوَاهِرَ الْأَحَادِيثِ النَّافِيَةِ لِلْإِيمَانِ عَنْ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ، نَحْوَ:«لَا يَزْنِي الزَّانِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» وَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ نَفْيَ التَّصْدِيقِ. وَأَمَّا الْأَشْعَرِيَّةُ فَيُؤَوِّلُونَهُ عَلَى الْمُسْتَحِيلِ وَغَيْرِهِ، وَمَنَعُوا كَوْنَ الشَّرْعِ غَيْرَ اللُّغَةِ، بَلْ التَّصْدِيقُ بَاقٍ فِيهِ، وَقَالُوا: صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ مُطِيعٌ بِإِيمَانِهِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْأَسْمَاءِ الْفَرْعِيَّةِ، كَمَنْ صَلَّى بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ، فَمَنْ رَأَى أَنَّهَا بَاطِلَةٌ قَالَ: إنَّهُ مَا أَتَى بِمَا يُسَمَّى صَلَاةً فِي اللُّغَةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] وَمَنْ صَحَّحَهَا قَالَ: دُعَاءُ الشَّرْعِ غَيْرُ دُعَاءِ اللُّغَةِ، وَكَذَا الْبَاقِي. وَاسْتَشْكَلَ الْإِمَامُ فِي الْمَعَالِمِ " عَلَى الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْقَاعِدَةَ: أَنَّ الْمَاهِيَّةَ الْمُرَكَّبَةَ تَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ مُرَكَّبَةٌ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ وَاعْتِقَادٍ، فَيَنْبَغِي إذَا انْتَفَى الْعَمَلُ أَنْ يَنْتَفِيَ الْإِيمَانُ، قَالَ: وَهُوَ سُؤَالٌ صَعْبٌ، وَلِأَجْلِهِ طَرَدَتْ الْمُعْتَزِلَةُ مَذْهَبَهُمْ فَسَلَبُوا الْإِيمَانَ عَنْهُ. وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الشُّبْهَةَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ فِي كِتَابِ تَعْظِيمِ قَدْرِ الصَّلَاةِ " وَأَجَابَ عَنْهَا: بِأَنَّ لِلْإِيمَانِ أَصْلًا مَتَى نَقَصَ عَنْهُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ زَالَ عَنْهُ اسْمُ الْإِيمَانِ، وَقَوْلُهُ: يَنْقُصُ لَمْ يَزُلْ الِاسْمُ، وَلَكِنْ يَزْدَادُ بَعْدُ إيمَانًا إلَى إيمَانِهِ، فَإِنْ نَقَصَتْ الزِّيَادَةُ الَّتِي بَعْدَ الْأَصْلِ لَمْ يَنْقُصْ الْأَصْلُ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ، وَذَلِكَ كَنَخْلَةٍ تَامَّةٍ ذَاتِ أَغْصَانٍ وَوَرَقٍ، فَكُلَّمَا قُطِعَ مِنْهَا غُصْنٌ
لَمْ يَزُلْ عَنْهَا اسْمُ الشَّجَرَةِ، وَكَانَتْ دُونَ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْكَمَالِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزُولَ اسْمُهَا، وَهِيَ شَجَرَةٌ نَاقِصَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِهَا مِنْ اسْتِكْمَالِهَا التَّامَّةَ
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ إذَا وُجِدَتْ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ مُجَرَّدَةً عَنْ الْقَرِينَةِ مُحْتَمِلَةً الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ وَالشَّرْعِيَّ فَعَلَى أَيِّهِمَا يُحْمَلُ؟ فَمَنْ أَثْبَتَ النَّقْلَ قَالَ: إنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى عُرْفِ الشَّارِعِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ كُلَّ مُتَكَلِّمٍ يُحْمَلُ لَفْظُهُ عَلَى عُرْفِهِ، وَقِيَاسُهُ قَوْلُ الْقَاضِي: حَمْلُهَا عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، لَكِنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ الْقَاضِي أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ، وَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى أَصْلِهِ هُنَا. قَالَ الْإِبْيَارِيُّ: قَوْلُ الْقَاضِي: إنَّهُ مُجْمَلٌ يُنَاقِضُ مَذْهَبَهُ فِي حُجَّةِ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ قَوْلٌ آخَرُ بِإِثْبَاتِهَا، وَإِلَّا فَالْإِجْمَالُ مَعَ اتِّحَادِ جِهَةِ الدَّلَالَةِ مُحَالٌ، أَوْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُثْبِتُهَا، وَهَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّهُ مِنْ أَيْنَ لَهُ الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ؟ فَإِنَّهُمْ يُسَوُّونَ بَيْنَ النِّسْبَةِ إلَى الْمُسَمَّيَيْنِ. قُلْت: وَبِهَذَا الْأَخِيرِ صَرَّحَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " فَقَالَ: فَإِنْ قِيلَ: مَا تَقُولُونَ لَوْ ثَبَتَ أَسْمَاءٌ شَرْعِيَّةٌ هَلْ تُحْمَلُ عَلَى مُوجِبِ اللُّغَةِ أَوْ الشَّرْعِ؟ قُلْنَا: يَجِبُ الْوَقْفُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا مَا هُوَ لَهَا فِي اللُّغَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مَا هُوَ فِي الشَّرْعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ الْأَمْرَيْنِ، فَيَجِبُ لِتَجْوِيزِ ذَلِكَ الْوَقْفِ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى الْمُرَادِ.
وَقَالَ السُّهْرَوَرْدِيّ: تَرَدَّدَ الْقَاضِي بَيْنَ نَفْيِ الْكَمَالِ وَالصِّحَّةِ لَيْسَ لِاعْتِرَافِهِ بِاللُّغَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، بَلْ لِأَنَّهُ يَرَى الْإِضْمَارَ، وَلَا تَعَيُّنَ لِأَحَدِ الْإِضْمَارَيْنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّرْعِيَّةَ تُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: مَا فِي كَلَامِ الشَّارِعِ، وَمَا فِي
كَلَامِ حَمَلَةِ الشَّرْعِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَهَذَا الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الشَّرْعِيَّةِ، إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى كَلَامِ الشَّارِعِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّرْعِيَّةِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ لَا حَاجَةَ لَهُمْ فِيهَا إلَى الْقَرِينَةِ كَمَا هُوَ حُكْمُ الْحَقَائِقِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي " الْحَاوِي " فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَنَّ لَفْظَ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا هَلْ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ إلَّا بِالشَّرْعِ، أَوْ هُوَ ظَاهِرٌ قَبْلَ وُرُودِ الْبَيَانِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَبَنَوْا عَلَيْهِمَا أَنَّ اسْمَ الصَّلَاةِ هَلْ جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ كَمَا جَاءَ بِبَيَانِ الْحُكْمِ، أَوْ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَالشَّرْعُ اخْتَصَّ بِبَيَانِ الْأَحْكَامِ؟ فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ قَالَ: إنَّ الشَّرْعَ أَحْدَثَ الِاسْمَ كَالْحُكْمِ، وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي قَالَ: إنَّ الِاسْمَ مَأْخُوذٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَالْبَيَانُ مِنْ الشَّرْعِ. وَقَالَ أَيْضًا: اخْتَلَفُوا فِي اسْمِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ هَلْ جَاءَ بِبَيَانِ الشَّرْعِ كَمَا جَاءَ بِبَيَانِ الْحُكْمِ، كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَالشَّرْعُ اخْتَصَّ بِبَيَانِ الْحُكْمِ؟ عَلَى ثَلَاثِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَحْدَثُ الْأَسْمَاءِ شَرْعًا كَالْأَحْكَامِ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اسْمَ الصَّلَاةِ مُجْمَلٌ، فَجَعَلَهُ مُسْتَحْدَثًا بِالشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّرْعَ مُخْتَصٌّ بِوُرُودِ الْأَحْكَامِ، وَإِنَّمَا الْأَسْمَاءُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ؛ لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ لَوْ وَرَدَتْ شَرْعًا لَصَارُوا مُخَاطَبِينَ بِمَا لَيْسَ مِنْ لُغَتِهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهَا لَيْسَتْ بِمُجْمَلَةٍ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَكَافَّةِ أَهْلِ اللُّغَةِ: أَنَّهَا أَسْمَاءٌ قَدْ كَانَ لَهَا فِي اللُّغَةِ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ، فَكَانَ حَقِيقَتُهَا مَا نَقَلَهَا الشَّرْعُ عَنْهُ، وَمَجَازُهَا مَا قَرَّرَهَا الشَّرْعُ عَلَيْهِ لِوُجُودِ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْحَقِيقَةِ، فَعَلَى هَذَا سُمِّيَتْ صَلَاةً لِمَا تَضَمَّنَتْ مِنْ الدُّعَاءِ هُوَ مُسَمًّى فِي اللُّغَةِ صَلَاةً.
مَسْأَلَةٌ كَمَا زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ بَعْضَ الْأَسْمَاءِ اسْتَعْمَلَهُ الشَّارِعُ فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ، زَعَمَ آخَرُونَ أَنَّهُ وَرَدَ فِيهِ كَلِمَاتٌ لَيْسَتْ بِصِيَغٍ عَرَبِيَّةٍ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْمُعَرَّبِ - بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا - مَا أَصْلُهُ عَجَمِيٌّ ثُمَّ، عُرِّبَ اسْتَعْمَلَتْهُ الْعَرَبُ عَلَى نَحْوِ اسْتِعْمَالِهَا لِكَلَامِهَا، فَقِيلَ: مُعَرَّبٌ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْعَجَمِيِّ وَالْعَرَبِيِّ، وَهُوَ عَكْسُ الْمَجَازِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالُ الْمَعْنَى بِغَيْرِ اللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لَهُ فِي تِلْكَ اللُّغَةِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ وَاقِعٌ فِي اللُّغَةِ، وَفِي وُقُوعِهِ فِي الْقُرْآنِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى إثْبَاتِ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَمَنْ أَثْبَتَهَا وَجَعَلَهَا مَجَازَاتٍ لُغَوِيَّةٍ، لَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ غَيْرُ عَرَبِيٍّ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: لَيْسَ هَذَا الْخِلَافُ مَعَ مَنْ يَقُولُ فِي الشَّرِيعَةِ أَسْمَاءٌ مَنْقُولَةٌ مِنْ اللُّغَةِ إلَى الشَّرْعِ بَلْ ذَاكَ فَنٌّ آخَرُ، وَقَدْ أَثْبَتَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمْ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَنَفَاهُ الْأَكْثَرُونَ، مِنْهُمْ الْإِمَامُ وَأَتْبَاعُهُ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَأَبُو بَكْرٍ الْقَفَّالُ كَمَا رَأَيْته فِي كِتَابِهِ، وَأَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ قَالَ: وَعَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي فِقْهِ اللُّغَةِ ": وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَعُزِيَ إلَى الشَّافِعِيِّ. قُلْت: نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ " فِي الْبَابِ الْخَامِسِ، فَقَالَ: وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي الْعِلْمِ مَنْ لَوْ أَمْسَكَ عَنْ بَعْضِ مَا تَكَلَّمَ فِيهِ لَكَانَ الْإِمْسَاكُ أَوْلَى لَهُ، فَقَالَ مِنْهُمْ قَائِلٌ: إنَّ فِي الْقُرْآنِ عَرَبِيًّا وَأَعْجَمِيًّا، وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ إلَّا بِلِسَانِ الْعَرَبِ، وَوَجَدْنَا قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ قَبْلِ
ذَلِكَ مِنْهُ تَقْلِيدًا، وَتَرْكًا لِلْمَسْأَلَةِ لَهُ عَنْ حُجَّةٍ، وَمَسْأَلَةِ غَيْرِهِ مِمَّنْ خَالَفَهُ، وَبِالتَّقْلِيدِ أَغْفَلَ مَنْ أَغْفَلَ مِنْهُمْ، وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَنَا وَلَهُمْ. اهـ.
وَقَدْ نَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فِي تَعْلِيقِهِ " فِي أُصُولِ الْفِقْهِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي " الرِّسَالَةِ "، ثُمَّ قَالَ: الَّذِي عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَعَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ بِلِسَانِ الْعَرَبِ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ غَيْرُ الْعَرَبِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُتَكَلِّمِينَ بِأَسْرِهِمْ ثُمَّ نَصَرَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُثْبِتِينَ لَهُ كِبَارٌ، فَيَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلِ كَلَامِهِمْ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ ": لَعَلَّ قَائِلَهُ أَرَادَ أَنَّ فِيهِ مَا يَجْهَلُ مَعْنَاهُ بَعْضُ الْعَرَبِ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ لَمَّا سَمِعَ {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] : لَا أَدْرَى مَا الْأَبُّ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا كُنْت أَدْرِي مَعْنَى {افْتَحْ بَيْنَنَا} [الأعراف: 89] حَتَّى سَمِعْت أَعْرَابِيَّةً تَقُولُ: تَعَالَ أُفَاتِحْك إلَى الْقَاضِي. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ غَيْرَ مَعْلُومٍ لِوَاحِدٍ أَوْ اثْنَيْنِ أَنْ لَا يَكُونَ عَرَبِيًّا. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَرَادَ أَعْجَمِيًّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَصْلَ اسْتِعْمَالِهَا فِي كَلَامِ الْعَجَمِ، فَحَوَّلَتْهَا الْعَرَبُ إلَى لُغَتِهِمْ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ فِي غَرِيبِهِ "، فَنَقَلَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى أَنَّهُ قَالَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ لِسَانًا سِوَى الْعَرَبِيَّةِ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْقَوْلَ، وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ فِيهِ مِنْ غَيْرِ لِسَانِ الْعَرَبِ. مِثْلَ:" سِجِّيلٍ "" وَمِشْكَاةٍ "" وَالْيَمِّ "" وَ " الطُّورِ " وَ " أَبَارِيقَ " وَ " إسْتَبْرَقٍ " وَغَيْرِ ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ: وَهَؤُلَاءِ أَعْلَمُ مِنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَلَكِنَّهُمْ ذَهَبُوا إلَى مَذْهَبٍ، وَذَهَبَ هُوَ إلَى غَيْرِهِ، وَكِلَاهُمَا مُصِيبٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ بِغَيْرِ لِسَانِ الْعَرَبِ فِي الْأَصْلِ، فَقَالَ أُولَئِكَ عَلَى الْأَصْلِ، ثُمَّ لَفَظَتْ بِهِ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا، فَعَرَّبَتْهَا فَصَارَ عَرَبِيًّا بِتَعْرِيبِهَا إيَّاهُ، فَهِيَ عَرَبِيَّةٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَعْجَمِيَّةُ الْأَصْلِ، فَهَذَا الْقَوْلُ يُصَدِّقُ الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا. اهـ.
وَقَالَ ابْنُ خَرُوفٍ النَّحْوِيُّ: جَمِيعُهَا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِنْ أَرْبَابِ اللِّسَانِ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا أَعْجَمِيَّاتٌ تَلَقَّتْهَا الْعَرَبُ وَعَمِلَتْ بِهَا، وَأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ مَلْآنُ مِنْ ذَلِكَ مِثْلَ:" إبْرَاهِيمَ "، " وَإِسْحَاقَ "، " وَيَعْقُوبَ "، " وَجِبْرِيلَ "، " وَيُوسُفَ "، " وَيُونُسَ "، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ " كِتَابِهِ " فِيمَا لَا يَنْصَرِفُ، وَفِي النَّسَبِ وَالْأَمْثِلَةِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَإِنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ مَحْجُوجٌ، فَإِنَّهُ مُجْمِعٌ مَعَهُمْ عَلَى أَنَّ كَلَامَ الْعَرَبِ مَلْآنُ مِنْ ذَلِكَ، وَالْأَعْلَامُ أَعْجَمِيَّةٌ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ أَعْجَمِيَّةٌ، وَفِي الْقُرْآنِ عَرَبِيَّةٌ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْأَعْجَمِيَّةِ مُعَرَّبَةٌ فَصِيحَةٌ، وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ كَلِمَةً وَاحِدَةً أَعْجَمِيَّةً لَا تُعْرِبُهَا الْعَرَبُ، وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِالْأَعْلَامِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَشَيْخُهُ الْإِبْيَارِيُّ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ، فَإِنَّ الْخِلَافَ فِي غَيْرِ الْأَعْلَامِ كَاللِّجَامِ وَالْفِرِنْدِ.
أَمَّا فِيهَا فَلَا، وَلِهَذَا اتَّفَقُوا عَلَى مَنْعِ صَرْفِ نَحْوِ إبْرَاهِيمَ لِلْعَجَمِيَّةِ وَالْعَلَمِيَّةِ.
تَنْبِيهٌ قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي وُقُوعِ الْمُعَرَّبِ فِي اللُّغَةِ، وَأَطْلَقُوا هَذَا إطْلَاقًا، وَذَكَرَ حَازِمٌ فِي " مِنْهَاجِ الْبُلَغَاءِ " تَقْسِيمًا حَسَنًا، فَقَالَ: إنْ كَانَ اللَّفْظُ غَيْرَ مَوْجُودٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ اسْمًا أَوْ فِعْلًا أَوْ حَرْفًا، فَإِنْ كَانَ فِعْلًا أَوْ حَرْفًا، فَلَا يَجُوزُ إيقَاعُهُ أَلْبَتَّةَ فِيمَا أُجْرِيَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى قَوَانِينِ الْعَرَبِ وَمَجَارِي كَلَامِهَا، وَإِنْ كَانَ اسْمًا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ لِمُسَمَّاهُ اسْمٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ فَلَا يَخْلُوَا إمَّا أَنْ يَكُونَ الِاسْمَانِ الْعَرَبِيُّ وَالْعَجَمِيُّ عَلَمَيْنِ عَلَى الْمُسَمَّى أَوْ نَكِرَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَا عَلَمَيْنِ جَازَ تَعْرِيبُ الْعَجَمِيِّ، وَإِنْ كَانَا نَكِرَتَيْنِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ غَيْرِ الْعَرَبِيِّ؛ إذْ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ عَرَبِيٍّ أَنْ يُعَرِّبَ غَيْرَ الْأَعْلَامِ. وَأَعْنِي بِالتَّعْرِيبِ: أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِيمَا أَجْرَى مِنْ الْكَلَامِ عَلَى قَوَانِينِ كَلَامِ الْعَرَبِ بِأَنْ يُلْحِقَهُ لَوَاحِقَ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُسَمَّى اسْمٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَجَائِزٌ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الِاسْمَ الَّذِي لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ حَيْثُ يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الِاسْمُ مِنْ وَضْعِ مَنْ لَا يَتَكَلَّمُ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ عَلَى وَجْهِهِ، أَوْ كَانَ وَاقِفًا فِي بَعْضِ أَلْسُنِ الْعَجَمِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الِاسْمُ يَعْرِفُهُ أَهْلُ زَمَانِ مَنْ يُرِيدُ اسْتِعْمَالَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مَعْرِفَةً أَوْ نَكِرَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ غَيْرَ الْعَلَمِ الَّذِي لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ لَا يَجُوزُ تَعْرِيبُهُ مَعَ وُجْدَانِ الْبَدَلِ مِنْهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَإِنْ كَانَتْ الْعَرَبُ قَدْ عَرَّبَتْ أَسْمَاءً أَعْجَمِيَّةً نَكِرَاتٍ، فَذَلِكَ شَيْءٌ مَقْصُورٌ عَلَيْهَا، وَلَعَلَّهُمْ أَيْضًا إنَّمَا عَرَّبُوهَا، وَلَيْسَ فِي كَلَامِهِمْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا، فَيَكُونُ وَجْهُ تَعْرِيبِهِمْ إيَّاهَا الْوَجْهَ الَّذِي اسْتَنْسَبُوا مَعَهُ لِلْمُحْدَثِ أَنْ يُعَرِّبَ النَّكِرَةَ حَيْثُ لَا يَجِدَ بَدَلًا مِنْهَا.
فَأَمَّا الْعَلَمُ فَسَائِغٌ لِلْمُحْدَثِ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فِيمَا يُعَرِّبُ مِنْ كَلَامِهِ وَجَدَ بَدَلًا مِنْهُ أَمْ لَا. فَائِدَةٌ قَالَ الثَّعَالِبِيُّ فِي " فِقْهِ اللُّغَةِ ": فَصْلٌ فِي ذِكْرِ أَسْمَاءٍ قَائِمَةٍ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَالْفُرْسِ عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ: " التَّنُّورُ "، " الْخَمِيرُ "، " الرُّمَّانُ "، " اللَّبَنُ "، " الدِّينَارُ "" الدِّرْهَمُ ".
فَصْلٌ فِي أَسْمَاءٍ تَفَرَّدَتْ بِهَا الْفُرْسُ دُونَ الْعَرَبِ وَاضْطُرَّتْ الْعَرَبُ إلَى تَعْرِيبِهَا أَوْ تَرْكِهَا كَمَا هِيَ. فَمِنْهَا مِنْ الْأَوَانِي: " الْكُوزُ "، " الْجَرَّةُ "، " الْإِبْرِيقُ "، " الطَّشْتُ "، " الْخُوَانُ "، " الطَّبَقُ "، " الْقَصْعَةُ "، " السُّكْرُجَةُ ".
وَمِنْ الْمَلَابِسِ: " السُّمُورُ "، " السِّنْجَابُ "، " الْخَزُّ "،