الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَمَّا الشَّرْعِيَّةُ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَحِينَئِذٍ دَلِيلُهُمْ لَا يَمَسُّ مَحَلَّ النِّزَاعِ وَيَرْجِعُ الْخِلَافُ لَفْظِيًّا.
[النَّهْيُ الَّذِي لِلتَّنْزِيهِ لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ]
[النَّهْيُ الَّذِي لِلتَّنْزِيهِ لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ] الْأَمْرُ الرَّابِعُ: أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ أَوْ لَا؟ إنَّمَا هُوَ النَّهْيُ الَّذِي لِلتَّحْرِيمِ لِمَا بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالتَّحْرِيمِ مِنْ التَّضَادِّ، أَمَّا النَّهْيُ الَّذِي لِلتَّنْزِيهِ، فَقَالَ الْهِنْدِيُّ فِي النِّهَايَةِ ": لَا خِلَافَ عَلَى مَا يُشْعِرُ بِهِ كَلَامُهُمْ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ انْتَهَى. أَيْ: لَا خِلَافَ فِي عَدَمِ اقْتِضَائِهِ الْفَسَادَ؛ إذْ لَا تَضَادَّ بَيْنَ الِاعْتِدَادِ بِالشَّيْءِ مَعَ كَوْنِهِ مَكْرُوهًا، وَعَلَى ذَلِكَ بَنَى أَصْحَابُنَا صِحَّةَ الصَّلَاةِ فِي الْحَمَّامِ وَأَعْطَانِ الْإِبِلِ وَالْمَقْبَرَةِ وَنَحْوِهِ مَعَ الْقَوْلِ بِكَرَاهَتِهَا، لَكِنْ صَرَّحَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى " بِجَرَيَانِهِ فِي نَهْيِ الْكَرَاهَةِ.
قَالَ: كَمَا يَتَضَادُّ الْحَرَامُ وَالْوَاجِبُ يَتَضَادُّ الْمَكْرُوهُ وَالْوَاجِبُ حَتَّى لَا يَكُونَ الشَّيْءُ وَاجِبًا مَكْرُوهًا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ الْمَكْرُوهَ مَطْلُوبُ التَّرْكِ، وَالصِّحَّةُ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ فَلَا يُمْكِنُ كَوْنُهُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ طَلَبَ تَرْكِهِ يُوجِبُ عَدَمَ الْإِتْيَانِ بِهِ إذَا وَقَعَ، وَذَلِكَ هُوَ الْفَسَادُ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ لَا يَتَنَاوَلُ الْمَكْرُوهَ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهَا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيُّ: إنَّ الْكَرَاهَةَ مَانِعَةٌ مِنْ الصِّحَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ تَحْرِيمًا أَوْ تَنْزِيهًا؛ لِأَنَّهَا تُضَادُّ الْأَمْرَ كَيْفَ كَانَتْ؛ لِأَنَّهَا لِلتَّرْكِ، وَالْأَمْرُ طَلَبُ الْفِعْلِ، وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا، وَلَا إشْكَالَ لِمَا قَرَّرْنَاهُ. قَالَا: وَمَأْخَذُ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ النَّهْيَ هَلْ يَعُودُ إلَى نَفْسِ الصَّلَاةِ أَمْ إلَى خَارِجٍ عَنْهَا؟ وَمِنْ هُنَا حَكَى بَعْضُهُمْ قَوْلَيْنِ فِي أَنَّ نَهْيَ التَّنْزِيهِ إذَا كَانَ لِعَيْنِ الشَّيْءِ
هَلْ يَقْتَضِي الْفَسَادَ أَمْ لَا؟ وَقَدْ يُتَوَقَّفُ فِي نَهْيِ التَّنْزِيهِ؛ لِأَنَّ التَّنَاقُضَ إنَّمَا يَجِيءُ إذَا كَانَ النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ.
وَعَلَى تَقْدِيرِ مَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وَابْنُ الصَّلَاحِ فَذَلِكَ التَّضَادُّ إنَّمَا يَجِيءُ فِيمَا هُوَ وَاجِبٌ خَاصَّةً لِمَا بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالْكَرَاهَةِ مِنْ التَّبَايُنِ، فَأَمَّا الصِّحَّةُ مَعَ الْإِبَاحَةِ كَمَا فِي الْعُقُودِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا تَنْزِيهًا فَلَا تَضَادَّ حِينَئِذٍ، وَالْفَسَادُ مُخْتَصٌّ بِمَا كَانَ النَّهْيُ فِيهِ لِلتَّحْرِيمِ. الْأَمْرُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْخِلَافَ فِي أَنَّهُ هَلْ يَقْتَضِي الْفَسَادَ أَمْ لَا؟ إنَّمَا هُوَ فِي الْفَسَادِ بِمَعْنَى الْبُطْلَانِ عَلَى رَأْيِنَا أَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ، لَا بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ: نَبَّهَ عَلَيْهِ الْهِنْدِيُّ وَأَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ فُورَكٍ. السَّادِسُ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْفَسَادَ إذَا أُطْلِقَ فِي الْعِبَادَاتِ أُرِيدَ بِهِ عَدَمُ الْإِجْزَاءِ، وَإِذَا أُطْلِقَ فِي الْمُعَامَلَاتِ أُرِيدَ بِهِ عَدَمُ تَرَتُّبِ آثَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا مِنْ اللُّزُومِ وَانْتِقَالِ الْمِلْكِ وَصِحَّةِ التَّصَرُّفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ. وَعَلَى هَذَا فَإِذَا قِيلَ: النَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ إذَا قُدِّرَ وُقُوعُهُ لَا يُجْزِئُ فِي نَفْسِهِ إنْ كَانَ عِبَادَةً، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ إنْ كَانَ مُعَامَلَةً وَإِذَا قِيلَ: لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي صِحَّةَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ كَالْمَنْقُولِ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ فَفَاسِدٌ؛ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ صِيغَةَ النَّهْيِ لَا تَنْصَرِفُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَيْنِك الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ كَانَ أَقْرَبَ، فَإِنَّ الْفَسَادَ حِينَئِذٍ إنَّمَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ الْقَرَائِنِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ الصِّيغَةَ لَوْ دَلَّتْ عَلَيْهِ، فَأَمَّا مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ فَبَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ لَا يُتَلَقَّى مِنْ اللُّغَةِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يَدُلُّ عَلَيْهِ. السَّابِعُ: قَدْ سَبَقَ الْخِلَافُ فِي تَفْسِيرِ الْفَسَادِ فِي الْعِبَادَاتِ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّ كُلَّ مَنْ ذَهَبَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّهُ
يَقْتَضِي الْفَسَادَ فِي الْعِبَادَاتِ أَوْ لَا يَقْتَضِيهِ، فَإِنَّمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بِالْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ عِنْدَهُ لَا بِالْمَعْنَى الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ فِي الْأَمْرِ عَلَى خِلَافِ هَذَا.
الثَّامِنُ: أَطْلَقَ الْمُفَصِّلُونَ بِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ فِي الْعِبَادَاتِ دُونَ الْعُقُودِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِغَيْرِهِمَا، وَزَادَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ " الْإِيقَاعَاتِ وَأَلْحَقَهَا بِالْعُقُودِ، وَمُرَادُهُ بِهَا الطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ كَطَلَاقِ الْحَائِضِ، وَكَإِرْسَالِ الثَّلَاثِ جَمِيعًا عَلَى قَاعِدَةِ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّهُ مُحَرَّمٌ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ إذَا قُلْنَا بِنُفُوذِهِ، وَكَذَلِكَ الْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ كَالْوَطْءِ فِي الْحَيْضِ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ الدُّخُولُ، وَيَكْمُلُ بِهِ الْمَهْرُ. وَلِهَذَا أَشَارَ ابْنُ الْحَاجِبِ بِقَوْلِهِ فِي الْإِجْزَاءِ دُونَ السَّبَبِيَّةِ فَأَتَى بِالسَّبَبِيَّةِ لِيَشْمَلَ الْعُقُودَ وَالْإِيقَاعَاتِ، وَهِيَ زِيَادَةٌ حَسَنَةٌ، لَكِنْ يَرِدُ عَلَيْهَا أَنَّهُ جَعَلَ هَذَا قَوْلًا ثَالِثًا مُفَصَّلًا بَيْنَ طَرَفَيْنِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ الَّذِي اخْتَارَهُ شَمِلَ هَذِهِ الصُّوَرَ، وَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْهُمَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهَا، وَأَنَّهُ اخْتَارَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْإِجْمَاعُ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ، وَإِرْسَالُ الثَّلَاثِ، وَخِلَافُ الظَّاهِرِيَّةِ وَالشِّيعَةِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ.
التَّاسِعُ: أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي مُطْلَقِ النَّهْيِ لِيَخْرُجَ الْمُقْتَرِنُ بِقَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ دَالًّا عَلَى الْمَنْعِ لِخَلَلٍ فِي أَرْكَانِهِ أَوْ شَرَائِطِهِ، أَوْ يَقْتَرِنَ بِقَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْفَسَادِ نَحْوَ النَّهْيِ عَنْ الشَّيْءِ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ كَمَا فِي الْمَنْهِيَّيْنِ وَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَإِنْ أَشْعَرَ كَلَامُ بَعْضِهِمْ بِجَرَيَانِ خِلَافٍ فِيهِ فَهُوَ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ؛ إذْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى الْفَسَادِ مَعَ دَلَالَتِهِ عَلَى اخْتِلَالِ أَرْكَانِهِ وَشَرَائِطِهِ. قُلْت: كَلَامُ ابْنِ بَرْهَانٍ يَقْتَضِي جَرَيَانَ الْخِلَافِ فِيهِ، وَمِثَالُ مَا فِيهِ قَرِينَةُ الْفَسَادِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «لَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ، وَلَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا، فَإِنَّ الزَّانِيَةَ
هِيَ الَّتِي تُنْكِحُ نَفْسَهَا» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ، فَإِنَّ الْجُمْلَةَ الْأَخِيرَةَ مِنْهُ تَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ إذَا وَقَعَ يَكُونُ فَاسِدًا فَلَا يَتَوَجَّهُ فِيهِ خِلَافٌ أَلْبَتَّةَ، وَكَذَلِكَ نَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الْكَلْبِ، وَقَالَ فِيهِ:«إنْ جَاءَ وَطَلَبَ ثَمَنَهُ فَامْلَأْ كَفَّهُ تُرَابًا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَكَذَلِكَ نَهْيُهُ عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْعَظْمِ أَوْ الرَّوْثِ، وَقَالَ:(إنَّهُمَا لَا يُطَهِّرَانِ) رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ فَإِنَّهُ لِلْفَسَادِ. وَقَدْ نُقِلَ النَّهْيُ عَنْ الشَّافِعِيِّ. تَوْجِيهُهُ أَنَّ النِّسَاءَ مُحَرَّمَاتٌ إلَّا بِمَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ، فَلَا يَحِلُّ الْمُحَرَّمُ مِنْ النِّسَاءِ بِالْمُحَرَّمِ مِنْ النِّكَاحِ. وَمِثَالُ مَا فِيهِ قَرِينَةُ الصِّحَّةِ حَدِيثُ:«لَا تُصِرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ، فَمَنْ ابْتَاعَهَا فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا» فَإِنَّ إثْبَاتَ الْخِيَارِ فِيهِ قَرِينَةٌ تَقْتَضِي أَنَّ الْبَيْعَ قَدْ انْعَقَدَ وَلَمْ يَقْتَضِ فَسَادًا، وَكَذَلِكَ نَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الرُّكْبَانِ، وَإِثْبَاتُ الْخِيَارِ لِصَاحِبِهِ إذَا وَرَدَ السُّوقَ، وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ لِمَا فِيهِ أَمْرٌ بِالْمُرَاجَعَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ وَاقِعٌ.
الْعَاشِرُ: لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِضَبْطِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، وَقَالَ
ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الِاصْطِلَامِ " فِي مَسْأَلَةِ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ إذَا كَانَ لِطَلَبِ ضِدِّهِ فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْ نَفْسِ الشَّيْءِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِطَلَبٍ فَلَا يَكُونُ فِي نَفْسِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ الْمَسَائِلُ بِالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ لَيْسَ لِطَلَبِ ضِدِّهَا، وَهُوَ تَرْكُ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ فِي وَقْتِ النِّدَاءِ حَتَّى لَوْ اشْتَغَلَ بِشَيْءٍ غَيْرِ الْبَيْعِ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَلَوْ بَاعَ وَهُوَ يَسْعَى لَمْ يَكُنْ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَكَذَا النَّهْيُ عَنْ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ لَمْ يَكُنْ لِطَلَبِ ضِدِّهِ، وَهُوَ بَقَاءُ النِّكَاحِ حَالَةَ الْحَيْضِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ وَهِيَ طَاهِرٌ، ثُمَّ حَاضَتْ فَلَا نِكَاحَ، وَالْحَيْضُ مَوْجُودٌ؟ وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ الْإِحْرَامِ مُجَامِعًا، وَغَيْرُ ذَلِكَ، بِخِلَافِ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ وَنِكَاحِ الْمَحَارِمِ وَغَيْرِهِ. قُلْت: وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي بَابِ النَّذْرِ مِنْ " تَعْلِيقِهِ " فَقَالَ: كُلُّ نَهْيٍ يُطْلَبُ لِضِدِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَهُوَ لِعَيْنِهِ، كَصَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ، وَكُلُّ نَهْيٍ لَمْ يَكُنْ لِطَلَبِ ضِدِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لِعَيْنِهِ كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ.
وَالْحَقُّ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّهْيِ رُجُوعُهُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ وَلَا يُحْكَمُ فِيهِ بِتَعَدُّدِ الْجِهَةِ إلَّا بِدَلِيلٍ خَاصٍّ فِيهِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِ الشَّارِعِ: حُرْمَةُ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ يَحْرُمُ إمْسَاكُهُ مَعَ النِّيَّةِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ إطْلَاقِهِ سِوَاهُ، فَمَنْ أَرَادَ صَرْفَ التَّحْرِيمِ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى أَمْرٍ خَارِجٍ احْتَاجَ إلَى الدَّلِيلِ، وَلِهَذَا قَطَعَ الشَّافِعِيُّ بِبُطْلَانِهِ؛ إذْ لَمْ يَظْهَرْ صَرْفُ التَّحْرِيمِ إلَى أَمْرٍ خَاصٍّ بِدَلِيلٍ خَاصٍّ وَقَطَعَ بِصِحَّةِ الطَّلَاقِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ [لِانْصِرَافِ التَّحْرِيمِ عَنْ الْحَقِيقَةِ] إلَى أَمْرٍ خَارِجٍ وَهُوَ تَطْوِيلُ الْعِدَّةِ، أَوْ لُحُوقِ النَّدَمِ عَنْ الشَّكِّ فِي وُجُودِ الْوَلَدِ لِدَلِيلٍ دَلَّ عَلَيْهِ وَكَذَا قَطَعَ بِبُطْلَانِ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ وَلَمْ يَلْحَظْ الْمَعْنَى الْخَارِجَ مِنْ كَوْنِهِ مُقَدِّمَةَ الْإِفْسَادِ. الْحَادِيَ عَشَرَ: ضَايَقَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي بَعْضِ خِلَافِيَّاتِهِ فِي قَوْلِهِمْ: نَهَى عَنْهُ لِعَيْنِهِ، وَقَالَ: النَّهْيُ أَبَدًا إنَّمَا يُرَادُ لِغَيْرِهِ لَا لِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ مِنْ
أَصْلِنَا أَنَّ الْأَحْكَامَ لَيْسَتْ بِأَوْصَافٍ ذَاتِيَّةٍ لِلْأَفْعَالِ بَلْ عِبَارَةٌ عَنْ تَعْلِيقِ خِطَابِ الشَّرْعِ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ بِالْمَنْعِ تَارَةً، وَبِالْبَحْثِ أُخْرَى قَالَ: وَهَكَذَا نَقُولُ فِي بَيْعِ الْحُرِّ: لَا يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا يُنْهَى عَنْهُ لِغَيْرِهِ، وَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَنَحْوِهِ، وَالنَّهْيُ فِيهِ لَمْ يَكُنْ مُتَنَاوِلًا لِلصَّلَاةِ وَالْبَيْعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ بِدُونِ الْبَيْعِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يُوجِبُ فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إذَا صَادَفَ عَيْنَ الشَّيْءِ بِالِاتِّفَاقِ.
الثَّانِيَ عَشَرَ: إذَا جَعَلْنَا الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هُوَ فِي نَهْيِ التَّحْرِيمِ فَقَطْ، فَإِنَّمَا هُوَ فِي صِيغَةِ " لَا تَفْعَلْ " فَإِنَّهُ الْحَقِيقِيُّ فِي التَّحْرِيمِ كَعَكْسِهِ فِي الْأَمْرِ، أَمَّا لَفْظُ " نَهَى " فَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْكَرَاهَةِ وَالتَّحْرِيمِ كَمَا سَبَقَ، فَلَا يَنْتَهِضُ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى التَّحْرِيمِ كَاسْتِدْلَالِ أَصْحَابِنَا عَلَى بُطْلَانِ بَيْعِ الْغَائِبِ وَنَحْوِهِ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ:«نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» فَيُقَالُ: هَذِهِ الصِّيغَةُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ التَّحْرِيمِ وَالْكَرَاهَةِ، وَالنَّهْيُ الْمُقْتَضِي لِلْفَسَادِ إنَّمَا هُوَ فِي نَهْيِ التَّحْرِيمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:" لَا تَفْعَلْ ". الثَّالِثَ عَشَرَ: إذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ لِلْفَسَادِ، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْوَاضِحِ ": لَا يَكُونُ مَجَازًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْ مُوجِبِهِ، وَإِنَّمَا انْتَقَلَ عَنْ بَعْضِهِ فَصَارَ كَالْعُمُومِ الَّذِي خَرَجَ بَعْضُهُ يَبْقَى حَقِيقَةً فِيمَا بَقِيَ، وَهَذَا مِنْهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى الْفَسَادِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالصَّحِيحِ أَنَّهُ مِنْ
جِهَةِ الشَّرْعِ لَمْ يَكُنْ انْتِفَاؤُهُ مَجَازًا. قَالَ: وَكَذَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى نَقْلِهِ عَنْ التَّحْرِيمِ فَإِنَّهُ يَبْقَى نَهْيًا حَقِيقَةً عَلَى التَّنْزِيهِ، كَمَا إذَا قَامَتْ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ، وَهَذَا مِنْهُ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ الِاشْتِرَاكِ وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ.