الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مَسْأَلَةٌ اقْتِضَاءُ النَّهْيِ لِلْفَسَادِ]
ِ] إذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ فَهَلْ يَقْتَضِي الْفَسَادَ؟ اعْلَمْ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ وَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا نُهِيَ عَنْهُ لِمَعْنًى جَاوَزَهُ جَمْعًا كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ لِلِاشْتِغَالِ عَنْ السَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ بَعْدَمَا لَزِمَ وَهُوَ مَعْنَى تَجَاوُزِ الْمَبِيعِ، وَكَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ. وَالثَّانِي: مَا نُهِيَ عَنْهُ لِمَعْنًى اتَّصَلَ بِهِ وَصْفًا، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالنَّهْيِ عَنْ الشَّيْءِ لِوَصْفِهِ اللَّازِمِ لَهُ، كَالزِّنَى فَإِنَّهُ قَبُحَ لِعَدَمِ شَرْطِ الْمُمَاثَلَةِ الَّذِي عُلِّقَ الْجَوَازُ بِهِ شَرْعًا، وَكَصَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَإِنَّهُ لِمَعْنًى اتَّصَلَ بِالْوَقْتِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْأَدَاءِ وَصْفًا، وَهُوَ أَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ.
فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ فَلَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْعِبَادَاتِ كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَالثَّوْبِ الْحَرِيرِ، أَوْ فِي الْعُقُودِ كَالنَّهْيِ عَنْ الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَبَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ: لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ إلَّا مَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ
وَأَحْمَدَ. قُلْت: هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَدَاوُد وَعُزِيَ إلَى أَبِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِ، وَسَوَّى أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ فِي كِتَابِهِ التَّقْوِيمِ " بَيْنَ هَذَا الْقِسْمِ وَاَلَّذِي بَعْدَهُ، فَقَالَ: فِيهِمَا دَلِيلَانِ عَلَى كَوْنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ؛ لِأَنَّ الْقُبْحَ ثَابِتٌ فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَلَمْ يُوجِبْ رَفْعَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِسَبَبِ الْقُبْحِ فِي غَيْرِهِ، هَذَا مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا. انْتَهَى.
وَأَمَّا الثَّانِي فَفِيهِ مَذَاهِبُ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ يُفِيدُ الْفَسَادَ شَرْعًا، كَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِعَيْنِهِ. الثَّانِي: لَا يُفِيدُهُ، وَعَزَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ لِلْأَكْثَرَيْنِ. وَثَالِثُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ ذَلِكَ الْوَصْفِ لَا فَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهُوَ الْأَصْلُ لِكَوْنِهِ مَشْرُوعًا بِدُونِ الْوَصْفِ، وَبَنَوْا عَلَى هَذَا مَا لَوْ بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ ثُمَّ طَرَحَا الزِّيَادَةَ، أَنَّهُ يَصِحُّ الْعَقْدُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالنَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ لِوَصْفِهِ يُضَادُّ وُجُوبَ أَصْلِهِ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: أَرَادَ أَنَّهُ يُضَادُّهُ ظَاهِرُهُ لَا قَطْعًا، وَإِلَّا لَوَرَدَ عَلَيْهِ نَهْيُ الْكَرَاهَةِ، كَالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ، وَالْأَمَاكِنِ الْمَكْرُوهَةِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ حِينَئِذٍ إذَا كَانَ يُضَادُّ الْوُجُوبَ، الْأَصْلُ أَنْ لَا تَصِحَّ الصَّلَاةُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. فَإِذَا قِيلَ: إنَّهُ يُضَادُّ ظَاهِرًا فَقَدْ تَرَكَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعَ الظَّاهِرَ لِدَلِيلٍ رَاجِحٍ، وَفِي كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ مَا يَقْتَضِي اخْتِيَارَ ذَلِكَ أَعْنِي أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى
الْفَسَادِ ظَاهِرًا لَا قَطْعًا، وَقَيَّدَهُ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَوْضِيحِهِ " بِالتَّحْرِيمِ، فَقَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: حُرْمَةُ الشَّيْءِ لِوَصْفِهِ تُضَادُّ وُجُوبَ أَصْلِهِ، وَهَذَا تَقْيِيدٌ حَسَنٌ لَا يُحْتَاجُ مَعَهُ أَنْ يَقُولَ ظَاهِرُهُ إذَا جَعَلَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِالنَّهْيِ الْمُحَرَّمِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فَلَا تَرِدُ الْكَرَاهَةُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ تَرْجِعُ إلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الشَّارِعَ إذَا أَمَرَ بِشَيْءٍ مُطْلَقًا ثُمَّ نَهَى عَنْهُ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ هَلْ يَقْتَضِي ذَلِكَ النَّهْيُ إلْحَاقَ شَرْطِ الْمَأْمُورِ بِهِ حَتَّى يُقَالَ: إنَّهُ لَا يَصِحُّ بِدُونِ ذَلِكَ الشَّرْطِ وَيَصِيرُ الْفِعْلُ الْوَاقِعُ بِدُونِهِ كَالْعَدَمِ كَمَا فِي الْفِعْلِ الَّذِي اخْتَلَّ مِنْهُ شَرْطُهُ الثَّابِتُ بِشَرْطِيَّتِهِ بِدَلِيلٍ آخَرَ أَمْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ؟ مِثَالُهُ الْأَمْرُ بِالصَّوْمِ وَالنَّهْيُ عَنْ إيقَاعِهِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَالْأَمْرُ بِالطَّوَافِ وَالنَّهْيُ عَنْ إيقَاعِهِ فِي حَالِ الْحَيْضِ وَغَيْرِهِ، فَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ قَالُوا: النَّهْيُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَقْتَضِي الْفَسَادَ، وَإِلْحَاقُ شَرْطٍ بِالْمَأْمُورِ بِهِ لَا يُثْبِتُ صِحَّتَهُ بِدُونِهِ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى تَخْصِيصِ الْفَسَادِ بِالْوَصْفِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ دُونَ الْأَصْلِ الْمُتَّصِفِ بِهِ حَتَّى لَوْ أَتَى بِهِ الْمُكَلَّفُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ يَكُونُ صَحِيحًا بِحَسَبِ الْأَصْلِ فَاسِدًا بِحَسَبِ الْوَصْفِ إنْ كَانَ ذَلِكَ النَّهْيُ نَهْيَ فَسَادٍ، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ النَّهْيِ عِنْدَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ بَلْ عَلَى الصِّحَّةِ، كَمَا إذَا نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ النَّحْرِ يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ عِنْدَهُمْ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ إيقَاعُهُ فِي غَيْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، فَإِنْ أَوْقَعَهُ فِيهِ كَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا، وَيَقَعُ عَنْ نَذْرِهِ وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَى الْحَائِضِ الطَّوَافُ وَيُجْزِئُهَا عَنْ طَوَافِ الْفَرْضِ حَتَّى يَقَعَ بِهِ التَّحَلُّلُ وَإِذَا بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الدِّرْهَمِ الزَّائِدِ، وَصَحَّ فِي الْقَدْرِ الْمُسَاوِي، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: صَحِيحٌ بِأَصْلِهِ فَاسِدٌ بِوَصْفِهِ وَبَالَغُوا فِي التَّخْرِيجِ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ حَتَّى قَالُوا: إنَّ الزِّنَى يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ مِنْ أُمِّ الْمَزْنِيِّ بِهَا وَبِنْتِهَا، وَإِنَّ الْكُفَّارَ إذَا اسْتَوْلَوْا عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ مَلَكُوهَا.
وَالْحَقُّ: أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ الزِّنَى وَالِاسْتِيلَاءَ مِنْ الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ وَلَا خِلَافَ عِنْدَهُمْ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ لِانْتِفَاءِ الْمَشْرُوعِيَّةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِمَشْرُوعِيَّةِ الزِّنَى وَالْغَصْبِ. وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ مَأْخَذَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ هُوَ إيقَاعُ الصَّوْمِ لَا الصَّوْمُ الْوَاقِعُ، وَهُمَا مَفْهُومَانِ مُتَغَايِرَانِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ الْإِيقَاعِ تَحْرِيمُ الْوَاقِعِ، كَمَا لَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ الْكَوْنِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ تَحْرِيمُ نَفْسِ الصَّلَاةِ لِتَغَايُرِ الْمَفْهُومَيْنِ.
الثَّانِي: أَنَّ النَّهْيَ يَسْتَلْزِمُ تَصَوُّرَ حَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَيَقْتَضِي ذَلِكَ الصِّحَّةَ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ قُبْحٌ لِذَاتِهِ، وَذَلِكَ قَائِمٌ بِالْوَصْفِ لَا بِالْفِعْلِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْأَصْلَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمَعْصِيَةُ وَالصِّحَّةُ مُتَنَافِيَانِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الصِّحَّةِ تَرَتُّبُ الْآثَارِ الْمَشْرُوعَةِ عَلَى الشَّيْءِ فَلَا يَجْتَمِعُ الْمَشْرُوعِيَّةُ وَالْمَعْصِيَةُ فِي ذَاتٍ وَاحِدَةٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: النِّكَاحُ أَمْرٌ حُمِدْت عَلَيْهِ، وَالزِّنَى أَمْرٌ ذُمِمْت عَلَيْهِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَلَا يَرِدُ وَطْءُ الْبَهِيمَةِ وَالْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُوصَفَانِ بِالتَّحْرِيمِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَقَدْ أُورِدَ عَلَى قَوْلِنَا: أَنَّ النَّهْيَ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ يَقْتَضِي رَفْعَ الْمَشْرُوعِيَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ كَالظِّهَارِ فَإِنَّهُ تَصَرُّفٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مُحَرَّمٌ، وَقَدْ انْعَقَدَ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ الَّتِي هِيَ عِبَادَةٌ. أُجِيبَ بِأَنَّ كَلَامَنَا فِي الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا الْمُتَعَلِّقِ بِسَبَبٍ مَشْرُوعٍ كَالْبَيْعِ لِلْمِلْكِ وَالنِّكَاحِ لِلْحِلِّ، أَنَّهُ هَلْ يَبْقَى سَبَبًا لِذَلِكَ الْحُكْمِ بَعْدَ وُرُودِ النَّهْيِ عَنْهُ أَمْ لَا؟ أَمَّا الظِّهَارُ فَلَيْسَ بِتَصَرُّفٍ مَوْضُوعٍ لِحُكْمٍ مَطْلُوبٍ شَرْعًا بَلْ هُوَ حَرَامٌ، وَالْكَفَّارَةُ وَصَالِحًا لِإِيجَابِ الْجَزَاءِ بَلْ يَخُصُّهُ كَمَادَّةِ الْقَتْلِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِعَيْنِهِ كَبَيْعِ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ فَإِنَّ الْبَيْعَ مُقَابَلَةُ
مَالٍ بِمَالٍ، وَالْمَاءُ فِي الصُّلْبِ وَالرَّحِمِ لَا مَالِيَّةَ فِيهِ. هَذَا مَعْنَى كَوْنِ الشَّيْءِ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِعَيْنِهِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ نَهَى عَنْهُ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِقَيْدٍ، نَحْوُ " لَا تَصُمْ " وَ " لَا تَبِعْ " كَمَا فَهِمَ الْقُطْبُ الشِّيرَازِيُّ، وَفِيهِ مَذَاهِبُ: أَحَدُهَا: أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْفَسَادِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ الْمَنْهِيُّ عِبَادَةً أَوْ مُعَامَلَةً، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الصِّحَّةِ مَعَ التَّحْرِيمِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَهُوَ رَأْيُ الْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَطَائِفَةٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ، كَمَا نَقَلَهُ الْقَاضِي فِي مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ " وَابْنُ فُورَكٍ وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ: مَذْهَبُنَا الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَأَكَّدَ الْقَوْلَ فِيهِ فِي بَابِ " الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ " أَنَّ النَّهْيَ إذَا وَرَدَ مُتَجَرِّدًا اقْتَضَى فَسَادَ الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَدَاوُد وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَكَافَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ انْتَهَى. وَكَلَامُهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الرِّسَالَةِ " يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ اسْتِدْلَالَهُ بِالْآيَاتِ وَالْحَدِيثِ عَلِمَ ذَلِكَ، كَاحْتِجَاجِهِ فِي النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ، وَقَالَ فِي مَوْضُوعٍ مِنْهَا: وَكُلُّ نِكَاحٍ خَلَا عَنْ الْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ وَالرِّضَى مِنْ الْمَنْكُوحَةِ الثَّيِّبِ كَانَ فَاسِدًا، وَذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ.
وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَنَّ عَلَيْهِ أَكْثَرَ الْأَصْحَابِ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَأَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: إنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ.
قِيلَ: وَلِهَذَا إنَّمَا يُفِيدُ الْعُقُودَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ إذَا وَقَعَتْ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ أَيْ: إذَا اسْتَجْمَعَتْ الشُّرُوطَ الشَّرْعِيَّةَ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ فِي التَّقْوِيمِ ": إنَّهُ قَوْلُ عُلَمَائِهِمْ؛ لِأَنَّ الْقَبِيحَ لِعَيْنِهِ لَا يُشْرَعُ لِعَيْنِهِ، وَقَالَ: سَوَاءٌ قَبُحَ لِعَيْنِهِ وَضْعًا أَوْ شَرْعًا كَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْمَلَاقِيحِ وَالصَّلَاةِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، فَالْبَيْعُ فِي نَفْسِهِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَصَالِحُ، وَلَكِنَّ الشَّرْعَ لَمَّا قَصَرَ مَحَلَّهُ عَلَى مَالٍ مُتَقَوِّمٍ حَالَ الْعَقْدِ، وَالْمَاءُ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ مِنْهُ الْحَيَوَانُ لَيْسَ بِمَالٍ صَارَ بَيْعُهُ عَبَثًا بِحُلُولِهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ. وَالثَّانِي: لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَصْلًا، وَيَحْتَاجُ الْفَسَادُ إلَى دَلِيلٍ غَيْرِ النَّهْيِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَالْقَاضِيَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ، وَحَكَاهُ فِي الْمُعْتَمَدِ " عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ قَالَ: وَذَكَرَ أَنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ شُيُوخِنَا الْمُتَكَلِّمِينَ. انْتَهَى.
زَادَ ابْنُ بَرْهَانٍ أَبَا عَلِيٍّ وَأَبَا هَاشِمٍ الْجُبَّائِيَّيْنِ، وَاخْتَارَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ السَّمْنَانِيُّ وَالْغَزَالِيُّ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ عَنْ أَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ، وَصَاحِبُ الْمَحْصُولِ " عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْآمِدِيَّ عَنْ الْمُحَقِّقِينَ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: وَلِلشَّافِعِيِّ كَلَامٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ الْمَازِرِيُّ: أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ يَحْكُونَ عَنْهُ الْقَوْلَيْنِ. وَنَصَّ الْغَزَالِيُّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى فَسَادِهِ إنَّمَا هُوَ اعْتِمَادُ الشَّرْعِ عَلَى فَوَاتِ شَرْطٍ، وَيُعْرَفُ الشَّرْطُ بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَعَلَى ارْتِبَاطِ الصِّحَّةِ بِهِ. وَقَدْ أَطْلَقَ جَمَاعَةٌ آخِرُهُمْ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ هَذَا الْمَذْهَبَ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ.
وَالصَّوَابُ: أَنَّ خِلَافَهُمْ إنَّمَا هُوَ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِغَيْرِهِ، أَمَّا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ لِعَيْنِهِ فَلَا يَخْتَلِفُونَ فِي فَسَادِهِ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ فِي تَقْوِيمِ الْأَدِلَّةِ " وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي أُصُولِهِ " وَقَرَّرَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَهُوَ الْأَثْبَتُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا حَنَفِيًّا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ فِي الْعِبَادَاتِ دُونَ الْعُقُودِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، وَحَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ " عَنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا، وَحَكَاهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ عَنْ اخْتِيَارِ الْغَزَالِيِّ وَالْإِمَامِ الرَّازِيَّ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْمُسْتَصْفَى " لَكِنَّ كَلَامَهُ فِي ذَيْلِ الْمَسْأَلَةِ يَقْتَضِي تَفْصِيلًا آخَرَ سَنَذْكُرُهُ. وَقَدْ خَالَفَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي كُتُبِهِ الْفِقْهِيَّةِ، فَقَالَ فِي الْوَسِيطِ ": عِنْدَنَا أَنَّ مُطْلَقَ النَّهْيِ عَنْ الْعَقْدِ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ فَإِنَّ الْعَقْدَ الصَّحِيحَ هُوَ الْمَشْرُوعُ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي عَيْنِهِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَلَمْ يَكُنْ صَحِيحًا إلَّا إذَا ظَهَرَ تَعَلُّقُ النَّهْيِ بِأَمْرٍ عَنْ الْعَقْدِ اتَّفَقَ مُجَاوَزَتُهُ الْعَقْدَ، كَالنَّهْيِ عَنْ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ. وَقَسَّمَ الْمَنَاهِيَ إلَى مَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ، كَالنَّجْشِ وَالْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَبَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، وَإِلَى مَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ إمَّا لِتَطَرُّقِ خَلَلٍ إلَى الْأَرْكَانِ وَالشَّرَائِطِ أَوْ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِلنَّهْيِ تَعَلُّقٌ سِوَى الْعَقْدِ فَحُمِلَ عَلَى الْفَسَادِ، كَبَيْعِ حَبْلِ الْحَبَلَةِ وَبَيْعِ الْحَصَاةِ وَبُيُوعِ الْغَرَرِ وَأَشْبَاهِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يُؤَوَّلَ كَلَامُ الْمُسْتَصْفَى " عَلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَلَا يَكُونُ تَنَاقُضًا، وَقَدْ اتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى اقْتِضَائِهِ الْفَسَادَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي فَلَا يَسْتَقِيمُ مِنْ شَافِعِيٍّ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ النَّهْيَ فِي الْعُقُودِ لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَكَذَلِكَ إطْلَاقُهُ الْفَسَادَ فِي الْعِبَادَاتِ، وَمُرَادُهُ إذَا كَانَ النَّهْيُ عَنْهَا لِعَيْنِهَا فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ أَقْرَبُ الطُّرُقِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ أَعْنِي الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لِعَيْنِهِ وَلِغَيْرِهِ، وَحَكَوْا مَذَاهِبَ: ثَالِثُهَا: إنْ كَانَ النَّهْيُ مُخْتَصًّا بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ، كَالصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ دَلَّ عَلَى فَسَادِهِ، وَإِلَّا فَلَا يَدُلُّ، كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَالثَّوْبِ الْحَرِيرِ وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ " عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا. رَابِعُهَا: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ فِي الْعِبَادَاتِ سَوَاءٌ نَهَى عَنْهَا لِعَيْنِهَا أَمْ لِأَمْرٍ قَارَنَهَا؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَأَمَّا الْمُعَامَلَاتُ فَالنَّهْيُ إمَّا أَنْ يَرْجِعَ إلَى نَفْسِ الْفِعْلِ كَبَيْعِ الْحَصَاةِ، أَوْ إلَى أَمْرٍ دَاخِلٍ فِيهِ كَبَيْعِ الْمَلَاقِيحِ، أَوْ خَارِجٍ عَنْهُ لَازِمٍ لَهُ كَالرِّبَا فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ تَبْطُلُ، وَإِنْ رَجَعَ إلَى أَمْرٍ مُقَارِنٍ لِلْعَقْدِ غَيْرِ لَازِمٍ، كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ، وَهَذَا الْقَوْلُ نَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ " عَنْ الشَّافِعِيِّ. وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي الْمَعَالِمِ " فِي أَثْنَاءِ الِاسْتِدْلَالِ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْبَيْضَاوِيُّ وَنَقَلَهُ الْآمِدِيُّ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَاخْتَارَهُ، فَتَأَمَّلْهُ. قِيلَ: وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ " وَالْبُوَيْطِيُّ إلَّا أَنَّ الصِّحَّةَ فِي الْمُقَارِنِ ذَكَرَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَيَتَحَصَّلُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبُ: أَحَدُهَا: أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ النَّهْيُ لِعَيْنِهِ أَوْ لِوَصْفِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ. وَالثَّانِي: لَا يَقْتَضِيهِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ لِعَيْنِهِ أَوْ لِوَصْفِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ أَوْ لِاخْتِلَالِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهِ مِنْ عِبَادَةٍ وَعَقْدٍ. صَرَّحَ بِهِ ابْنُ بَرْهَانٍ.
وَالثَّالِثُ: يَقْتَضِي شِبْهَ الْفَسَادِ حَكَاهُ الْقَرَافِيُّ عَنْ الْمَالِكِيَّةِ وَظَاهِرُهُ تَخْصِيصُهُ بِالْعَقْدِ. وَالرَّابِعُ: يَقْتَضِي الصِّحَّةَ، إذَا كَانَ النَّهْيُ لِوَصْفِهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ، وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ لِعَيْنِهِ فَيَقْتَضِي الْفَسَادَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ. وَالْخَامِسُ: يَقْتَضِي الْفَسَادَ فِي الْعِبَادَاتِ دُونَ الْعُقُودِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ وَالْآمِدِيَّ. وَالسَّادِسُ: إنْ كَانَ لِعَيْنِهِ أَوْ لِوَصْفِهِ اللَّازِمِ لَهُ فَهُوَ الْفَسَادُ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ لِغَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ عِبَادَةً وَعَقْدًا، وَهَذَا الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ، وَتَصَرُّفُهُ فِي الْأَدِلَّةِ يَقْتَضِيهِ. وَالسَّابِعُ: الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يَخْتَصُّ بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ، كَالصَّلَاةِ فِي الْبُقْعَةِ النَّجِسَةِ فَيَقْتَضِي الْفَسَادَ دُونَ مَا لَا يَخْتَصُّ بِهِ كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ. حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمَا. وَالثَّامِنُ: الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُخِلُّ بِرُكْنٍ أَوْ شَرْطٍ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ دُونَ مَا لَا يُخِلُّ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، ذَكَرَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَكَلَامُ الْمُسْتَصْفَى " فِي آخِرِ الْمَسْأَلَةِ مُصَرِّحٌ بِهِ، وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا الْقِسْمِ خِلَافٌ.
وَالتَّاسِعُ: ذَكَرَهُ الْمَازِرِيُّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ " عَنْ شَيْخِهِ، وَأَظُنُّهُ أَبَا الْحَسَنِ اللَّخْمِيَّ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا النَّهْيُ عَنْهُ لِحَقِّ الْخَلْقِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ
وَإِلَّا دَلَّ مَا اتَّصَلَ بِهَذَا إلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ لِحَقِّ الْخَلْقِ، وَتَزُولُ الْمَعْصِيَةُ بِإِسْقَاطِ الْمَالِكِ حَقَّهُ بِخِلَافِ مَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ فَلَا يَسْقُطُ بِإِذْنِ أَحَدٍ وَلَا إسْقَاطِهِ. وَاحْتَجَّ بِأَنَّ التَّصْرِيَةَ تَدْلِيسٌ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ عَائِدٌ لِلْمَخْلُوقِ، وَلَمْ يُبْطِلْ الشَّارِعُ الْبَيْعَ الْمُقْتَرِنَ بِهِ، بَلْ أَثْبَتَ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، وَلَمْ يَقْتَضِ النَّهْيُ فَسَادَ الْعَقْدِ لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ الْخَلْقِ، وَهَذَا الْقَوْلُ غَرِيبٌ جِدًّا، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ النَّهْيَ فِي الْعِبَادَاتِ يَقْتَضِي الْفَسَادَ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ جَمِيعَ مَنَاهِيهَا لِحَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى، وَالتَّفْصِيلُ إنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِهَا، وَيَرِدُ عَلَيْهِ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ مِمَّا قِيلَ فِيهَا بِالْفَسَادِ، وَالنَّهْيُ فِيهَا لِحَقِّ الْخَلْقِ، كَالْبَيْعِ الْمُقْتَرِنِ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ وَالْأَجَلِ الْمَجْهُولِ خُصُوصًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَجِيءُ مَا ذَكَرَهُ إلَّا فِي صُوَرٍ قَلِيلَةٍ، وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ، فَإِنَّهُ فَاسِدٌ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، وَالنَّهْيُ فِيهِ لِحَقِّ اللَّهِ.
إذَا عَلِمْت هَذَا فَهَاهُنَا أُمُورٌ: [إطْلَاقُ النَّهْيِ هَلْ يَقْتَضِي الْفَسَادَ] أَحَدُهَا: إذَا اخْتَصَرْت مَا سَبَقَ قُلْت: الْمَنْهِيُّ عَنْهُ إمَّا تَمَامُ الْمَاهِيَّةِ أَوْ جُزْؤُهَا أَوْ لَازِمٌ لَهَا أَوْ خَارِجٌ مُقَارِنٌ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ، فَالْأَوَّلَانِ يُفِيدَانِ الْفَسَادَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: لِتَمَكُّنِ الْمَفْسَدَةِ مِنْ جَوْهَرِ الْمَاهِيَّةِ، ثُمَّ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ يَقُولَانِ: إطْلَاقُ النَّهْيِ يَقْتَضِي الْفَسَادَ بِظَاهِرِهِ فِيمَا أُضِيفَ إلَيْهِ وَلَا يَنْصَرِفُ عَنْهُ إلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ يَصْرِفُ النَّهْيَ إلَى خَارِجٍ مُقَارِنٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ
يَقُولُ: يُحْمَلُ عَلَى الْمُفَارِقِ وَلَا يَنْصَرِفُ إلَى مَا أُضِيفَ إلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَنَا انْسِحَابُ الْفَسَادِ عَلَى الْمَنْهِيَّاتِ مَا لَمْ يَصْرِفْ صَارِفٌ، وَعِنْدَهُ بِالْعَكْسِ. قَالَ صَاحِبُ التَّقْوِيمِ ": قَالَ عُلَمَاؤُنَا: مُطْلَقُ النَّهْيِ عَنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَتَحَقَّقُ حِسًّا يَنْصَرِفُ إلَى مَا قَبُحَ لِعَيْنِهِ، وَعَنْ التَّصَرُّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي تَتَحَقَّقُ شَرْعًا، كَالْعُقُودِ وَالْعِبَادَاتِ لَا يَنْصَرِفُ إلَى مَا قَبُحَ لِغَيْرِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: يَدُلُّ عَلَى قُبْحِهِ فِي عَيْنِهِ، وَقَالَ بَعْضُ مُحَقِّقِيهِمْ: النَّهْيُ بِلَا قَرِينَةٍ يَقْتَضِي الْقُبْحَ لِعَيْنِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَفَائِدَتُهُ بُطْلَانُ التَّصَرُّفِ، وَعِنْدَنَا يَقْتَضِي الْقُبْحَ لِغَيْرِهِ وَالصِّحَّةَ لِأَصْلِهِ. قَالَ: وَيَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ أَنَّهُ إذَا وُجِدَتْ الْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ سَبَبُ الْقُبْحِ لِغَيْرِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ وَصْفًا فَإِنَّهُ بَاطِلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَعِنْدَنَا يَكُونُ صَحِيحًا بِأَصْلِهِ لَا بِوَصْفِهِ. وَقَدْ اعْتَاصَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ الْغَزَالِيُّ فَذَهَبُوا إلَى آرَاءَ مُعْضِلَةٍ تُدَانِي مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّالِثُ: اللَّازِمُ، كَالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، وَعَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ، وَعَنْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا، فَعِنْدَنَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى إنَّهُ قَالَ: مَنْ نَذَرَ صَوْمًا فَصَامَ يَوْمَ الْعِيدِ يُجْزِئُهُ وَيَنْعَقِدُ مَعَ وَصْفِ الْفَسَادِ. وَالرَّابِعُ: الْخَارِجُ الْمُقَارِنُ، فَلَا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ.