الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قِيلَ: وَيَجِيءُ بِمَعْنَى الْوَاوِ كَقَوْلِهِ {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29]{ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ} [يونس: 46] قَالُوا: هِيَ فِيهَا بِمَعْنَى الْوَاوِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِوَاءَ صِفَةُ ذَاتٍ، وَهِيَ قَدِيمَةٌ، وَالتَّعْقِيبُ بِالتَّرَاخِي لَا يُوصَفُ بِهِ الْقَدِيمُ. وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهَا صِفَةُ فِعْلٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ. وَقَدْ تَأَوَّلَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِوَاءِ هُنَا الِاسْتِعَارَةُ فَإِنَّهُ - تَعَالَى - فَرَغَ مِنْ إكْمَالِ الْخَلِيقَةِ وَأَمَرَ وَنَهَى وَكَلَّفَ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، وَالْمُرَادُ الْإِشَارَةُ إلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ إكْمَالِ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ هَذَا الْمَعْنَى فَيَصِحُّ فِيهِ التَّعْقِيبُ.
[مِنْ أَدَوَات الْمَعَانِي إنَّمَا]
إنَّمَا: وَالْكَلَامُ فِيهَا فِي مَوَاضِعَ: الْأَوَّلُ: هَلْ هِيَ تُفِيدُ الْحَصْرَ أَوْ لَا؟ قَوْلَانِ. وَإِذَا قُلْنَا: تُفِيدُهُ، فَهَلْ هُوَ بِالْمَنْطُوقِ يَعْنِي أَنَّهَا وُضِعَتْ لِلْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ مَعًا أَيْ: لِإِثْبَاتِ الْمَذْكُورِ وَنَفْيِ مَا عَدَاهُ أَوْ لِلْإِثْبَاتِ خَاصَّةً وَلِلنَّفْيِ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ؟ قَوْلَانِ. وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ الْمَرُّوذِيُّ فِيمَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي التَّبْصِرَةِ " قَالَ: مَعَ نَفْيِهِ الْقَوْلَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ لَكِنَّ الْمَاوَرْدِيَّ فِي أَقْضِيَةِ الْحَاوِي " نَقَلَ عَنْ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيُّ وَابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ حُكْمَ مَا عَدَا الْإِثْبَاتَ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ مِنْ الِاحْتِمَالِ. وَبِالثَّانِي قَالَ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ وَذَكَرَاهُ فِي بَحْثِ الْمَفَاهِيمِ، وَقَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي التَّقْرِيبِ ": إنَّهُ الصَّحِيحُ.
وَقَالَ ابْنُ الْخُوبِيِّ: هَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ إثْبَاتٌ فَالْحَصْرُ ثَابِتٌ بِالْمَنْطُوقِ، وَإِلَّا فَهُوَ مِنْ طَرِيقِ الْمَفْهُومِ، وَهَذَا الْكَلَامُ يَقْتَضِي جَرَيَانَ هَذَا الْخِلَافِ فِي " مَا " وَ " إلَّا " وَهُوَ بَعِيدٌ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا لَا تُفِيدُهُ أَصْلًا هُوَ رَأْيُ الْآمِدِيَّ، وَإِنَّمَا يُفِيدُ تَأْكِيدَ الْإِثْبَاتِ وَبِهِ يُشْعِرُ كَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ " حَيْثُ قَالَ: فَأَمَّا مَا لَيْسَ لَهُ مَعْنًى، فَمَا الْكَافَّةُ تَعْمَلُ مَا يَعْمَلُ دُونَهَا تَقُولُ: إنَّ زَيْدًا مُنْطَلِقٌ، وَإِنَّمَا زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ. وَحَكَاهُ ابْنُ الْفَارِضِ الْمُعْتَزِلِيُّ فِي النُّكَتِ " عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَابْنِهِ أَبِي هَاشِمٍ. قَالَ: وَهُوَ يُحْكَى عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَنَصَرَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ النَّحْوِيُّ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ " وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ. وَاشْتَدَّ نَكِيرُهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ، وَنَقَلَهُ عَنْ الْبَصْرِيِّينَ. وَنَقَلَ الْغَزَالِيُّ عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْحَصْرِ، وَيَحْتَمِلُ التَّأْكِيدَ ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَوَافَقَهُ إلْكِيَا، وَاَلَّذِي فِي التَّقْرِيبِ " لِلْقَاضِي أَنَّهَا مُحْتَمِلَةٌ لِتَأْكِيدِ الْإِثْبَاتِ وَمُحْتَمِلَةٌ لِلْحَصْرِ، وَزَعَمَ أَنَّ الْعَرَبَ اسْتَعْمَلَتْهَا لِكُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِي الْحَصْرِ. وَأَنْكَرَ ابْنُ الْحَاجِّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الْمُسْتَصْفَى " وَالْعَبْدَرِيُّ فِي شَرْحِهِ " إفَادَتَهَا الْحَصْرَ وَقَالَا: إنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي اللُّغَةِ: وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الشَّيْءِ.
قَالَ ابْنُ السَّيِّدِ: قَالَ نُحَاةُ الْبَصْرَةِ: مَعْنَاهَا الِاقْتِصَارُ كَقَوْلِك: إنَّمَا زَيْدٌ شُجَاعٌ، لِمَنْ ادَّعَى لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ، وَالتَّحْقِيرُ كَقَوْلِك: إنَّمَا وَهَبَتْ دِرْهَمًا، لِمَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ وَهَبَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا رَاجِعٌ إلَى الِاقْتِصَارِ. وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي رَدِّ النَّفْيِ إلَى حَقِيقَتِهِ إذَا وُصِفَ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171]{إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110] .
وَهُوَ رَاجِعٌ لِلْأَوَّلِ. قَالَا: فَإِنْ أَرَادَ الْقَاضِي بِالْحَصْرِ الِاقْتِصَارَ فَقَدْ أَصَابَ، وَإِلَّا فَفِيهِ نَظَرٌ. وَتَابَعَهُمَا الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ فِي إنْكَارِ إفَادَتِهَا الْحَصْرَ، وَقَالَ: إنَّهُ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ وَهُوَ عَجِيبٌ، فَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ السَّيِّدِ فِي الِاقْتِضَابِ " عَنْ الْكُوفِيِّينَ. فَقَالَ: وَذَكَر الْكُوفِيُّونَ أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى النَّفْيِ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ:
. وَإِنَّمَا
…
يُدَافِعُ عَنْ أَحْسَابِهِمْ أَنَا أَوْ مِثْلِي
وَمَعْنَاهُ مَا يُدَافِعُ إلَّا أَنَا أَوْ مِثْلِي هَذَا كَلَامُهُ. وَفِي الزَّاهِرِ " لِلْأَزْهَرِيِّ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهَا تَقْتَضِي إيجَابَ شَيْءٍ وَنَفْيَ غَيْرِهِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْبُرْهَانِ ": قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: وَاَلَّذِي أَخْتَارُهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} [البقرة: 173] أَنْ تَكُونَ " مَا " هِيَ الَّتِي تَمْنَعُ " إنَّ " مِنْ الْعَمَلِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلَّا الْمَيْتَةَ؛ لِأَنَّ " إنَّمَا " تَأْتِي لِإِثْبَاتِ مَا بَعْدَهَا وَنَفْيِ مَا عَدَاهُ.
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ فِي الشِّيرَازِيَّاتِ " يَقُولُ نَاسٌ مِنْ النَّحْوِيِّينَ {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} [الأعراف: 33] الْمَعْنَى: مَا حَرَّمَ إلَّا الْفَوَاحِشَ، قَالَ: وَأُجِيبَ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ.
. وَإِنَّمَا
…
يُدَافِعُ عَنْ أَحْسَابِهِمْ أَنَا أَوْ مِثْلِي
وَعَزَاهُ ابْنُ السَّيِّدِ لِلْكُوفِيِّينَ، وَلَمْ يَعْنُوا بِذَلِكَ أَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْمُتَرَادِفِينَ فَإِنَّهُ
يَمْتَنِعُ إيقَاعُ كُلٍّ مِنْهَا مَوْضِعَ الْآخَرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. انْتَهَى. وَمِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّهُمَا لِلْحَصْرِ الرُّمَّانِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الأنعام: 36] فَقَالَ: إنَّمَا تُفِيدُ تَخْصِيصَ الْمَذْكُورِ بِالصِّفَةِ دُونَ غَيْرِهِ بِخِلَافِ " إنَّ " كَقَوْلِك: إنَّ الْأَنْبِيَاءَ فِي الْجَنَّةِ، فَلَا تَمْنَعُ هَذِهِ الصِّيغَةُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُمْ فِيهَا كَمَا مَنَعَ إنَّمَا هُمْ فِي الْجَنَّةِ. انْتَهَى.
وَكَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] وَكَذَا ابْنُ عَطِيَّةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: سَمِعَتْ عَلِيَّ بْنَ إبْرَاهِيمَ الْقَطَّانَ يَقُولُ: سَمِعْت ثَعْلَبًا يَقُولُ: سَمِعْت سَلَمَةَ يَقُولُ: سَمِعَتْ الْفَرَّاءَ يَقُولُ: إذَا قُلْت: إنَّمَا قُمْت، فَقَدْ نَفَيْت عَنْ نَفْسِك كُلَّ فِعْلٍ إلَّا الْقِيَامَ، وَإِذَا قُلْت: إنَّمَا قَامَ أَنَا، فَقَدْ نَفَيْت الْقِيَامَ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ وَأَثْبَتَّهُ لِنَفْسِك. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَا يَكُونُ ابْتِدَاءُ إلَّا رَدًّا عَلَى أَمْرٍ، وَلَا يَكُونُ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَاَلَّذِي قَالَهُ الْفَرَّاءُ صَحِيحٌ وَحُجَّتُهُ: «إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . قُلْت: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ لِأَمْرٍ مُحَقَّقٍ أَوْ مُقَدَّرٍ، وَإِلَّا لَوَرَدَ عَلَيْهِ «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَنَحْوُهُ.
مِنْ أَحْسَنِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ أَنَّهَا لِلْحَصْرِ: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَبَّلْ مِنْ أَخِيهِ، فَلَوْ كَانَ يَتَقَبَّلُ مِنْ غَيْرِ الْمُتَّقِينَ لَمْ يَجُزْ الرَّدُّ عَلَى الْأَخِ بِذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ الْمَانِعُ مِنْ عَدَمِ الْقَبُولِ فَوَاتَ مَعْنًى فِي الْمُتَقَرَّبِ بِهِ لَا فِي الْفَاعِلِ لَمْ يَحْسُنْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اسْتَوَيْنَا فِي الْفِعْلِ وَانْحَصَرَ الْقَبُولُ فِي بِعِلَّةِ التَّقْوَى، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى:{وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} [آل عمران: 20] فَإِنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لِلْحَصْرِ لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِك: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَعَلَيْك الْبَلَاغُ، وَهُوَ عَلَيْهِ الْبَلَاغُ تَوَلَّوْا أَمْ لَا، وَإِنَّمَا الَّذِي رَتَّبَ عَلَى تَوَلِّيهمْ نَفْيَ غَيْرِ الْبَلَاغِ لِيَكُونَ تَسْلِيَةً لَهُ أَنَّ تَوَلِّيَهُمْ لَا يَضُرُّهُ، وَهَكَذَا أَمْثَالُ هَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا يَقْطَعُ النَّاظِرُ بِفَهْمِ الْحَصْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110]{إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171]{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7]{إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} [هود: 12]{إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} [العنكبوت: 17]{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 24]{إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 169]{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275]{إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد: 36]{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} [التوبة: 93]{إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 45]{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران: 175]{إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأنعام: 109] وقَوْله تَعَالَى.
{إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ - قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ} [هود: 26 - 33]{قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} [الأعراف: 187] فَإِنَّهُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِهَا مُطَابَقَةُ الْجَوَابِ إذَا كَانَتْ " إنَّمَا " لِلْحَصْرِ، لِيَكُونَ مَعْنَاهَا لَا آتِيكُمْ إنَّمَا يَأْتِي بِهِ اللَّهُ، وَلَا أَعْلَمُهَا إنَّمَا يَعْلَمُهَا اللَّهُ، وَقَوْلُهُ:{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41]{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} [الشورى: 42] قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ مَجِيئَهَا لِلتَّحْقِيرِ تَقُولُ: إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مُحَقِّرًا لِنَفْسِك، وَرَدَّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171] وَحَكَى ابْنُ بَابْشَاذَ عَنْ بَعْضِ النُّحَاةِ أَنَّهَا تَجِيءُ لِلتَّعْلِيلِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ سِيبَوَيْهِ: إنَّمَا سِرْت حَتَّى أَدْخُلَهَا أَنَّك إذَا بَيَّتَّ السَّيْرَ وَقِيلَ: تَجِيءُ لِلتَّأْكِيدِ نَحْوُ إنَّمَا الرَّجُلُ زَيْدٌ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَالْأَقْرَبُ أَنَّهَا فِيهِ لِلْحَصْرِ الْمَجَازِيِّ، أَوْ بِجَعْلِ الْمَجَازِ فِي الْأَلْفِ وَاللَّامِ الَّتِي فِي الرَّجُلِ بِأَنْ يُسْتَعْمَلَ لِلْكَمَالِ وَيَحْصُرَ الْكَمَالَ فِيهِ.
الثَّانِي: مِنْ الْمَوَاضِعِ فِي سَبَبِ إفَادَتِهَا الْحَصْرَ وَيُعْرَفُ مِنْ أَنَّهَا مُفْرَدَةٌ أَوْ مَرْكَبَةٌ، وَفِيهِ طُرُقٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا لَفْظَةٌ مُفْرَدَةٌ وُضِعَتْ لِلْحَصْرِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ تَرْكِيبٍ وَمِنْ غَيْرِ وَضْعِهَا لِمَعْنًى، ثُمَّ نَقْلُهَا لِمَعْنَى الْحَصْرِ، وَدَلِيلُهُ أَنَّهَا لِلْحَصْرِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّرْكِيبِ وَالنَّقْلِ، وَكَوْنُهَا عَلَى صُورَةٍ " إنَّ " مَعَ " مَا " لَا يَسْتَدْعِي
التَّرْكِيبَ مِنْهُمَا بَلْ الْمَجْمُوعُ حَرْفٌ وَاحِدٌ، كَمَا أَنَّ الْجُزْءَ الْأَوَّلَ مِنْ لَفْظِ إنْسَانٍ عَلَى صُورَةِ حَرْفِ الشَّرْطِ وَلَيْسَ مَرْكَبًا مِنْهُ. الثَّانِيَةُ: لِلْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيَّ أَنَّ " إنَّ " لِلْإِثْبَاتِ وَ " مَا " لِلنَّفْيِ فَإِذَا جُمِعَا فَقِيلَ: إنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ، فَالْأَصْلُ بَقَاءُ مَعْنَاهُ بَعْدَ التَّرْكِيبِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ مُتَوَجِّهَيْنِ إلَى الْمَذْكُورِ، وَلَا إلَى غَيْرِ الْمَذْكُورِ لِلتَّنَاقُضِ، بَلْ أَحَدُهُمَا لِلْمَذْكُورِ وَالْآخَرُ لِغَيْرِ الْمَذْكُورِ، وَلَيْسَ " إنَّ " لِإِثْبَاتِ مَا عَدَا الْمَذْكُورَ وَ " مَا " لِنَفْيِ الْمَذْكُورِ وِفَاقًا، فَتَعَيَّنَ عَكْسُهُ، وَهُوَ مَعْنَى الْقَصْرِ. وَرُدَّ بِأَنَّ حُكْمَ الْإِفْرَادِ غَيْرُ حُكْمِ التَّرْكِيبِ، وَلَا نُسَلِّمُ كَوْنَهُمَا كَلِمَتَيْنِ بَلْ كَلِمَةً وَاحِدَة وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّرْكِيبِ وَالنَّقْلِ، وَأَيْضًا حُكْمُ غَيْرِهِ لَمْ يُذْكَرْ فَكَيْفَ يُنْفَى حُكْمُهُ؟ هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ الْمُقَدَّمَتَيْنِ، وَهُمَا أَنْ " إنَّ " لِلْإِثْبَاتِ وَ " مَا " لِلنَّفْيِ، لَكِنَّهُمَا مَمْنُوعَتَانِ بِاتِّفَاقِ النُّحَاةِ أَمَّا " إنَّ " فَلَيْسَتْ لِلْإِثْبَاتِ، وَلَا مَا لِلنَّفْيِ بِدَلِيلِ اسْتِعْمَالِهَا مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا. تَقُولُ: إنَّ زَيْدًا قَائِمٌ، وَإِنَّ زَيْدًا لَا يَقُومُ، فَلَوْ كَانَتْ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ تُسْتَعْمَلْ مَعَهُمَا، وَأَمَّا " مَا " فَلَيْسَتْ لِلنَّفْيِ وَإِنَّمَا هِيَ كَافَّةٌ. وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْكُفْرَ حُكْمٌ لَفْظِيٌّ لَا يُنَافِي أَنْ يُقَارِنَهُ حُكْمٌ مَعْنَوِيٌّ، وَاسْتَدَلَّ السَّكَّاكِيُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَافِيَةٍ بِأَنَّ النَّافِيَةَ لَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَبِأَنَّهُ يَلْزَمُ اجْتِمَاعُ حَرْفَيْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ بِلَا فَاصِلٍ، وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ النَّافِيَةَ لَجَازَ نَصْبُ قَائِمٍ فِي: إنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ؛ لِأَنَّ الْحَرْفَ وَإِنْ زِيدَ يَعْمَلُ، وَلَكَانَ مَعْنَى إنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ تَحَقُّقَ عَدَمِ قِيَامِ زَيْدٍ؛ لِأَنَّ مَا يَلِي النَّفْيَ مَنْفِيٌّ، وَالتَّوَالِي الْأَرْبَعَةُ بَاطِلَةٌ.
وَانْتَصَرَ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ لِلْإِمَامِ، وَقَالَ: مُرَادُهُ أَنَّ كَلِمَةَ " إنَّمَا " هَكَذَا لِلْحَصْرِ كَسَائِرِ الْكَلِمَاتِ الْمُرَكَّبَةِ الْمَوْضُوعَةِ لِمَعْنًى، لَا أَنَّ لَفْظَةَ " إنَّ " وَلَفْظَةَ " مَا " رُكِّبَتَا وَبَقِيَتَا عَلَى أَصْلِهِمَا حَتَّى لَا يَرِدَ عَلَيْهِ الِاعْتِرَاضَاتُ، وَمَا ذَكَره الْإِمَامُ بَيَانُ وَجْهِ الْمُنَاسَبَةِ لِئَلَّا يَلْزَمَ النَّقْلُ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، لَكِنْ يَرِدُ عَلَيْهِ فِي بَيَانِ وَجْهِ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّ قَوْلَك:" مَا " لِنَفْيِ غَيْرِ الْمَذْكُورِ كَنَفْيِ غَيْرِ قِيَامِ زَيْدٍ فِي قَوْلِك: إنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِنَفْيِ قِيَامِ غَيْرِ زَيْدٍ؟ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ كَوْنُ " مَا " هُنَا لِلنَّفْيِ قَوْلُ مَنْ لَمْ يَشْتَمَّ رَائِحَةَ النَّحْوِ. قُلْت: قَدْ حَكَاهُ فِي الْمَحْصُولِ " عَنْ الْفَارِسِيِّ فِي الشِّيرَازِيَّاتِ " أَنَّهُ حَكَاهُ عَنْ النَّحْوِيِّينَ، قَالَ: وَقَوْلُهُمْ حُجَّةٌ، لَكِنْ قَالَ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ فِي الْمُغْنِي " لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ الْفَارِسِيُّ فِي الشِّيرَازِيَّاتِ " وَلَا قَالَهُ نَحْوِيٌّ غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا الَّذِي فِي الشِّيرَازِيَّاتِ " أَنَّ الْعَرَبَ عَامَلُوا " إنَّمَا " مُعَامَلَةَ النَّفْيِ، وَإِلَّا فِي فَصْلِ الضَّمِيرِ. قُلْت: سَبَقَ مِنْ كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ إشْرَابَهَا مَعْنَى النَّفْيِ أَيْضًا وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ مِنْ أَئِمَّةِ النَّحْوِيِّينَ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ " مَا نَصُّهُ: تَأَوَّلَ قَوْمٌ " إنَّمَا " عَلَى مَعْنَى مَا وَإِلَّا، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ:
وَإِنَّمَا
…
يُدَافِعُ عَنْ أَحْسَابِهِمْ أَنَا أَوْ مِثْلِي
وَهَذَا قَوْلٌ ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ عَنْ بَعْضِ الْبَغْدَادِيِّينَ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [الأعراف: 33] أَيْ مَا حَرَّمَ إلَّا الْفَوَاحِشَ، وَهَذَا قَوْلٌ لَا نَتَبَيَّنُ صِحَّتَهُ عِنْدَنَا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل: 105] . انْتَهَى.
وَسَيَأْتِي جَوَابُهُ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ الْحَصْرِ لَكِنَّهُ مَجَازِيٌّ.
الثَّالِثَةُ: " إنَّ " لِلتَّأْكِيدِ وَ " مَا " حَرْفٌ زَائِدٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَلَا فَائِدَةَ لَهُمَا مُجْتَمَعَيْنِ إلَّا الْحَصْرَ؛ لِأَنَّهُ تَأْكِيدٌ ثَانٍ، وَهَذَا حَكَاهُ السَّكَّاكِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى وَاسْتَلْطَفَهُ. وَحَكَاهُ ابْنُ بَابْشَاذَ فِي شَرْحِ الْجُمَلِ " عَنْ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ عَنْ غَيْرِهِ لَيْسَ تَأْكِيدًا لِثُبُوتِهِ لِاخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ. وَيَرُدُّهُ اجْتِمَاعُ " إنَّ " وَ " مَا " النَّافِيَتَيْنِ وَلَا يُفِيدُ إلَّا النَّفْيَ، وَكَذَلِكَ يَجْتَمِعُ الْمُؤَكِّدَانِ وَلَا يُفِيدُ إلَّا التَّأْكِيدَ وَأَوْلَى؛ لِأَنَّ النَّفْيَ قَدْ يُنْفَى وَأَيْضًا فَإِنَّك تَقُولُ: قَامَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ وَلَيْسَ بِحَصْرٍ وَنَقُولُ: وَاَللَّهِ إنَّ زَيْدًا لَيَقُومَنَّ فَقَدْ حَصَلَ التَّأْكِيدُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِاقْتِضَائِهِ الْحَصْرَ.
قَالَ الْقَاضِي الْعَضُدُ: وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ الرَّبَعِيُّ مِنْ بَابِ إيهَامِ الْعَكْسِ، فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى أَنَّ الْقَصْرَ تَأْكِيدٌ عَلَى تَأْكِيدٍ ظَنَّ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ تَأْكِيدًا عَلَى تَأْكِيدٍ كَانَ حَصْرًا، وَأَيْضًا يَلْزَمُ تَخْصِيصُ كَوْنِهِ لِلْحَصْرِ بِمَا وَقَعَ فِي جَوَابِ الرَّدِّ لَكِنَّهُ لِلْحَصْرِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ. الرَّابِعَةُ: لِلْإِمَامِ فِي الْمَعَالِمِ " وَاعْتَمَدَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: أَنَّ أَهْلَ اللِّسَانِ فَهِمُوا ذَلِكَ فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَهِمَ الْحَصْرَ مِنْ قَوْلِهِ عليه السلام: «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» وَخَالَفَهُ الصَّحَابَةُ بِدَلِيلٍ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ رِبَا الْفَضْلِ وَلَمْ يُخَالِفْ فِي فَهْمِهِ الْحَصْرَ، فَكَانَ إجْمَاعًا. انْتَهَى، وَهُوَ حَسَنٌ إلَّا أَنَّ فِيهِ نَظَرًا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةُ: «لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ» فَلَعَلَّهُ فَهِمَ الْحَصْرَ مِنْ هَذِهِ الصِّيغَةِ لَا مِنْ إنَّمَا وَلَوْ أَنَّهُ ذَكَرَ
أَنَّ الصَّحَابَةَ فَهِمَتْهُ مِنْ قَوْلِهِ «إنَّمَا الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» لَكَانَ أَقْرَبَ.
ثَانِيهمَا: أَنَّ الْمُخَالِفَ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَذْكُرَ جَمِيعَ أَوْجُهِ الِاعْتِرَاضِ بَلْ قَدْ يَكْتَفِي بِأَحَدِهَا إذَا كَانَ قَوِيًّا ظَاهِرًا، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ اسْتِنَادِهِمْ إلَى الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ وَاقْتِصَارِهِمْ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ كَوْنِهَا لِلْحَصْرِ. الْخَامِسَةُ: اخْتِيَارُ السَّكَّاكِيِّ وَهُوَ أَقْرَبُهَا: أَنَّا وَجَدْنَا الْعَرَبَ عَامَلَتْهَا فِي الْكَلَامِ مُعَامَلَةَ إلَّا الْمَسْبُوقَةِ بِالنَّفْيِ، وَهِيَ مُفِيدَةٌ لِلْحَصْرِ بِالِاتِّفَاقِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: قُمْت وَلَمْ يَقُمْ زَيْدٌ، وَلَا يَقُولُونَ: قَامَ أَنَا، وَلَمْ يَقُمْ زَيْدٌ، فَإِذَا أَدْخَلُوهَا قَالُوا: إنَّمَا قَامَ أَنَا وَلَمْ يَقُمْ زَيْدٌ، كَمَا يَقُولُونَ: مَا قَامَ إلَّا أَنَا، فَأَجْرَوْا الضَّمِيرَ مَعَ إنَّمَا مَجْرَى الْمُضْمَرِ مَعَ إلَّا وَتِلْكَ تُفِيدُ الْحَصْرَ كَقَوْلِهِ: مَا قَطَرَ الْفَارِسَ إلَّا أَنَا. الثَّالِثُ: الْقَائِلُونَ بِالْحَصْرِ قَالَ مُحَقِّقُوهُمْ: هِيَ حَاصِرَةٌ أَبَدًا لَكِنْ يَخْتَلِفُ حَصْرُهَا فَقَدْ يَكُونُ حَقِيقِيًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171] وَقَدْ يَكُونُ مَجَازِيًّا عَلَى الْمُبَالَغَةِ، نَحْوُ إنَّمَا الشُّجَاعُ عَنْتَرَةُ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ قَوْلَهُ:{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ} [النحل: 105] وَقَوْلَهُ: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110] مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَى التَّوَاضُعِ وَالْإِخْبَاتِ أَيْ: مَا أَنَا إلَّا عَبْدٌ مُتَوَاضِعٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: تَارَةً يَكُونُ مُطْلَقًا، نَحْوُ {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171] وَتَارَةً يَكُونُ مَخْصُوصًا بِقَرِينَةٍ، نَحْوُ {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7]
فَإِنَّهُ لَا يَنْحَصِرُ فِي النِّذَارَةِ {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد: 36] وَلَيْسَتْ مُنْحَصِرَةً فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مَزْرَعَةٌ لِلْآخِرَةِ وَإِنَّمَا الْحَصْرُ بِالنِّسْبَةِ، فَقَوْلُهُ: إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى خِطَابِ الْكُفَّارِ لِنَفْيِ كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى إنْزَالِ مَا اقْتَرَحُوهُ مِنْ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ} [المائدة: 99] وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ} [محمد: 36] أَيْ: بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ آثَرَهَا وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهَا لِلْآخِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ ": كَلِمَةُ " إنَّمَا " لِلْحَصْرِ، وَالْحَصْرُ فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ فِيمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ تَخْصِيصٌ وَلَا تَقْيِيدٌ {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171]{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ} [طه: 98]{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [المائدة: 55] .
وَالثَّانِي: أَنْ يَقَعَ فِيمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ إمَّا فِي جَانِبِ الْإِثْبَاتِ بِأَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَقْصُودَ أَوْ فِي جَانِبِ النَّفْيِ بِأَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَقْصُودَ، وَالْقَرَائِنُ تَرْشُدُ إلَى الْمُرَادِ، وَهُوَ فِي الْعُمَدِ الْكُبْرَى فِي فَهْمِهِ، نَحْوُ {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد: 36]
{إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110]{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7] فَإِنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَيْهَا " إنَّمَا " لَيْسَتْ لِلْعُمُومِ بَلْ تَخْتَصُّ كَوْنَهَا لَعِبًا وَلَهْوًا بِمَنْ لَا يُرِيدُ بِعَمَلِهِ فِيهَا الْآخِرَةَ وَالتَّزَوُّدَ بِهَا، وَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم لَا يَنْحَصِرُ فِي الْبَشَرِيَّةِ وَالنِّذَارَةِ بَلْ لَهُ أَوْصَافٌ أُخْرَى جَلِيلَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْبَشَرِيَّةِ وَالنِّذَارَةِ، لَكِنْ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى صِفَةٍ تَقْتَضِي الْعِلْمَ بِالْغَيْبِ، أَوْ أَنَّهَا فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ» ، وَفِي {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110] فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يُفْهَمُ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ الْإِيمَانِ قَهْرًا لِسَبْقِ قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت: 5]{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [فصلت: 6] أَيْ: وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَا أَقْدِرُ عَلَى إجْبَارِكُمْ عَلَى الْإِيمَانِ. وَكَذَلِكَ أَمْرُ النِّذَارَةِ لَا يَنْحَصِرُ فِيهَا {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45] إذَا عَرَفَتْ هَذَا فَإِنْ دَلَّتْ الْقَرَائِنُ وَالسِّيَاقُ عَلَى التَّخْصِيصِ فَاحْمِلْهُ عَلَى الْعُمُومِ فِيمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ " إنَّمَا " عَلَى هَذَا حَمَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ (إنَّمَا الرِّبَا) عَلَى الْعُمُومِ حَتَّى نَفَى رِبَا الْفَضْلِ، وَقِيلَ: إنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ، وَحَمَلَ غَيْرُهُ «إنَّمَا الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُوجِبْ الْغُسْلَ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، وَمَنْ خَالَفَ فِي الْأَمْرَيْنِ فَبِدَلِيلٍ خَارِجِيٍّ.
الرَّابِعُ: زَعَمَ النَّحْوِيُّونَ أَنَّ الْأَخِيرَ هُوَ الْمَحْصُورُ، فَإِذَا قُلْت: إنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ، فَالْقَائِمُ هُوَ الْمَحْصُورُ، وَإِذَا قُلْت: إنَّمَا الْمَالُ لَك، فَالْمَحْصُورُ أَنْتَ أَيْ: لَا غَيْرُك، وَإِذَا قُلْت: إنَّمَا لَك الْمَالُ، فَالْمَحْصُورُ الْمَالُ أَيْ: لَا غَيْرُهُ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:«إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» لَا يَحْسُنُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ النِّيَّةِ فِي كُلِّ عَمَلٍ؛ إذْ الْمَحْصُورُ النِّيَّةُ لَا الْعَمَلُ، وَلَكِنْ إجْمَاعُ الْأَئِمَّةِ عَلَى خِلَافِهِ. وَأَجْمَعَ النُّحَاةُ عَلَى أَنَّهُ مَتَى أُرِيدَ الْحَصْرُ فِي وَاحِدٍ مِنْ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ مَعَ " إنَّمَا " يَجِبُ تَأْخِيرُهُ وَتَقْدِيمُ الْآخَرِ، فَتَقُولُ: إنَّمَا ضَرَبَ عَمْرٌو هِنْدًا إذَا أَرَدْت الْحَصْرَ فِي الْمَفْعُولِ، وَإِنَّمَا ضَرَبَ هِنْدًا عَمْرٌو إذَا أَرَدْت الْحَصْرَ فِي الْفَاعِلِ. وَاخْتَلَفُوا فِيهِ إذَا كَانَ مَعَ " مَا " وَ " إلَّا " عَلَى ثَلَاثَةٍ مَذَاهِبَ: فَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْهُمْ الْجُزُولِيُّ وَالشَّلُوبِينَ إلَى أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي " إنَّمَا " إنْ أُرِيدَ