الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَيُقَوِّيهِ إذَا قُلْنَا: إنَّ الْمَجَازَ غَالِبٌ فِي اللُّغَاتِ.
وَقَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ ": أَمَّا الْحَقَائِقُ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَا تُحْمَلُ عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا حَتَّى يُنْظَرَ هَلْ هُنَاكَ مَا يُعْدَلُ بِهِ عَنْ الْحَقِيقَةِ؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهَا إذَا عُدِلَتْ عَنْ مُقْتَضَاهَا حُمِلَتْ عَلَى الْمَجَازِ، وَقِيلَ الْعُمُومُ إذَا حُمِلَ عَلَى الْخُصُوصِ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْمَجَازِ.
[أَقْسَامُ الْحَقِيقَةِ]
[أَقْسَامُ الْحَقِيقَةِ] وَتَنْقَسِمُ الْحَقِيقَةُ إلَى لُغَوِيَّةٍ وَعُرْفِيَّةٍ وَشَرْعِيَّةٍ؛ لِأَنَّ الْوَضْعَ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ إمَّا وَضْعُ اللُّغَةِ، وَهِيَ اللُّغَوِيَّةُ كَالْأَسَدِ لِلْحَيَوَانِ الْمُفْتَرِسِ أَوَّلًا، وَهُوَ إمَّا وَضْعُ الشَّارِعِ، وَهِيَ الشَّرْعِيَّةُ كَالصَّلَاةِ، لِلْأَرْكَانِ وَقَدْ كَانَتْ فِي اللُّغَةِ لِلدُّعَاءِ أَوَّلًا، وَهِيَ الْعُرْفِيَّةُ الْمَنْقُولَةُ عَنْ مَوْضِعِهَا الْأَصْلِيِّ إلَى غَيْرِهِ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ، وَلْتَتَنَبَّهْ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّ اللُّغَوِيَّةَ أَصْلُ الْكُلِّ، فَالْعُرْفُ نَقَلَهَا عَنْ اللُّغَةِ إلَى الْعُرْفِ، وَالشَّرْعُ نَقَلَهَا عَنْ اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ. الثَّانِي: أَنَّ الْوَضْعَ فِي اللُّغَوِيَّةِ غَيْرُ الْوَضْعِ فِي الشَّرْعِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ، فَإِنَّهُ فِي اللُّغَةِ تَعْلِيقُ اللَّفْظِ بِإِزَاءِ مَعْنًى لَمْ يُعْرَفْ بِهِ غَيْرُ ذَلِكَ الْوَضْعِ.
وَأَمَّا فِي الشَّرْعِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ فَبِمَعْنَى غَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ دُونَ الْمَعْنَى السَّابِقِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ
عَنْ الشَّارِعِ أَنَّهُ وَضَعَ لَفْظَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ بِإِزَاءِ مَعَانِيهَا الشَّرْعِيَّةِ، بَلْ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الشَّارِعِ لِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِإِزَاءِ تِلْكَ الْمَعَانِي حَيْثُ صَارَتْ الْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ مَهْجُورَةً، وَكَذَلِكَ الْعُرْفُ، فَإِنَّ أَهْلَهُ لَمْ يَضَعُوا لَفْظَ الْقَارُورَةِ مَثَلًا لِلظَّرْفِ مِنْ الزُّجَاجِ عَلَى جِهَةِ الِاصْطِلَاحِ، كَمَا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَضَعْ لَفْظَ الزَّكَاةِ لِقَطْعِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَالِ لِلْفُقَرَاءِ. بَلْ صَارَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ شَرْعِيَّةً وَعُرْفِيَّةً بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ دُونَ أَنْ يَسْبِقَهُ تَعْرِيفٌ بِتَوَاضُعِ الِاسْمِ، وَمِنْ هَاهُنَا مَنَعَ بَعْضُهُمْ إدْخَالَ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ فِي الْحَدِّ لِاخْتِلَافِ مَعْنَى الْوَضْعِ فِيهَا فَإِنَّ الِاصْطِلَاحَ غَيْرُ غَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ، فَإِنْ خَصَصْنَا الْوَضْعَ بِالِاصْطِلَاحِ خَرَجَتْ الْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْعُرْفِيَّةُ، وَإِنْ لَمْ نَخُصَّهُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا، وَالْحُدُودُ تُصَانُ عَنْهُ، فَيَنْبَغِي إفْرَادُهَا بِحَدٍّ كَأَنْ يُقَالَ: الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الِاصْطِلَاحِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ التَّخَاطُبُ، لَكِنْ هَذِهِ مُضَايَقَةٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهَا بَلْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ لِلشَّرْعِ وَضْعًا كَاللُّغَةِ فَإِنَّ الْوَضْعَ تَعْلِيقُ لَفْظٍ بِإِزَاءِ مَعْنًى، وَهُوَ يَشْمَلُهُمَا لَكِنْ يَخْتَلِفَانِ فِي سَبَبِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، فَفِي اللُّغَةِ إعْلَامُ الْغَيْرِ بِأَنَّهُ وُضِعَ لِذَلِكَ، وَفِي الشَّرْعِ بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، لِيَرْفَعَ الْوَضْعَ السَّابِقَ إنْ كَانَ.
وَإِذَا عَلِمْت هَذَا فَلْنَتَكَلَّمْ عَلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ فَنَقُولُ: أَمَّا اللُّغَوِيَّةُ فَهِيَ الَّتِي عَلَيْهَا جُلُّ الشَّرِيعَةِ عِنْدَ قَوْمٍ، وَهُمْ الْمُثْبِتُونَ لِلنَّقْلِ الشَّرْعِيِّ وَالْعُرْفِيِّ، أَوْ كُلُّهَا عِنْدَ آخَرِينَ، وَهُمْ النَّافُونَ لَهُ، فَيَقُولُونَ: إنَّ جَمِيعَ مَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ بِحُرُوفِ اللُّغَةِ وَنَظْمِهَا، وَالْمَقْصُودُ بِهِ مِنْ نُطْقِ الشَّرْعِ هُوَ الْمَقْصُودُ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ لَا خِلَافَ فِي إمْكَانِهَا وَوُقُوعِهَا فِي الْمَعْنَى الْوَاحِدِ. وَأَمَّا الْمُفِيدُ لِلشَّيْءِ وَخِلَافِهِ عَلَى طَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ فَمَنَعَهُ قَوْمٌ، وَقَدْ سَبَقَتْ فِي مَبَاحِثِ الِاشْتِرَاكِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُمْكِنُ النِّزَاعُ فِي الْحَقَائِقِ اللُّغَوِيَّةِ بِأَنْ يُقَالَ: إنَّهَا انْتَسَخَتْ، وَصَارَتْ الْأَلْفَاظُ بِأَسْرِهَا شَرْعِيَّةً أَوْ عُرْفِيَّةً لِكَثْرَةِ النَّقْلِ وَالتَّغْيِيرِ فِي انْتِقَالَاتِ الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ، وَعَلَى هَذَا يَجِبُ تَتَبُّعُ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ إنْ وَجَدْنَاهَا فِي أَلْفَاظِ الْخِطَابِ، فَإِنْ لَمْ نَجِدْهَا فَالْحَقَائِقُ الْعُرْفِيَّةُ. وَأَمَّا مَا يُنْقَلُ مِنْ وَاضِعِي اللُّغَاتِ فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّهَا تَغَيَّرَتْ وَانْتَسَخَتْ فَلَا يُخَاطِبُنَا الشَّرْعُ بِهَا، وَالْجَوَابُ: هَذَا مَمْنُوعٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى الْوُقُوفِ لِنَقْلِ اللُّغَةِ فِي مَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ كَمَا فِي الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ الْأَكْلِ، وَبِالصَّلَاةِ لِمَنْ دُعِيَ إلَى وَلِيمَةٍ، وَهُوَ صَائِمٌ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْعُرْفِيَّةُ فَتَنْقَسِمُ إلَى خَاصَّةٍ وَعَامَّةٍ، فَإِنْ كَانَ النَّاقِلُ طَائِفَةً مَخْصُوصَةً سُمِّيَتْ خَاصَّةً، وَإِنْ كَانَ عَامَّةَ النَّاسِ سُمِّيَتْ عَامَّةً. وَقَدْ أَوْضَحَ مَعْنَى الْعُرْفِيَّةِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ فِي " التَّقْرِيبِ ": مَعْنَى وَصْفِ الِاسْمِ بِأَنَّهُ عُرْفِيٌّ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ إطْلَاقِهِ بِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي بَعْضِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوْ غَيْرِهِ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى عُرْفِيٌّ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ اُبْتُدِئَ وَضْعُهُ لِمَا جَرَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْأَسْمَاءِ عُرْفِيَّةً، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا أَسْمَاءٌ مُجَرَّدَةٌ مُبْتَدَأَةٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَبِيلُ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ اللُّغَوِيَّةِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا أَسْمَاءٌ ابْتَدَأَهَا وَوَضَعَهَا غَيْرُ أَهْلِ اللُّغَةِ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِضُرُوبِ الْعَلَامَاتِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ مَعْنَاهُ إلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَجَازُ، وَتَسْمِيَتُهُ مَجَازًا أَحَقُّ وَأَوْلَى. انْتَهَى. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَالِاعْتِبَارَاتُ فِي الْعُرْفِ إنَّمَا هُوَ بِعُرْفِ مَنْ
هُوَ لَهُ دُونَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعُرْفِ؛ لِأَنَّا قَدْ قُلْنَا: إنَّ الْعُرْفَ بِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ يَقُومُ مَقَامَ ابْتِدَاءِ الْمُوَاضَعَةِ فَإِذَا اخْتَصَّ ابْتِدَاءُ الْمُوَاضَعَةِ بِأَهْلِهَا فَكَذَلِكَ الْعُرْفُ. اهـ.
مَسْأَلَةٌ [إمْكَانُ الْعُرْفِيَّةِ] وَلَا خِلَافَ فِي إمْكَانِ الْعُرْفِيَّةِ، وَأَمَّا الْوُقُوعُ فَلَا نِزَاعَ فِي وُجُودِ الْخَاصَّةِ مِنْهَا لِاسْتِقْرَاءِ كَلَامِ ذَوِي الْعُلُومِ وَالصِّنَاعَاتِ الَّتِي لَا يَعْرِفُهَا أَهْلُ اللُّغَةِ، كَالْقَلْبِ وَالنَّقْضِ وَالْجَمْعِ وَالْفَرْقِ. وَأَمَّا الْعُرْفِيَّةُ الْعَامَّةُ: فَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ وُجُودَهَا، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْوُقُوعِ قَالَهُ الْهِنْدِيُّ، وَتَابَعَ فِيهِ فِي " الْمَحْصُولِ " وَاسْتَغْرَبَ شَارِحُهُ الْأَصْفَهَانِيُّ هَذَا الْخِلَافَ، وَقَالَ: إنَّمَا الْمَعْرُوفُ الْخِلَافُ فِي الشَّرْعِيَّةِ. قُلْت: حَكَى الْخِلَافَ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " ثُمَّ قَالَ: وَاَلَّذِينَ أَجَازُوا انْتِقَالَ الِاسْمِ عَنْ مَوْضُوعِهِ فِي اللُّغَةِ بِالْعُرْفِ إنَّمَا أَجَازُوا ذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ الِاسْمُ اللُّغَوِيُّ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَإِنْ تَعَلَّقَ لَمْ يَجُزْ نَقْلُهُ عَنْ مَوْضِعِهِ إلَى مَعْنًى آخَرَ قَطْعًا، لِأَنَّهُ يَرْجِعُ حِينَئِذٍ إلَى التَّكْلِيفِ. اهـ.
فَحَصَلَ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ، وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي وَأَتْبَاعِهِ وَالْإِمَامِ الرَّازِيَّ رَابِعٌ، فَإِنَّهُمْ قَسَّمُوا النَّقْلَ الْعُرْفِيَّ إلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ قَدْ وُضِعَ لِمَعْنًى عَامٍّ ثُمَّ تَخَصَّصَ بِالْعُرْفِ الْعَامِّ
لِبَعْضِ أَنْوَاعِهِ، كَلَفْظِ الدَّابَّةِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ لِكُلِّ مَا يَدِبُّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، ثُمَّ خَصَّصَهَا الْعُرْفُ الْعَامُّ بِذَاتِ الْحَوَافِرِ. وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ قَدْ وُضِعَ لِمَعْنًى، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا لَهُ بِهِ نَوْعُ مُنَاسَبَةٍ وَمُلَابَسَةٍ بِحَيْثُ لَا يُفْهَمُ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ كَالْغَائِطِ، وَالْأَوَّلُ نُقِلَ إلَى الْحَقِيقَةِ، وَالثَّانِي إلَى الْمَجَازِ. قَالَ الْقَاضِي: وَالْأَسْمَاءُ الْعُرْفِيَّةُ مُنْحَصِرَةٌ فِي هَذَيْنِ، وَلَا يُنْبِئُ الْعُرْفُ عَنْ الْوَضْعِ، لِلْإِجْمَاعِ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِبَعْضِ الْأَسَامِي، وَلَوْ صُرِفَ إلَى أَصْلِ الْوَضْعِ لَلَزِمَ تَسْمِيَةُ جُمْلَةِ اللُّغَةِ عُرْفِيَّةً، وَلَا يُنْبِئُ عَنْ تَجْدِيدِ الْوَضْعِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ اللُّغَةِ، فَإِنَّ هَذَا سَبِيلُ كُلِّ لُغَةٍ سَبَقَهَا أُخْرَى، وَإِنَّمَا تُنْبِئُ عَمَّا يَغْلِبُ اسْتِعْمَالُهُ عُرْفًا مِنْ الْمَجَازَاتِ أَوْ يَغْلِبُ تَخْصِيصُهُ بِبَعْضِ الْمُقْتَضَيَاتِ، وَكَذَا قَالَ فِي " الْمَحْصُولِ ": التَّصَرُّفُ الْوَاقِعُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ هُوَ الَّذِي ثَبَتَ عَنْ أَهْلِ الْعُرْفِ، وَأَمَّا عَلَى غَيْرِهِمَا فَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُمْ، وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ وَذَكَرَ غَيْرُهُ مِنْ أَقْسَامِ الْعُرْفِيَّةِ أَنْ يُوضَعَ اللَّفْظُ لِشَيْءٍ فِي اللُّغَةِ لَكِنْ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِيمَا وُضِعَ لَهُ فِيهَا، فَيَسْتَعْمِلُهُ الْعُرْفُ فِي غَيْرِهِ كَعَسَى، فَإِنَّهُ وُضِعَ أَوَّلًا لِلْفِعْلِ الْمَاضِي، وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ فِيهِ قَطُّ، بَلْ اُسْتُعْمِلَ فِي الْإِنْشَاءِ بِوَضْعِ الْعُرْفِ، فَصَارَتْ الْعُرْفِيَّةُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَنْ يُسْتَعْمَلَ اللَّفْظُ فِيمَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ فِي اللُّغَةِ أَصْلًا إذَا لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ اللُّغَوِيُّ أَيْضًا، أَوْ كَانَ لَهُ وَضْعٌ فِي اللُّغَةِ، وَاسْتُعْمِلَ فِيهِ، لَكِنْ هُجِرَ كَالْغَائِطِ، أَوْ لَمْ يُهْجَرْ، وَلَكِنْ قَصَرَهُ الْعُرْفُ عَلَى بَعْضِ مَوْضُوعَاتِهِ كَالدَّابَّةِ. وَأَمَّا الشَّرْعِيَّةُ فَهِيَ مِنْ مُهِمَّاتِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَمْ أَرَ مَنْ أَحْكَمَ شَرْحَهَا. وَيَتَعَلَّقُ بِهَا مَبَاحِثُ:
الْأَوَّلُ: فِي تَحْقِيقِ الْمُرَادِ بِالِاسْمِ الشَّرْعِيِّ، وَهِيَ اللَّفْظَةُ الَّتِي اُسْتُفِيدَ وَضْعُهَا لِلْمَعْنَى مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، كَذَا قَالَهُ فِي " الْمَحْصُولِ " وَسَبَقَهُ إلَيْهِ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ ". وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: مَا كَانَ مَعْنَاهُ ثَابِتًا بِالشَّرْعِ، وَالِاسْمُ مَوْضُوعٌ لَهُ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: هُوَ مَا اُسْتُفِيدَ مِنْ الشَّرْعِ وَاللَّفْظِ مِنْ اللُّغَةِ، وَمَرَّةً يُسْتَفَادُ الْمَعْنَى مِنْ وَضْعِ اللُّغَةِ وَاللَّفْظِ فِي الشَّرْعِ، وَالْكُلُّ أَسَامِي شَرْعِيَّةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا فِي الشَّرْعِ، وَقِيلَ الِاسْمُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ فِي الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِقْرَارَ دَلَّ عَلَى عَدَمِ الْفِعْلِ وَالْحَرْفِ الشَّرْعِيَّيْنِ إلَّا بِالتَّبَعِ. وَهَلْ الْمُرَادُ بِالْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ كُلُّ مَا وَرَدَ عَلَى لِسَانِ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ مِمَّا هُوَ مُخَالِفٌ لِلْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، أَوْ سَوَاءٌ كَانَ مُوَافِقًا لِلْمَدْلُولِ اللُّغَوِيِّ أَمْ لَا؟ وَالظَّاهِرُ: الْأَوَّلُ، فَإِنَّ اللَّفْظَ الَّذِي أَرَادَ بِهِ الشَّارِعُ مَعْنًى يَصِحُّ إطْلَاقُ ذَلِكَ اللَّفْظِ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ حَقِيقَةً لَا ضَرُورَةَ بِنَا إلَى أَنْ نَقُولَ: إنَّهُ تَجَوَّزَ بِهِ عَنْ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُرَادَةِ، كَإِطْلَاقِ الصَّلَاةِ عَلَى الدُّعَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى:{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] لَا نَقُولُ إنَّهُ مَجَازٌ بِحَسَبِ الصَّلَاةِ ذَاتِ الْأَرْكَانِ، بَلْ هُوَ الدُّعَاءُ، وَهَذَا حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ، وَإِذَا أَمْكَنَتْ فَمَا الدَّاعِي لِلْمَجَازِ الشَّرْعِيِّ.