الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مَعَ الْحَنَفِيَّةِ فِي اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ.
[مَسْأَلَةٌ نَصُّ الشَّارِعِ عَلَى الْحُكْمِ وَالْعِلَّةِ]
إذَا نَصَّ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَلَى حُكْمٍ وَنَصَّ عَلَى عِلَّتِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: حَرُمَتْ الْخَمْرُ لِكَوْنِهَا مُسْكِرًا، أَوْ أَعْتَقْت غَانِمًا لِسَوَادِهِ، هَلْ هُوَ إذَنْ مِنْهُ فِي الْقِيَاسِ أَيْنَمَا وُجِدَتْ الْعِلَّةُ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى الْقِيَاسِ؟ .
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالنَّظَّامِ وَبَعْضِ الظَّاهِرِيَّةِ مِنْ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ إلَى أَنَّهُ إذْنٌ فِي إلْحَاقِ غَيْرِهِ بِهِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلْعِلَّةِ فَائِدَةٌ، وَسَوَاءٌ وَرَدَ ذَلِكَ قَبْلَ ثُبُوتِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ أَوْ بَعْدَ ثُبُوتِهِ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: وَإِلَيْهِ كَانَ يُشِيرُ شَيْخُنَا يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ الرَّازِيَّ " فِي احْتِجَاجِهِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّمَا ذَلِكَ دَمُ عِرْقٍ فَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ» فِي إيجَابِ الْوُضُوءِ مِنْ الرُّعَافِ وَنَحْوِهِ، وَصَارَ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ: الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمِ عِرْقٍ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ: وَأَوْجَبَ أَبُو هَاشِمٍ الْقِيَاسَ بِهَا وَإِنَّمَا لَمْ يُرِدْ التَّعَبُّدَ بِالْقِيَاسِ، وَصَارَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِإِذْنٍ، بَلْ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ دَلِيلٍ، وَنَقَلَهُ الْآمِدِيُّ عَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ، وَاخْتَارَهُ تَبَعًا لِلْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ. وَقَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ: إنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَعَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ
وَالْمُتَكَلِّمُونَ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْعِلَّةِ لِتَعْرِيفِ الْبَاعِثِ عَلَى الْحُكْمِ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى الِاعْتِبَارِ لَا لِأَجْلِ الْإِلْحَاقِ. وَيَقْوَى الْقَوْلُ بِهَذَا إذَا قُلْنَا: إنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى وُجُوبِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا، فَإِنَّ غَايَةَ هَذَا الظَّنُّ.
فَإِنْ قِيلَ: النَّصُّ عَلَى الْعِلَّةِ فِي نَحْوِ حَرُمَتْ الْخَمْرُ لِشِدَّتِهَا لَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ التَّعْمِيمُ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَائِدَةٌ.
قُلْنَا: لَهُ فَوَائِدُ:
مِنْهَا: مَعْرِفَةُ الْبَاعِثِ كَمَا سَبَقَ.
وَمِنْهَا: زَوَالُ الْحُكْمِ عِنْدَ زَوَالِ الْعِلَّةِ كَزَوَالِ التَّحْرِيمِ عِنْدَ زَوَالِ الشِّدَّةِ. وَمِنْهَا مَا سَيَأْتِي فِي فَائِدَةِ الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ مِنْ انْقِيَادِ الْمُكَلَّفِ إلَى الِامْتِثَالِ لِظُهُورِ الْمُنَاسِبِ. وَمُرَادُهُمْ بِالدَّلِيلِ تَقَدُّمُ الْإِذْنِ بِالْقِيَاسِ، وَلِهَذَا فَصَّلَ جَعْفَرُ بْنُ حَرْبٍ وَابْنُ مُبَشِّرٍ شَيْخَا الْمُعْتَزِلَةِ بَيْنَ أَنْ يَرِدَ قَبْلَ وُرُودِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ وَلَا يَجُوزُ تَعَدٍّ بِهِ وَإِلَّا جَازَ، وَاخْتَارَهُ أَبُو سُفْيَانَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَفَصَّلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ بَيْنَ إنْ كَانَ الْحُكْمُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مِنْ قَبِيلِ الْمُحَرَّمَاتِ فَهُوَ إذْنٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْمُبَاحِ أَوْ الْوَاجِبِ فَلَا. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا، لَا بِطَرِيقِ اللَّفْظِ وَلَا بِطَرِيقِ أَنَّهُ يُفِيدُ الْأَمْرَ بِالْقِيَاسِ. وَهُنَا تَنْبِيهَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالِاكْتِفَاءِ مُطْلَقًا هُمْ أَكْثَرُ نُفَاةِ الْقِيَاسِ، وَلَا يُسْتَنْكَرُ ذَلِكَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ اللَّفْظِ الْعَامِّ فِي وُجُوبِ
تَعْمِيمِ الْحُكْمِ وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: حَرُمَتْ الْخَمْرُ لِإِسْكَارِهَا أَوْ حَرُمَتْ عَلَى كُلِّ مُسْكِرٍ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِهِ.
هَذَا تَحْرِيرُ مَذْهَبِ النَّظَّامِ وَغَيْرِهِ وَمُنْكِرِي الْقِيَاسِ فَكَأَنَّهُ أَنْكَرَ تَسْمِيَةَ هَذَا قِيَاسًا وَإِنْ كَانَ قَائِلًا بِهِ فِي الْمَعْنَى. وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ " وَسُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ " وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ الْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ أَنَّ تَعْمِيمَ مِثْلِ هَذَا هَلْ هُوَ بِالْقِيَاسِ أَوْ الصِّيغَةِ؟ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَمَّمَ بِالْقِيَاسِ: وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: نَقَلَ الْأَكْثَرُونَ عَنْ النَّظَّامِ أَنَّ التَّعْمِيمَ فِيهِ بِالْقِيَاسِ، وَنَقَلَ الْغَزَالِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ يَجْرِي تَعْمِيمُ الْحُكْمِ فِي جَمِيعِ مَوَارِدِهِ بِطَرِيقِ اللَّفْظِ وَالْعُمُومِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِنَقْلِ الْأَكْثَرِ وَمُنَافٍ لَهُ، فَإِنَّ التَّعْمِيمَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ لَا يُجَامِعُ التَّعْمِيمَ بِالْقِيَاسِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ ذَلِكَ أَمْرًا بِالْقِيَاسِ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا عِنْدَهُ فِي غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا. قُلْت: وَمَا حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ أَظْهَرُ، لِمَا سَبَقَ عَنْ النَّظَّامِ مِنْ إنْكَارِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ، وَلِهَذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ: ظَنَّ النَّظَّامُ أَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلْقِيَاسِ وَقَدْ زَادَ عَلَيْنَا إذْ قَاسَ حَيْثُ لَا يَقِيسُ، لَكِنَّهُ أَنْكَرَ اسْمَ الْقِيَاسِ. انْتَهَى. وَهُوَ لَمْ يَدَّعِ أَنَّهُ بِالْقِيَاسِ بَلْ بِاللَّفْظِ، فَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُبْطِلَ هَذِهِ الْجِهَةَ مِنْ الْقِيَاسِ.
وَقَدْ يَجْمَعُ بَيْنَ إنْكَارِهِ الْقِيَاسَ وَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْأَكْثَرُونَ بِأَنَّهُ إذَا وَقَعَ التَّنْصِيصُ عَلَى الْعِلَّةِ فَمَدْلُولُ اللَّفْظِ الْأَمْرُ بِالْقِيَاسِ لُغَةً، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِوُقُوعِهِ مِنْ الشَّارِعِ أَوْ غَيْرِهِ وَهُنَاكَ أَحَالَ وُرُودَهُ مِنْ الشَّارِعِ لَكِنْ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَقُولَ: إنَّ الشَّارِعَ لَا يَقَعُ مِنْهُ التَّنْصِيصُ عَلَى الْعِلَّةِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فَمَدْلُولُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ.