الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ [أَقْسَامُ الْمُنَاسِبِ مِنْ حَيْثُ الْيَقِينِ وَالظَّنِّ]
إنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِهِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ يَقِينًا، كَمَصْلَحَةِ الْبَيْعِ لِلْحِلِّ أَوْ ظَنًّا، كَالْقِصَاصِ لِحِفْظِ النَّفْسِ. وَقَدْ يَحْتَمِلُهَا عَلَى السَّوَاءِ، كَحَدِّ الْخَمْرِ لِحِفْظِ الْعَقْلِ، لِأَنَّ الْمَيْلَ وَالْإِقْدَامَ مُسَاوٍ لِلْإِحْجَامِ. وَقَدْ يَكُونُ نَفْيُ الْحُصُولِ أَوْضَحَ، كَنِكَاحِ الْآيِسَةِ لِتَحْصِيلِ التَّنَاسُلِ. وَيَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ. وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ صِحَّةَ التَّعْلِيلِ بِالثَّالِثِ وَالرَّابِعِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْمَقْصُودِ مِنْهَا غَيْرُ ظَاهِرٍ، لِلْمُسَاوَاةِ فِي الثَّالِثِ، والمرجوحية فِي الرَّابِعِ. وَالْأَصَحُّ خِلَافُهُ، لِأَنَّ انْتِفَاءَ ظُهُورِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ التَّعْلِيلِ. وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: يَجُوزُ إنْ كَانَ فِي آحَادِ الصُّوَرِ الشَّاذَّةِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَغْلَبِ الصُّوَرِ مِنْ الْجِنْسِ مُفْضِيًا إلَى الْمَقْصُودِ، وَإِلَّا فَلَا. أَمَّا إذَا حَصَلَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ ثَابِتٌ فَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ: يُعْتَبَرُ التَّعْلِيلُ بِهِ. وَالْأَصَحُّ لَا يُعْتَبَرُ، سَوَاءٌ مَا لَا تَعَبُّدَ فِيهِ، كَلُحُوقِ نَسَبِ الْمَشْرِقِيِّ بِالْمَغْرِبِيَّةِ، وَمَا فِيهِ تَعَبُّدٌ، كَاسْتِبْرَاءِ جَارِيَةٍ اشْتَرَاهَا بَائِعُهَا فِي الْمَجْلِسِ.
[أَقْسَامُ الْمُنَاسِبِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةِ وَالْإِقْنَاعِ]
الْمَوْضِعُ الثَّانِي [أَقْسَامُ الْمُنَاسِبِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةِ وَالْإِقْنَاعِ]
إنَّهُ يَنْقَسِمُ إلَى حَقِيقِيٍّ وَإِقْنَاعِيٍّ. وَالْحَقِيقِيُّ يَنْقَسِمُ إلَى مَا هُوَ وَاقِعٌ فِي
مَحَلِّ الضَّرُورَةِ، وَمَحَلِّ الْحَاجَةِ، وَمَحَلِّ التَّحْسِينِ.
الْأَوَّلُ - الضَّرُورِيُّ: وَهُوَ الْمُتَضَمِّنُ حِفْظَ مَقْصُودٍ مِنْ الْمَقَاصِدِ الْخَمْسِ الَّتِي لَمْ تَخْتَلِفْ فِيهَا الشَّرَائِعُ، بَلْ هِيَ مُطْبِقَةٌ عَلَى حِفْظِهَا، وَهِيَ خَمْسَةٌ:
أَحَدُهَا - حِفْظُ النَّفْسِ: بِشَرْعِيَّةِ الْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لِتَهَارَجَ الْخَلْقُ وَاخْتَلَّ نِظَامُ الْمَصَالِحِ.
ثَانِيهَا - حِفْظُ الْمَالِ: بِأَمْرَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُعْتَدِي فِيهِ فَإِنَّ الْمَالَ قِوَامُ الْعَيْشِ.
(وَثَانِيهِمَا) بِالْقَطْعِ بِالسَّرِقَةِ.
ثَالِثُهَا - حِفْظُ النَّسْلِ: بِتَحْرِيمِ الزِّنَى وَإِيجَابِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْأَسْبَابَ دَاعِيَةٌ إلَى التَّنَاصُرِ وَالتَّعَاضُدِ وَالتَّعَاوُنِ الَّذِي لَا يَتَأَتَّى الْعَيْشُ إلَّا بِهِ عَادَةً.
رَابِعُهَا: حِفْظُ الدِّينِ: بِشَرْعِيَّةِ الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ، فَالْقَتْلُ لِلرِّدَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ مُوجِبَاتِ الْقَتْلِ، لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الدِّينِ، وَالْقِتَالُ فِي جِهَادِ أَهْلِ الْحَرْبِ.
خَامِسُهَا - حِفْظُ الْعَقْلِ: بِشَرْعِيَّةِ الْحَدِّ عَلَى شُرْبِ الْمُسْكِرِ، فَإِنَّ الْعَقْلَ هُوَ قِوَامُ كُلِّ فِعْلٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةٌ، فَاخْتِلَالُهُ مُؤَدٍّ إلَى مَفْسَدَةٍ عُظْمَى. هَذَا مَا أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْأُصُولِيُّونَ. وَهُوَ لَا يَخْلُو مِنْ نِزَاعٍ، فَدَعْوَاهُمْ إطْبَاقُ الشَّرَائِعِ عَلَى ذَلِكَ مَمْنُوعٌ.
أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ فَلِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ مَا خَلَا شَرْعٌ عَنْ اسْتِصْلَاحٍ، وَفِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِلَّةٍ. وَالْأَقْرَبُ فِيهِ الْوَقْفُ. وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ التَّفْصِيلِ: فَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْقِصَاصِ فَيَرُدُّهُ أَنَّ الْقِصَاصَ إنَّمَا عُلِمَ وُجُوبُهُ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى عليه السلام بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وَذَلِكَ لَا يُوَافِقُ قَوْلَهُمْ: يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ بُطْلَانُ الْعَالَمِ. فَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ فِي الْخَمْرِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهَا كَانَتْ مُبَاحَةً فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ حُرِّمَتْ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ: قِيلَ: بَلْ كَانَ الْمُبَاحُ شُرْبُ الْقَلِيلِ الَّذِي لَا يُسْكِرُ، لَا مَا يَنْتَهِي إلَى السُّكْرِ الْمُزِيلِ لِلْعَقْلِ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ فِي كُلِّ مِلَّةٍ.
قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي شِفَاءِ الْعَلِيلِ "، وَحَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي تَفْسِيرِهِ " عَنْ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ ثُمَّ نَازَعَهُ وَقَالَ: تَوَاتَرَ الْخَبَرُ حَيْثُ كَانَتْ مُبَاحَةً بِالْإِطْلَاقِ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الْإِبَاحَةَ كَانَتْ إلَى حَدٍّ لَا يُزِيلُ الْعَقْلَ. وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ ". فَأَمَّا مَا يَقُولُهُ بَعْضُ مَنْ لَا تَحْصِيلَ عِنْدَهُ أَنَّ الْمُسْكِرِ لَمْ يَزَلْ مُحَرَّمًا فَبَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ. انْتَهَى. وَقَدْ نَاقَشَهُمْ الْأَصْفَهَانِيُّ صَاحِبُ النُّكَتِ " مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ إنَّمَا تَحْصُلُ بِإِيجَابِ الْقِصَاصِ وَالْحَدِّ، لَا بِالْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تُخِلُّ بِمَقْصُودِ الشَّرْعِ فَيَكُونُ الْمُنَاسِبُ هُوَ الْحُكْمُ الْمُتَضَمِّنُ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الْمَقْصُودِ، لَا الْوَصْفُ وَهُوَ السَّرِقَةُ وَالْقَتْلُ وَالرِّدَّةُ. وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ صِفَةُ السَّرِقَةِ وَالرِّدَّةِ. وَغَيْرِهَا، لِأَنَّهُ يُقَالُ: السَّرِقَةُ تُنَاسِبُ الْقَطْعَ، وَالْقَتْلُ يُنَاسِبُ الْقِصَاصَ، وَلَا يُقَالُ: إيجَابُ الْقِصَاصِ مُنَاسِبٌ. وَقَدْ زَادَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ (سَادِسًا) وَهُوَ: حِفْظُ الْأَعْرَاضِ، فَإِنَّ
عَادَةَ الْعُقَلَاءِ بَذْلُ نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ دُونَ أَعْرَاضِهِمْ، وَمَا فُدِيَ بِالضَّرُورِيِّ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ ضَرُورِيًّا. وَقَدْ شُرِعَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ بِالْقَذْفِ الْحَدُّ، وَهُوَ أَحَقُّ بِالْحِفْظِ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَجَاوَزُ مَنْ جَنَى عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يَتَجَاوَزُ عَنْ الْجِنَايَةِ عَلَى عِرْضِهِ، وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْجِنَايَةِ يَتَوَقَّعُونَ الْحَرْبَ الْعَوَانَ الْمُبِيدَةَ لَلْفَرَسَانِ لِأَجْلِ كَلِمَةٍ، فَهَؤُلَاءِ عَبْسٌ وَذُبْيَانَ اسْتَمَرَّتْ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً لِأَجْلِ سَبْقِ فَرَسٍ فَرَسًا، وَهُمَا دَاحِسٌ وَالْغَبْرَاءُ، وَإِلَيْهِمَا تُضَافُ هَذِهِ الْحَرْبُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ، وَهُوَ حُذَيْفَةُ بْنُ بَدْرٍ، اعْتَقَدَ مَسْبُوقِيَّتَهُ عَارًا يُقَبِّحُ عِرْضَهُ. وَيَلْتَحِقُ بِهَذَا الْقِسْمِ مُشْكَلُ الضَّرُورِيِّ، كَحَدِّ قَلِيلِ الْمُسْكِرِ وَوُجُوبِ الْحَدِّ فِيهِ، وَتَحْرِيمِ الْبِدْعَةِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي عُقُوبَةِ الْمُبْتَدِعِ الدَّاعِي إلَيْهَا، وَفِي حِفْظِ النَّسَبِ بِتَحْرِيمِ النَّظَرِ وَالْمَسِّ، وَالتَّعْزِيرِ عَلَى ذَلِكَ.
الثَّانِي - الْحَاجِيُّ: وَهُوَ مَا يَقَعُ فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ، لَا الضَّرُورَةِ، كَالْإِجَارَةِ فَإِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ
عَلَى مَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى الْمَسَاكِنِ مَعَ الْقُصُورِ عَنْ تَمَلُّكِهَا وَضَنِّ مَالِكِهَا بِبَذْلِهَا عَارِيَّةً. وَكَذَلِكَ الْمُسَاقَاةُ لِاشْتِغَالِ بَعْضِ الْمُلَّاكِ عَنْ تَعَهُّدِ أَشْجَارِهِ. وَكَذَلِكَ الْقِرَاضُ. . . وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْقِسْمِ الْبَيْعَ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: تَصْحِيحُ الْبَيْعِ آيِلٌ إلَى الضَّرُورَةِ. وَالْإِجَارَةُ دُونَهُ، لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ الْبَيْعِ، فَالضَّرُورَةُ إلَيْهِ عَامَّةٌ، وَفِي الْآحَادِ مَنْ يَسْتَغْنِي عَنْ الْإِجَارَةِ، فَالْحَاجَةُ إلَيْهَا لَيْسَتْ عَامَّةً. وَنَازَعَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ وَقَالَ: وُقُوعُ الْإِجَارَاتِ أَكْثَرُ مِنْ الْمُبَايَعَاتِ. وَمِنْهُ: نَصْبُ الْوَلِيِّ لِلصَّغِيرِ، لِأَنَّهُ أَكْمَلُ نَظَرًا مِنْ الْمَرْأَةِ، لِكَمَالِ عَقْلِهِ، فَلَوْ فَوَّضَ نِكَاحَهَا إلَيْهَا أَوْقَعَتْ نَفْسَهَا فِي مَعَرَّةٍ، لِقُصُورِ نَظَرِهَا، وَلِأَنَّ تَوَلِّيهَا النِّكَاحَ يُسْتَقْبَحُ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ، لِإِشْعَارِهِ بِبَذَاءَتِهَا. ثُمَّ قَدْ يَكُونُ مِنْ هَذَا مَا هُوَ ضَرُورِيٌّ، كَالْإِجَارَةِ لِتَرْبِيَةِ الطِّفْلِ. وَتَكْمِيلًا كَخِيَارِ الْبَيْعِ، وَرِعَايَةِ الْكَفَاءَةِ، وَمَهْرِ الْمِثْلِ فِي تَزْوِيجِ الصَّغِيرِ فَإِنَّهُ أَفْضَى إلَى دَوَامِ النِّكَاحِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ (الْمُنَاسَبَةَ) قَدْ تَكُونُ جَلِيَّةً حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَى الْقَطْعِ، كَالضَّرُورِيَّاتِ. وَقَدْ تَكُونُ خَفِيَّةً، كَالْمَعَانِي الَّتِي اسْتَنْبَطَهَا الْفُقَهَاءُ وَلَيْسَ لَهُمْ إلَّا مُجَرَّدُ احْتِمَالِ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ لَهَا. وَقَدْ يُشْتَبَهُ كَوْنُ (الْمُنَاسَبَةِ) وَاقِعَةً فِي مَرْتَبَةِ الضَّرُورَةِ أَوْ الْحَاجَةِ لِتَقَارُبِهِمَا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ: إنَّ مَشْرُوعِيَّةَ الْإِجَارَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَنَازَعَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ وَقَالَ: إنَّهَا فِي مَرْتَبَةِ الضَّرُورَةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ قَادِرًا عَلَى الْمَسَاكِنِ بِالْمِلْكِ وَلَا أَكْثَرُهُمْ، وَالسَّكَنُ مَا يُكِنُّ مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ مِنْ مَرْتَبَةِ الضَّرُورَةِ. وَقَدْ يَخْتَلِفُ التَّأْثِيرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَلَاءِ وَالْخَفَاءِ.
الثَّالِثُ - التَّحْسِينِيُّ:
وَهُوَ قِسْمَانِ: مِنْهُ مَا هُوَ غَيْرُ مُعَارِضٍ لِلْقَوَاعِدِ، كَتَحْرِيمِ الْقَاذُورَاتِ، فَإِنَّ نُفْرَةَ الطِّبَاعِ عَنْهَا لِقَذَارَتِهَا مَعْنًى يُنَاسِبُ حُرْمَةَ تَنَاوُلِهَا، حَثًّا عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وَحَمَلَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى الْمُسْتَحَبِّ عَادَةً عَلَى تَفْصِيلٍ. وَعَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «بُعِثْت لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ. وَ (مِنْهُ) : إزَالَةُ النَّجَاسَةِ، فَإِنَّهَا مُسْتَقْذَرَةٌ فِي الْجِبِلَّاتِ، وَاجْتِنَابُهَا أَهَمُّ فِي الْمَكَارِمِ وَالْمُرُوآتِ، وَلِذَا يَحْرُمُ التَّضَمُّخُ بِهَا عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. قَالَ الْإِمَامُ فِي الْبُرْهَانِ: وَالشَّافِعِيُّ نَصَّ عَلَى هَذَا فِي الْكَثِيرِ. ثُمَّ إنَّهُ فِي النِّهَايَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى وَطْءِ الْأَمَةِ فِي دُبُرِهَا قَالَ: لَا يَحْرُمُ. وَ (مِنْهُ) : إيجَابُ الْوُضُوءِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إفَادَةِ النَّظَافَةِ، إذْ الْأَمْرُ بِهَا فِي اسْتِغْرَاقِ الْأَوْقَاتِ مِمَّا يَعْسُرُ فَوَظَّفَ الْوُضُوءَ فِي الْأَوْقَاتِ وَبَنَى الْأَمْرَ عَلَى إفَادَتِهِ الْمَقْصُودَ، وَعَلِمَ الشَّارِعُ أَنَّ أَرْبَابَ الْعُقُولِ لَا يَعْتَمِدُونَ فِعْلَ الْأَوْسَاخِ وَالْأَدْرَانِ إلَى أَعْضَائِهِمْ الْبَادِيَةِ مِنْهُمْ فَكَانَ ذَلِكَ النِّهَايَةُ فِي الِاسْتِصْلَاحِ.
قَالَ الْإِمَامُ: وَإِزَالَةُ النَّجَاسَةِ أَظْهَرُ فِي هَذَا مِنْ النَّظَافَةِ الْكُلِّيَّةِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى الْوُضُوءِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْجُمْلَةَ تَسْتَقْذِرُهَا، وَالْمُرُوءَةَ تَقْتَضِي اجْتِنَابُهَا، فَهِيَ أَظْهَرُ مِنْ اجْتِنَابِ الشُّعْثِ وَالْغَمَرَاتِ. (قَالَ) : وَلِهَذَا جَعَلَ الشَّافِعِيُّ الْوُضُوءَ بِالنِّيَّةِ مِنْ حَيْثُ الْتَحَقَ بِالْعَادَاتِ الْعَرِيَّةِ عَنْ الْأَعْرَاضِ وَضَاهَى الْعِبَادَاتِ الدِّينِيَّةَ.
وَ (مِنْهُ) سَلْبُ الْعَبْدِ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّهَا مَنْصِبٌ شَرِيفٌ، وَالْعَبْدُ نَازِلُ الْقَدْرِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا غَيْرُ مُلَائِمٍ. وَهَذَا اسْتَشْكَلَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْحَقِّ بَعْدَ ظُهُورِ الشَّاهِدِ وَاتِّصَالِهِ إلَى مُسْتَحِقِّهِ وَدَفْعِ الْيَدِ الظَّالِمَةِ عَنْهُ مِنْ مَرَاتِبِ الضَّرُورَةِ، وَاعْتِبَارِ نُقْصَانِ الْعَبْدِ فِي الرُّتْبَةِ وَالْمَنْصِبِ مِنْ مَرَاتِبِ التَّحْسِينِ، وَتَرْكِ مَرْتَبَةِ الضَّرُورَةِ رِعَايَةً لِمَرْتَبَةِ التَّحْسِينِ بَعِيدًا جِدًّا. نَعَمْ، لَوْ وُجِدَ لَفْظٌ يَسْتَنِدُ إلَيْهِ فِي رَدِّ شَهَادَتِهِ وَيُعَلِّلُ هَذَا التَّعْلِيلَ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ. فَأَمَّا مَعَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا التَّعْلِيلِ فَفِيهِ هَذَا الْإِشْكَالُ. وَقَدْ تَنَبَّهْ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لِإِشْكَالِ الْمَسْأَلَةِ فَذَكَرَ أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ لِمَنْ رَدَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ مُسْتَنَدًا أَوْ وَجْهًا. وَأَمَّا سَلْبُ وِلَايَتِهِ فَهُوَ فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ إذْ وِلَايَةُ الْأَطْفَالِ تَسْتَدْعِي اسْتِغْرَاقًا وَفَرَاغًا، وَالْعَبْدُ مُسْتَغْرَقٌ بِخِدْمَةِ سَيِّدِهِ، فَتَفْوِيضُ أَمْرِ الطِّفْلِ إلَيْهِ إضْرَارٌ بِالطِّفْلِ. أَمَّا الشَّهَادَةُ فَتَتَّفِقُ أَحْيَانًا، كَالرِّوَايَةِ وَالْفَتْوَى. و (مِنْهُ) مَا هُوَ مُعَارِضٌ كَالْكِتَابَةِ، فَإِنَّهَا مِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا مَكْرُمَةً فِي الْعَوَائِدِ مَا احْتَمَلَ الشَّرْعُ فِيهَا خَرْمَ قَاعِدَةٍ مُمَهَّدَةٍ، وَهِيَ امْتِنَاعُ مُعَامَلَةِ السَّيِّدِ عَبْدَهُ وَامْتِنَاعُ مُقَابَلَةِ الْمِلْكِ بِالْمِلْكِ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَاوَضَةِ. نَعَمْ، هِيَ جَارِيَةٌ عَلَى قِيَاسِ الْمَالِكِيَّةِ فِي أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ. وَزَعَمَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ قِيَاسِ الْوَسَائِلِ عِنْدَهُمْ، لِأَنَّهُمْ أَوْجَبُوهَا مَعَ أَنَّهَا وَسِيلَةٌ إلَى الْعِتْقِ الَّذِي لَا يَجِبُ. وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، لِأَنَّهَا عِنْدَهُمْ غَيْرُ وَاجِبَةٍ. لَكِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُقَدِّرُونَ خُرُوجَهَا عَنْ الْقِيَاسِ وَاشْتِمَالَهَا عَلَى شَائِبَتَيْ مُعَاوَضَةٍ وَتَعْلِيقٍ، عَلَى خِلَافِ قِيَاسِهِمَا.
وَهَذَا الْقِسْمُ كُلُّهُ يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ، كَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَرِيَاضَتِهَا وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ. وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِالدَّارَيْنِ، كَإِيجَابِ الْكَفَّارَاتِ، إذْ يَحْصُلُ بِهَا الزَّجْرُ عَنْ تَعَاطِي الْأَفْعَالِ الْمُوجِبَةِ لَهَا، وَتَحْصِيلِ تَلَافِي الذَّنْبِ الْكَبِيرِ. وَفَائِدَةُ مُرَاعَاةِ هَذَا التَّرْتِيبِ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ مَصْلَحَتَانِ وَجَبَ إعْمَالُ الضَّرُورَةِ الْمُهِمَّةِ وَإِلْغَاءُ التَّتِمَّةِ.
وَأَمَّا الْإِقْنَاعِيُّ فَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْهُ فِي بَادِئِ الْأَمْرِ أَنَّهُ مُنَاسِبٌ، لَكِنْ إذَا بُحِثَ عَنْهُ حَقَّ الْبَحْثِ ظَهَرَ بِخِلَافِهِ، كَقَوْلِهِمْ، فِي مَنْعِ بَيْعِ الْكَلْبِ قِيَاسًا عَلَى الْخَمْرِ وَالْمَيِّتَةِ: إذْ كَوْنُ الشَّيْءِ نَجَسًا يُنَاسِبُ إذْلَالَهُ. وَمُقَابَلَتُهُ بِالْمَالِ فِي الْبَيْعِ إعْزَازٌ لَهُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا تَنَاقُضٌ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْوَصْفُ يُنَاسِبُ عَدَمَ جَوَازِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ مَعَ الِاقْتِرَانِ دَلِيلُ الْعِلِّيَّةِ فَهَذَا - وَإِنْ كَانَ مُخَيَّلًا - فَهُوَ عِنْدَ النَّظَرِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ، إذْ، لَا مَعْنَى لِكَوْنِ الشَّيْءِ نَجِسًا إلَّا عَدَمُ جَوَازِ الصَّلَاةِ مَعَهُ، وَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدَمِ جَوَازِ الْبَيْعِ. كَذَا قَالَ الرَّازِيَّ وَتَبِعَهُ الْهِنْدِيُّ. وَقَدْ يُنَازَعُ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِهِ نَجَسًا مَنْعُ الصَّلَاةِ مَعَهُ، بَلْ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ أَحْكَامِ النَّجَسِ، وَحِينَئِذٍ فَالتَّعْلِيلُ بِكَوْنِ النَّجَاسَةِ يُنَاسِبُ الْإِذْلَالَ لَيْسَ بِإِقْنَاعِيٍّ.
الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ [تَقْسِيمُ الْمُنَاسَبَةِ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِبَارِ الشَّرْعِيِّ وَعَدَمِهِ]
الْمُنَاسَبَةُ تَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ شَهَادَةِ الشَّرْعِ لَهَا بِالْمُلَائِمَةِ وَالتَّأْثِيرِ وَعَدَمِهَا إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَهُ، أَوْ يُعْلَمَ أَنَّهُ أَلْغَاهُ، أَوْ لَا يُعْلَمَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا.
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مَا عُلِمَ اعْتِبَارُ الشَّرْعِ لَهُ
وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الرُّجْحَانُ، وَالْمُرَادُ بِالِاعْتِبَارِ إيرَادُ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ، لَا التَّنْصِيصَ عَلَيْهِ وَلَا الْإِيمَاءَ إلَيْهِ، وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ الْعِلِّيَّةُ مُسْتَفَادَةً مِنْ الْمُنَاسَبَةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: شَهِدَ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ. قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي شِفَاءِ الْعَلِيلِ ": الْمَعْنَى بِشَهَادَةِ أَصْلٍ مُعَيَّنٍ لِلْوَصْفِ أَنَّهُ مُسْتَنْبَطٌ مِنْهُ، مِنْ حَيْثُ إنَّ الْحُكْمَ أُثْبِتَ شَرْعًا عَلَى وَفْقِهِ. وَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ نَوْعُهُ فِي نَوْعِهِ أَوْ فِي جِنْسِهِ، أَوْ جِنْسُهُ فِي نَوْعِهِ أَوْ جِنْسِهِ.
الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يُعْتَبَرُ نَوْعُهُ فِي نَوْعِهِ: مِنْ خُصُوصِ الْوَصْفِ فِي خُصُوصِ الْحُكْمِ، وَعُمُومِهِ فِي عُمُومِهِ، كَقِيَاسِ الْقَتْلِ بِالْجَارِحِ عَلَى الْمُثْقِلِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ، بِجَامِعِ كَوْنِهِ قَتْلًا عَمْدًا عُدْوَانِيًّا، فَإِنَّهُ قَدْ عُرِفَ تَأْثِيرُ خُصُوصِ كَوْنِهِ قَتْلًا عَمْدًا عُدْوَانًا فِي خُصُوصِ الْحُكْمِ، وَهُوَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ فِي الْمُحَدَّدِ. وَهَذَا الْقِسْمُ يُسَمَّى بِالْمُنَاسِبِ الْمُلَائِمِ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْقِيَاسِيِّينَ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُعْتَبَرَ نَوْعُهُ فِي جِنْسِهِ: كَقِيَاسِ تَقْدِيمِ الْإِخْوَةِ الْأَشِقَّاءِ عَلَى الْإِخْوَةِ مِنْ الْأَبِ فِي النِّكَاحِ عَلَى تَقْدِيمِهِمْ عَلَيْهِمْ فِي الْإِرْثِ وَالصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْإِخْوَةَ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ نَوْعٌ وَاحِدٌ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَلَمْ يُعْرَفْ تَأْثِيرُهُ فِي التَّقْدِيمِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ، لَكِنْ عُرِفَ تَأْثِيرُهُ فِي جِنْسِهِ وَهُوَ التَّقَدُّمُ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ عَدَمِ الْأَمْرِ، كَمَا فِي الْإِرْثِ وَالصَّلَاةِ. وَهَذَا الْقِسْمُ دُونَ مَا قَبْلَهُ، لِأَنَّ الْمُقَارَنَةَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَحَلَّيْنِ أَقَلُّ مِنْ الْمُقَارَنَةِ بَيْنَ نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ.
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُعْتَبَرَ جِنْسُهُ فِي نَوْعِهِ: كَقِيَاسِ إسْقَاطِ الْقَضَاءِ عَنْ الْحَائِضِ عَلَى إسْقَاطِ قَضَاءِ الرَّكْعَتَيْنِ
السَّاقِطَتَيْنِ عَنْ الْمُسَافِرِ، بِتَعْلِيلِ الْمَشَقَّةِ وَالْمَشَقَّةُ جِنْسٌ، وَإِسْقَاطُ قَضَاءِ الصَّلَاةِ نَوْعٌ وَاحِدٌ يُسْتَعْمَلُ عَلَى صِنْفَيْنِ: إسْقَاطُ قَضَاءِ الْكُلِّ، وَإِسْقَاطُ قَضَاءِ الْبَعْضِ، وَقَدْ ظَهَرَ تَأْثِيرُهَا فِي هَذَا النَّوْعِ ضَرُورَةَ تَأْثِيرِهَا فِي إسْقَاطِ قَضَاءِ الرَّكْعَتَيْنِ. وَهَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ مُتَقَارِبَانِ، لَكِنَّ هَذَا أَوْلَى، لِأَنَّ الْإِيهَامَ فِي الْعِلَّةِ أَكْثَرُ مَحْذُورًا مِنْ الْإِيهَامِ فِي الْمَعْلُولِ.
الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: اعْتِبَارُ جِنْسِ الْوَصْفِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ: وَهُوَ كَتَعْلِيلِ كَوْنِ حَدِّ الشُّرْبِ ثَمَانِينَ، فَإِنَّهُ مَظِنَّةُ الْقَذْفِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ مَظِنَّةُ الِافْتِرَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَامَ مَقَامَهُ، قِيَاسًا عَلَى الْخَلْوَةِ، فَإِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مَظِنَّةَ الْوَطْءِ أُقِيمَتْ مَقَامَهُ فِي الْحُرْمَةِ. وَهَذَا الْقِسْمُ كَالْأَوَّلِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَانَ الْوَفَاءُ بِإِقَامَةِ الْمَظِنَّةِ مَقَامَ الْمَظْنُونِ وُجُوبَ الْحَدِّ بِالْخَلْوَةِ، وَلَا قَائِلَ بِهِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي مَا عُلِمَ إلْغَاءُ الشَّرْعِ لَهُ
كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ إيجَابُ الصَّوْمِ ابْتِدَاءً فِي كَفَّارَةِ مَنْ وَاقَعَ فِي رَمَضَانَ، لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْهَا الِانْزِجَارُ، وَهُوَ لَا يَنْزَجِرُ بِالْعِتْقِ، فَهَذَا وَإِنْ كَانَ قِيَاسًا لَكِنَّ الشَّرْعَ أَلْغَاهُ، حَيْثُ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ مُرَتَّبَةً مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمُكَلَّفِينَ، وَالْقَوْلُ بِهِ مُخَالِفٌ لِلنَّهْيِ فَيَكُونُ بَاطِلًا. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ خَصَّصُوا الْعُمُومَ بِالْمَعْنَى فِيمَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ. قُلْنَا: حَيْثُ لَمْ يُعَكِّرْ عَلَى النَّصِّ بِالْإِبْطَالِ، وَهُوَ هُنَا يُعَكِّرْ، فَإِنَّ اعْتِبَارَهُ يُؤَدِّي إلَى الشَّرْعِ إلَيْهِ وَهُوَ الْعِتْقُ.
الْقِسْمُ الثَّالِثِ أَلَّا يُعْلَمَ اعْتِبَارُهُ وَلَا إلْغَاؤُهُ
وَهُوَ الَّذِي لَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ بِالِاعْتِبَارِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى ب " الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ "، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ، وَالْمَشْهُورُ اخْتِصَاصُ