المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الركن الرابع العلة] - البحر المحيط في أصول الفقه - ط الكتبي - جـ ٧

[بدر الدين الزركشي]

فهرس الكتاب

- ‌[كِتَابُ الْقِيَاسِ] [

- ‌الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي حَقِيقَة الْقِيَاس]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ فِي نَظَرِ الْأُصُولِيِّينَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ اشْتِمَالُ النُّصُوصِ عَلَى الْفُرُوعِ الْمُلْحَقَةِ بِالْقِيَاسِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ مُظْهِرٌ لَا مُثْبِتٌ]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي فِي مَوْضُوعِ الْقِيَاسِ]

- ‌[الْبَابُ الثَّالِثُ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ]

- ‌[مَسْأَلَة الْقِيَاسُ يُعْمَلُ بِهِ قَطْعًا]

- ‌[مَسْأَلَة التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ نَصُّ الشَّارِعِ عَلَى الْحُكْمِ وَالْعِلَّةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ اسْتِعْمَال الْقِيَاسُ إذَا عُدِمَ النَّصُّ]

- ‌[مَسْأَلَة الْمُرْسَلُ وَالضَّعِيفُ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ]

- ‌[الْبَابُ الرَّابِعُ فِي أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ]

- ‌[أَقْسَامُ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ]

- ‌[أَقْسَامُ الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ]

- ‌[الْبَابُ الْخَامِسُ مَا يَجْرِي فِيهِ الْقِيَاسُ]

- ‌[أَمْثِلَةٌ لِلْقِيَاسِ فِي الرُّخَصِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ جَرَيَانُ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ فِي الْعَقْلِيَّاتِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ جَرَيَانُ الْقِيَاسِ فِي اللُّغَاتِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ فِي الْأَسْبَابِ]

- ‌[الْبَابُ السَّادِسُ فِي أَرْكَانِ الْقِيَاس] [

- ‌الرُّكْن الْأَوَّل الْأَصْلِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَأْثِيرُ الْأَصْلِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ]

- ‌[الْكَلَامُ فِي شُرُوطِ حُكْمِ الْأَصْلِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَا يَمْتَنِعُ فِيهِ الْقِيَاسُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ الْأَصْلِ]

- ‌[الرُّكْنُ الثَّالِثُ الْفَرْعُ]

- ‌[الرُّكْنُ الرَّابِعُ الْعِلَّةُ]

- ‌[مَسْأَلَة الْمَعْلُولُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَقَدُّمُ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَا بُدَّ لِلْحُكْمِ مِنْ عِلَّةٍ]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ شُرُوطِ الْعِلَّةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ اقْتِصَارُ الشَّارِعِ عَلَى أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ فِي الْعِلَّة]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ أُمُورٍ اُشْتُرِطَتْ فِي الْعِلَّةِ]

- ‌[فَائِدَةٌ الْعِلَّةُ إذَا كَثُرَتْ أَوْصَافُهَا فِي الْقِيَاسِ]

- ‌[مَسَالِكُ الْعِلَّةِ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ الْإِجْمَاعُ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً]

- ‌[الْمَسْلَكُ الثَّانِي النَّصُّ عَلَى الْعِلَّةِ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ الْإِيمَاءُ وَالتَّنْبِيهُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الرَّابِعُ الِاسْتِدْلَال عَلَى عِلِّيَّةِ الْحُكْمِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الْمَسْلَكُ الْخَامِسُ فِي إثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ الْمُنَاسَبَةُ]

- ‌[تَقْسِيمُ الْمُنَاسِبِ]

- ‌[أَقْسَامُ الْمُنَاسِبِ مِنْ حَيْثُ الْيَقِينِ وَالظَّنِّ]

- ‌[أَقْسَامُ الْمُنَاسِبِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةِ وَالْإِقْنَاعِ]

- ‌[تَقْسِيمُ الْمُنَاسَبَةِ مِنْ حَيْثُ التَّأْثِيرُ وَالْمُلَاءَمَةُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ السَّادِسُ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ السَّابِعُ الشَّبَهُ]

- ‌[حُكْم قِيَاس الشَّبَه]

- ‌[الْمَسْلَكُ الثَّامِنُ الدَّوَرَانُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ التَّاسِعُ الطَّرْدُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الْعَاشِرُ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ]

- ‌[الِاعْتِرَاضَاتُ]

- ‌[الْأَوَّلُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ النَّقْضُ]

- ‌[الثَّانِي مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الْكَسْرُ]

- ‌[الثَّالِثُ مِنْ الِاعْتِرَاضَات عَدَمُ الْعَكْسِ]

- ‌[الرَّابِعُ مِنْ الِاعْتِرَاضَات عَدَمُ التَّأْثِيرِ]

- ‌[الْخَامِسُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الْقَلْبُ]

- ‌[حَقِيقَتِهِ الْقَلْبُ]

- ‌[اعْتِبَارِهِ الْقَلْب]

- ‌[هَلْ الْقَلْب قَادِحٌ أَمْ لَا]

- ‌[أَقْسَام الْقَلْبُ]

- ‌[السَّادِسُ مِنْ الِاعْتِرَاضَات الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ]

- ‌[السَّابِعُ مِنْ الِاعْتِرَاضَات الْفَرْقُ وَيُسَمَّى سُؤَالَ الْمُعَارَضَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ شُرُوط الْفَرْقِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي جَوَابِ الْفَرْقِ]

- ‌[الثَّامِنُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الِاسْتِفْسَارُ]

- ‌[التَّاسِعُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ]

- ‌[الْعَاشِرُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ فَسَادُ الْوَضْعِ]

- ‌[الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَات الْمَنْعُ]

- ‌[الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَات التَّقْسِيمُ]

- ‌[الثَّالِث عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَات اخْتِلَافُ الضَّابِطِ]

- ‌[الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ اخْتِلَافُ حُكْمَيْ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ]

- ‌[الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الْمُعَارَضَةِ]

- ‌[وُجُوهٍ الْمُعَارَضَةِ]

- ‌[السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ سُؤَالُ التَّعْدِيَةِ]

- ‌[فَصْلٌ تَرْتِيبِ الْأَسْئِلَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الِانْتِقَالِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْفَرْضِ وَالْبِنَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي حِيَلِ الْمُتَنَاظِرِينَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي التَّعَلُّقِ بِمُنَاقَضَاتِ الْخُصُومِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِالْمُخْتَلَفِ فِيهِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ]

الفصل: ‌[الركن الرابع العلة]

[الرُّكْنُ الرَّابِعُ الْعِلَّةُ]

[الرُّكْنُ الرَّابِعُ] الْعِلَّةُ وَهِيَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْقِيَاسِ لِيَجْمَعَ بِهَا بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ. قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: مِنْ النَّاسِ مَنْ اقْتَصَرَ عَلَى الشَّبَهِ وَمَنَعَ الْقَوْلَ بِالْعِلَّةِ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: ذَهَبَ بَعْضُ الْقَيَّاسِينَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ إلَى صِحَّةِ الْقِيَاسِ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ إذَا لَاحَ بَعْضُ الشَّبَهِ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْقَيَّاسِينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّ الْعِلَّةَ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي الْقِيَاسِ وَهِيَ رُكْنُ الْقِيَاسِ لَا يَقُومُ الْقِيَاسُ إلَّا بِهَا. وَالْعِلَّةُ فِي اللُّغَةِ قِيلَ: هِيَ اسْمٌ لِمَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُ الشَّيْءِ بِحُصُولِهِ، مَأْخُوذٌ مِنْ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ الْمَرَضُ، لِأَنَّ تَأْثِيرَهَا فِي الْحُكْمِ كَأَثَرِ الْعِلَّةِ فِي ذَاتِ الْمَرِيضِ. وَيُقَالُ: اعْتَلَّ فُلَانٌ إذَا حَالَ عَنْ الصِّحَّةِ إلَى السَّقَمِ. وَهَذَا الْمَعْنَى اعْتَمَدَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي كِتَابِ الْإِخْبَارِ عَنْ أَحْكَامِ الْعِلَلِ " وَهُوَ مُجَلَّدٌ لَطِيفٌ وَجَرَى عَلَيْهِ إلْكِيَا وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا نَاقِلَةٌ بِحُكْمِ الْأَصْلِ إلَى الْفَرْعِ كَالِانْتِقَالِ بِالْعِلَّةِ مِنْ الصِّحَّةِ إلَى الْمَرَضِ، حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَقَالَ: الْأَوَّلُ أَحْسَنُ، لِأَنَّا قَبِلْنَا صِحَّةَ التَّعْلِيلِ بِالْقَاصِرَةِ. وَقِيلَ: إنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْعَلَلِ بَعْدَ النَّهَلِ، وَهُوَ مُعَاوَدَةُ الْمَاءِ لِلشُّرْبِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ فِي اسْتِخْرَاجِهَا يُعَاوِدُ النَّظَرَ بَعْدَ النَّظَرِ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يَتَكَرَّرُ بِتَكْرَارِ وُجُودِهَا، وَلِأَنَّ الْحَادِثَةَ مُسْتَمِرَّةٌ بَاقِيَةٌ غَيْرُ مُتَكَرِّرَةٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْقَدَرِيَّةِ. قَالَ إلْكِيَا: وَقَدْ يُعَبَّرُ بِهَا عَمَّا لِأَجْلِ ذَلِكَ يُقْدِمُ عَلَى الْفِعْلِ أَوْ يُمْنَعُ مِنْهُ يُقَالُ: فَعَلَ الْفِعْلَ لِعِلَّةِ كَيْتَ، أَوْ لَمْ يَفْعَلْ لِعِلَّةِ كَيْتَ. وَقَدْ اُسْتُعْمِلَتْ فِي الْمَعْلُولَاتِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي يُوجِبُ لِغَيْرِهِ حَالًا كَالْعِلْمِ يُوجِبُ الْعَالَمِيَّةَ، وَالْوَصْفِ مِنْ غَيْرِ حَالِ السَّوَادِ فَقَالَ: إنَّهُ عِلَّةٌ فِي وَصْفِ الْمَحَلِّ بِأَنَّهُ أَسْوَدُ.

ص: 142

وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ: فَاخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْمُعَرِّفُ لِلْحُكْمِ أَيْ جُعِلَتْ عَلَمًا عَلَى الْحُكْمِ إنْ وُجِدَ الْمَعْنَى وُجِدَ الْحُكْمُ، قَالَهُ الصَّيْرَفِيُّ فِي " كِتَابِ الْإِعْلَامِ " وَابْنُ عَبْدَانَ فِي " شَرَائِطِ الْأَحْكَامِ " وَأَبُو زَيْدٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَحَكَاهُ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ " عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ " الْمَحْصُولِ " وَالْمِنْهَاجِ ". أَيْ مَا يَكُونُ دَالًّا عَلَى وُجُودِ الْحُكْمِ وَلَيْسَتْ مُؤَثِّرَةً لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ هُوَ اللَّهُ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ قَدِيمٌ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْحَادِثُ. وَنُقِضَ بِ " الْعَلَامَةِ " فَإِنَّ الْحَدَّ صَادِقٌ عَلَيْهَا وَلَيْسَتْ الْأَحْكَامُ مُضَافَةً إلَيْهَا. وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ كَمَا قَالَهُ الصَّيْرَفِيُّ. أَمَّا الْعَقْلِيَّةُ فَمُوجِبَةٌ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الشَّرْعَ دَخَلَهُ التَّعَبُّدُ الَّذِي لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، بِخِلَافِ الْعَقْلِ فَإِنَّ أَحْكَامَهُ مَعْقُولَةُ الْمَعَانِي فَمِنْ ثَمَّ كَانَتْ عِلَلُهُ مُؤَثِّرَةً وَعِلَلُ الشَّرْعِ مُعَرِّفَاتٍ وَالْمُؤَثِّرُ إنَّمَا هُوَ خِطَابُ الشَّرْعِ. وَعِبَارَةُ ابْنِ عَبْدَانَ فِي الْفَرْقِ أَنَّ الْعَقْلِيَّةَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعُقُولِ، وَالشَّرْعِيَّةَ لَيْسَتْ مِنْ مُوجِبَاتِهِ، بَلْ هِيَ أَمَارَاتٌ وَدَلَالَاتٌ فِي الظَّاهِرِ. وَقَالَ فِي " التَّقْوِيمِ ": عِلَلُ الشَّرْعِ أَعْلَامٌ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى الْأَحْكَامِ، وَالْمُوجِبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى بِدَلِيلِ أَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الشَّرْعِ، وَلَوْ كَانَتْ مُوجَبَةً لَمْ تَنْفَكَّ عَنْ مَعْلُولَاتِهَا قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ تُسَمَّى أَدِلَّةً لِأَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فِي الْفُرُوعِ قَالَ: وَبَعْضُهَا أَظْهَرُ مِنْ بَعْضٍ، حَتَّى قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الظَّاهِرُ مِنْهَا قِيَاسٌ، وَالْبَاطِنُ اسْتِحْسَانٌ.

ص: 143

تَنْبِيهٌ قَالَ الْهِنْدِيُّ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهَا مُعَرِّفَةً أَنَّهَا تُعَرِّفُ حُكْمَ الْأَصْلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ بِالنَّصِّ بَلْ حُكْمِ الْفَرْعِ، لَكِنْ يَخْدِشُهُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا إنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ مُعَلَّلٌ بِالْعِلَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّرْعِ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مُعَرِّفٍ بِهَا. الثَّانِي: أَنَّهَا الْمُوجِبُ لِلْحُكْمِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَهَا مُوجِبَةً لِذَاتِهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْغَزَالِيِّ وَسُلَيْمٍ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَهُوَ قَرِيبٌ لَا بَأْسَ بِهِ، فَالْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ النَّبِيذِ هِيَ الشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ تَعَلُّقِ التَّحْرِيمِ بِهَا، وَلَكِنَّهَا عِلَّةٌ بِجَعْلِ الشَّارِعِ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا الْمُوجِبَةُ لِلْحُكْمِ بِذَاتِهَا لَا بِجَعْلِ اللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ. وَالْعِلَّةُ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لَا يُوقَفُ عَلَى جَعْلِ جَاعِلٍ وَيُعَبِّرُونَ عَنْهُ تَارَةً بِالْمُؤَثِّرِ. الرَّابِعُ: أَنَّهَا الْمُوجِبَةُ بِالْعَادَةِ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيَّ فِي " الرِّسَالَةِ الْبَهَائِيَّةِ " فِي الْقِيَاسِ وَهُوَ غَيْرُ الثَّانِي. الْخَامِسُ: الْبَاعِثُ عَلَى التَّشْرِيعِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ مُشْتَمِلًا عَلَى مَصْلَحَةٍ صَالِحَةٍ أَنْ تَكُونَ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ. وَمِنْهُمْ مَنْ عَبَّرَ عَنْهَا بِاَلَّتِي يَعْلَمُ اللَّهُ صَلَاحَ الْمُتَعَبِّدِينَ فِي التَّعَبُّدِ بِالْحُكْمِ لِأَجْلِهَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْآمِدِيَّ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَهُوَ نَزْعَةُ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى يُعَلِّلُ أَفْعَالَهُ بِالْأَغْرَاضِ. وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ خِلَافُهُ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ الْقَطَّانِ: الْعِلَّةُ عِنْدَنَا هِيَ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ الْحُكْمُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ لِأَجْلِهَا، وَهُوَ الْغَرَضُ وَالْمَعْنَى الْجَالِبُ لِلْحُكْمِ ثُمَّ قَالَ: وَالْعِلَّةُ مَا جَلَبَ الْحُكْمُ. قَالَ: وَإِلَى هَذَا كَانَ يَذْهَبُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ. انْتَهَى. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ الرِّبَا الْقَوْلَيْنِ فَقَالَ: الْعِلَّةُ هِيَ الَّتِي لِأَجْلِهَا ثَبَتَ الْحُكْمُ. وَقِيلَ: الصِّفَةُ الْجَالِبَةُ لِلْحُكْمِ.

ص: 144

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: اُخْتُلِفَ فِي الْعِلَّةِ فَقِيلَ: إنَّهَا صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِالْمَعْلُولِ كَالشِّدَّةِ فِي الْخَمْرِ. وَهُوَ خَطَأٌ، لِأَنَّ بَعْضَ الْأَغْرَاضِ قَدْ يَكُونُ عِلَّةً لِغَرَضٍ آخَرَ وَلَا يَقُومُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ. وَقَالَ: وَإِنَّمَا مَعْنَى الْعِلَّةِ السَّبَبُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ اجْتِهَادًا فَإِنَّ النَّصَّ الْجَالِبَ لِلْحُكْمِ لَا يَكُونُ عِلَّةً لَهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، وَالِاعْتِلَالُ اسْتِدْلَالُ الْمُعَلِّلِ بِالْعِلَّةِ وَإِظْهَارُهُ لَهَا، وَالْمُعْتَلُّ هُوَ الْمُعَلِّلُ وَالْمُعْتَلُّ بِهِ نَفْسُ الْعِلَّةِ وَقَالَ إلْكِيَا: الْعِلَّةُ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ الصِّفَةُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ بِهَا، وَالْعَقْلِيَّةُ مُوجِبَةٌ عَلَى رَأْيِ الْقَائِلِينَ بِهَا وَالشَّرْعِيَّةُ مَوْضُوعَةٌ وَلَكِنَّهَا مُشَبَّهَةٌ بِهَا فِي الشَّرْعِ، أُثْبِتَ الْحُكْمُ لِأَجْلِهَا فِي طَرِيقِ الْفُقَهَاءِ فَكَانَ أَقْرَبُ عِبَارَةٍ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ عِبَارَةَ الْعِلَّةِ لِيَكُونَ الْحُكْمُ تَبَعَ الْحَقِيقَةِ عَلَى مِثَالِهَا. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: قَالُوا: إنَّهَا الصِّفَةُ الْجَالِبَةُ لِلْحُكْمِ. وَقِيلَ: إنَّهَا الْمَعْنَى الْمُنْشِئُ.

مَسْأَلَةٌ

وَهِيَ تَنْقَسِمُ إلَى عَقْلِيَّةٍ: وَهِيَ لَا تَصِيرُ عِلَّةً بِجَعْلِ جَاعِلٍ بَلْ بِنَفْسِهَا، وَهِيَ مُوجِبَةٌ لَا تَتَغَيَّرُ بِالْأَزْمَانِ كَحَرَكَةِ الْمُتَحَرِّكِ. وَشَرْعِيَّةٍ: وَهِيَ الَّتِي صَارَتْ عِلَّةً بِجَعْلِ جَاعِلٍ كَالْإِسْكَارِ فِي الْخَمْرِ، وَكَانَتْ قَبْلَ مَجِيءِ الشَّرْعِ، وَتَتَخَصَّصُ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ وَلَا تَتَخَصَّصُ بِعَيْنٍ دُونَ عَيْنٍ. مَسْأَلَةٌ

الْعِلَّةُ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْلِيَّةِ. كَالْحَرَكَةِ عِلَّةٌ فِي كَوْنِ الْمُتَحَرِّكِ مُتَحَرِّكًا، كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ. وَإِنَّمَا تُسَمَّى الْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ عِلَّةً مَجَازًا أَوْ اتِّسَاعًا، وَإِلَّا فَفِي الْحَقِيقَةِ الْعِلَّةُ مَا أَوْجَبَ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ، وَهِيَ الْعِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ، وَأَمَّا الَّتِي تُوجِبُهُ بِغَيْرِهَا فَلَيْسَتْ بِعِلَّةٍ فِي وَضْعِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَإِنَّمَا هِيَ أَمَارَةٌ عَلَى الْحُكْمِ.

ص: 145

مَسْأَلَةٌ

وَتَنْقَسِمُ إلَى: مُسْتَنْبَطَةٍ وَمَنْصُوصَةٍ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ خُرَاسَانَ: مَسْطُورَةٍ وَمَنْشُورَةٍ. وَقَالَ فِي " اللُّمَعِ ": وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ جَعْلَ الْمَنْصُوصَةِ عِلَّةً وَهُوَ قِيَاسُ نُفَاةِ الْقِيَاسِ. وَقِيلَ: هِيَ عِلَّةٌ فِي الْمَعْنَى فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ عِلَّةً فِي غَيْرِهِ إلَّا بِأَمْرٍ ثَانٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا عِلَّةٌ مُطْلَقًا. قَالَ: وَأَمَّا الْمُسْتَنْبَطَةُ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً إلَّا مَا ثَبَتَ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ.

مَسْأَلَةٌ

قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: طَرِيقُ اعْتِبَارِ الْعِلَّةِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: سَمْعِيٌّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: عَقْلِيٌّ، فَمَنْ قَالَ: سَمْعِيٌّ يُرَاعِي فِي كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً دَلَالَةً سَمْعِيَّةً، وَمَنْ قَالَ: عَقْلِيٌّ قَالَ: طَرِيقَةُ اعْتِبَارِ عِلَلِ السَّمْعِ كَطَرِيقِ اعْتِبَارِ عِلَلِ الْعَقْلِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالتَّقْسِيمِ بِأَنْ يُقَالَ: لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ حُرِّمَ لِكَذَا أَوْ كَذَا، كَمَا يُقَالُ: لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ تَحَرَّكَ لِكَذَا أَوْ لِكَذَا، فَيَقَعُ عَلَى الْمَعْنَى لَهُ تَحَرُّكٌ.

مَسْأَلَةٌ قَالَ فِي " الْمُقْتَرَحِ ": لِلْعِلَّةِ أَسْمَاءٌ فِي الِاصْطِلَاحِ، وَهِيَ: السَّبَبُ، وَالْإِشَارَةُ، وَالدَّاعِي، وَالْمُسْتَدْعِي، وَالْبَاعِثُ، وَالْحَامِلُ، وَالْمَنَاطُ، وَالدَّلِيلُ، وَالْمُقْتَضِي، وَالْمُوجِبُ، وَالْمُؤَثِّرُ. انْتَهَى. وَزَادَ بَعْضُهُمْ: الْمَعْنَى. وَالْكُلُّ سَهْلٌ غَيْرُ السَّبَبِ وَالْمَعْنَى.

ص: 146

أَمَّا السَّبَبُ: فَهُوَ مُتَمَيِّزٌ عَنْ الْعِلَّةِ مِنْ جِهَةِ الِاصْطِلَاحِ الْكَلَامِيِّ وَالْأُصُولِيِّ وَالْفِقْهِيِّ وَاللُّغَوِيِّ. أَمَّا اللُّغَوِيُّ فَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: السَّبَبُ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى غَيْرِهِ. وَلَوْ بِوَسَائِطَ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْحَبْلُ سَبَبًا، وَذَكَرُوا لِلْعِلَّةِ مَعَانِيَ يَدُورُ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ فِيهَا عَلَى أَنَّهَا تَكُونُ أَمْرًا مُسْتَمَدًّا مِنْ أَمْرٍ آخَرَ وَأَمْرًا مُؤَثِّرًا فِي آخَرَ. وَقَالَ أَكْثَرُ النُّحَاةِ: اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ وَلَمْ يَقُولُوا لِلسَّبَبِيَّةِ، وَقَالُوا الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ وَلَمْ يَقُولُوا لِلتَّعْلِيلِ. وَصَرَّحَ ابْنُ مَالِكٍ بِأَنَّ الْبَاءَ لِلسَّبَبِيَّةِ وَالتَّعْلِيلِ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُمَا غَيْرَانِ. وَأَمَّا الْكَلَامِيُّ: فَاعْلَمْ أَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي تَوَقُّفِ الْمُسَبَّبِ عَلَيْهِمَا وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّبَبَ مَا يَحْصُلُ الشَّيْءُ عِنْدَهُ لَا بِهِ، وَالْعِلَّةُ مَا يَحْصُلُ بِهِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْلُولَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْعِلَّةِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَلَا شَرْطٍ يَتَوَقَّفُ الْحُكْمُ عَلَى وُجُودِهِ، وَالسَّبَبُ إنَّمَا يَقْتَضِي الْحُكْمَ بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِوَسَائِطَ، وَلِذَلِكَ يَتَرَاخَى الْحُكْمُ عَنْهَا حَتَّى تُوجَدَ الشَّرَائِطُ وَتَنْتَفِي الْمَوَانِعُ. وَأَمَّا الْعِلَّةُ فَلَا يَتَرَاخَى الْحُكْمُ عَنْهَا، إذَا اُشْتُرِطَ لَهَا، بَلْ هِيَ أَوْجَبَتْ مَعْلُولًا بِالِاتِّفَاقِ، حَكَى الِاتِّفَاقَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْآمِدِيَّ وَغَيْرُهُمَا.

وَأَمَّا الْأُصُولِيُّ: فَقَالَ الْآمِدِيُّ فِي جَدَلِهِ ": الْعِلَّةُ فِي لِسَانِ الْفُقَهَاءِ تُطْلَقُ عَلَى الْمَظِنَّةِ أَيْ الْوَصْفِ الْمُتَضَمِّنِ لِحِكْمَةِ الْحُكْمِ، كَمَا فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: قَتْلٌ لِعِلَّةِ الْقَتْلِ، وَتَارَةً يُطْلِقُونَهَا عَلَى حِكْمَةِ الْحُكْمِ، كَالزَّجْرِ الَّذِي هُوَ حِكْمَةُ الْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: الْعِلَّةُ الزَّجْرُ. وَأَمَّا السَّبَبُ: فَلَا يُطْلَقُ إلَّا عَلَى مَظِنَّةِ الْمَشَقَّةِ دُونَ الْحِكْمَةِ إذْ بِالْمَظِنَّةِ يُتَوَصَّلُ إلَى الْحُكْمِ لِأَجْلِ الْحِكْمَةِ. انْتَهَى. وَأَمَّا الْفِقْهِيُّ فَقَالَ إلْكِيَا: يُطْلَقُ السَّبَبُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَرْبَعَةِ أُمُورٍ:

ص: 147

أَحَدُهَا: السَّبَبُ الَّذِي يُقَالُ: إنَّهُ مِثْلُ الْعِلَّةِ كَالرَّمْيِ، فَإِنَّهُ سَبَبٌ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْعِلَّةِ، لِأَنَّ عَيْنَ الرَّمْيِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْحُكْمِ حَيْثُ لَا فِعْلَ مِنْهُ، وَمِنْهُ الزِّنَى. الثَّانِي: مَا يَكُونُ الطَّارِئُ مُؤَثِّرًا وَلَكِنَّ تَأْثِيرَهُ مُسْتَنِدٌ إلَى مَا قَبْلَهُ، فَهُوَ سَبَبٌ مِنْ حَيْثُ اسْتِنَادُ الْحُكْمِ إلَى الْأَوَّلِ لَا اسْتِنَادُ الْوَصْفِ الْآخَرِ إلَى الْأَصْلِ. الثَّالِثُ: مَا لَيْسَ سَبَبًا بِنَفْسِهِ وَلَكِنْ يَصِيرُ سَبَبًا بِغَيْرِهِ، كَقَوْلِهِمْ: الْقِصَاصُ وَجَبَ رَدْعًا وَزَجْرًا، ثُمَّ قَالُوا: وَجَبَ لِسَبَبِ الْقَتْلِ، إذْ الْقَتْلُ عِلَّةُ الْقِصَاصِ، فَقَطَعُوا الْحُكْمَ عَنْ الْعِلَّةِ، وَجَعَلُوهُ مُتَعَلِّقًا بِالْعِلَّةِ، وَالْعِلَّةُ غَيْرُ الْحُكْمِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَوْلَا الْحِكْمَةُ لَكَانَ الْحُكْمُ صُورَةً غَيْرَ صَالِحَةٍ لِلْحُكْمِ، فَبِالْحِكْمَةِ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ صُورَةً، وَالْعِلَّةُ صَارَتْ جَالِبَةً لِلْحُكْمِ بِمَعْنَاهَا لَا بِصُورَتِهَا، وَدُونَ الْحِكْمَةِ لَا شَيْءَ إلَّا صُورَةُ الْفِعْلِ، وَالصُّورَةُ لَا تَكُونُ عِلَّةً قَطُّ، فَعَلَى هَذَا، الْحِكْمَةُ رَاجِعَةٌ إلَى الْعِلَّةِ فَلَا عِلَّةَ بِدُونِهَا، وَالْخِلَافُ يَرْجِعُ إلَى اللَّفْظِ. الرَّابِعُ: مَا يُسَمَّى سَبَبًا مَجَازًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَبَبٌ لِمَا يَجِبُ، كَقَوْلِهِمْ الْإِمْسَاكُ سَبَبُ الْقَتْلِ، وَلَيْسَ سَبَبَ الْقَتْلِ حَقِيقَةً، فَإِنَّهُ لَيْسَ يُفْضِي إلَى الْقَتْلِ، بَلْ الْقَتْلُ بِاخْتِيَارِ الْقَاتِلِ، وَلَكِنَّهُ سَبَبٌ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الْقَتْلِ بِإِلْحَاقٍ، وَقِيلَ: سَبَبُ الْقَتْلِ. فَالْأَسْبَابُ لَا تَعْدُو هَذِهِ الْوُجُوهَ.

انْتَهَى. وَقَالَ فِي " تَعْلِيقِهِ ": الْمُتَكَلِّمُونَ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ، وَالْفُقَهَاءُ يَقُولُونَ: الْعِلَّةُ هِيَ الَّتِي يَعْقُبُهَا الْحُكْمُ، وَالسَّبَبُ مَا تَرَاخَى عَنْهُ الْحُكْمُ وَوَقَفَ عَلَى شَرْطٍ أَوْ شَيْءٍ بَعْدَهُ. وَفَرَّقَ غَيْرُهُ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْحِكْمَةِ، بِأَنَّ السَّبَبَ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْحُكْمِ، وَالْحِكْمَةُ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ الْحُكْمِ، وَالْحُكْمُ مُفِيدٌ لَهَا، كَالْجُوعِ سَبَبُ الْأَكْلِ، وَمَصْلَحَةُ رَفْعِ الْجُوعِ وَتَحْصِيلِ الشِّبَعِ حِكْمَةٌ لَهُ. وَقَدْ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي الْفِقْهِيَّاتِ أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي لَهُ مَدْخَلٌ فِي زَهُوقِ الرُّوحِ

ص: 148

إنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الزَّهُوقِ وَلَا فِيمَا يُؤَثِّرُ فِيهِ فَهُوَ " الشَّرْطُ "، كَحَفْرِ الْبِئْرِ الَّتِي يَتَرَدَّى فِيهَا مُتَرَدٍّ.

وَإِنْ أَثَّرَ فِيهِ وَحَصَّلَهُ فَهُوَ " الْعِلَّةُ " كَالْقَدِّ وَالْحَزِّ. وَإِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الزَّهُوقِ وَلَكِنْ أَثَّرَ فِيمَا يُؤَثِّرُ فِي حُصُولِهِ فَهُوَ " السَّبَبُ " كَالْإِكْرَاهِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ الْقِصَاصُ بِالشَّرْطِ قَطْعًا، وَيَتَعَلَّقُ بِالْعِلَّةِ قَطْعًا، وَفِي السَّبَبِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ. وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ فَوْقَ السَّبَبِ، صَحَّ الْحُكْمُ بِتَقَاصُرِ رُتْبَتِهِ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ كَمَا قَرَّرُوهُ فِي كِتَابِ الْجِرَاحِ مِنْ أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ عِلَّةٌ، وَالْعِلَّةُ أَقْوَى مِنْ السَّبَبِ، وَمِنْ نَظَائِرِ الْمَسْأَلَةِ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا فَتَحَ زِقًّا بِحَضْرَةِ مَالِكِهِ فَخَرَجَ مَا فِيهِ وَالْمَالِكُ يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ فَلَمْ يَفْعَلْ فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْفَاتِحِ وَجْهَانِ، وَلَوْ رَآهُ يَقْتُلُ عَبْدَهُ أَوْ يَحْرُقُ ثَوْبَهُ فَلَمْ يَمْنَعْهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْمَنْعِ وَجَبَ الضَّمَانُ وَجْهًا وَاحِدًا. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْقَتْلَ وَالتَّحْرِيقَ مُبَاشَرَةٌ، وَفَتْحَ الزِّقِّ سَبَبٌ، وَالسَّبَبُ قَدْ يَسْقُطُ حُكْمُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى مَنْعِهِ، بِخِلَافِ الْعِلَّةِ لِاسْتِقْلَالِهَا فِي نَفْسِهَا. وَإِنَّمَا قُلْنَا: قَدْ يَسْقُطُ حُكْمُهُ وَلَمْ نَجْعَلْ السُّقُوطَ مُطَّرِدًا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ صَالَتْ عَلَيْهِ بَهِيمَةُ غَيْرِهِ وَأَمْكَنَهُ الْهَرَبُ فَلَمْ يَهْرُبْ فَفِي الضَّمَانِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ وَهُوَ بِعَدَمِ هُرُوبِهِ مُفَرِّطٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ.

وَالثَّانِي: لَا يَضْمَنُ لِوُقُوعِ الصِّيَالِ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَرْجَحُ مِنْهُ فِي مَسْأَلَةِ الزِّقِّ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ عِنْدَ الصِّيَالِ دَهْشَةٌ تَشْغَلُهُ عَنْ الدَّفْعِ.

وَقَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ: الطُّرُقُ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ وَالشَّرْطِ: أَنَّا نَنْظُرُ إلَى الشَّيْءِ إنْ جَرَى مُقَارِنًا لِلشَّيْءِ وَأَثَّرَ فِيهِ فَهُوَ " الْعِلَّةُ "، أَوْ غَيْرَ مُقَارَنٍ وَلَا تَأْثِيرَ لِلشَّيْءِ فِيهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ " سَبَبٌ ". وَأَمَّا " الشَّرْطُ " فَهُوَ مَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ. وَهُوَ مُقَارَنٌ غَيْرُ مُفَارِقٍ لِلْحُكْمِ كَالْعِلَّةِ سَوَاءٌ إلَّا أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَامَةٌ عَلَى الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ أَصْلًا.

وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ رحمه الله: الشَّرْطُ مَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ،

ص: 149

وَالسَّبَبُ لَا يُوجِبُ تَغَيُّرَ الْحُكْمِ بَلْ يُوجِبُ مُصَادَفَتَهُ وَمُوَافَقَتَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامَ الْقَفَّالِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسْأَلَةٌ خِلَافِيَّةٌ مَقْصُودَةٌ فِي نَفْسِهَا. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الشَّرْطُ إذَا اتَّصَلَ بِالسَّبَبِ وَلَمْ يَكُنْ مُبْطِلًا كَانَ تَأْثِيرُهُ فِي حُكْمِ تَأَخُّرِ السَّبَبِ إلَى حِينِ وُجُودِهِ لَا فِي مَنْعِ وُجُودِهِ، وَمِثَالُهُ إذَا قَالَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَالسَّبَبُ قَوْلُهُ:" فَأَنْتِ طَالِقٌ " لِأَنَّ " أَنْتِ طَالِقٌ " ثَابِتٌ مَعَ الشَّرْطِ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ بِدُونِهِ، غَيْرَ أَنَّ الشَّرْطَ أُوقِفَ حُكْمُهُ إلَى وَقْتِ وُجُودِهِ، فَتَأْثِيرُ الشَّرْطِ إنَّمَا هُوَ فِي مَنْعِ حُكْمِ الْعِلَّةِ، لَا فِي نَفْسِ الْعِلَّةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ الشَّرْطُ ثَبَتَ حُكْمُ الْعِلَّةِ. وَرُبَّمَا عَبَّرُوا عَنْ هَذَا بِأَنَّ الشَّرْطَ لَا يُبْطِلُ السَّبَبِيَّةَ، وَلَكِنْ يُؤَخِّرُ حُكْمَهَا، وَالسَّبَبُ يَنْعَقِدُ وَلَكِنَّ الشَّرْطَ يَرْفَعُهُ وَيُؤَخِّرُ حُكْمَهُ فَإِذَا ارْتَفَعَ الشَّرْطُ عَمِلَ السَّبَبُ عَمَلَهُ، وَمِنْ ثَمَّ يَقُولُونَ: الصِّفَةُ وُقُوعٌ لَا إيقَاعٌ، وَالشَّرْطُ عِنْدَهُمْ قَاطِعُ طَرِيقٍ يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، إذْ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي التَّأْثِيرِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، وَإِنَّمَا هُوَ تَوَقُّفٌ عَنْ الْحُكْمِ. وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ أَنَّهَا إذَا دَخَلَتْ طَلُقَتْ لِكَوْنِهِ قَالَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَا لِكَوْنِهَا دَخَلَتْ. قَالَ أَصْحَابُنَا مَنْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ فَقَدْ نَجَزَ السَّبَبَ، وَالْمُعَلَّقُ إنَّمَا هُوَ عَمَلُ السَّبَبِ لَا نَفْسُهُ، وَقَدْ وَافَقَنَا عَلَى ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الشَّرْطُ يَمْنَعُ انْعِقَادَ السَّبَبِ فِي الْحَالِ وَخَرَّجَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَجْهًا فِي مَذْهَبِنَا مِنْ قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا فِي الْمَسْأَلَةِ السُّرَيْجِيَّةِ: إنَّهُ يَقَعُ الْمُنَجَّزُ وَطَلْقَتَانِ مَعَهُ أَوْ بَعْدَهُ مِنْ الْمُعَلَّقِ، وَرُبَّمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الشَّرْطُ دَاخِلٌ عَلَى نَفْسِ الْعِلَّةِ لَا عَلَى حُكْمِهَا. قَالَ: وَالشَّرْطُ يَحُولُ بَيْنَ الْعِلَّةِ وَمَحَلِّهَا. فَلَا تَصِيرُ عِلَّةً مَعَهُ. وَالظَّاهِرُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي التَّأْثِيرِ فَكَيْفَ يَمْنَعُ الْعِلِّيَّةَ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ:

مِنْهَا: تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ أَوْ الْعِتْقِ بِالْمِلْكِ عِنْدَنَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ عِنْدَنَا وَقْتَ التَّعْلِيقِ مَحَلًّا قَابِلًا لِمَا يُعْرَفُ بِهِ مِنْهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّعْلِيقَ لَا يَمْنَعُ السَّبَبِيَّةَ،

ص: 150

وَإِذَا لَمْ يَمْنَعْهَا انْعَقَدَتْ، وَانْعِقَادُ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ فِي غَيْرِ زَوْجَةٍ وَرَقِيقٍ غَيْرُ مَعْقُولٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ: لَمَّا مَنَعَ التَّعْلِيقُ السَّبَبِيَّةَ لَمْ يَكُنْ مُنْعَقِدًا فَلَمْ يَكُنْ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ فِي غَيْرِ مَمْلُوكٍ بَلْ هُوَ إنَّمَا هِيَ فِي مَمْلُوكٍ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ تَأَخَّرَتْ إلَى زَمَنِ الْمِلْكِ فَالْمَوْجُودُ وَقْتَ التَّعْلِيقِ لَفْظُ الْعِلَّةِ لَا نَفْسُهَا وَقَدْ قَطَعَهَا التَّعْلِيقُ. تَنْبِيهٌ

قَدْ عَرَفْت حُكْمَ كَلِمَةِ الشَّرْطِ الْمُسَلَّطَةِ عَلَى الْأَسْبَابِ، وَأَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: إنَّهَا لَا تَرْفَعُ السَّبَبِيَّةَ بَلْ تُوقِفُ حُكْمَهَا، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: بَلْ تَرْفَعُهَا وَلَكِنْ لَا مُطْلَقًا بَلْ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الصِّفَةِ. وَبَالَغَ الْقَاضِي ابْنُ سُرَيْجٍ رحمه الله فَقَالَ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي انْعِقَادِ السَّبَبِيَّةِ، وَزَادَ أَنَّ الشَّرْطَ يُلْغَى بِالْكُلِّيَّةِ، لِكَوْنِهِ وَرَدَ قَطْعًا لِشَيْءٍ بَعْدَ مُضِيِّ حُكْمِهِ، فَقَالَ: إذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ تُنَجَّزُ فِي الْحَالِ، فَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ وَقَوْلٌ ضَعِيفٌ. وَبَالَغَ ابْنُ حَزْمٍ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ بِهِ، وَزَادَ أَنَّ الشَّرْطَ مَنْعُ انْعِقَادِ السَّبَبِ مُطْلَقًا، وَأَنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ لَا يَقَعُ رَأْسًا وُجِدَتْ الصِّفَةُ أَوْ لَمْ تُوجَدْ وَهَذَا خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ فَتَلَخَّصَ مِنْ هَذَا أَنَّ الشَّرْطَ الدَّاخِلَ عَلَى السَّبَبِ قَاطِعٌ لَهُ عِنْدَ ابْنِ حَزْمٍ رَأْسًا، وَيُقَابِلُهُ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ: إنَّهُ فَاسِدٌ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مُعَرَّضٍ لِلسَّبَبِ فِي شَيْءٍ وَلَكِنَّ ابْنَ سُرَيْجٍ يَقْصُرُ ذَلِكَ عَلَى مَا إذَا بَدَأَ بِالسَّبَبِ قَبْلَ الشَّرْطِ، وَلَا يَقُولُهُ فِيمَا إذَا عَكَسَ فَقَالَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَالْجُمْهُورُ لَا يُلْغُونَ الشَّرْطَ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا: فَأَشَدُّهُمْ إعْمَالًا الشَّافِعِيُّ حَيْثُ قَالَ: إنَّهُ يَنْتَصِبُ فِي الْحَالِ سَبَبًا فِي ثَانِي الْحَالِ وَنَقَلُوهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَنْعَقِدُ فِي الْحَالِ وَلَا يَكُونُ مُنْهِيًا، وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ فِي ثَانِي الْحَالِ. وَمِنْهَا: أَعْنِي مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى أَنَّهُ هَلْ انْعَقَدَ السَّبَبُ فِي حَالِ

ص: 151

التَّعْلِيقِ، كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ، أَوْ لَمْ يَنْعَقِدْ كَمَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا فِي مَوْضِعِ الشُّهُودِ أَنَّ الْغُرْمَ عَلَى شُهُودِ التَّعْلِيقِ دُونَ شُهُودِ الصِّفَةِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ.

وَفِي وَجْهٍ أَرَاهُ أَنَّهُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا. وَقَدْ أَشْبَعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هَذَا الْأَصْلَ تَقْرِيرًا فِي الْخِلَافِيَّاتِ ثُمَّ عَادَ عَنْهُ فِي الْفُرُوعِ فَقَالَ: وَقَدْ حَكَى قَوْلَ الْأُسْتَاذِ فِيمَنْ قَالَ: وَقَفْتُ دَارِي بَعْدَ الْمَوْتِ، وَسَاعَدَهُ أَئِمَّةُ الزَّمَانِ إنَّ هَذَا تَعْلِيقٌ عَلَى التَّحْقِيقِ، بَلْ هُوَ زَائِدٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إيقَاعُ تَصَرُّفٍ بَعْدَ الْمَوْتِ قَالَ الرَّافِعِيُّ: كَأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ عَرَضَ الدَّارَ عَلَى الْبَيْعِ صَارَ رَاجِعًا. وَأَمَّا " الْمَعْنَى " فَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي " الْحَاوِي " عَبَّرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَنْ " الْمَعْنَى "" بِالْعِلَّةِ " وَهُوَ تَجَوُّزٌ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ مَوْجُودٌ فِي الْمَعْنَى وَالْعِلَّةِ.

وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْعِلَّةَ وَالْمَعْنَى مَوْجُودَانِ فِي الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ. وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْعِلَّةَ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْ الْمَعْنَى وَلَيْسَ الْمَعْنَى مُسْتَنْبَطًا مِنْ الْعِلَّةِ لِتَقَدُّمِ الْمَعْنَى وَحُدُوثِ الْعِلَّةِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الْعِلَّةَ تَشْتَمِلُ عَلَى مَعَانٍ، وَالْمَعْنَى لَا يَشْتَمِلُ عَلَى عِلَلٍ، لِأَنَّ الطُّعْمَ وَالْجِنْسَ مَعْنَيَانِ وَهُمَا عِلَّةُ الرِّبَا.

وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَعْنَى مَا يُوجَبُ بِهِ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ حَتَّى يَتَعَدَّى إلَى الْفَرْعِ وَالْعِلَّةُ اجْتِذَابُ حُكْمِ الْأَصْلِ إلَى الْفَرْعِ، فَصَارَ " الْمَعْنَى " مَا ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ الْأَصْلِ، وَالْعِلَّةُ مَا ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ الْفَرْعِ.

ثُمَّ يَجْتَمِعُ الْعِلَّةُ وَالْمَعْنَى فِي اعْتِبَارِ أَرْبَعَةِ شُرُوطٍ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مُؤَثِّرًا فِي الْحُكْمِ، وَأَنْ يَسْلَمَ الْمَعْنَى وَلَا يَرُدُّهُمَا نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ، وَأَنْ لَا يُعَارِضَهُمَا مِنْ الْمَعَانِي وَالْعِلَلِ أَقْوَى مِنْهُمَا، وَأَنْ يَطَّرِدَ الْمَعْنَى وَالْعِلَّةُ فَيُوجَدُ الْحُكْمُ

ص: 152