الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الْمَسْلَكُ الْعَاشِرُ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ]
وَالتَّنْقِيحُ: هُوَ التَّهْذِيبُ وَالتَّمْيِيزُ، وَكَلَامٌ مُنَقَّحٌ، أَيْ: لَا حَشْوَ فِيهِ.
وَالْمَنَاطُ: هُوَ الْعِلَّةُ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَتَعْبِيرُهُمْ بِالْمَنَاطِ عَنْ الْعِلَّةِ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ اللُّغَوِيِّ، لِأَنَّ الْحُكْمَ لَمَّا عُلِّقَ بِهَا كَانَ كَالشَّيْءِ الْمَحْسُوسِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِغَيْرِهِ، فَهُوَ مَجَازٌ مِنْ بَابِ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، وَصَارَ ذَلِكَ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ بِحَيْثُ لَا يُفْهَمُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ غَيْرُهُ.
وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا وَلَكِنَّهَا تَخْتَلِطُ بِغَيْرِهَا مُحْتَاجَةً إلَى مَا يُمَيِّزُهَا لَقَّبُوهُ بِهَذَا اللَّقَبِ. وَهُوَ أَنْ يَدُلَّ ظَاهِرٌ عَلَى التَّعْلِيلِ بِوَصْفٍ مَذْكُورٍ مَعَ غَيْرِهِ مِمَّا لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي التَّأْثِيرِ لِكَوْنِهِ طَرْدِيًّا أَوْ مُلْغًى، فَيُنَقَّحُ حَتَّى يُمَيَّزَ الْمُعْتَبَرَ، وَيَجْتَهِدُ فِي تَعْيِينِ السَّبَبِ الَّذِي أَنَاطَ الشَّارِعُ الْحُكْمَ بِهِ وَأَضَافَهُ إلَيْهِ بِحَذْفِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَوْصَافِ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ. وَحَاصِلُهُ: إلْحَاقُ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ بِإِلْغَاءِ الْفَرْقِ، بِأَنْ يُقَالَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إلَّا كَذَا وَكَذَا، وَذَلِكَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْحُكْمِ أَلْبَتَّةَ فَيَلْزَمُ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْحُكْمِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمُوجِبِ لَهُ، كَقِيَاسِ الْأَمَةِ عَلَى الْعَبْدِ فِي السِّرَايَةِ، فَإِنَّهُ لَا فَارِقَ بَيْنَهُمَا إلَّا الذُّكُورَةُ، وَهُوَ مُلْغًى بِالْإِجْمَاعِ، إذْ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْعِلِّيَّةِ. وَسَمَّاهُ الْحَنَفِيَّةُ (الِاسْتِدْلَالَ) وَأَجْرَوْهُ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِيَاسِ بِأَنَّ الْقِيَاسَ مَا أُلْحِقَ فِيهِ بِذِكْرِ (الْجَامِعِ) الَّذِي لَا يُفِيدُ إلَّا غَلَبَةَ الظَّنِّ.
وَ (الِاسْتِدْلَال) مَا يَكُونُ الْإِلْحَاقُ فِيهِ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ الَّذِي يُفِيدُ الْقَطْعَ، حَتَّى أَجْرَوْهُ مَجْرَى الْقَطْعِيَّاتِ فِي النَّسْخِ وَجَوَّزُوا الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ وَلَمْ يُجَوِّزُوا نَسْخَهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَالْحَقُّ أَنَّ تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ قِيَاسٌ خَاصٌّ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ مُطْلَقِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ عَامٌّ يَتَنَاوَلُهُ وَغَيْرَهُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ يَكُونُ ظَنِّيًّا - وَهُوَ الْأَكْثَرُ - وَقَطْعِيًّا. لَكِنَّ حُصُولَ الْقَطْعِ فِيمَا فِيهِ الْإِلْحَاقُ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ أَكْثَرُ مِنْ الَّذِي الْإِلْحَاقُ فِيهِ بِذِكْرِ الْجَامِعِ، لَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ فَرْقًا فِي الْمَعْنَى بَلْ فِي الْوُقُوعِ، وَحِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ يَقُولُ بِهِ أَكْثَرُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ، وَلَا نَعْرِفُ بَيْنَ الْأُمَّةِ خِلَافًا فِي جَوَازِهِ. وَنَازَعَهُ الْعَبْدَرِيّ بِأَنَّ الْخِلَافَ فِيهِ ثَابِتٌ بَيْنَ مَنْ يُثْبِتُ الْقِيَاسَ وَيُنْكِرُهُ، لِرُجُوعِهِ إلَى الْقِيَاسِ. وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: هُوَ خَارِجٌ عَنْ الْقِيَاسِ، وَكَأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى تَأْوِيلِ الظَّوَاهِرِ، وَلِهَذَا أَنْكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ الْقِيَاسَ فِي الْكَفَّارَاتِ وَقَالَ: إنَّ الْكَفَّارَةَ خَرَجَتْ عَلَى الْأَصْلِ.
وَقَالَ ابْنُ رَحَّالٍ: إنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِالتَّنْقِيحِ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ فِي حَقِّ شَخْصٍ، كَمَا فِي حَدِيثِ الْمُجَامِعِ، فَالْأَمْرُ كَمَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ، وَلَا يَكُونُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي حَقِّ الْأَشْخَاصِ بَلْ تَكُونُ التَّعْدِيَةُ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ» . وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ تَعْلِيلًا فِي وَاقِعَةٍ فَلَيْسَ كَمَا قَالُوا، بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْقِيَاسِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» وَالْفَرْقُ
أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَتَعَدَّى مِنْ وَاقِعَةٍ إلَى وَاقِعَةٍ بِغَيْرِ الْقِيَاسِ، وَيَتَعَدَّى مِنْ شَخْصٍ إلَى شَخْصٍ بِغَيْرِ الْقِيَاسِ.
[تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ] أَمَّا تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ فَهُوَ أَنْ يَتَّفِقَ عَلَى عِلِّيَّةِ وَصْفٍ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ، فَيَجْتَهِدُ فِي وُجُودِهَا فِي صُورَةِ النِّزَاعِ، كَتَحْقِيقِ أَنَّ النَّبَّاشَ سَارِقٌ. وَكَأَنْ يَعْلَمَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَلَكِنْ لَا يُدْرِكُ جِهَتَهَا إلَّا بِنَوْعِ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ. سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ الْمَنَاطَ، وَهُوَ الْوَصْفُ، عُلِمَ أَنَّهُ مَنَاطٌ وَبَقِيَ النَّظَرُ فِي تَحْقِيقِ وُجُودِهِ فِي الصُّورَةِ الْمُعَيَّنَةِ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الِاجْتِهَادِ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ. وَالْقِيَاسُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. فَكَيْفَ يَكُونُ قِيَاسًا؟ ، وَنَازَعَهُ الْعَبْدَرِيُّ بِمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ.
[تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ] وَأَمَّا تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ فَهُوَ الِاجْتِهَادُ فِي اسْتِخْرَاجِ عِلَّةِ الْحُكْمِ الَّذِي دَلَّ النَّصُّ أَوْ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِبَيَانِ عِلَّتِهِ أَصْلًا. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْإِخْرَاجِ، فَكَأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَنَاطِ
بِحَالٍ، فَكَأَنَّهُ مَسْتُورٌ أُخْرِجَ بِالْبَحْثِ وَالنَّظَرِ، كَتَعْلِيلِ تَحْرِيمِ الرِّبَا بِالطُّعْمِ، فَكَأَنَّ الْمُجْتَهِدَ أَخْرَجَ الْعِلَّةَ، وَلِهَذَا سُمِّيَ تَخْرِيجًا. بِخِلَافِ (التَّنْقِيحِ) فَإِنَّهُ لَمْ يُسْتَخْرَجْ، لِكَوْنِهِ مَذْكُورًا فِي النَّصِّ، بَلْ نَقَّحَ الْمَنْصُوصَ وَأَخَذَ مِنْهُ مَا يَصْلُحُ لِلْعِلِّيَّةِ وَتَرَكَ مَا لَا يَصْلُحُ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَهَذَا الِاجْتِهَادُ، الْقِيَاسُ الَّذِي وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ. وَقَالَ الْبَزْدَوِيُّ: هُوَ الْأَغْلَبُ فِي مُنَاظَرَاتِهِمْ، لِأَنَّهُ بِهِ يَظْهَرُ فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ، وَتُوَجَّهُ عَلَيْهِ سَائِرُ الْأَسْئِلَةِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ بَيَانَ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ " تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ " وَإِثْبَاتُهُ فِي الْفَرْعِ " تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ ". أَيْ إذَا ظَنَنَّا أَوْ عَلِمْنَا الْعِلَّةَ ثُمَّ نَظَرْنَا وُجُودَهَا فِي الْفَرْعِ وَظَنَنَّا تَحْقِيقَ الْمَنَاطِ فَهُوَ تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ.
[أُمُورٌ تَتَّصِلُ بِتَنْقِيحِ الْمَنَاطِ] وَهَاهُنَا أُمُورٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ لَيْسَ دَالًّا عَلَى الْعِلِّيَّةِ بِعَيْنِهِ، بَلْ هُوَ دَالٌّ عَلَى اشْتِرَاكِ الصُّورَتَيْنِ فِي الْحُكْمِ، بِخِلَافِ تَخْرِيجِ الْمَنَاطِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَعْيِينِ الْعِلَّةِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى عِلِّيَّتِهَا. فَلَا يَكُونُ الْأَوَّلُ مِنْ طُرُقِ إثْبَاتِ الْعِلَّةِ بِعَيْنِهَا أَصْلًا، بَلْ هُوَ مِنْ طُرُقِ إلْحَاقِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِالْمَنْطُوقِ. قَالَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمَحْصُولِ ".
الثَّانِي: ذَكَرَ بَعْضُ الْجَدَلِيِّينَ أَنَّ تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ لَا يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْمُؤَثِّرِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يَسْتَقِرُّ بِالدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً، بَلْ يَنْضَمُّ إلَيْهِ دَلِيلُ الْحَذْفِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُؤَثِّرِ. وَاخْتَارَهُ الشَّرِيفُ فِي جَدَلِهِ، لِأَنَّ دَلِيلَ الْحَذْفِ إنَّمَا أَفَادَنَا كَوْنَ الْحَذْفِ غَيْرَ مُرَادٍ، فَأَمَّا كَوْنُ الْبَاقِي مُرَادًا فَإِنَّمَا اسْتَفَدْنَاهُ مِنْ الظَّاهِرِ فَكَانَ مُؤَثِّرًا إلَّا أَنَّهُ دُونَ الْمُؤَثِّرِ فِي الرُّتْبَةِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِمَامَ فَخْرَ الدِّينِ زَعَمَ أَنَّ هَذَا الْمَسْلَكَ هُوَ مَسْلَكُ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ، فَلَا يَحْسُنُ عَدُّهُ نَوْعًا آخَرَ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَصْرَ فِي دَلَالَةِ السَّبْرِ لِتَعْيِينِ الْعِلَّةِ إمَّا اسْتِقْلَالًا أَوْ اعْتِبَارًا. وَفِي نَفْيِ الْفَارِقِ لِتَعْيِينِ الْفَارِقِ وَإِبْطَالِهِ، لَا لِتَعْيِينِ الْعِلَّةِ، بَلْ هُوَ نَقِيضُ قِيَاسِ الْعِلَّةِ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ هُنَاكَ عَيَّنَ جَامِعًا بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ، وَعَيَّنَ هُنَا الْفَارِقَ بَيْنَهُمَا
تَنْبِيهٌ:
عَدَّ صَاحِبُ " الْمُقْتَرَحِ " مِنْ الْمَسَالِكِ (نَفْيَ الْفَارِقِ) بِأَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْفَرْعَ لَمْ يُفَارِقْ الْأَصْلَ إلَّا فِيمَا لَا يُؤَثِّرُ، فَيَلْزَمُ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْمُؤَثِّرِ، كَالسِّرَايَةِ فِي الْأَمَةِ، قِيَاسًا عَلَى الْعَبْدِ. وَهُوَ عَجِيبٌ، فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ الْمُعَيَّنَ عِلَّةٌ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الْأَصْلِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْفَرْعِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَلِهَذَا لَمْ يُعِدَّهُ أَحَدٌ مِنْ الْجَدَلِيِّينَ مِنْ مَسَالِكِ التَّعْلِيلِ. وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ (السَّبْرِ) ، إلَّا أَنَّهُ فِي السَّبْرِ يَبْطُلُ الْجَمْعُ إلَّا وَاحِدًا. وَفِي نَفْيِ الْفَارِقِ يَبْطُلُ وَاحِدٌ فَتَتَعَيَّنُ الْعِلَّةُ بَيْنَ الْبَاقِي، وَالْبَاقِي مَوْجُودٌ فِي الْفَرْعِ، فَيَلْزَمُ اشْتِمَالُهُ عَلَى الْعِلَّةِ ثُمَّ عَلَى أَصْلِهِ. وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَفْصِيلٍ: فَإِنْ كَانَتْ مُقَدِّمَاتُهُ قَطْعِيَّةً فَهُوَ صَحِيحٌ، أَوْ ظَنِّيَّةً لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّ الْقَطْعَ بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ فِي الْفَرْعِ لَمْ يَحْصُلْ، وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَهُ
وَعَدَّ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ مِنْ طُرُقِ الْعِلَّةِ أَنْ لَا يَجِدَ الدَّلِيلَ عَلَى عَدَمِ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ، فَقَالَ: لَيْسَ عَلَى الْقَائِسِ إذَا لَمْ يَجِدْ شَيْئًا مِمَّا قَدَّمْنَاهُ إلَّا أَنْ يَعْرِضَ الْعِلَّةَ الَّتِي اسْتَنْبَطَهَا عَلَى مُبْطِلَاتِ التَّعْلِيلِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قَادِحًا، وَعَرَضَهَا عَلَى أُصُولِ الشَّرِيعَةِ فَلَمْ يَجِدْ فِيهَا مَا يُنَافِي عِلَّتَهُ، فَيَحْكُمُ بِسَلَامَةِ الْعِلَّةِ حِينَئِذٍ. وَأَطْنَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي تَغْلِيطِهِ، وَقَالَ: هَذَا بَاطِلٌ لَا أَصْلَ
لَهُ، وَقُصَارَاهُ الِاكْتِفَاءُ بِدَعْوَى مُجَرَّدَةٍ، وَالِاكْتِفَاءُ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى فَسَادِهَا، فَلِمَ يُنْكِرُ عَلَى الْقَائِلِ أَنَّهَا تَفْسُدُ بِعَدَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّتِهَا. فَإِنْ قَالَ: عَدَمُ دَلَالَةِ الْفَسَادِ دَلَالَةُ صِحَّتِهَا، قِيلَ: عَدَمُ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّتِهَا دَلَالَةٌ عَلَى فَسَادِهَا. فَتَقَابَلَ الْقَوْلَانِ وَتَجَدَّدَ دَعْوَى الْخَصْمِ.
وَقَدْ عَدَّ بَعْضُهُمْ مِنْ طُرُقِ الْعِلَّةِ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْوَصْفُ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ عِلِّيَّتِهِ لَا يَأْتِي مَعَهُ ذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِيُمْكِنَ الْإِتْيَانُ مَعَهُ بِالْمَأْمُورِ بِهِ، وَهُوَ دَوْرٌ، لِأَنَّ تَأَتِّي الْقِيَاسِ يَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ الْعِلَّةِ، فَلَوْ أَثْبَتْنَا الْعِلَّةَ بِهِ لَتَوَقَّفَ ثُبُوتُ الْعِلَّةِ عَلَيْهِ وَلَزِمَ الدَّوْرُ.