الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَسَبَبُهُ مُتَقَدِّمًا، كَإِبَاحَةِ الْوَطْءِ فِي الزَّوْجَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْحَيْضِ وَانْقِطَاعِهِ، فَإِنَّهُ يَسْتَنِدُ إلَى عَقْدِ النِّكَاحِ الْمُتَقَدِّمِ. وَكَذَا تَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ عِنْدَ زَوَالِ الضَّرُورَةِ مُسْتَنِدٌ إلَى السَّبَبِ الْأَوَّلِ. وَأَمْثِلَتُهُ كَثِيرَةٌ، فَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّ الْحُكْمَ تَارَةً يَنْتَفِي لِانْتِقَاءِ الْمُقْتَضَى بِكَمَالِهِ، أَوْ لِانْتِفَاءِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَتَارَةً يَنْتَفِي لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ، فَإِذَا كَانَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ الْمُقْتَضَى بِحَالِهِ فَحُدُوثُ الْحُكْمِ لَا يَكُونُ إلَّا لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ، وَإِذَا كَانَ الِانْتِفَاءُ لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَحُدُوثُ الْحُكْمِ لَا يَكُونُ لِحُدُوثِ سَبَبِهِ، بَلْ يَكُونُ لِحُدُوثِ جُزْءِ السَّبَبِ، أَوْ لِحُدُوثِ الشَّرْطِ، أَوْ لِانْتِفَاءِ الْمَانِعِ. وَجَوَابُهُ: أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا حُدُوثَ الْحُكْمِ مَعَ تَقَدُّمِ سَبَبِهِ كَانَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ الْمُقَدَّرَ أَنَّ ثُبُوتَ السَّبَبِ يَلْزَمُ مِنْهُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ، وَلِهَذَا صَحَّ الِاسْتِدْلَال بِثُبُوتِ السَّبَبِ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ.
[الْمَسْلَكُ السَّابِعُ الشَّبَهُ]
ُ وَيُسَمِّيه بَعْضُ الْفُقَهَاءِ " الِاسْتِدْلَال بِالشَّيْءِ عَلَى مِثْلِهِ " وَهُوَ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ خَاصٌّ، إذْ الشَّبَهُ يُطْلَقُ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ كُلَّ قِيَاسٍ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ كَوْنِ الْفَرْعِ شَبِيهًا بِالْأَصْلِ، بِجَامِعٍ بَيْنَهُمَا. إلَّا أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ اصْطَلَحُوا عَلَى تَخْصِيصِ هَذَا الِاسْمِ بِنَوْعٍ مِنْ الْأَقْيِسَةِ، وَهُوَ مِنْ أَهَمِّ مَا يَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّرْدِ، وَلِهَذَا قَالَ الْإِبْيَارِيُّ: لَسْت أَرَى فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ مَسْأَلَةً أَغْمَضَ مِنْ هَذِهِ.
وَفِيهِ مَقَامَانِ:
[الْمَقَامُ] الْأَوَّلُ: فِي تَعْرِيفِهِ وَقَدْ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَا يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُ. وَالصَّحِيحُ إمْكَانُهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَقِيلَ: هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِوَصْفٍ يُوهِمُ اشْتِمَالَهُ عَلَى الْحِكْمَةِ الْمُفْضِيَةِ لِلْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ. كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ: طَهَارَتَانِ فَأَنَّى تَفْتَرِقَانِ؟ قَالَ الْخُوَارِزْمِيُّ فِي الْكَافِي. قَالَ: فَفِي الْقِيَاسِ الْمَعْنَوِيِّ تَعْيِينُ الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرِ الْمُنَاسِبِ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ، وَفِي قِيَاسِ الشَّبَهِ لَا تَعْيِينَ، بَلْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِوَصْفٍ يُوهِمُ الْمُنَاسِبَ. وَأَمَّا الطَّرْدُ فَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِمُجَرَّدِ الطَّرْدِ، وَهُوَ السَّلَامَةُ عَنْ النَّقْضِ.
وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ فِي الْمُسْتَصْفَى: الشَّبَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الطَّرْدِ بِمُنَاسَبَةِ الْوَصْفِ الْجَامِعِ لِعِلَّةِ الْحُكْمِ، وَإِنْ لَمْ يُنَاسِبْ الْحُكْمَ بِأَنْ يُقَرِّرَ بِأَنَّ لِلَّهِ فِي كُلِّ حُكْمٍ سِرًّا، وَهُوَ مَصْلَحَةٌ مُنَاسِبَةٌ لِلْحُكْمِ لَمْ نَطَّلِعْ عَلَى عَيْنِ تِلْكَ الْعِلَّةِ وَلَكِنْ نَطَّلِعُ عَلَى وَصْفٍ يُوهِمُ الِاشْتِمَالَ عَلَى تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ قَالَ: وَإِنْ لَمْ يُرِيدُوا بِقِيَاسِ الشَّبَهِ هَذَا فَلَا أَدْرِي مَا أَرَادُوا بِهِ وَبِمَاذَا فَصَلُوهُ مِنْ الطَّرْدِ الْمَحْضِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّبَهَيَّ وَالطَّرْدِيَّ يَجْتَمِعَانِ فِي عَدَمِ الظُّهُورِ الْمُنَاسِبِ، وَيَتَخَالَفَانِ فِي أَنَّ الطَّرْدِيَّ عُهِدَ مِنْ الشَّارِعِ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إلَيْهِ، وَسُمِّيَ شَبَهًا لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى الْمُنَاسَبَةِ يَجْزِمُ الْمُجْتَهِدُ بِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ، وَمِنْ حَيْثُ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ لَهُ فِي بَعْضُ الصُّوَرِ يُشْبِهُ الْمُنَاسِبَ، فَهُوَ بَيْنَ الْمُنَاسِبِ وَالطَّرْدِيِّ.
وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: يَتَعَذَّرُ حَدُّ الشَّبَهِ بِأَنْ يَقُولَ هُوَ يُقَرِّبُ الْأَصْلَ مِنْ الْفَرْعِ وَيَمْتَازُ عَنْ الطَّرْدِ أَنَّهُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ الِاشْتِرَاكُ فِي الْحِكْمَةِ، وَالطَّرْدُ لَا يَغْلِبُهُ عَلَى الظَّنِّ، وَمِنْ خَوَاصِّ الطَّرْدِ أَنَّهُ يُعَلِّقُ نَقِيضَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ فَلَا تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ، كَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، فَيُقَالُ: طَهَارَةٌ مَا تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ.
وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَقِيسٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ التَّيَمُّمُ، وَقَوْلُهُ: طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ لَيْسَ بِجَامِعٍ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ أَصْلُهُ كَلَامُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، فَإِنَّهُ فَسَّرَ قِيَاسَ الدَّلَالَةِ الْمُورَدِ عَلَى بَعْضِ تَعْرِيفَاتِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ بِمَا لَا يُنَاسِبُ، وَلَكِنْ يَسْتَلْزِمُ الْمُنَاسِبَ، فَيُقَالُ: إنَّهُ الْوَصْفُ الْمُقَارِنُ لِلْحُكْمِ الثَّابِتِ لَهُ بِالتَّبَعِ وَبِالِالْتِزَامِ دُونَ الذَّاتِ، كَالطَّهَارَةِ لِاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ، فَإِنَّ الطَّهَارَةَ مِنْ حَيْثُ هِيَ لَا تُنَاسِبُ اشْتِرَاطَ النِّيَّةِ، لَكِنْ تُنَاسِبُهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَةُ مُنَاسَبَةٌ لِاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ، أَمَّا مَا يُنَاسِبُ بِالذَّاتِ فَهُوَ الْمُنَاسِبُ، أَوْ لَا يُنَاسِبُ مُطْلَقًا فَهُوَ الطَّرْدِيُّ، فَالشَّبَهُ حِينَئِذٍ مَنْزِلَةٌ بَيْنَ الْمُنَاسَبَةِ وَالطَّرْدِيِّ، فَلِهَذَا سُمِّيَ " شَبَهًا ". هَكَذَا قَالَ الْآمِدِيُّ وَالرَّازِيُّ. وَحَكَى الْإِبْيَارِيُّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ مَا يُوهِمُ الِاشْتِمَالَ عَلَى وَصْفٍ مُخَيِّلٍ. ثُمَّ قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْخَصْمَ قَدْ يُنَازِعُ فِي إيهَامِ الِاشْتِمَالِ عَلَى مُخَيِّلٍ إمَّا حَقًّا، أَوْ عِنَادًا، وَلَا يُمْكِنُ التَّقْرِيرُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: إنَّ مَا اخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ هُوَ خُلَاصَةُ كَلَامِ الْقَاضِي حَيْثُ قَالَ: هُوَ الَّذِي يُوهِمُ الِاشْتِرَاكَ فِي مَحَلٍّ. قُلْت: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ فِي الشِّفَاءِ وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ صَاحِبُ الْعُنْوَانِ فِيهِ. وَاَلَّذِي فِي مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي أَنَّ قِيَاسَ الشَّبَهِ هُوَ إلْحَاقُ فَرْعٍ بِأَصْلٍ لِكَثْرَةِ إشْبَاهِهِ بِالْأَصْلِ فِي الْأَوْصَافِ مِنْ غَيْرِ أَنْ
يَعْتَقِدَ أَنَّ الْأَوْصَافَ الَّتِي شَابَهَ الْفَرْعُ بِهَا الْأَصْلَ عِلَّةُ حُكْمِ الْأَصْلِ. وَقِيلَ: الشَّبَهُ هُوَ الَّذِي لَا يَكُونُ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ، وَلَكِنْ عُرِفَ اعْتِبَارُ جِنْسِهِ الْقَرِيبِ فِي الْجِنْسِ الْقَرِيبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ لَهُ، فَيَظُنُّ أَنَّهُ يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ لِتَأْثِيرِ جِنْسِهِ فِي جِنْسِ ذَلِكَ الْحُكْمِ. وَاخْتَارَهُ الرَّازِيَّ فِي الرِّسَالَةِ الْبَهَائِيَّةِ، كَإِيجَابِ الْمَهْرِ بِالْخَلْوَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُنَاسِبُ وُجُوبَهُ، لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْوَطْءِ، إلَّا أَنَّ جِنْسَ هَذَا الْوَصْفِ، وَهُوَ كَوْنُ الْخَلْوَةِ مَظِنَّةُ الْوَطْءِ، يُعْتَبَرُ فِي جِنْسِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ الْحُكْمُ بِتَحْرِيمِ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَا تَثْبُتُ مُنَاسَبَتُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ، حَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَجَعَلَهُ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ مُفَرَّعًا عَلَى أَنَّ الشَّبَهَ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِالْعِلِّيَّةِ، بَلْ يَحْتَاجُ إلَى مَسْلَكٍ آخَرَ، وَأَحْسَنَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فَقَالَ: قِيَاسُ الْمَعْنَى تَحْقِيقٌ، وَالشَّبَهُ تَقْرِيبٌ، وَالطَّرْدُ تَحَكُّمٌ (ثُمَّ قَالَ) : قِيَاسُ الْمَعْنَى: مَا يُنَاسِبُ الْحُكْمَ وَيَسْتَدْعِيه وَيُؤَثِّرُ فِيهِ، وَالطَّرْدُ عَكْسُهُ، وَالشَّبَهُ أَنْ يَكُونَ فَرْعٌ يُحَاذِيهِ أَصْلَانِ فَيَلْحَقُ بِأَحَدِهِمَا بِنَوْعٍ شَبَهٌ مُقَرَّبٍ، أَيْ يَقْرُبُ الْفَرْعُ مِنْ الْأَصْلِ فِي الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِبَيَانِ الْمَعْنَى (انْتَهَى) .
وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُلَائِمُ الْأَوْصَافَ الَّتِي عُهِدَ مِنْ الشَّارِعِ إنَاطَةُ الْحُكْمِ بِهَا. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إنَّ النَّاظِرَ إذَا فَقَدَ الْمَعْنَى نَظَرَ فِي الْأَشْبَاهِ، وَهُوَ أَوْسَعُ الْأَبْوَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّبَهَ يَنْقَدِحُ عِنْدَ إمْكَانِ الْمَعْنَى وَعِنْدَ عَدَمِ فَهْمِهِ، وَلَا يَتَحَتَّمُ الْأَشْبَاهُ فِي التَّعَبُّدَاتِ الْجَامِدَةِ. وَفَرَّقَ بَيْنَ الشَّبَهِ وَالطَّرْدِ بِأَنَّ الطَّرْدَ نِسْبَةُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ إلَيْهِ وَنَفْيِهِ عَلَى السَّوَاءِ. وَالشَّبَهُ نِسْبَةُ الثُّبُوتِ مُتَرَجِّحَةٌ عَلَى النَّفْيِ فَافْتَرَقَا. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: اضْطَرَبَ رَأْيُ الْإِمَامِ فِي حَدِّهِ فَقَالَ مَرَّةً: هُوَ الْمُشِيرُ إلَى مَعْنًى كُلِّيٍّ لَا يَتَحَرَّرُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ. وَقَالَ مَرَّةً: هُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ تَشَابُهَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ فِي أَيِّ حُكْمٍ كَانَ، لَا فِي حُكْمٍ مُعَيَّنٍ، حَتَّى لَوْ نَسَبْنَا وُجُودَ الْحُكْمِ الْمُعَيَّنِ إلَيْهِ لَكَانَ عَلَى حَدِّ نِسْبَةِ عَدَمِهِ إلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ رَحَّالٍ: فَسَّرَهُ
أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ بِمَا لَا تَثْبُتُ نِسْبَتُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ: وَقِيلَ: مَا يُوهِمُ الْمُنَاسَبَةَ مِنْ غَيْرِ تَحْقِيقٍ، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ. وَقَالَ الْقَاضِي: مَا يُوهِمُ الِاجْتِمَاعَ فِي مُخَيَّلٍ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَلْيَقُ بِالْمَظِنَّةِ لَا بِالشَّبَهِ، لِأَنَّهُ مُنَاسِبٌ فِي نَفْسِهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي أُصُولِهِ: قَدْ تَسَامَحَ عُلَمَاؤُنَا فِي جَعْلِ الشَّبَهِ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ، فَإِنَّ الْبَحْثَ فِيهِ نَظَرٌ فِي تَيَقُّنِ الْعِلَّةِ لَا فِي ذَاتِهَا. وَكَذَلِكَ نَفْيُ الْفَارِقِ. وَقَدْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِيهِ. وَحَاصِلُهَا يَرْجِعُ إلَى عِبَارَتَيْنِ:
إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ الْفَرْعُ فِيهِ دَائِرًا بَيْنَ أَصْلَيْنِ فَأَكْثَرَ لِتَعَارُضِ الْأَشْيَاءِ فِيهِ، فَيَلْحَقُ بِأَوْلَاهَا، كَالْعَبْدِ الْمُتْلَفِ فَإِنَّهُ آدَمِيٌّ وَمَالٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ، لَكِنْ هَلْ تُؤْخَذُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ وَلَوْ زَادَتْ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْمَالِيَّةِ، أَوْ لَا تُؤْخَذُ قِيمَةٌ زِيَادَةٌ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْآدَمِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَسَمَّى الشَّافِعِيُّ هَذَا قِيَاسَ غَلَبَةِ الْأَشْبَاهِ. قَالَ: وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَصَّ بِاسْمِ الشَّبَهِ، لِأَنَّهُ قِيَاسُ عِلَّةِ مُنَاسِبٍ غَيْرِ أَنَّهُ تَعَارَضَ فِيهِ الْعِلَلُ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُعَارَضَةِ فِي الْفَرْعِ وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا بَعْدُ، وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاسْمِ بَعْدَ فَهْمِ الْمَعْنَى.
الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ الْوَصْفُ الَّذِي يَظُنُّ بِهِ صَلَاحِيَّتَهُ لِلْمُنَاسَبَةِ مِنْ جِهَةِ ذَاتِهِ، فَخَرَجَ مِنْهُ الْمُنَاسِبُ بِأَنَّهُ مَعْلُومُ الْمُنَاسَبَةِ، وَالطَّرْدِيُّ لِأَنَّهُ مَعْلُومُ نَفْيِهَا. وَاحْتَرَزْنَا بِقَوْلِنَا " مِنْ جِهَةِ ذَاتِهِ " عَنْ الْمَظِنَّةِ، فَإِنَّهَا لَا تُنَاسِبُ بِذَاتِهَا، بَلْ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ. وَهَذَا مَعْنَى مَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَجَرَى عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْوُضُوءِ: طَهَارَتَانِ فَكَيْفَ تَفْتَرِقَانِ؟ يَعْنِي: فِي نَفْيِ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ، لَكِنَّا إذَا تَأَمَّلْنَا وَجَدْنَا لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ طَهَارَةً حُكْمِيَّةً مِنْ دُونِ الْعِلَلِ مَا لَا نَجِدُ مِنْ قَوْلِ الْحَنَفِيِّ: طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ. وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ " حُكْمِيَّةٌ " يَصْلُحُ لِلْمُنَاسَبَةِ، وَلَمْ يَنْكَشِفْ لَنَا، وَلَمْ نَقْدِرْ عَلَى الْقَطْعِ بِكَوْنِهِ عَرِيًّا عَنْهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ طَهَارَةٌ مَا، فَإِنَّهُ لَا مُنَاسِبٌ وَلَا صَالِحٌ. وَمِثْلُهُ أَيْضًا قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ: طَهَارَةٌ مُوجِبُهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّ