الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لِلْمُنَاسَبَةِ قَطْعًا، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي أَنَّ ذَاتَ الْوَصْفِ الْمَصْلَحِيِّ تَبْطُلُ إذَا عَارَضَتْهَا مَفْسَدَةٌ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ ذَاتَ الْوَصْفِ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ لَا تَبْطُلُ بِالْمُعَارِضَةِ. وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي أَنَّ مُنَاسَبَتَهُ تَبْطُلُ وَمَعْنَى الْمُنَاسَبَةِ اقْتِضَاؤُهَا لِلْحُكْمِ وَاسْتِدْعَاؤُهَا لَهُ فَالْحَقُّ أَنَّهَا تَبْطُلُ. وَإِنْ شِئْت قُلْت: الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْمُنَاسَبَةِ يَسْتَدْعِي سَلَامَتَهَا عَنْ الْمُعَارِضِ، وَالْمَعْنَى بِالْمُنَاسَبَةِ عَلَى هَذَا كَوْنُ الْوَصْفِ مَصْلَحِيًّا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا يَتَّجِهُ مِنْ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ. أَمَّا مَنْ قَالَ بِتَخْصِيصِهَا فَيَقُولُ بِبَقَاءِ الْمُنَاسَبَتَيْنِ أَوْ اجْتِمَاعِ جِهَتَيْ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ.
التَّفْرِيعُ: إنْ قُلْنَا: إنَّهَا تَبْطُلُ الْتَحَقَ الْوَصْفُ بِالطَّرْدِيَّاتِ وَلَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِهِ إلَّا بِتَرْجِيحِ الْمَصْلَحَةِ عَلَى الْمَفْسَدَةِ، كَأَنْ يُقَالَ: الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ مُضَافٌ إلَى الْمَصْلَحَةِ الْفُلَانِيَّةِ وَهِيَ رَاجِحَةٌ عَلَى مَا عَارَضَهَا مِنْ الْمَفْسَدَةِ، وَإِلَّا لَزِمَ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَى غَيْرِ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ الْمَرْجُوحَةِ أَوْ إلَى مَصْلَحَةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا. أَوْ لَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى شَيْءٍ أَصْلًا، وَالْكُلُّ بَاطِلٌ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا تَبْطُلُ بَقِيَ الْوَصْفُ عَلَى مُنَاسَبَتِهِ وَيَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِهِ، وَيَحْتَاجُ الْمُعَارِضُ إلَى أَصْلٍ يَشْهَدُ لَهُ بِالِاعْتِبَارِ.
[الْمَسْلَكُ السَّادِسُ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ]
ُ وَيُسَمِّيه الْمَنْطِقِيُّونَ (الْقِيَاسُ الشَّرْطِيُّ الْمُنْفَصِلُ) فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَقْسِيمًا سَمُّوهُ بِالْمُتَّصِلِ. وَهُوَ لُغَةً: الِاخْتِبَارُ، وَمِنْهُ الْمِيلُ الَّذِي يُخْتَبَرُ بِهِ الْجُرْحُ
الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمِسْبَارُ، وَسُمِّيَ هَذَا بِهِ لِأَنَّ الْمُنَاظِرَ فِي الْعِلَّةِ يَقْسِمُ الصِّفَاتِ وَيَخْتَبِرُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي أَنَّهُ هَلْ يَصْلُحُ لِلْعِلِّيَّةِ أَمْ لَا
؟ وَقَدْ أُشِيرَ إلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون: 91] وقَوْله تَعَالَى {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35] فَإِنَّ هَذَا تَقْسِيمٌ حَاصِرٌ، لِأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ خَلْقُهُمْ مِنْ غَيْرِ خَالِقٍ خَلَقَهُمْ، وَكَوْنُهُ يَخْلُقُونَ أَنْفُسَهُمْ أَشَدُّ امْتِنَاعًا، فَعُلِمَ أَنَّ لَهُمْ خَالِقًا خَلَقَهُمْ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ، ذَكَرَ الدَّلِيلَ بِصِيغَةِ اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ الْمُسْتَدَلُّ بِهَا بِطَرِيقَةٍ بَدِيهِيَّةٍ لَا يُمْكِنُ إنْكَارُهَا. وَفِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ، فِي ابْنِ صَيَّادٍ. «إنْ يَكُنْ هُوَ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ فَلَا خَيْرَ لَك فِي قَتْلِهِ» .
وَهُوَ قِسْمَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَدُورَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَهُوَ الْمُنْحَصِرُ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ وَهُوَ الْمُنْتَشِرُ.
فَالْأَوَّلُ: أَنْ يَحْصُرَ الْأَوْصَافَ الَّتِي يُمْكِنُ التَّعْلِيلُ بِهَا لِلْمَقِيسِ عَلَيْهِ ثُمَّ اخْتِبَارُهَا وَإِبْطَالُ مَا لَا يَصْلُحُ مِنْهَا، بِدَلِيلِهِ: إمَّا بِكَوْنِهِ طَرْدًا، أَوْ مُلْغًى، أَوْ نَقْضِ الْوَصْفِ أَوْ كَسْرِهِ أَوْ خَفَائِهِ وَاضْطِرَابِهِ، فَيَتَعَيَّنُ الْبَاقِي لِلْعِلِّيَّةِ، وَهُوَ قَطْعِيٌّ لِإِفَادَةِ الْعِلَّةِ، وَيَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ فِي الْقَطْعِيَّاتِ وَالظَّنِّيَّاتِ، فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِنَا: الْعَالَمُ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا أَوْ حَادِثًا، بَطَلَ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا فَثَبَتَ أَنَّهُ حَادِثٌ.
وَالثَّانِي كَقَوْلِنَا: وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ إمَّا أَنْ لَا تُعَلَّلَ أَوْ تُعَلَّلَ بِالْبَكَارَةِ أَوْ الصِّغَرِ أَوْ الْأُبُوَّةِ أَوْ غَيْرِهَا. وَالْكُلُّ بَاطِلٌ سِوَى الثَّانِي، فَالْأَوَّلُ بِالْإِجْمَاعِ.
وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ لِقَوْلِهِ عليه السلام: «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا» فَيَتَعَيَّنُ الثَّانِي. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَحُصُولُ هَذَا الْقَسْمِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ عَسِرٌ جِدًّا، أَيْ عَلَى وَجْهِ التَّنْقِيبِ. وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ مُعَلَّلًا بِمُنَاسِبٍ، خِلَافًا لِلْغَزَالِيِّ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ الطَّرْدِيُّ إذَا قَامَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَصْلِ تَعْلِيلِهِ، كَمَا لَوْ قَامَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَعْلِيلِ حُكْمٍ بِأَحَدِ أَوْصَافٍ ثُمَّ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى إبْطَالِهَا كُلِّهَا خَلَا وَاحِدًا، فَيَتَعَيَّنُ لِلتَّعْلِيلِ وَإِنْ كَانَ طَرْدِيًّا وَإِلَّا اخْتَلَفَ الْإِجْمَاعُ. وَهُوَ مُلَخَّصُ مَا اخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَأَنْ يَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَرْكِيبَ فِيهَا، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الرِّبَا، وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا فَلَا يَكْفِي، فَإِنَّهُ وَإِنْ بَطَلَ كَوْنُهُ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً جَازَ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهَا. وَإِذَا انْضَمَّ إلَى غَيْرِهِ صَارَ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكْفِي فِي إبْطَالِ سَائِرِ الْأَقْسَامِ الِاسْتِدْلَال عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهَا عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إبْطَالِ كَوْنِ الْمَجْمُوعِ عِلَّةً أَوْ جُزْءًا مِنْ الْعِلَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ حَاصِرًا
لِجَمِيعِ الْأَوْصَافِ.
وَطَرِيقُهُ أَنْ يُوَافِقَهُ الْخَصْمُ عَلَى انْحِصَارِهَا فِيمَا ذَكَرَ أَوْ يَعْجِزَ عَنْ إظْهَارِ زَائِدٍ، وَإِلَّا فَيَكْفِي الْمُسْتَدِلُّ أَنْ يَقُولَ: بَحَثْت عَنْ الْأَوْصَافِ فَلَمْ أَجِدْ مَعْنًى سِوَى مَا ذَكَرْته، أَوْ الْأَصْلُ عَدَمُ مَا سِوَاهَا، وَاكْتَفَوْا فِي حَصْرِ الْأَوْصَافِ بِعَدَمِ الْوِجْدَانِ. وَهَذَا إذَا كَانَ أَهْلًا لِلْبَحْثِ، وَنَازَعَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى جَمِيعِ النُّصُوصِ، ثُمَّ إلَى مَعْرِفَةِ جَمِيعِ وُجُوهِ الدَّلَالَاتِ، وَهَذَا عَسِرٌ جِدًّا. وَقَدْ يَكُونُ عِلْمُهُ قَلِيلًا وَفَهْمُهُ نَاقِصًا.
وَكَذَلِكَ قَالَ الصَّفِيُّ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي نُكَتِهِ: مِنْ الْفَاسِدِ قَوْلُ الْمُعَلِّلِ فِي جَوَابِ طَالِبِ الْحَصْرِ: بَحَثْت وَسَبَرْت فَلَمْ أَجِدْ غَيْرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَإِنْ ظَفِرْت بِعِلَّةٍ أُخْرَى فَأَبْرِزْهَا وَإِلَّا يَلْزَمُك مَا يَلْزَمُنِي قَالَ: وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ سِبْرَهُ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا، لِأَنَّ الدَّلِيلَ مَا يُعْلَمُ بِهِ الْمَدْلُولُ، وَمُحَالٌ أَنْ يَعْلَمَ طَالِبُ الْحَصْرِ الِانْحِصَارَ بِبَحْثِهِ وَنَظَرِهِ، وَجَهْلُهُ لَا يُوجِبُ عَلَى خَصْمِهِ أَمْرًا، وَاخْتَارَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ التَّفْصِيلَ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِ وَغَيْرِهِ. ثُمَّ إنْ كَانَ مُجْتَهِدًا رَجَعَ إلَى مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ، وَإِنْ كَانَ مُنَاظِرًا وَلَمْ يُسَاعِدْهُ الْخَصْمُ فَهَلْ يَلْزَمُهُ إبْدَاءُ كَيْفِيَّةِ السَّبْرِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِلُّ دَرْءُ قَوْلِهِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ وَرَاءَهُ تَقْسِيمٌ مُتَوَجِّهٌ لَمْ يَذْكُرْهُ، وَ (أَصَحُّهُمَا) ، وَاخْتَارَهُ فِي الْمَنْخُولِ، أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إبْدَاءِ كَيْفِيَّةِ السَّبْرِ، لِيَكُونَ دَلِيلًا غَيْرَ مُقْتَصَرٍ عَلَى مُجَرَّدِ الدَّعْوَى، وَلَيْسَ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: لَمْ يُبْحَثْ، أَوْ يُسْبِرْ، أَوْ هُوَ غَرِيبٌ، وَلَا أَنْ يَقُولَ: بَقِيَ وَصْفٌ آخَرُ وَلَا أُبْرِزُهُ.
تَنْبِيهٌ:
لَمْ يَحْكُوا خِلَافًا فِي هَذَا الْقِسْمِ، وَرَأَيْت فِي كِتَابِ ابْنِ فُورَكٍ: إذَا كَانَتْ
فِي الْمَسْأَلَةِ عِلَلٌ فَفَسَدَتْ إلَّا وَاحِدَةٌ، هَلْ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّتِهَا؟ وَجْهَانِ، الصَّحِيحُ: نَعَمْ، إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا، وَثَبَتَ أَنَّ مَا عَدَاهَا فَاسِدٌ، فَعُلِمَ أَنَّ الْحَقَّ فِيهَا أَوْ لَا يَجُوزُ خُرُوجُ الْحَقِّ عَنْ جَمَاعَتِهَا. انْتَهَى.
الْقِسْمُ الثَّانِي:
وَهُوَ الْمُنْتَشِرُ، بِأَنْ لَا يَدُورَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ أَوْ دَارَ وَلَكِنْ كَانَ الدَّلِيلُ عَلَى نَفْيِ عِلِّيَّةِ مَا عَدَا الْوَصْفِ الْمُعَيَّنِ فِيهِ ظَنًّا، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى مَذَاهِبَ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا، لَا فِي الْقَطْعِيَّاتِ وَلَا فِي الظَّنِّيَّاتِ، وَحَكَاهُ فِي الْبُرْهَانِ عَنْ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ.
الثَّانِي: أَنَّهُ حُجَّةٌ فِي الْعَمَلِيَّاتِ فَقَطْ لِأَنَّهُ يُثِيرُ غَلَبَةَ الظَّنِّ، وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ بَرْهَانٍ، وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: إنَّهُ الصَّحِيحُ. وَمَثَّلَ ابْنُ بَرْهَانٍ اسْتِعْمَالَهُ فِي الْقَطْعِيِّ هُنَا بِقَوْلِ أَصْحَابِنَا: اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَرَى لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ، وَكُلُّ مَوْجُودٍ يَصِحُّ أَنْ يَرَى. وَفِي الظَّنِّيِّ بِقَوْلِهِمْ: الْإِيلَاءُ إمَّا أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا أَوْ يَمِينًا، فَإِذَا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا ثَبَتَ أَنَّهُ يَمِينٌ. فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَا طَلَاقًا وَلَا يَمِينًا وَلَهُ حُكْمٌ آخَرُ. قُلْنَا: نَحْنُ لَا نَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الشَّرْعِ حُكْمٌ آخَرُ فَلَا يَكُونُ طَلَاقًا وَلَا يَمِينًا، وَلَكِنَّ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّنَا هُوَ هَذَا الْقَدْرُ، وَالْمَقْصُودُ إظْهَارُ غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَهِيَ حَاصِلَةٌ. (انْتَهَى) .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ حُجَّةٌ لِلنَّاظِرِ دُونَ الْمُنَاظِرِ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْأَسَالِيبِ: بِقَيْدٍ تَضَمَّنَ إبْطَالَ مَذْهَبِ الْخَصْمِ دُونَ تَصْحِيحِ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ، إذْ لَا يَمْنَعُ أَنْ يُقَالَ: مَا أَبْطَلْته بَاطِلٌ، وَمَا اخْتَرْته بَاطِلٌ، وَالْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ الَّذِي وَقَعَ الْبَحْثُ فِيهِ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، فَلَا يَصْلُحُ السَّبْرُ لِإِثْبَاتِ مَعْنَى الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا يَصْلُحُ لِإِبْطَالِ مَذْهَبِ الْخَصْمِ. وَحَكَى الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْقَبَسِ قَوْلًا آخَرَ أَنَّهُ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ، وَعَزَاهُ لِلشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ وَالْقَاضِي وَسَائِرِ الْأَصْحَابِ.
قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ فَقَدْ نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ ضِمْنًا وَتَصْرِيحًا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، فَمِنْ الضِّمْنِ قَوْلُهُ:{وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ} [الأنعام: 139] إلَى قَوْلِهِ: {حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 139]، وَمِنْ التَّصْرِيحِ قَوْلُهُ:{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الأنعام: 143] إلَى قَوْلِهِ: {الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 144] .
تَنْبِيهَاتٌ
الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْمَسَالِكِ هُوَ الْمَشْهُورُ وَنَازَعَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ، مِنْهُمْ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ فِي جَدَلِهِ فَقَالَ: إنَّهُ شَرْطٌ لَا دَلِيلٌ، لِأَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي يَنْفِيه السَّبْرُ إمَّا أَنْ يَقْطَعَ بِمُنَاسَبَتِهِ فَهُوَ التَّخْرِيجُ، أَوْ يَعْرُوَ عَنْهَا فَهُوَ الطَّرْدِيُّ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُعَلِّلَ بِهِ، أَوْ لَا يَقْطَعَ بِوُجُودِهِ فِيهِ وَلَا عَدَمِهَا فَهُوَ الشَّبَهُ، فَلَا بُدَّ فِي الْعِلَّةِ مِنْ اعْتِبَارِ وُجُودِ الْمَصْلَحَةِ أَوْ صَلَاحِيَّتِهَا لِذَلِكَ. وَيَلْزَمُ مِنْهُ مَا ذَكَرْنَاهُ. إلَّا أَنَّ التَّقْسِيمَ إذَا كَانَ دَائِرًا بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَأُبْطِلَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ مَثَلًا تَعَيَّنَ الْمَطْلُوبُ فِي الثَّانِي قَطْعًا، كَقَوْلِنَا: الْعَالَمُ إمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا حَادِثٌ، مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا لِكَذَا، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا، فَإِنَّ هَذَا وَنَحْوَهُ بُرْهَانٌ قَطْعِيٌّ، وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْمَنْطِقِيِّ ب " الشَّرْطِيِّ الْمُتَّصِلِ ".
وَقَالَ فِي " أُصُولِهِ ": أَكْثَرُ النُّظَّارِ عَدُّوا هَذَا الْمَسْلَكَ دَلِيلًا عَلَى التَّعْلِيلِ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَذَلِكَ أَنَّ مَا يَنْفِيه السَّبْرُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ ظَاهِرَ الْمُنَاسَبَةِ، وَهُوَ قِيَاسُ الْعِلَّةِ، أَوْ صَالِحًا لَهَا، وَهُوَ الشَّبَهُ، فَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ عَلَى التَّعْلِيلِ هُنَا هُوَ الْمُنَاسَبَةُ، غَيْرَ أَنَّ السَّبْرَ عَيْنُ دَلِيلِ الْوَصْفِ، فَالسَّبْرُ إذَنْ شَرْطٌ، لَا دَلِيلٌ، وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْمَسَالِكِ النَّظَرِيَّةِ، فَلَيْسَ مَسْلَكًا بِنَفْسِهِ، بَلْ هُوَ شَرْطُ الْمَسَالِكِ النَّظَرِيَّةِ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ قَوْمٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ فِي الدَّوَرَانِ أَنَّهُ شَرْطٌ لِلْعِلَّةِ لَا تَثْبُتُ مَعَ دَلِيلٍ عَلَيْهَا، وَهُوَ يَتَمَشَّى مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي السَّبْرِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. انْتَهَى.
وَقَدْ جَزَمَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى بِأَنَّهُ إذَا اسْتَقَامَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى مُنَاسَبَةٍ، وَنَازَعَهُ شَارِحُهُ الْعَبْدَرِيّ أَيْضًا، لِاعْتِقَادِهِ بِأَنَّ السَّبْرَ لَيْسَ مِنْ مَسَائِلِ الْعِلَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ خَادِمٌ لِلْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ، أَيْ بِهِ يَتَقَيَّدُ الْوَصْفُ الْمُنَاسِبُ الْمُخْتَلِطُ بِغَيْرِهِ. وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ: السَّبْرُ يَرْجِعُ إلَى اخْتِبَارٍ فِي أَوْصَافِ الْمَحَلِّ وَضَبْطِهَا، وَالتَّقْسِيمُ يَرْجِعُ إلَى إبْطَالِ مَا يَظْهَرُ إبْطَالُهُ فِيهَا، فَإِذَنْ لَا يَكُونُ مِنْ الْأَدِلَّةِ بِحَالٍ. وَإِنَّمَا تَسَامَحَ الْأُصُولِيُّونَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالدَّلِيلِ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي جُمْلَةِ الْأَوْصَافِ، وَالدَّلِيلُ الثَّانِي دَلَّ عَلَى التَّعْيِينِ. وَإِلَّا فَالسَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ لَيْسَ هُوَ دَلِيلًا قَالَ: وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
إحْدَاهَا: أَنْ يَتَبَيَّنَ الْمَطْلُوبُ فِي الْجُمْلَةِ:
وَثَانِيهَا: سَبْرٌ خَاصٌّ.
وَثَالِثُهَا: إبْطَالُ مَا عَدَا الْمُخْتَارِ. فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ مَعْلُومَةً حَصَلَ الْعِلْمُ بِالْمَطْلُوبِ وَإِلَّا فَلَا، بَلْ تَحْصُلُ غَلَبَةُ الظَّنِّ. ثُمَّ إنْ كَانَ الْمَوْضِعُ مِمَّا يُكْتَفَى فِيهِ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ اُكْتُفِيَ بِهِ وَإِلَّا فَلَا قَالَ: وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ خِلَافٌ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي شَرْحِهِ: زَعَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ السَّبْرَ إذَا دَارَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَهُوَ التَّقْسِيمُ، وَعَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَإِلَّا فَهُوَ السَّبْرُ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ، بَلْ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ مُتَغَايِرَانِ مُتَلَازِمَانِ فِي الدَّلَالَةِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَفِي الْفِقْهِيَّاتِ سَوَاءٌ دَارَتْ الْقِسْمَةُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ أَمْ لَا. فَالسَّبْرُ إذَنْ فِي الْعَقْلِيَّاتِ: اخْتِبَارُ الْمُقَدَّرَاتِ لِيَنْظُرَ أَيُّهَا الْحَقُّ. وَالتَّقْسِيمُ أَنْ يَقْسِمَ الصِّحَّةَ وَالْبُطْلَانَ بَيْنَهُمَا فَيَعْتَبِرَ مَا هُوَ الْعِلَّةُ، وَيُلْغِي مَا لَيْسَ بِعِلَّةٍ. وَقَدْ بَانَ لَك بِهَذَا أَنَّ الدَّلِيلَ لَيْسَ نَفْسَ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ، وَإِنَّمَا الدَّلِيلُ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ إضَافَةَ الْعِلِّيَّةِ إلَى الْعِلَّةِ، وَهُوَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الْأَوْصَافِ عِلَّةٌ مَعَ دَلِيلِ إلْغَاءِ سَائِرِ الْأَوْصَافِ إلَّا الْمُبْقَى فَيَتَعَيَّنُ، وَتَقْرِيرُ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ أَحَدَ
الْأَوْصَافِ عِلَّةُ الِاسْتِقْرَاءِ مِنْ سِبْرِ الْأَوَّلِينَ فَإِنَّهُمْ عَلَّلُوا الْأَحْكَامَ بِجُمْلَتِهَا، أَوْ عَلَّلُوا أَكْثَرَهَا، وَالْأَكْثَرِيَّةُ مُلْحَقَةٌ بِالْعُمُومِ، وَحَكَمُوا بِأَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَعْدُو أَوْصَافَ الْمَحَلِّ، فَيَجِبُ إلْحَاقُ كُلِّ صُورَةٍ بِالْعَامِّ أَوْ بِالْأَغْلَبِ. وَتَقْرِيرُ إبْطَالِ مَا عَدَا الْمُبْقَى يَكُونُ بِأَدِلَّةِ الْإِبْطَالِ، كَبَيَانِ أَنَّ الْأَوْصَافَ طَرْدِيَّةٌ، أَوْ لَا مُنَاسَبَةَ فِيهَا، أَوْ يَقُولُ: بَحَثْت فَلَمْ تَظْهَرْ لِي مُنَاسَبَةٌ قَالَ: وَفِي الِاكْتِفَاءِ بِالثَّانِي إشْكَالٌ، فَإِنَّ الْمُبْقَى لَمْ تَظْهَرْ مُنَاسَبَتُهُ أَيْضًا، وَإِلَّا بَطَلَتْ فَائِدَةُ السَّبْرِ وَخُصُوصِيَّتُهُ. وَكَبَيَانِ الْإِلْغَاءِ فِي الْأَوْصَافِ لِوُجُودِ الْحُكْمِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ بِالْمُبْقَى مُنْفَرِدًا عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَوْصَافِ، فَيَنْدَفِعُ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الْمُبْقَى جُزْءَ عِلَّةٍ مَعَ بَقِيَّةِ الْأَوْصَافِ.
(قَالَ) : وَمِنْ الْأَسْئِلَةِ الْعَاصِمَةِ لِمَسْلَكِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ أَنَّ الْمُبْقَى لَا يَخْلُو فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا، أَوْ شَبَهًا، أَوْ طَرْدًا خَالِيًا، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى مَصْلَحَةٍ أَوْ لَا، فَإِنْ اشْتَمَلَ عَلَى مَصْلَحَةٍ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُنْضَبِطَةً لِلْفَهْمِ، أَوْ كُلِّيَّةً لَا تَنْضَبِطُ.
فَالْأَوَّلُ: الْمُنَاسِبُ.
وَالثَّانِي: الشَّبَهُ. وَإِنْ لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى مَصْلَحَةٍ أَصْلًا فَهُوَ الطَّرْدُ الْمَرْدُودُ. فَإِنْ كَانَ ثَمَّ مُنَاسَبَةٌ أَوْ شَبَهٌ لَغَا السَّبْرَ وَالتَّقْسِيمَ. فَإِنْ كَانَ عُرْيًا عَنْ الْمُنَاسَبَةِ قَطْعًا لَمْ يَنْفَعْ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ أَيْضًا. فَإِنْ قُلْت: يَنْفَعُ فِي حَمْلِ النَّظَرِ فِي الْمُنَاسَبَةِ عَلَى الْمُجْتَهِدِ. قُلْت: لَا يُحْمَلُ ذَلِكَ عَنْهُ، لِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ عِنْدَنَا أَمْرٌ وُجُودِيٌّ مَكْشُوفٌ، حَتَّى يُقَالَ: إنَّهُ ذَوْقِيٌّ أَوْ ضَرُورِيٌّ كَالْمَحْسُوسِ، فَالْمُجْتَهِدُ إذًا يَعْلَمُهُ إذَا لَمْ يَذُقْ فِيهِ مَصْلَحَةً مُنْضَبِطَةً وَلَا غَيْرَهَا أَنَّهُ لَا مُنَاسِبَ وَلَا شَبَهَ فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ طَرْدٌ.
التَّنْبِيهُ الثَّانِي:
نَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الْقَاضِي أَنَّ السَّبْرَ وَالتَّقْسِيمَ مِنْ أَقْوَى مَا تَثْبُتُ بِهِ الْعِلَلُ، وَاسْتَشْكَلَهُ، وَوَجَّهَهُ الْإِبْيَارِيُّ بِأَنَّ مُثْبِتَ الْعِلَّةِ بِالْمُنَاسَبَةِ أَوْ الشَّبَهِ
يُكْتَفَى مِنْهُ فِي النَّظَرِ بِذَلِكَ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُبْدِيَ الْخَصْمُ مُعَارِضًا رَاجِحًا. وَأَمَّا إذَا أَسْنَدَ إلَى السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ فَقَدْ وَفَّى الْوَظِيفَةَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ وَلَمْ يَبْقَ مُتَوَقِّعًا ظُهُورَ مَا يَقْدَحُ أَوْ يَضُرُّ، وَنَازَعَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ وَقَالَ: نَحْنُ نَدْفَعُ أَصْلَ كَوْنِهِ مَسْلَكًا، فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مُتَمَيِّزًا. وَقَوْلُهُ سَلَفٌ إبْطَالُ الْمُعَارَضَاتِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، لِأَنَّهُ وَضَعَ النَّظَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِ الْمُعَارَضَاتِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي التَّصْحِيحِ فَأَيْنَ الدَّلِيلُ الَّذِي ذَبَّ الْمُعَارِضَاتِ عَنْهُ. وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِالْمُنَاسَبَاتِ فَإِنَّهُ وَجْهُ الدَّلِيلِ، وَهِيَ الْمُعَارَضَاتُ بِالْأَصْلِ، فَإِنَّا مَا نُلْحِقُ بِهِ مَنْ اشْتَغَلَ بِدَفْعِ الْمُعَارَضَاتِ وَقَنَعَ بِذَلِكَ دَلِيلًا.
التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ:
إنْ أَبْدَى الْمُعْتَرِضَ وَصْفًا زَائِدًا لَمْ يُكَلَّفْ بِبَيَانِ صَلَاحِيَّتِهِ لِلتَّعْلِيلِ، وَلَا يَنْقَطِعُ الْمُسْتَدِلُّ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ حَتَّى يَعْجَزَ عَنْ إبْطَالِهِ، بَلْ لَهُ عَدَمُ اعْتِبَارِهِ بِطُرُقٍ:
أَحَدُهَا: بَيَانُ بَقَاءِ الْحُكْمِ مَعَ عَدَمِ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، كَقَوْلِنَا: يَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ، لِأَنَّهُ عَاقِلٌ مُسْلِمٌ غَيْرُ مُتَّهَمٍ، كَالْحُرِّ. فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: الْعِلَّةُ ثَمَّ وَصْفٌ زَائِدٌ، وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ، مَفْقُودٌ فِي الْعَبْدِ. فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: وَصْفُ الْحُرِّيَّةِ مُلْغًى فِي الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ، فَإِنَّ أَمَانَهُ يَصِحُّ بِاتِّفَاقِ عَدَمِ الْحُرِّيَّةِ فَصَارَ وَصْفًا لَاغِيًا لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْحُكْمِ.
ثَانِيهَا: أَنْ يُبَيِّنَ كَوْنَهُ وَصْفًا طَرْدِيًّا وَلَوْ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ كَقَوْلِنَا: سَرَى الْعِتْقُ فِي الْأَمَةِ، كَالْعَبْدِ، بِجَامِعِ الرِّقِّ، إذْ لَا عِلَّةَ غَيْرَهُ، فَإِنْ قَالَ: فِي الْأَصْلِ وَصْفٌ زَائِدٌ، وَهُوَ الذُّكُورَةُ الْمُحَصِّلَةُ لِلْكَسْبِ، فَنَقُولُ: هُوَ وَصْفٌ لَمْ يَعْتَبِرْهُ
الشَّرْعُ فِي بَابِ الْعِتْقِ. وَقَدْ يَتَّفِقَانِ عَلَى إبْطَالِ مَا عَدَا وَصْفَيْنِ فَيَكْفِي الْمُسْتَدِلُّ التَّرْدِيدُ بَيْنَهُمَا.
ثَالِثُهُمَا: أَنْ لَا تَظْهَرَ مُنَاسَبَةُ الْمَحْذُوفِ. وَقَدْ سَبَقَ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِ الْمُنَاظِرِ: بَحَثْت فَلَمْ أَجِدْ مُنَاسَبَةً، عَلَى أَحَدِ الرَّأْيَيْنِ. فَإِنْ ادَّعَى الْمُعْتَرِضُ أَنَّ الْوَصْفَ الْمُسْتَبْقَى كَذَلِكَ فَلَيْسَ لِلْمُسْتَدِلِّ بَيَانُ مُنَاسَبَتِهِ، لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ، وَلَكِنْ يُرَجَّحُ سَبْرُهُ لِمُوَافَقَتِهِ لِتَعَدِّيَةِ الْحُكْمِ عَلَى سِبْرِ الْمُعْتَرِضِ لِعَدَمِهَا، فَإِنَّ التَّعَدِّيَ أَوْلَى.
التَّنْبِيهُ الرَّابِعُ:
قَسَّمَ إلْكِيَا السَّبْرَ إلَى مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْقَطْعِيَّاتِ وَهُوَ الْمُفْضِي إلَى الْيَقِينِ بِأَنْ يَكُونَ حَاصِرًا يَقِينًا، بِالدَّوْرِ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. (قَالَ) : وَهُوَ الْمُلَقَّبُ ب " بُرْهَانِ الْخَلْفِ " وَكَانَ الْعَقْلُ دَالًّا عَلَى أَنَّ الْحَقَّ أَحَدُهُمَا، فَإِذَا بَانَ بُطْلَانُ أَحَدِهِمَا تَعَيَّنَ الثَّانِي لِلصِّحَّةِ، فَقَدْ قَامَ دَلِيلُ الثَّانِي عَلَى الْخُصُوصِ بِبُطْلَانِ ضِدِّهِ، وَإِلَى مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الظَّنِّيَّاتِ، وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ إثْبَاتُ حُكْمِهِ أَوْ دَلِيلِهِ.
وَالْأَوَّلُ يَكْفِي فِيهِ انْتِهَاءُ السَّبْرِ إلَى حَدِّ الظَّنِّ، سَوَاءٌ كَانَ فِي شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ، لِأَنَّ الظَّنَّ لَا يَخْتَصُّ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، بَلْ قَدْ يَقَعُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ مُتَعَاقِبَيْنِ، كَقَوْلِنَا: الْإِيلَاءُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُوجِبَ التَّوَقُّفَ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أَوْ الْبَيْنُونَةَ، فَلَمَّا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ لَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُوجِبُ التَّوَقُّفَ، إذْ لَا حُكْمَ بَيْنَهُمَا. ثُمَّ طَرِيقُ إبْطَالِ أَحَدِهِمَا بَيِّنٌ. وَمَسْأَلَةُ اتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ تَقْتَضِي أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا، فَإِذَا بَطَلَ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ الْآخَرُ.
وَالثَّانِي مَا عُلِمَ أَنَّ بُطْلَانَ دَلِيلِ الْحُكْمِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَلِ، إلَّا أَنْ يَتَّفِقَ عَلَى كَوْنِهِ مُعَلَّلًا ثُمَّ يَسْبُرُ مَا عَدَا الْعِلَّةِ الَّتِي يَذْهَبُ إلَيْهَا وَيُبْطِلُهُ فَتَصِحُّ
عِلَّتُهُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ، بَلْ يَكْفِي ذِكْرُ مُجَرَّدِ الْوَصْفِ. وَقِيلَ: إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْطُوعًا بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ النَّظَرِ إلَى تِلْكَ الْعِلَّةِ فَعَسَاهَا تُبْطِلُ هَذَا فَيَنْظُرُ فِي غَيْرِهَا. وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّ السَّبْرَ لَا يُفِيدُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ. وَمَقْصُودُنَا أَنَّ الظَّنَّ يَحْصُلُ عِنْدَ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ السَّبْرِ، وَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ فَقَدْ ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا يَعْسُرُ وُجُودُهُ وَلَا بُعْدَ عِنْدَنَا فِي تَقْدِيرِهِ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ يَتَّفِقُونَ عَلَى تَعْلِيلِ الرِّبَا، وَإِذَا ثَبَتَ سُبُرًا غَيْرَ الطُّعْمِ وَالْكَيْلِ ثَبَتَ مَا بَقِيَ.
التَّنْبِيهُ الْخَامِسُ:
السَّبْرُ بِالْبَحْثِ وَعَدَمِ الْعُثُورِ يَدْخُلُ فِي جَمِيعِ الْمَسَالِكِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، وَلَا خُصُوصَ لَهُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ.
مَسْأَلَةٌ قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا إذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ عِلَلٌ فَفَسَدَتْ جَمِيعُهَا إلَّا وَاحِدَةً، هَلْ يَكُونُ فَسَادُهَا دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ؟ فَقِيلَ: لَا حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّتِهَا. وَقِيلَ: نَعَمْ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ إحْدَى الْعِلَلِ صَحِيحَةً، فَإِذَا بَطَلَ مَا عَدَاهَا وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْحَقَّ لَا يَخْرُجُ عَنْهَا ثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ صَحِيحَةٌ، وَنَصَرَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ.
مَسْأَلَةٌ يَلْتَحِقُ بِالسَّبْرِ قَوْلُهُمْ: حُكْمٌ حَادِثٌ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ حَادِثٍ، وَلَا حَادِثَ إلَّا هَذَا فَيَتَعَيَّنُ إسْنَادُهُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا: الْأَصْلُ فِي كُلِّ حَادِثٍ تَقْدِيرُهُ بِأَقْرَبِ زَمَنٍ إلَّا أَنَّ فِيمَا سَبَقَ سَبْرًا فِي جَمِيعِ أَوْصَافِ الْمَحَلِّ، وَهَذَا فِي الْأَوْصَافِ الْحَادِثَةِ خَاصَّةً. وَقَدْ قِيلَ: عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ لَا يَلْزَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ حَادِثًا أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ حَادِثًا، بَلْ قَدْ يَكُونُ الْحُكْمُ حَادِثًا