المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فائدة العلة إذا كثرت أوصافها في القياس] - البحر المحيط في أصول الفقه - ط الكتبي - جـ ٧

[بدر الدين الزركشي]

فهرس الكتاب

- ‌[كِتَابُ الْقِيَاسِ] [

- ‌الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي حَقِيقَة الْقِيَاس]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ فِي نَظَرِ الْأُصُولِيِّينَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ اشْتِمَالُ النُّصُوصِ عَلَى الْفُرُوعِ الْمُلْحَقَةِ بِالْقِيَاسِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ مُظْهِرٌ لَا مُثْبِتٌ]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي فِي مَوْضُوعِ الْقِيَاسِ]

- ‌[الْبَابُ الثَّالِثُ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ]

- ‌[مَسْأَلَة الْقِيَاسُ يُعْمَلُ بِهِ قَطْعًا]

- ‌[مَسْأَلَة التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ نَصُّ الشَّارِعِ عَلَى الْحُكْمِ وَالْعِلَّةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ اسْتِعْمَال الْقِيَاسُ إذَا عُدِمَ النَّصُّ]

- ‌[مَسْأَلَة الْمُرْسَلُ وَالضَّعِيفُ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ]

- ‌[الْبَابُ الرَّابِعُ فِي أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ]

- ‌[أَقْسَامُ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ]

- ‌[أَقْسَامُ الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ]

- ‌[الْبَابُ الْخَامِسُ مَا يَجْرِي فِيهِ الْقِيَاسُ]

- ‌[أَمْثِلَةٌ لِلْقِيَاسِ فِي الرُّخَصِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ جَرَيَانُ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ فِي الْعَقْلِيَّاتِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ جَرَيَانُ الْقِيَاسِ فِي اللُّغَاتِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ فِي الْأَسْبَابِ]

- ‌[الْبَابُ السَّادِسُ فِي أَرْكَانِ الْقِيَاس] [

- ‌الرُّكْن الْأَوَّل الْأَصْلِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَأْثِيرُ الْأَصْلِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ]

- ‌[الْكَلَامُ فِي شُرُوطِ حُكْمِ الْأَصْلِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَا يَمْتَنِعُ فِيهِ الْقِيَاسُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ الْأَصْلِ]

- ‌[الرُّكْنُ الثَّالِثُ الْفَرْعُ]

- ‌[الرُّكْنُ الرَّابِعُ الْعِلَّةُ]

- ‌[مَسْأَلَة الْمَعْلُولُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَقَدُّمُ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَا بُدَّ لِلْحُكْمِ مِنْ عِلَّةٍ]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ شُرُوطِ الْعِلَّةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ اقْتِصَارُ الشَّارِعِ عَلَى أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ فِي الْعِلَّة]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ أُمُورٍ اُشْتُرِطَتْ فِي الْعِلَّةِ]

- ‌[فَائِدَةٌ الْعِلَّةُ إذَا كَثُرَتْ أَوْصَافُهَا فِي الْقِيَاسِ]

- ‌[مَسَالِكُ الْعِلَّةِ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ الْإِجْمَاعُ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً]

- ‌[الْمَسْلَكُ الثَّانِي النَّصُّ عَلَى الْعِلَّةِ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ الْإِيمَاءُ وَالتَّنْبِيهُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الرَّابِعُ الِاسْتِدْلَال عَلَى عِلِّيَّةِ الْحُكْمِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الْمَسْلَكُ الْخَامِسُ فِي إثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ الْمُنَاسَبَةُ]

- ‌[تَقْسِيمُ الْمُنَاسِبِ]

- ‌[أَقْسَامُ الْمُنَاسِبِ مِنْ حَيْثُ الْيَقِينِ وَالظَّنِّ]

- ‌[أَقْسَامُ الْمُنَاسِبِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةِ وَالْإِقْنَاعِ]

- ‌[تَقْسِيمُ الْمُنَاسَبَةِ مِنْ حَيْثُ التَّأْثِيرُ وَالْمُلَاءَمَةُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ السَّادِسُ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ السَّابِعُ الشَّبَهُ]

- ‌[حُكْم قِيَاس الشَّبَه]

- ‌[الْمَسْلَكُ الثَّامِنُ الدَّوَرَانُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ التَّاسِعُ الطَّرْدُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الْعَاشِرُ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ]

- ‌[الِاعْتِرَاضَاتُ]

- ‌[الْأَوَّلُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ النَّقْضُ]

- ‌[الثَّانِي مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الْكَسْرُ]

- ‌[الثَّالِثُ مِنْ الِاعْتِرَاضَات عَدَمُ الْعَكْسِ]

- ‌[الرَّابِعُ مِنْ الِاعْتِرَاضَات عَدَمُ التَّأْثِيرِ]

- ‌[الْخَامِسُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الْقَلْبُ]

- ‌[حَقِيقَتِهِ الْقَلْبُ]

- ‌[اعْتِبَارِهِ الْقَلْب]

- ‌[هَلْ الْقَلْب قَادِحٌ أَمْ لَا]

- ‌[أَقْسَام الْقَلْبُ]

- ‌[السَّادِسُ مِنْ الِاعْتِرَاضَات الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ]

- ‌[السَّابِعُ مِنْ الِاعْتِرَاضَات الْفَرْقُ وَيُسَمَّى سُؤَالَ الْمُعَارَضَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ شُرُوط الْفَرْقِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي جَوَابِ الْفَرْقِ]

- ‌[الثَّامِنُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الِاسْتِفْسَارُ]

- ‌[التَّاسِعُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ]

- ‌[الْعَاشِرُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ فَسَادُ الْوَضْعِ]

- ‌[الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَات الْمَنْعُ]

- ‌[الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَات التَّقْسِيمُ]

- ‌[الثَّالِث عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَات اخْتِلَافُ الضَّابِطِ]

- ‌[الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ اخْتِلَافُ حُكْمَيْ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ]

- ‌[الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الْمُعَارَضَةِ]

- ‌[وُجُوهٍ الْمُعَارَضَةِ]

- ‌[السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ سُؤَالُ التَّعْدِيَةِ]

- ‌[فَصْلٌ تَرْتِيبِ الْأَسْئِلَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الِانْتِقَالِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْفَرْضِ وَالْبِنَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي حِيَلِ الْمُتَنَاظِرِينَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي التَّعَلُّقِ بِمُنَاقَضَاتِ الْخُصُومِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِالْمُخْتَلَفِ فِيهِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ]

الفصل: ‌[فائدة العلة إذا كثرت أوصافها في القياس]

التَّنْقِيحِ: غَايَةُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ سَبْعَةٌ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: مَنْ كَانَ بِقُرْبِ مِصْرٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحُضُورُ، إذَا سَمِعَ النِّدَاءَ حُرٌّ، مُسْلِمٌ، صَحِيحٌ، مُقِيمٌ، فِي مَوْطِنٍ يَبْلُغُهُ النِّدَاءُ، فِي مَوْضِعٍ تَصِحُّ فِيهِ الْجُمُعَةُ فَهُوَ كَالْمُقِيمِ فِي مِصْرٍ (قَالَ) وَهَذَا يَتَضَمَّنُ سَبْعَةَ أَوْصَافٍ. وَلَمَّا ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ تَرْتِيبَهَا عَلَى مَا سَبَقَ قَالَ: وَإِنَّمَا قَدَّمَ مَا قَلَّ وَصْفُهُ عَلَى مَا كَثُرَ مِنْهُ لِلْحَاجَةِ فِيمَا كَثُرَ وَصْفُهُ إلَى زِيَادَةِ الِاجْتِهَادِ وَجَوَازِ الْخَطَأِ وَسَلَامَةِ مَا قَلَّ وَصْفُهُ فِي أَحَدِ مَوَاضِعِهِ عَنْهُ، لِأَنَّهُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ وَالْعُمُومِ وَالظَّاهِرِ الصَّرِيحِ وَالْمُحْتَمَلِ إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَهُ. وَقَالَ إلْكِيَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيلُ أَوْصَافًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا وَفِيهِ إخَالَةٌ، ثُمَّ هَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي إفْرَادَ كُلِّ وَصْفٍ بِالتَّعْلِيلِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَخِيلًا كَفَى ذَلِكَ. وَقَدْ يَمْتَنِعُ الْإِجْمَاعُ وَلَا يَهْتَدِي الْعَقْلُ أَنَّ الْوَصْفَ مَخِيلُ، لَكِنْ يَجِبُ أَلَّا يَكْتَفِيَ بِأَنَّهُ لَيْسَ كَالْإِخَالَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْعِلَّةِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا وَصْفٌ وَاحِدٌ وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا وَصْفًا وَالْآخَرُ مَخِيلًا وَإِنَّمَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَخِيلًا بِأَنْ لَا يُؤَثِّرَ فِي الْحُكْمِ أَصْلًا وَلَكِنْ يُؤَثِّرُ فِي الْعِلَّةِ لِتَعْظِيمِ وَقْعِهَا، أَوْ لَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي الْحُكْمِ وَالْعِلَّةِ فَيَكُونُ عَلَمًا مَحْضًا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُلَقَّبُ بِالشَّرْطِ وَالشَّرْطُ الْعَلَامَةُ.

[فَائِدَةٌ الْعِلَّةُ إذَا كَثُرَتْ أَوْصَافُهَا فِي الْقِيَاسِ]

تَنْبِيهٌ: قَدْ يَسْتَشْكِلُ مَحَلُّ الْخِلَافِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ عِنْدَ الْحَاجَةِ لِلزِّيَادَةِ فَلَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ، أَوْ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ فَلَا وَجْهَ لِلتَّجْوِيزِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا مَوْضِعَ الْخِلَافِ وَقَدْ عَلَّلَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ الرِّبَا فِي الْأَرْبَعَةِ بِكَوْنِهَا مَطْعُومَةً مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَأَضَافَ فِي الْقَدِيمِ إلَى ذَلِكَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَزَيَّفَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ بِأَنَّ الْعِلَّةَ إذَا اسْتَقَلَّتْ بِوَصْفَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِمَا وَصْفٌ ثَالِثٌ، لِأَنَّ الْوَصْفَ فِي الْعِلَّةِ إنَّمَا يُذْكَرُ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ، فَإِذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ كَانَ ذِكْرُهُ لَغْوًا. وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ

ص: 213

فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ إذَا تَقَابَلَتْ الْعِلَّتَانِ وَإِحْدَاهُمَا أَكْثَرُ أَوْصَافًا مِنْ الْأُخْرَى فَالْقَلِيلَةُ أَوْلَى بِإِجْمَاعِ النُّظَّارِ وَأَهْلِ الْأُصُولِ (قَالَ) وَلَوْ جَازَ أَنْ يَزِيدَ الْوَاحِدُ وَصْفًا بَعْدَ اسْتِقَامَةِ الْعِلَّةِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ لَجَازَ أَنْ يَزِيدَ خَمْسَةَ أَوْصَافٍ وَعَشَرَةً، وَلَا فَائِدَةَ فِيهَا، لِأَنَّ الْعِلَّةَ كُلَّمَا زَادَتْ أَوْصَافُهَا ضَعُفَتْ، وَكُلَّمَا قَلَّتْ قَوِيَتْ، لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى كَثْرَةِ الْأَوْصَافِ لِبُعْدِ الْفَرْعِ عَنْهُ، وَقِلَّةُ الْأَوْصَافِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَرُبَتْ قَرَابَتُهُ وَمَنْ بَعُدَ، لَمَّا كَانَ ابْنُ الْعَمِّ لَا يُدْلِي إلَى الْمَيِّتِ إلَّا بِجَمَاعَةٍ تَوَسَّطُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ، وَلَمْ يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ الِابْنِ وَالْأَبِ اللَّذَيْنِ يُدْلِيَانِ إلَيْهِ بِأَنْفُسِهِمَا.

وَأَيْضًا لِأَنَّ الْأَوْصَافَ كُلَّمَا كَثُرَتْ فِي الْعِلَّةِ قَلَّتْ الْفُرُوعُ، أَلَا تَرَى مَنْ ضَمَّ وَصْفَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ إلَى الطُّعْمِ أَسْقَطَ الرِّبَا عَنْ الْمَطْعُومَاتِ الَّتِي لَا تُكَالُ وَلَا تُوزَنُ، كَالْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ وَالتِّينِ وَالْجَوْزِ وَغَيْرِهَا، فَكَانَ كَاجْتِمَاعِ الْمُتَعَدِّيَةِ مَعَ الْقَاصِرَةِ، ثُمَّ أَشَارَ الشَّيْخُ إلَى أَنَّ مِنْ الْأَصْحَابِ مَنْ جَعَلَ الْعِلَّةَ عَلَى الْجَدِيدِ مُرَكَّبَةً مِنْ الْجِنْسِ وَالطُّعْمِ (قَالَ) : وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا بَسِيطَةٌ وَهِيَ الطُّعْمُ وَأَمَّا الْجِنْسُ فَحَمْلُ الْحُكْمِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي تَعَلُّقِ الْحُكْمِ كَمَا أَنَّ الشِّدَّةَ مَحَلٌّ لِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَلَيْسَتْ الْخَمْرُ عِلَّةً لِوُجُودِ الشِّدَّةِ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ. وَقَالَ الْهِنْدِيُّ بَعْدَ حِكَايَةِ الْخِلَافِ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إنْكَارِ جَوَازِ كَوْنِ الْمَاهِيَّةِ الْمُرَكَّبَةِ عِلَّةً، فَإِنَّ اسْتِقْرَارَ الشَّرْعِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ وُقُوعِهِ، فَإِنَّ كَوْنَ الْقِصَاصِ وَاجِبًا فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ وَحْدَهُ، وَكَذَلِكَ كَوْنُ الرِّبَا جَارِيًا فِي الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ أَحَدَ الْوَصْفَيْنِ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً لِذَلِكَ، بَلْ مَجْمُوعُ الْوَصْفَيْنِ، أَوْ أَحَدِهِمَا بِشَرْطِ الْآخَرِ، وَفِي الْجُمْلَةِ أَنَّ أَكْثَرَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ غَيْرُ ثَابِتٍ عَلَى إطْلَاقِهَا بَلْ بِعُقُودٍ مُعْتَبَرَةٍ فِيهَا، وَاسْتِنْبَاطُ الْعِلَّةِ الْبَسِيطَةِ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَيَلْزَمُ الْمَصِيرُ إلَى كَوْنِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ تَعَبُّدِيَّةً، وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، أَوْ تَجْوِيزُ اسْتِخْرَاجِ الْعِلَّةِ الْمُرَكَّبَةِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

ص: 214

فَائِدَةٌ

الْعِلَّةُ إذَا كَثُرَتْ أَوْصَافُهَا قَلَّتْ مَعْلُولَاتُهَا، وَإِذَا قَلَّتْ كَثُرَتْ. ذَكَرَهُ بَعْضُ تَلَامِذَةِ إلْكِيَا. وَنَظِيرُهُ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْحَدِّ نُقْصَانٌ فِي الْمَحْدُودِ وَالنُّقْصَانُ فِيهِ زِيَادَةٌ فِي الْمَحْدُودِ.

وَ (مِنْهَا) أَنْ تَكُونَ مُسْتَنْبَطَةً مِنْ أَصْلٍ مَقْطُوعٍ بِحُكْمِهِ عِنْدَ قَوْمٍ. وَالْمُخْتَارُ الِاكْتِفَاءُ بِالظَّنِّ، لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْعَمَلِ.

وَ (مِنْهَا) الْقَطْعُ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ عِنْدَ قَوْمٍ، مِنْهُمْ الْمَرْوَزِيِّ فِي جَدَلِهِ وَنَقَلَهُ عَنْ شَيْخِهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى تِلْمِيذُ الْغَزَالِيِّ وَالْمُخْتَارُ الِاكْتِفَاءُ بِالظَّنِّ، لِأَنَّهُ مَعْمُولٌ بِهِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ، وَلِأَنَّ سَائِرَ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ يَكْفِي فِيهِ الظَّنُّ فَكَذَا مَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ إبَاحَةَ وَطْءِ الْحَائِضِ عَلَى الطُّهْرِ بِقَوْلِهِ {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ: تَطَهَّرْت اكْتَفَى بِذَلِكَ وَجَازَ الْوَطْءُ اتِّفَاقًا، وَكَذَلِكَ إبَاحَةُ الْعَقْدِ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا عَلَى أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَمَعَ ذَلِكَ إذَا قَالَتْ: تَزَوَّجْت اكْتَفَى بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُفِدْ قَوْلُهَا إلَّا الظَّنَّ. وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْقَطْعَ إنَّمَا قَامَ عَلَى الْعَمَلِ بِالظَّنِّ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ دُونَ الْأَوْصَافِ الْحَقِيقِيَّةِ. وَهُوَ ضَعِيفٌ فَإِنَّ الْقَاطِعَ لَا يَخْتَصُّ دَلَالَتُهُ فِي شَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى الْعَمَلِ بِالْمَظْنُونِ حَيْثُ تَحَقَّقَتْ. وَتَوَسَّطَ الْمُقْتَرَحُ فَقَالَ: لَا يُشْتَرَطُ الْقَطْعُ بِوُجُودِهَا إلَّا إذَا كَانَتْ وَصْفًا حَقِيقِيًّا كَالْإِسْكَارِ، أَمَّا الْوَصْفُ الشَّرْعِيُّ فَيَكْفِي غَلَبَةُ الظَّنِّ بِحُصُولِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي الْوَصْفِ الْحَقِيقِيِّ أَوْ الْعُرْفِيِّ وَأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الشَّرْعِيِّ بِالِاكْتِفَاءِ بِالظَّنِّ.

وَ (مِنْهَا) حُصُولُ الِاتِّفَاقِ عَلَى وُجُودِ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ. هَكَذَا شَرَطَ بَعْضُهُمْ. وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَمَّا أَمْكَنَ إثْبَاتُهُ بِالدَّلِيلِ حَصَلَ الْغَرَضُ.

وَ (مِنْهَا) أَنْ لَا تَكُونَ مُخَالِفَةً لِمَذْهَبِ صَحَابِيٍّ. وَالْحَقُّ جَوَازُهَا لِجَوَازِ أَنْ

ص: 215

يَكُونَ مَذْهَبُهُ لِعِلَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ مِنْ أَصْلٍ آخَرَ.

وَ (مِنْهَا) أَنْ تَكُونَ مُتَّحِدَةً فِي الْأَصْلِ أَيْ لَا يَكُونُ مَعَهَا عِلَّةٌ أُخْرَى، ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى اخْتِيَارِهِ فِي مَنْعِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ.

وَ (مِنْهَا) إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ وُجُودَ مَانِعٍ أَوْ انْتِفَاءَ شَرْطٍ فَشَرَطَ الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ الْآمِدِيُّ وَصَاحِبُ التَّنْقِيحِ وُجُودَ الْمُقْتَضَى. وَالْمُخْتَارُ - وِفَاقًا لِلرَّازِيِّ - أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ، كَقَوْلِنَا: الزَّكَاةُ لَا تَجِبُ فِي الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ بِدَلِيلِ عَدَمِهَا فِي اللَّآلِئِ وَالْجَوَاهِرِ. ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ - وَتَبِعَهُ الْهِنْدِيُّ - هَذَا الْخِلَافُ مُفَرَّعٌ عَلَى جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ، لِإِمْكَانِ اجْتِمَاعِ الْعِلَّةِ مَعَ الْمَانِعِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ. فَإِنْ مَنَعْنَاهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ هَذَا الْخِلَافُ، لِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْمَانِعِ حِينَئِذٍ لَا يُتَصَوَّرُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا بِبَيَانِ الْمُقْتَضَى أَمْ لَا. وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ عَلَّلَ عَدَمَ الْحُكْمِ بِفَوَاتِ شَرْطٍ وَمَنَعَ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ تَفْرِيعًا عَلَى الْقَوْلِ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ.

وَقَالَ بِمَجِيءِ الْخِلَافِ وَإِنْ لَمْ يُجَوِّزْ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ، وَكَأَنَّ وَجْهَهُ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ التَّخْصِيصِ يَقُولُ: مَا يُسَمُّونَهُ بِالْمَانِعِ مُقْتَضٍ عِنْدِي لِلْحُكْمِ بِالْعَدَمِ، فَقَتْلُ الْمُكَافِئِ فِي غَيْرِ الْأَبِ هُوَ الْعِلَّةُ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ وَقَتْلُ الْأَبِ بِخُصُوصِهِ هُوَ الْمُقْتَضِي لِعَدَمِ الْإِيجَابِ، وَيَعُودُ حِينَئِذٍ الْخِلَافُ لَفْظِيًّا.

وَ (مِنْهَا) إذَا أَثَّرَتْ الْعِلَّةُ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْأُصُولِ دَلَّ عَلَى صِحَّتِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ أَصْلَ الْعِلَّةِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يُعْتَبَرُ تَأْثِيرُهَا فِي الْأَصْلِ، قَالَهُ الشَّيْخُ فِي التَّبْصِرَةِ.

مَسْأَلَةٌ

فِي جَوَازِ تَعْلِيلِ الشَّيْءِ بِجَمِيعِ أَوْصَافِهِ خِلَافٌ - حَكَاهُ ابْنُ فُورَكٍ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ - مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْعِلَّةِ التَّعَدِّي فَمَنْ شَرَطَهُ مَنَعَهَا هُنَا، وَمَنْ جَوَّزَهُ اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ:

ص: 216

(أَحَدُهُمَا) لَا يَصِحُّ لِأَنَّ حَقَّ الْعِلَّةِ التَّأْثِيرُ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ بَعْضَ الْأَوْصَافِ دُونَ بَعْضٍ، فَتَعْلِيلُهُ بِجَمِيعِهَا لَا يَصِحُّ فَلَوْ اتَّفَقَ أَنَّ جَمِيعَهَا مُؤَثِّرَةٌ جَازَ. و (الثَّانِي) يَصِحُّ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنْ لَا يَتَعَدَّى، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهَا.

مَسْأَلَةٌ

اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا - كَمَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ - فِي الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُكْمِ إذَا احْتَاجَتْ إلَى تَقْدِيمِ أَسْبَابٍ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَكُنْ لِتِلْكَ الْأَسْبَابِ تَأْثِيرٌ فِي الْحُكْمِ كَالزِّنَى الْمُوجِبِ لِلرَّجْمِ بِشَرْطِ وُجُودِ الْإِحْصَانِ، وَتَكْمِيلِ جَلْدِ الزِّنَى مِائَةً بِشَرْطِ وُجُودِ الْحُرِّيَّةِ. فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: يَكُونُ مَجْمُوعُ تِلْكَ الْأَوْصَافِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ، لِسُقُوطِهِ عِنْدَ عَدَمِ بَعْضِهَا كَمَا يَسْقُطُ عِنْدَ عَدَمِ جَمِيعِهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْعِلَّةُ هِيَ الْوَصْفُ الْجَالِبُ لِلْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ. وَعَلَى هَذَا فَعِلَّةُ الرَّجْمِ وَتَكْمِيلِ الْحَدِّ وُجُودُ الزِّنَى دُونَ الْحُرِّيَّةِ وَالْإِحْصَانِ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الرَّأْيِ. وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي أَرْبَعَةٍ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَى وَشَهِدَ عَلَيْهِ اثْنَانِ بِالْحُرِّيَّةِ أَوْ بِالْإِحْصَانِ، وَوَقَعَ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمْ، ثُمَّ رَجَعَ الْكُلُّ عَنْ شَهَادَتِهِمْ إنَّ الضَّمَانَ عَلَى شُهُودِ الزِّنَى دُونَ شُهُودِ الْإِحْصَانِ، وَقَالُوا فِي شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ أَمْسِ، فَقَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِعِتْقِهِ، وَشَهِدَ آخَرَانِ بِأَنَّ ذَلِكَ الْعَبْدَ كَانَ قَدْ جَنَى أَوَّلَ أَمْسِ، وَأَنَّ الْوَلِيَّ عَلِمَ بِالْجِنَايَةِ، فَأَلْزَمَهُ الْقَاضِي الدِّيَةَ وَجَعَلَهُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ، ثُمَّ رَجَعَ الشُّهُودُ كُلُّهُمْ، إنَّ ضَمَانَ الدِّيَةِ عَلَى شُهُودِ الْجِنَايَةِ وَضَمَانَ الْقِيمَةِ عَلَى شُهُودِ الْعِتْقِ، لِأَنَّ الْقَاضِيَ أَلْزَمَهُ الدِّيَةَ بِشَهَادَتِهِمْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلدِّيَةِ أَكْثَرَ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَبُو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ: إذَا شَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَى وَشَاهِدَانِ بِالْإِحْصَانِ فَرُجِمَ، ثُمَّ رَجَعَ

ص: 217

وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَنْ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ سُدُسُ الدِّيَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَجْعَلُ مَجْمُوعَ الْإِحْصَانِ وَالزِّنَى عِلَّةً لِلرَّجْمِ وَلِذَلِكَ قَالَ: إنْ رَجَعَ شُهُودُ الْإِحْصَانِ فَعَلَيْهِمْ ثُلُثُ الدِّيَةِ، أَوْ شُهُودُ الزِّنَى فَثُلُثَاهَا، وَهَذَا إذَا كَانَ شُهُودُ الزِّنَى غَيْرَ شَاهِدَيْ الْإِحْصَانِ فَإِنْ كَانَا مِنْ شُهُودِ الزِّنَى فَعَلَيْهِمَا بِرُجُوعِهِمَا عَنْ شَهَادَةِ الْإِحْصَانِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَبِرُجُوعِهِمَا عَنْ شَهَادَةِ الزِّنَى ثُلُثَا الدِّيَةِ وَإِنْ شَهِدَ الْأَرْبَعَةُ عَلَى الْإِحْصَانِ وَالزِّنَى فَالْحُكْمُ وَاضِحٌ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هَذَا إذَا كَانَ شُهُودُ الْإِحْصَانِ غَيْرَ شُهُودِ الزِّنَى، فَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ فَالدِّيَةُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ. وَقِيلَ: إنْ رَجَعُوا كُلُّهُمْ فَعَلَى هَؤُلَاءِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَعَلَى الْآخَرِينَ النِّصْفُ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُ مَنْ رَأَى أَنَّ الْأَوْصَافَ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ. قُلْت: وَالرَّاجِحُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ شُهُودَ الْإِحْصَانِ لَا يَغْرَمُونَ (قَالَ) : وَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي شُهُودِ الْعِتْقِ وَشُهُودِ الْجِنَايَةِ فِي الْعَبْدِ فَإِذَا رَجَعُوا كُلُّهُمْ فَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ ضَمَانَ الْجِنَايَةِ عَلَى شُهُودِ الْجِنَايَةِ، وَضَمَانَ الْقِيمَةِ عَلَى شُهُودِ الْعِتْقِ، وَأَبْطَلَ أَبُو ثَوْرٍ الْعِتْقَ.

مَسْأَلَةٌ

يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الْحُكْمِ وَصْفًا لَازِمًا بِالْإِجْمَاعِ، كَتَعْلِيلِنَا تَحْرِيمَ الرِّبَا فِي الْمَطْعُومَاتِ بِإِمْكَانِ الطُّعْمِ مِنْهَا، وَكَتَعْلِيلِ أَهْلِ الرَّأْيِ تَحْرِيمَ النِّسَاءِ بِالْجِنْسِ وَحْدَهُ، نَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ وَصْفًا غَيْرَ لَازِمٍ لِلْمَعْلُومِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ مُرَكَّبَةً مِنْ أَوْصَافٍ بَعْضُهَا لَازِمٌ وَبَعْضُهَا ثَابِتٌ بِالشَّرْعِ أَوْ الْعَادَةِ، كَتَعْلِيلِنَا فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ بِالْجِنْسِ، وَكَوْنُهُ نَقْدًا عَامًّا، وَالْجِنْسُ: وَصْفٌ لَازِمٌ، وَكَوْنُهُ عَامًّا: بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ.

ص: 218

مَسْأَلَةٌ

قَالَ صَاحِبُ اللُّبَابِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ ذَاتَ وَصْفَيْنِ وَوُجِدَا عَلَى التَّعَاقُبِ، أَوْ شَرَطَ ذُو وَصْفَيْنِ، قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الْحُكْمُ مَنْسُوبٌ إلَى آخِرِ الْوَصْفَيْنِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الشَّرْطِ آخِرُهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْأَثَرِ، وَيَرْجِعُ الْآخَرُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَعْقُبُ الْحُكْمَ. وَبَنَوْا عَلَى هَذَا مَسَائِلَ، مِنْهَا: شِرَاءُ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ، لِأَنَّ الْعِتْقَ حَصَلَ بِالْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ، وَالْمِلْكُ آخِرُهُمَا وُجُودًا، فَصَارَ الشِّرَاءُ مُعْتِقًا. وَكَذَلِكَ إذَا وَضَعَ جَمَاعَةٌ فِي سَفِينَةٍ شَيْئًا فَغَرِقَتْ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى آخِرِهِمْ وَضْعًا، وَكَذَلِكَ شُرْبُ الْمُثَلَّثِ حَرَامٌ إلَى حَالَةِ السُّكْرِ، ثُمَّ إذَا أَسْكَرَ الْقَدَحُ الْعَاشِرُ كَانَ هُوَ الْحَرَامُ لَا غَيْرُهُ، وَإِنْ حَصَلَ السُّكْرُ بِشُرْبِ الْجَمِيعِ، لَكِنَّ هَذَا آخِرُهَا وُجُودًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُضَافُ إلَى آخِرِهَا بَلْ إلَيْهِمَا جَمِيعًا، لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا جُزْءَا عِلَّةٍ. قُلْت: وَالْخِلَافُ عِنْدَنَا أَيْضًا فِيمَا لَوْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا فِي دَفَعَاتٍ هَلْ يَتَعَلَّقُ التَّحْرِيمُ بِالطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ وَحْدَهَا بِمَجْمُوعِ الثَّلَاثِ؟ وَجْهَانِ، وَفَائِدَتُهُمَا فِيمَا لَوْ شَهِدُوا بِالثَّالِثَةِ ثُمَّ رَجَعُوا هَلْ يَكُونُ الْغُرْمُ بِجُمْلَتِهِ عَلَيْهِمْ أَوْ ثُلُثُهُ فَقَطْ.

مَسْأَلَةٌ

تَنْقَسِمُ الْعِلَّةُ إلَى مَا يُفِيدُ الْأَثَرَ فِي الْحَالِ، كَإِفْضَاءِ الْكَسْرِ إلَى الِانْكِسَارِ، وَالْحَرْقِ إلَى الْإِحْرَاقِ، وَإِلَى مَا يُفِيدُهُ فِي ثَانِي الْحَالِ، كَاقْتِضَاءِ الزِّرَاعَةِ وَالْغِرَاسَةِ حُصُولَ الْغَلَّةِ وَالثَّمَرَةِ، وَكَإِفْضَاءِ الطَّلَاقِ [إلَى] حُصُولِ الْبَيْنُونَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، ثُمَّ الْعِلَّةُ تَارَةً تُفِيدُ الْمَعْلُولَ بِلَا شَرْطٍ وَهُوَ كَثِيرٌ، وَتَارَةً لَا تُفِيدُهُ إلَّا مَعَ الشَّرْطِ كَإِفْضَاءِ التَّعْلِيقِ [إلَى] وُقُوعِ الْمُعَلَّقِ عِنْدَ الشَّرْطِ وَلَكِنَّ السَّابِقَ عَلَى الشَّرْطِ لَا يَكُونُ عِلَّةً إلَّا لِلْأَمْرِ الْمُقَيَّدِ وَهُوَ الْأَثَرُ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ ثُمَّ مِنْهَا مَا يُفِيدُ الْمَعْلُولَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ كَمَا قُلْنَا فِي الْكَسْرِ مَعَ الِانْكِسَارِ،

ص: 219

وَتَارَةً لَا يُفِيدُهُ إلَّا بِوَاسِطَةٍ، كَاقْتِضَاءِ قَطْعِ الْيَدِ الزُّهُوقَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، فَإِنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي السِّرَايَةِ، ثُمَّ تُفِيدُ السِّرَايَةَ أَثَرًا آخَرَ، أَوْ آثَارًا يَنْشَأُ مِنْهَا زُهُوقُ الرُّوحِ، وَمَتَى بَطَلَتْ تِلْكَ الْوَاسِطَةُ بَطَلَ اقْتِضَاءُ الْعِلَّةِ الْمَعْلُولَ مِنْ حَيْثُ التَّحْقِيقُ. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَسْتَدِلُّ بِالْعِلَّةِ الْأُولَى عَلَى الْمَعْلُولِ الثَّانِي وَيَدَّعِي أَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ انْتِفَاءُ الْوَاسِطَةِ، قَالَ الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ فِي كِتَابِ الْفُصُولِ: وَهُوَ خَطَأٌ يَأْبَاهُ الْعَقْلُ (قَالَ) وَكَانَ شَيْخُنَا رُكْنُ الدِّينِ الطَّاوُسِيُّ يَقُولُ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَخْبَرَنَا وَسَطَ النَّهَارِ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ فِي مَوْضِعٍ عَلَّقَ رَجُلٌ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ عَلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَقَالَ آخَرُ: يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ هُنَا، لِأَنَّ إخْبَارَ الرَّجُلِ اقْتَضَى غُرُوبَ الشَّمْسِ، وَغُرُوبُ الشَّمْسِ مُسْتَلْزِمٌ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فَيَقَعُ بِهِ، وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّ اقْتِضَاءَ الْإِخْبَارِ الْوُقُوعَ إنَّمَا كَانَ بِوَاسِطَةِ ثُبُوتِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَهُوَ غُرُوبُ الشَّمْسِ، فَلَمَّا بَطَلَتْ الْوَاسِطَةُ بَطَلَ الِاقْتِضَاءُ.

مَسْأَلَةٌ

الْعِلَّةُ تَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ عَمَلِهَا فِي الِابْتِدَاءِ وَالدَّوَامِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

(أَحَدُهَا) مَا يَكُونُ عِلَّةً لِاقْتِضَاءِ الْحُكْمِ وَاسْتِدَامَتِهِ كَالرَّضَاعِ فِي تَحْرِيمِ النِّكَاحِ، وَكَالْإِيمَانِ وَعَدَمِ الْمِلْكِ فِي الْمَنْكُوحَةِ. (الثَّانِي) مَا تَكُونُ عِلَّةً لِلِابْتِدَاءِ دُونَ الِاسْتِدَامَةِ، كَالْعِدَّةِ وَالرِّدَّةِ هُمَا عِلَّتَانِ فِي مَنْعِ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ دُونَ اسْتِدَامَتِهِ، وَكَعَدِمِ الطَّوْلِ وَخَوْفِ الْعَنَتِ وَعَدَمِ الْإِحْرَامِ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِ هَذَا الْقِسْمِ مِنْ أَحْكَامِ الْعِلَلِ ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ، مِنْهُمْ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ وَإِلْكِيَا وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالْإِمَامُ فِي الْمَحْصُولِ وَغَيْرُهُمْ، وَحَكَاهُ سُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا. ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْقَوْلَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ

ص: 220

وَنَقْضِهَا، وَالْعِدَّةُ وَالرِّدَّةُ إنَّمَا جُعِلَتَا عِلَّةً فِي مَنْعِ ابْتِدَاءِ عِلَّةِ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَهُمَا عِلَّةٌ فِي مَنْعِ ذَلِكَ بِكُلِّ حَالٍ، وَلَمْ يُجْعَلَا عِلَّةً فِي مَنْعِ الِاسْتِدَامَةِ، فَلَا يُقَالُ: إنَّ اسْتِدَامَتَهُ تَجُوزُ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أَشْبَهَهُ.

(الثَّالِثُ) : عَكْسُهُ، كَالطَّلَاقِ، فَإِنَّهُ يَرْفَعُ حِلَّ الِاسْتِمْتَاعِ وَلَكِنْ لَا يَدْفَعُهُ، إذْ الطَّلَاقُ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ نِكَاحٍ جَدِيدٍ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا أَنَّ الْعِلَلَ عَلَى حَسَبِ مَا رَتَّبَهَا اللَّهُ وَنَصَبَهَا، فَإِنْ نَصَبَهَا لِلِابْتِدَاءِ وَالدَّوَامِ، أَوْ لِأَحَدِهِمَا، كَانَتْ لَهُ. وَقَدْ أَطَالَ أَصْحَابُنَا الْكَلَامَ مَعَ الْمُزَنِيّ فِيمَا إذَا تَزَوَّجَ بِالْأَمَةِ ثُمَّ أَيْسَرَ، هَلْ يَصِحُّ النِّكَاحُ؟ فَإِنَّهُ ذَهَبَ إلَى انْفِسَاخِهِ كَالِابْتِدَاءِ، وَنَاقَضَ فِي ذَلِكَ فَجَوَّزَهُ مَعَ ارْتِفَاعِ الْعَنَتِ وَهُوَ لَا يَحِلُّ فِي الِابْتِدَاءِ. فَالْوَاجِبُ اعْتِبَارُ مَا نَصَبَهُ تَعَالَى دُونَ الِاشْتِغَالِ بِأَعْيَانٍ. وَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ مُضْطَرًّا فِي الِابْتِدَاءِ غَيْرَ مُضْطَرٍّ فِي الِانْتِهَاءِ، هَلْ يَأْكُلُ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الضَّرُورَةِ؟ فَخَرَّجَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ:(أَحَدُهُمَا) أَنَّهُ يَأْكُلُ، وَ (الثَّانِي) لَا، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَدْ ارْتَفَعَتْ الْعِلَّةُ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا: الشَّيْءُ إذَا أُبِيحَ لِمَعْنَيَيْنِ فَارْتَفَعَ أَحَدُهُمَا هَلْ يُبَاحُ أَوْ يَرْجِعُ إلَى الضِّدِّ؟ وَقِيلَ: لَا حَتَّى يَرْتَفِعَ الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا. وَعِنْدَنَا أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا نُصِبَ لَهُ قُلْت: وَهَذَا الْخِلَافُ حَكَاهُ الْقَاضِي فِي الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ إذَا وَجَبَ بِعِلَّتَيْنِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ.

مَسْأَلَةٌ

فِي تَعَدُّدِ الْعِلَلِ مَعَ اتِّحَادِ الْحُكْمِ وَعَكْسِهِ: يَجُوزُ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ الْمُخْتَلِفِ بِالْجِنْسِ لِشَخْصٍ بِعِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ بِالِاتِّفَاقِ، كَتَعْلِيلِ إبَاحَةِ قَتْلِ

ص: 221

زَيْدٍ بِرِدَّتِهِ، وَعَمْرٍو بِالْقِصَاصِ، وَخَالِدٍ بِالزِّنَى وَمِمَّنْ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ فِيهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ وَالْآمِدِيَّ وَالْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَكَلَامُ الْمِنْهَاجِ وَغَيْرِهِ ظَاهِرٌ فِي جَرَيَانِ الْخِلَافِ فِيهِ. وَلَا وَجْهَ لَهُ. وَقَدْ صَرَّحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ كُلٌّ مِنْهَا مُسْتَقِلٌّ فِي إبَاحَةِ الدَّمِ، كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٍ بَعْدَ إسْلَامٍ، أَوْ زِنًى بَعْدَ إحْصَانٍ، أَوْ قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ» . وَأَمَّا تَعْلِيلُ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ فِي شَخْصٍ بِعِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ فَلَا خِلَافَ فِي امْتِنَاعِهِ بِعِلَلٍ عَقْلِيَّةٍ، كَذَا قِيلَ، لَكِنْ لِأَهْلِ الْكَلَامِ فِيهِ خِلَافٌ حَكَاهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ ثُمَّ قَالَ: اخْتَلَفُوا إذَا وَجَبَ الْحُكْمُ الْعَقْلِيُّ بِعِلَّتَيْنِ، فَقِيلَ: لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِارْتِفَاعِهِمَا جَمِيعًا: وَقِيلَ: يَرْتَفِعُ بِارْتِفَاعِ إحْدَاهُمَا. وَاخْتَلَفُوا فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ إذَا ثَبَتَ كَوْنُهَا عِلَلًا بِذَلِكَ مِنْ خَارِجٍ، هَلْ يَصِحُّ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِهَا؟ كَمُحْصَنٍ زَنَى وَقَتَلَ، فَإِنَّ الزِّنَى يُوجِبُ الْقَتْلَ بِمُجَرَّدِهِ، فَهَلْ تُعَلَّلُ إبَاحَةُ دَمِهِ بِهِمَا مَعًا أَمْ لَا؟ وَكَالْعَصِيرِ إذَا تَخَمَّرَ وَوَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ، هَلْ تُعَلَّلُ نَجَاسَتُهُ بِهِمَا مَعًا أَمْ لَا؟ وَكَتَحْرِيمِ وَطْءِ الْمُعْتَدَّةِ الْمُحْرِمَةِ الْحَائِضِ عَلَى مَذَاهِبَ:

ص: 222

أَحَدُهَا: الْمَنْعُ مُطْلَقًا، مَنْصُوصَةً وَمُسْتَنْبَطَةً، وَبِهِ جَزَمَ الصَّيْرَفِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِهِمْ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَنَقَلَهُ عَنْ الْقَاضِي وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَسَيَأْتِي تَحْرِيرُ مَذْهَبِهِمَا. قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: وَنَظِيرُهُ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ تَقْدِيرُ الْعُمُومِ فِي نَفْيِ الْإِجْزَاءِ وَالْفَضِيلَةِ وَالْعُمُومِ الشَّرْعِيِّ وَالْحِسِّيِّ جَمِيعًا، فَإِنَّ انْتِفَاءَ الشَّرْعِيِّ يُوجِبُ ثُبُوتَ الْحِسِّيِّ لَا مَحَالَةَ، فَلَا يُتَصَوَّرُ تَقْدِيرُ اجْتِمَاعِهِمَا.

وَالثَّانِي: الْجَوَازُ مُطْلَقًا وَهُوَ الصَّحِيحُ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ، ثُمَّ قَالَ: وَبِهَذَا نَقُولُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِلَلَ عَلَامَاتٌ وَأَمَارَاتٌ عَلَى الْأَحْكَامِ، لَا مُوجِبَةٌ لَهَا، فَلَا يَسْتَحِيلُ ذَلِكَ. هَذَا لَفْظُهُ، وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ: إنَّهُ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْمَطْلَبِ: كَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الْإِجَارَةِ مِنْ الْأُمِّ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ مُصَرِّحٌ بِجَوَازِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ قَالَ: وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ قَوْلُ عُمَرَ: نِعْمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ لَوْ لَمْ يَخَفْ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ.

وَتَقْدِيرُهُ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخَفْ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ لِإِجْلَالِهِ لِذَاتِهِ وَتَعْظِيمِهِ، فَكَيْفَ وَهُوَ يَخَافُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ عَدَمُ عِصْيَانِهِ مُعَلَّلًا بِالْخَوْفِ وَالْإِجْلَالِ وَالْإِعْظَامِ، وَقَدْ يَكُونُ الْحُكْمُ مُعَلَّلًا بِعِلَّتَيْنِ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُسْتَقِلَّةٌ فِي التَّعْلِيلِ وَيُقْصَرُ عَلَى إحْدَاهُمَا لِنُكْتَةٍ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] نَهَاهُمْ عَنْ أَكْلِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِأَنَّ النُّفُوسَ لَا تَنْفِرُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ النَّهْيُ لَا يَخْتَصُّ بِهَا بَلْ تَحْرِيمُ الضِّعْفِ كَتَحْرِيمِهِ مُضَاعَفًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ قُبَيْلَ مَا جَاءَ فِي الصَّرْفِ ":" إذَا شُرِطَ فِي بَيْعِ الثِّمَارِ السَّقْيُ عَلَى الْمُشْتَرِي فَالْمَبِيعُ فَاسِدٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّ السَّقْيَ مَجْهُولٌ وَلَوْ كَانَ مَعْلُومًا أَبْطَلْنَاهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ بَيْعٌ وَإِجَارَةٌ " انْتَهَى فَالْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ مَوْجُودٌ مَعَ الْجَهَالَةِ وَعَدَلَ عَنْ التَّعْلِيلِ بِهَا فِي الْحَالَتَيْنِ، لِأَنَّ التَّعْلِيلَ لِلْبُطْلَانِ

ص: 223

بِالْجَهَالَةِ أَقْرَبُ إلَى الْأَفْهَامِ مِنْ تَعْلِيلِهِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَلَوْلَا هَذَا التَّنْزِيلُ لَكَانَ فِي هَذَا النَّصِّ لَمْحٌ لِمَنْعِ التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ، قُلْت: وَقَدْ قَالَ فِي، الْأُمِّ، وَقَدْ قَالَ لَهُ بَعْضُ النَّاظِرِينَ: أَفَتَحْكُمُ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ مِنْ وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ؟ ".

قُلْت: نَعَمْ إذَا اخْتَلَفَتْ أَسْبَابُهُ قَالَ: فَاذْكُرْ مِنْهُ شَيْئًا، قُلْت: قَدْ يُقِرُّ الرَّجُلُ عِنْدِي عَلَى نَفْسِهِ بِالْحَقِّ أَوْ لِبَعْضِ الْآدَمِيِّينَ فَآخُذُهُ بِإِقْرَارِهِ، أَوْ لَا يُقِرُّ فَآخُذُهُ بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ عَلَيْهِ، أَوْ لَا تَقُومُ عَلَيْهِ فَيُدَّعَى عَلَيْهِ فَآمُرُهُ أَنْ يَحْلِفَ فَيَمْتَنِعُ، فَآمُرُ خَصْمَهُ أَنْ يَحْلِفَ فَآخُذُهُ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَخَصْمُهُ إذَا أَتَى بِالْيَمِينِ الَّتِي تُبَرِّئُهُ ". انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ جَوَابُ أَحْمَدَ فِي خِنْزِيرٍ مَيِّتٍ وَقَدْ احْتَجُّوا بِأَنَّ الْقِيَاسَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَدِلَّةِ كَالنَّصِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَادِثَةِ نَصَّانِ فَأَكْثَرُ، وَلِأَنَّهَا أَمَارَةٌ عَلَى الْحُكْمِ، وَيَجُوزُ اجْتِمَاعُ الْأَمَارَاتِ.

وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ فِي الْمَنْصُوصَةِ دُونَ الْمُسْتَنْبَطَةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأُسْتَاذِ أَبِي بَكْرِ بْنِ فُورَكٍ وَالْإِمَامِ الرَّازِيَّ وَأَتْبَاعِهِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَلْحَقَ بِالْمَنْصُوصَةِ الْمُجْمَعُ عَلَيْهَا. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلِلْقَاضِي إلَيْهِ صَغْوٌ ظَاهِرٌ فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ وَهَذَا هُوَ عُمْدَةُ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي نَقْلِهِ هَذَا الْمَذْهَبَ فِي " مُخْتَصَرِهِ " عَنْ الْقَاضِي، فَاخْتَلَفَ النَّقْلُ عَنْهُ عَلَى أَنَّ الْمَوْجُودَ فِي التَّقْرِيبِ لَهُ الْجَوَازُ مُطْلَقًا، وَإِلَيْهِ يُرْشِدُ كَلَامُ الْغَزَالِيِّ فِي الْمُسْتَصْفَى وَإِنْ كَانَ أَطْلَقَ صَرِيحَ الْجَوَازِ فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ إطْلَاقًا وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُهُ فِي الْوَسِيطِ فِي الْكَلَامِ عَلَى زَوَائِدِ الْبَيْعِ: الْحُكْمُ الْوَاحِدُ قَدْ يُعَلَّلُ بِعِلَّتَيْنِ لِاحْتِمَالِ إرَادَةِ تَنْزِيلِهِ عَلَى الْمَنْصُوصَةِ، أَوْ لِأَنَّهُ أَرَادَ مَا يُرِيدُهُ الْفَقِيهُ مِنْ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْوَصْفَيْنِ صَالِحٌ لِإِفَادَةِ الْحُكْمِ، وَمُرَادُهُ فِي الْمُسْتَصْفَى امْتِنَاعُ حُصُولِ الْعُرْفَانِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى حِدَتِهِ، أَوْ التَّأْثِيرُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ الْعِلَّةَ مُؤَثِّرَةٌ بِجَعْلِ اللَّهِ وَالْحَاصِلُ

ص: 224

أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي كُلِّ فَنٍّ بِحَسَبِهِ فَلَا تَظُنُّهُ تَنَاقُضًا.

وَالرَّابِعُ: عَكْسُهُ. حَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَابْنُ الْمُنِيرِ فِي شَرْحِهِ لِلْبُرْهَانِ وَقَدْ اُسْتُغْرِبَتْ حِكَايَتُهُ، وَسَيَأْتِي لَهُ نَظِيرٌ فِي النَّقْضِ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ: إنْ لَمْ تَكُنْ إحْدَاهُمَا عِلَّةَ حُكْمِ الْأَصْلِ جَازَ، كَاسْتِحْقَاقِ الْقَتْلِ لِلرِّدَّةِ وَالْقِصَاصِ، وَفَسَادِ الصَّلَاةِ لِلْحَدَثِ وَالْكَلَامِ إذَا وُجِدَا مَعًا. وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا دَلِيلًا عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَاسَ بِهَا عَلَى أَصْلٍ آخَرَ فَهِيَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ.

وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ فِي شَرْحِهِ: إنْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ لَوْ انْفَرَدَتْ لَكَانَتْ صَحِيحَةً فَاجْتِمَاعُهُمَا غَيْرُ مُضِرٍّ وَلَا مَانِعَ مِنْ التَّعْلِيلِ، وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ الْإِيرَادُ يُبَيِّنُ جَانِبَ التَّعْلِيلِ وَعِنْدَ التَّعَدُّدِ يَقَعُ الشَّكُّ فِي النَّفْسِ، فَيَمْتَنِعُ التَّعْلِيلُ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ لَا لِضِيقِ الْمَحَلِّ عَنْ الْعِلَلِ، فَأَمَّا الْعِلَلُ الْمُؤَثِّرَةُ فَلَا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُهَا، وَأَمَّا الْمَعْنَى الْمُلَائِمُ فَيَنْبَنِي عَلَى قَبُولِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْمُرْسَلِ: فَمَنْ رَدَّهُ كَانَ تَعَدُّدُ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ مُخِلًّا بِالشَّهَادَةِ، وَمِنْ قَبْلِهِ لَمْ يَضُرَّ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَرِدْ حُكْمٌ عَلَى وَفْقِهِ، فَكَيْفَ إذَا وَرَدَ عَلَى الْوَفْقِ.

وَقَالَ ابْنُ رَحَّالٍ السَّكَنْدَرِيُّ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا الْخِلَافُ، فَإِنَّ لَفْظَ التَّعْلِيلِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ أَرَادَ مَعْنًى غَيْرَ مَا أَرَادَ الْآخَرُ فَلَا خِلَافَ. قَالَ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالتَّعْلِيلِ نَصْبُ الْأَمَارَةِ فَهُوَ جَائِزٌ وَوَاقِعٌ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالتَّعْلِيلِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لِأَجْلِ الْوَصْفِ

ص: 225

فَهُوَ جَائِزٌ فِي صُوَرٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِحَيْثُ يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي كُلِّ صُورَةٍ لِعِلَّةٍ، فَأَمَّا ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ بِعِلَلٍ كُلٌّ مِنْهَا مُسْتَقِلَّةٌ فِيهِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ. انْتَهَى.

التَّفْرِيعُ

إنْ قُلْنَا بِالْجَوَازِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى الْوُقُوعِ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إنَّهُ جَائِزٌ غَيْرُ وَاقِعٍ، وَأَرَادَ بِالْجَوَازِ الْعَقْلِيَّ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْبُرْهَانِ: لَيْسَ مُمْتَنِعًا عَقْلًا وَتَسْوِيغًا وَنَظَرًا إلَى الْمَصَالِحِ الْكُلِّيَّةِ، وَلَكِنَّهُ يَمْتَنِعُ شَرْعًا. وَجَرَى عَلَيْهِ إلْكِيَا وَقَالَ: إنَّ الْمَانِعَ لَهُ اسْتِقْرَاءُ عُرْفِ الشَّرْعِ لَا الْعَقْلِ، وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ: إنَّ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيُ الْإِمَامِ - أَخِيرًا هُوَ الْمَنْعُ يَعْنِي كَمَا نَقَلَهُ الْآمِدِيُّ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ رَأْيَانِ وَحَكَى الْهِنْدِيُّ قَوْلًا عَكْسَ مَقَالَةِ الْإِمَامِ فَقَالَ: قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: يَجُوزُ عَقْلًا وَلَمْ يَقَعْ سَمْعًا، وَقِيلَ بِعَكْسِهِ. وَقَالَ الْبَزْدَوِيُّ بِوُقُوعِهِ إنْ دَلَّ عَلَيْهِ نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ وَإِلَّا فَلَا لِتَعَارُضِ الِاحْتِمَالَيْنِ، فَلَا يَحْكُمُ بِوَاحِدٍ مِنْهَا إلَّا بِدَلِيلٍ.

وَأَمَّا إذَا قُلْنَا بِالْمَنْعِ فَلَوْ اجْتَمَعَتْ كَاللَّمْسِ وَالْمَسِّ فَاخْتَلَفُوا فَقَالَ قَوْمٌ: كُلُّ وَاحِدٍ جُزْءُ عِلَّةٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْعِلَّةُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا لَا بِعَيْنِهِ حَذَرًا مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ إذَا جَعَلْنَا كُلَّ وَاحِدٍ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً، وَأَغْرَبَ ابْنُ الْحَاجِبِ فَحَكَى هَذَا الْخِلَافَ عَلَى الْقَوْلِ بِالْجَوَازِ. وَالْمَعْرُوفُ اتِّفَاقُ الْمُجَوِّزِينَ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ عِلَّةٌ وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْمَنْعِ. نَعَمْ، قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: اتَّفَقُوا عِنْدَ التَّرْتِيبِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ مُسْتَنِدٌ إلَى الْأُولَى فَقَطْ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ إذَا وَقَعَتْ دَفْعَةً، وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ - وَهُوَ مِنْ الْمَانِعِينَ - إنْ قِيلَ: لَوْ وُجِدَتْ الْعِلَّتَانِ فِي حُكْمٍ فَمَاذَا يَعْمَلُ؟ قِيلَ: لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ إحْدَاهُمَا عِلَّةً

ص: 226

بَاطِلَةً، أَوْ إحْدَاهُمَا رَاجِحَةً، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّنَافِي، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ تَسَاوِيهِمَا بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ رُجْحَانٌ انْتَهَى. ثُمَّ الَّذِينَ مَنَعُوا الِاجْتِمَاعَ فِي الْعِلَّةِ اخْتَلَفُوا فِي الْمَأْخَذِ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا يَفِي بِمُقْتَضَيَاتِ الْعِلَلِ، لِأَنَّ مُقْتَضَيَاتِهَا الْأَمْثَالُ، وَالْأَمْثَالُ - كَالْأَضْدَادِ - لَا تَجْتَمِعُ، فَعَلَى هَذَا يَمْتَنِعُ فِي الْمَنْصُوصَةِ وَالْمُسْتَنْبَطَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بَلْ يَفِي بِمُقْتَضَيَاتِهَا وَلَكِنْ يَتَعَذَّرُ شَهَادَةُ الْحُكْمِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَجْمُوعُ هُوَ الْعِلَّةُ، أَوْ يَكُونَ الْعِلَّةُ بَعْضَ الْمَجْمُوعِ دُونَ بَعْضٍ، فَيَتَعَارَضُ الِاحْتِمَالَانِ فِي الشَّهَادَةِ بِالِاسْتِقْلَالِ لِكُلِّ وَاحِدٍ، فَعَلَى هَذَا يَجْتَمِعُ فِي الْمَنْصُوصَةِ وَيَمْتَنِعُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَانِعُونَ لِلِاجْتِمَاعِ مِنْ نَاحِيَةِ مُقْتَضَاهَا فِي الِاعْتِذَارِ عَنْ مِثْلِ الْحَائِضِ الْمُحْرِمَةِ الصَّائِمَةِ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مُقْتَضَيَاتُهَا أَحْكَامٌ عَدِيدَةٌ: قِيلَ: حُكْمٌ ذُو وَجْهَيْنِ، وَالتَّعَدُّدُ بِالْجِهَةِ كَالتَّعَدُّدِ بِالتَّعْيِينِ. وَقِيلَ: الْحُكْمُ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا الْمَجْمُوعُ عِلَّةٌ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْعِلَلَ لَا يَتَعَذَّرُ اجْتِمَاعُهَا عَلَى الْحُكْمِ الْوَاحِدِ مِنْ جِهَةِ مُقْتَضَيَاتِهَا وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ الشَّهَادَةِ لَهَا أَحْيَانًا، فَإِنْ الْتَبَسَتْ الشَّهَادَةُ لِأَعْدَادِهَا، كَمَا عَلَى صِحَّةِ الِاجْتِمَاعِ أَنَّ الْمُصَحَّحَ عِنْدَ الِانْفِرَادِ - وَهُوَ انْتِظَامُ الْمَصْلَحَةِ بِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ - حَاصِلٌ بِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى الْأَوْصَافِ بَلْ لِتَحْصُلَ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ مَصَالِحُ فَهُوَ بِالصِّحَّةِ أَوْلَى.

وَقَدْ أَوْرَدَ الْمَانِعُونَ إشْكَالًا وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْحُكْمُ بِعِلَلٍ فَإِمَّا: [1] أَنْ يَثْبُتَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا. [2] أَوْ لَا شَيْءَ. [3] أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهَا دُونَ شَيْءٍ، وَالْأَقْسَامُ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ: أَمَّا [الْأَوَّلُ] فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ إثْبَاتُ الثَّابِتِ وَأَمَّا [الثَّانِي] فَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ سَلْبُ الْعِلَّةِ عَنْ الْكُلِّ. وَهُوَ مُنَاقِضٌ لِلْغَرَضِ. وَأَمَّا [الثَّالِثُ] فَيَلْزَمُ مِنْهُ الِاحْتِكَامُ بِتَرْجِيحِ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَاتِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ. ثُمَّ يَلْزَمُ سَلْبُ الْعِلَّةِ فِيمَا فَرَضْنَاهُ عِلَّةً وَهُوَ مُحَالٌ. وَأَجَابَ الْحُذَّاقُ بِاخْتِيَارِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُمْ يَلْزَمُ إثْبَاتُ الثَّابِتِ قُلْنَا: لَا يَلْزَمُ، فَإِنَّ الْعِلَلَ

ص: 227

الشَّرْعِيَّةَ مُعَرِّفَاتٌ وَوَقَفُوا هَاهُنَا. وَقَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْمُنِيرِ: وَلِلْمَانِعِ أَنْ يُدِيرَ التَّقْسِيمَ مَعَ فَرْضِ كَوْنِهَا مُعَرِّفَاتٍ فَيَقُولُ؛ الْمَعْرُوفُ هُوَ الْمُثْبِتُ لِلْمُعَرِّفَةِ، فَعَلَى هَذَا إنَّمَا تَكُونُ كُلُّ وَاحِدَةٍ أَثْبَتَتْ الْمَعْرِفَةَ بِالْحُكْمِ. أَوْ لَمْ يُثْبِتْ شَيْءٌ مِنْهَا الْمَعْرِفَةَ، أَوْ أَثْبَتَهَا الْبَعْضُ، فَيَعُودُ الْإِشْكَالُ وَإِنَّمَا الْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ حَصَلَ مِنْ إلْحَاقِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْعَقْلِيَّةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِكَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً إلَّا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ إذَا نُسِبَ الْحُكْمُ إلَى الْعِلَّةِ وُجِدَتْ مَصْلَحَةٌ أَوْ انْدَفَعَتْ مَفْسَدَةٌ، وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ لَا يَتَخَيَّلُ عَاقِلٌ امْتِنَاعَ اجْتِمَاعِ الْعِلَلِ فَإِنَّ حِينَئِذٍ يَكُونُ الْحُكْمُ بِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى الْأَوْصَافِ تَحْصُلُ مَفَاسِدُ عَدِيدَةٌ.

تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ

قِيلَ: الْخِلَافُ هَلْ يَجْرِي فِي التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ سَوَاءٌ، كَانَا مُتَعَاقِبَيْنِ أَمْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْمَعِيَّةِ؟ كَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ صَرِيحٌ فِي الْأَوَّلِ، وَكَلَامُ غَيْرِهِ يَقْتَضِي الثَّانِيَ، وَيُسَاعِدُهُ تَمْثِيلُ الْغَزَالِيِّ بِمَنْ لَمَسَ وَبَالَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَبِهِ صَرَّحَ الْآمِدِيُّ فِي جَوَابِ دَلِيلِ الْمَانِعِينَ. قُلْت: وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ الْأُسْتَاذِ أَبِي مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيِّ: وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعِلَلِ ضَرْبَانِ مُتَقَارِنَةٌ وَمُتَعَاقِبَةٌ، فَالْمُتَعَاقِبَةُ تَجْتَمِعُ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ انْفَرَدَتْ لَأَوْجَبَتْ مِثْلَ ذَلِكَ الْحُكْمِ، كَالْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ وَالْمُتَعَاقِبَةِ لَا تَجْتَمِعُ فِي الْوُجُودِ، وَإِنَّمَا يَخْلُفُ بَعْضُهَا بَعْضًا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ مِثْلُ دَمِ الْحَيْضِ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ، ثُمَّ يَرْتَفِعُ الدَّمُ وَيَبْقَى تَحْرِيمُ الْوَطْءِ، لِأَجْلِ عَدَمِ الطَّهَارَةِ. وَقَالَ الصَّفِيُّ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي كِتَابِ النُّكَتِ: وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَمْنَعُ جَوَازَ التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ عَلَى الْجَمْعِ، وَيَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِعِلَّتَيْنِ عَلَى الْبَدَلِ.

ص: 228

الثَّانِي

زَعَمَ صَاحِبُ الْمُسَوَّدَةِ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَمْنَعُ قِيَامَ وَصْفَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا لَوْ انْفَرَدَ لَاسْتَقَلَّ بِالْحُكْمِ، لَكِنْ هَلْ نَقُولُ: الْحُكْمُ مُضَافٌ إلَيْهِمَا أَمْ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا أَوْ فِي الْمَحَلِّ حُكْمَانِ؟ [قَالَ] : وَيَجْتَمِعُ لِلْأَصْحَابِ فِيهَا أَرْبَعَةٌ: [أَحَدُهَا] تَعْلِيلُ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ مُطْلَقًا. وَ [الثَّانِي] التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْمَنْصُوصَةِ وَالْمُسْتَنْبَطَةِ. وَ [الثَّالِثُ] أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الْمَحَلِّ الْوَاحِدِ حُكْمَا الْعِلَّتَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي مَسْأَلَةِ الْأَحْدَاثِ إذَا نَوَى أَحَدُهَا لَمْ يَرْتَفِعْ مَا عَدَاهُ. وَ [الرَّابِعُ] أَنَّهُمَا إذَا اجْتَمَعَا كَانَتَا كَوَصْفَيْنِ، فَهُمَا هُنَاكَ عِلَّةٌ وَفِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ عِلَّتَانِ.

وَالثَّالِثُ

إذَا قُلْنَا: بِالْجَوَازِ فَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: مِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَتَنَافَيَا، لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى تَضَادِّ الْأَحْكَامِ بِأَنْ تَقْتَضِيَ إحْدَاهُمَا إثْبَاتَ حُكْمٍ وَالْأُخْرَى نَفْيَهُ، بَلْ وَيَتَضَادَّانِ بِالْإِجْمَاعِ كَتَعْلِيلِ الْبُرِّ أَنَّهُ مَكِيلٌ، وَبِأَنَّهُ قُوتٌ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إذَا قَرَّرَ أَنَّهُ لَا يُعَلَّلُ إلَّا بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَجَبَ التَّنَافِي، فَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا مُتَعَدِّيَةً وَالْأُخْرَى قَاصِرَةً فَاخْتَلَفُوا فِيهِ: فَقِيلَ: يَتَنَافَيَانِ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ، وَهَذَا إنْ قُلْنَا: إنَّ التَّعَدِّيَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، قَالَ الْبَاجِيُّ: هَذَا الْخِلَافُ جَارٍ سَوَاءٌ كَانَتْ الْعِلَّةُ مُتَّفِقَةً فِي التَّعَدِّي وَعَدَمِهِ أَوْ بَعْضُهَا مُتَعَدٍّ وَبَعْضُهَا قَاصِرٌ انْتَهَى وَرَأَيْت فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ مُتَضَادَّتَيْنِ وَجُعِلَ مِنْهُ قَوْلُ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ: إذَا أَقْبَلَتْ الدُّنْيَا عَلَيْك فَأَنْفِقْ فَإِنَّهَا لَا تَبْقَى، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَأَنْفِقْ فَإِنَّهَا لَا تَبْقَى فَعَلَّلَ الْإِنْفَاقَ - وَهُوَ حُكْمٌ وَاحِدٌ - بِالْإِقْبَالِ

ص: 229

وَالْإِدْبَارِ. وَقَالَ آخَرُ: إنْ كَانَ رِزْقُك قُسِمَ فَلَا تَتْعَبْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قُسِمَ فَلَا تَتْعَبْ، فَعَلَّلَ تَرْكَ التَّعَبِ بِقَسْمِ الرِّزْقِ وَعَدَمِهِ. فَهَذِهِ الْعِلَّةُ وَإِنْ تَقَابَلَتْ وَتَضَادَّتْ فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مُنَاسِبَةٌ لِلْحُكْمِ مِنْ وَجْهٍ. الرَّابِعُ

أَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ مَثَّلَ الْمَسْأَلَةَ فِي كُتُبِهِ بِالْمَرْأَةِ يَجْتَمِعُ فِيهَا الْإِحْرَامُ وَالْحَيْضُ وَالصَّوْمُ، وَغَلَّطَهُ الْإِبْيَارِيُّ لِاسْتِحَالَةِ مُجَامَعَةِ الصَّوْمِ شَرْعًا لِلْحَيْضِ، وَرَدَّهُ عَلَيْهِ ابْنُ الْمُنِيرِ بِإِمْكَانِ اجْتِمَاعِهِمَا فِي حَقِّ مَنْ انْقَطَعَ دَمُهَا قَبْلَ الْفَجْرِ فَثَبَتَ الصَّوْمُ وَلَمْ تَغْتَسِلْ، وَهَذَا صَوْمٌ صَحِيحٌ وَحُكْمُ الْحَيْضِ - بِاعْتِبَارِ تَحْرِيمِ الْوَطْءِ بَاقٍ حَتَّى تَغْتَسِلَ عَلَى الصَّحِيحِ فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ وَتَحْرِيمِ الْوَطْءِ. فَإِنْ قُلْت: الْحَيْضُ غَيْرُ مَوْجُودٍ حَقِيقَةً، قُلْت: لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى صُورَتِهِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اسْتِصْحَابِهِ حُكْمًا، كَمَا أَنَّ الْإِحْرَامَ عِلَّةٌ فِي إبْقَاءِ الْحَجِّ مَعْقُودًا لَا حُكْمُهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ الْإِمَامُ أَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ يَجْتَمِعُ عَلَيْهَا وَصْفَانِ وَيَعْتَرِيهَا حَالَتَانِ مُقْتَضَيَانِ لِلتَّحْرِيمِ، إمَّا إحْرَامٌ وَحَيْضٌ أَوْ إحْرَامٌ وَصَوْمٌ وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ فِي الْبُرْهَانِ مَثَّلَ تَحْرِيمَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ بِعِلَّةِ الْحَيْضِ وَالْإِحْرَامِ، وَالصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ. فَمُرَادُهُ اجْتِمَاعُ وَصْفَيْنِ مِنْ ذَلِكَ كَالصِّيَامِ مَعَ الصَّلَاةِ، أَوْ الْإِحْرَامِ مَعَ الْحَيْضِ، لَا أَنَّ الْأَرْبَعَةَ تَجْتَمِعُ. الْخَامِسُ الْقَائِلُونَ بِامْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ الْعِلَلِ فَإِذَا اجْتَمَعَتْ كَانَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، لَا بِعَيْنِهَا، عِلَّةً. حَذَرًا مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ إذَا جَعَلْنَا كُلَّ وَاحِدَةٍ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً.

ص: 230

وَمِنْ اللَّطِيفِ عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ اخْتَلَفُوا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة: 49] : فَقِيلَ: فَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْبَعْضِ تَعْظِيمُ قَدْرِ الذَّنْبِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ بَعْضَ ذُنُوبِهِمْ كَافٍ فِي إهْلَاكِهِمْ. وَقِيلَ: فَائِدَتُهُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا يُصِيبُهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْعُقُوبَاتِ فَكَانَ بَعْضُ ذُنُوبِهِمْ يُوجِبُ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا، وَبَعْضُهَا يُوجِبُ عُقُوبَاتِ الْآخِرَةِ. فَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ فِيهَا تَمَسُّكٌ لِلْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَسْبَابَ الْمُسْتَقِلَّةَ إذَا انْفَرَدَتْ تَكُونُ عِلَّةً مِنْهَا إذَا اجْتَمَعَتْ وَاحِدَةٌ لَا بِعَيْنِهَا لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ صَدَرَتْ مِنْهُمْ أَسْبَابُ كُلِّ سَبَبٍ مِنْهَا لَوْ انْفَرَدَ لَاسْتَقَلَّ بِالْهَلَاكِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ اسْمُهُ أَنَّ السَّبَبَ مِنْهَا فِي الْإِصَابَةِ بِالْعُقُوبَاتِ وَالْإِهْلَاكِ بَعْضُهَا، لَا كُلُّهَا وَالْبَاقِي فَاتَ مَحَلُّ تَأْثِيرِهِ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الْقَوْلِ بِأَنَّ السَّبَبَ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ وَاحِدٌ لَا بِعَيْنِهِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ.

السَّادِسُ:

قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ فِي كِتَابِ إثْبَاتِ الْقِيَاسِ: فَإِنْ قِيلَ: إذَا اسْتَنْبَطَ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَسُبِرَا فَصَحَّا مَا السَّبِيلُ فِي ذَلِكَ؟ قِيلَ: إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَدْخُلُ فِي الْآخَرِ كَدُخُولِ الْمَأْكُولِ الْمُدَّخَرِ فِي الْمَأْكُولِ غَيْرِ الْمُدَّخَرِ نُظِرَ فِي زِيَادَةِ الزَّائِدِ فَاعْتُبِرَ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي تَعْلِيلِ الرِّبَوِيِّ. وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَيَانِ مُتَضَادَّيْنِ اُحْتِيجَ إلَى قِيَاسِهِمَا عَلَى غَيْرِهِمَا لِيُعْلَمَ أَيُّهُمَا أَصَحُّ وَذَلِكَ مِثْلُ تَخْيِيرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَرِيرَةَ لَمَّا عَتَقَتْ. قَالَ بَعْضُهُمْ: خَيَّرَهَا لِأَنَّ زَوْجَهَا كَانَ عَبْدًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ:

ص: 231

بَلْ كَانَ حُرًّا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أُبَالِي أَكَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا. وَإِنَّمَا خَيَّرَهَا لِحُدُوثِ الْعِتْقِ، فَأَمَّا كَوْنُهُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا فَيُدْرَكُ بِالْخَبَرِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ خَيَّرَهَا لِحُدُوثِ الْعِتْقِ فَهُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ عِلَّتُهُ وَعِلَّةُ مَنْ خَالَفَهُ إلَى قِيَاسِهِمَا عَلَى نَظِيرِهِمَا، لِيُعْلَمَ أَصَحُّهُمَا، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْعِلَّةَ فَضْلُ الْحُرِّيَّةِ لِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ الْحُرَّ عَلَى الْعَبْدِ، فَإِذَا حَدَثَ الْحُرِّيَّةُ حَدَثَ الْخِيَارُ لِلنَّقْصِ وَالْفَضْلِ، فَيَعْمَلُ فِي هَذَا الْبَابِ بِالنَّظَرِ إلَى نَفْسِ الْعِلَّةِ الْمُعَارِضَةِ وَإِلَى مَا يُخَالِفُهَا حَتَّى يَعْلَمَ أَصَحَّهُمَا.

فَصْلٌ

ص: 232

وَأَمَّا تَعْلِيلُ الْحُكْمَيْنِ بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى (الْأَمَارَةِ) فَلَا خِلَافَ كَمَا قَالَهُ الْآمِدِيُّ فِي الْجَوَازِ، كَمَا لَوْ قَالَ الشَّارِعُ: جَعَلْت طُلُوعَ الْهِلَالِ أَمَارَةً عَلَى وُجُوبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ. وَمِنْهُ الْبُلُوغُ وَالْحَيْضُ عَلَامَةٌ لِأَحْكَامٍ عَدِيدَةٍ. وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى (الْبَاعِثِ) فَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ: (أَحَدُهَا) وَهُوَ الصَّحِيحُ - الْجَوَازُ، إذْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْوَاحِدُ بَاعِثًا عَلَى حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، أَيْ مُنَاسِبًا لَهُمَا بِأَمْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا، كَمُنَاسَبَةِ الرِّبَا وَالشُّرْبِ لِلْحَدِّ وَالتَّحْرِيمِ. وَ (الثَّانِي) : الْمَنْعُ مُطْلَقًا. وَ (الثَّالِثُ) : الْمَنْعُ إنْ لَمْ يَتَضَادَّا. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَيَجُوزُ تَعْلِيلُ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِالْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ لَكِنْ فِي مَحَالَّ مُتَعَدِّدَةٍ، كَالْقَتْلِ الصَّادِرِ مِنْ زَيْدٍ وَعَمْرٍو فَإِنَّهُ مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ عَلَيْهِمَا. وَقَدْ يُعَلَّلُ بِهِمَا مُخْتَلِفَانِ غَيْرُ مُتَضَادَّيْنِ كَالْحَيْضِ يُحَرِّمُ الْوَطْءَ وَمَسَّ الْمُصْحَفِ وَنَحْوَهُ، وَكَالْإِحْرَامِ الْمَانِعِ مِنْ النِّكَاحِ وَالصَّيْدِ وَالطِّيبِ وَأَخْذِ الشَّعْرِ وَالْأَظْفَارِ، ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ. وَقَدْ يُعَلَّلُ بِهَا مُخْتَلِفَانِ مُتَضَادَّانِ بِشَرْطَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، كَالْجِسْمِ يَكُونُ عِلَّةً لِلسُّكُونِ بِشَرْطِ الْبَقَاءِ فِي الْحَيِّزِ، وَعِلَّةُ الْحَرَكَةِ بِشَرْطِ الِانْتِقَالِ عَنْهُ. وَمَثَّلَهُ إلْكِيَا بِمَا يَكُونُ مُبْطِلًا لِعَقْدٍ مُصَحِّحًا لِآخَرَ: قُلْت: كَالتَّأْبِيدِ فِي التِّجَارَةِ

ص: 233