المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[المسلك الثامن الدوران] - البحر المحيط في أصول الفقه - ط الكتبي - جـ ٧

[بدر الدين الزركشي]

فهرس الكتاب

- ‌[كِتَابُ الْقِيَاسِ] [

- ‌الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي حَقِيقَة الْقِيَاس]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ فِي نَظَرِ الْأُصُولِيِّينَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ اشْتِمَالُ النُّصُوصِ عَلَى الْفُرُوعِ الْمُلْحَقَةِ بِالْقِيَاسِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ مُظْهِرٌ لَا مُثْبِتٌ]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي فِي مَوْضُوعِ الْقِيَاسِ]

- ‌[الْبَابُ الثَّالِثُ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ]

- ‌[مَسْأَلَة الْقِيَاسُ يُعْمَلُ بِهِ قَطْعًا]

- ‌[مَسْأَلَة التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ نَصُّ الشَّارِعِ عَلَى الْحُكْمِ وَالْعِلَّةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ اسْتِعْمَال الْقِيَاسُ إذَا عُدِمَ النَّصُّ]

- ‌[مَسْأَلَة الْمُرْسَلُ وَالضَّعِيفُ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ]

- ‌[الْبَابُ الرَّابِعُ فِي أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ]

- ‌[أَقْسَامُ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ]

- ‌[أَقْسَامُ الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ]

- ‌[الْبَابُ الْخَامِسُ مَا يَجْرِي فِيهِ الْقِيَاسُ]

- ‌[أَمْثِلَةٌ لِلْقِيَاسِ فِي الرُّخَصِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ جَرَيَانُ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ فِي الْعَقْلِيَّاتِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ جَرَيَانُ الْقِيَاسِ فِي اللُّغَاتِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ فِي الْأَسْبَابِ]

- ‌[الْبَابُ السَّادِسُ فِي أَرْكَانِ الْقِيَاس] [

- ‌الرُّكْن الْأَوَّل الْأَصْلِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَأْثِيرُ الْأَصْلِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ]

- ‌[الْكَلَامُ فِي شُرُوطِ حُكْمِ الْأَصْلِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَا يَمْتَنِعُ فِيهِ الْقِيَاسُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ الْأَصْلِ]

- ‌[الرُّكْنُ الثَّالِثُ الْفَرْعُ]

- ‌[الرُّكْنُ الرَّابِعُ الْعِلَّةُ]

- ‌[مَسْأَلَة الْمَعْلُولُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَقَدُّمُ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَا بُدَّ لِلْحُكْمِ مِنْ عِلَّةٍ]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ شُرُوطِ الْعِلَّةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ اقْتِصَارُ الشَّارِعِ عَلَى أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ فِي الْعِلَّة]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ أُمُورٍ اُشْتُرِطَتْ فِي الْعِلَّةِ]

- ‌[فَائِدَةٌ الْعِلَّةُ إذَا كَثُرَتْ أَوْصَافُهَا فِي الْقِيَاسِ]

- ‌[مَسَالِكُ الْعِلَّةِ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ الْإِجْمَاعُ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً]

- ‌[الْمَسْلَكُ الثَّانِي النَّصُّ عَلَى الْعِلَّةِ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ الْإِيمَاءُ وَالتَّنْبِيهُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الرَّابِعُ الِاسْتِدْلَال عَلَى عِلِّيَّةِ الْحُكْمِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الْمَسْلَكُ الْخَامِسُ فِي إثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ الْمُنَاسَبَةُ]

- ‌[تَقْسِيمُ الْمُنَاسِبِ]

- ‌[أَقْسَامُ الْمُنَاسِبِ مِنْ حَيْثُ الْيَقِينِ وَالظَّنِّ]

- ‌[أَقْسَامُ الْمُنَاسِبِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةِ وَالْإِقْنَاعِ]

- ‌[تَقْسِيمُ الْمُنَاسَبَةِ مِنْ حَيْثُ التَّأْثِيرُ وَالْمُلَاءَمَةُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ السَّادِسُ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ السَّابِعُ الشَّبَهُ]

- ‌[حُكْم قِيَاس الشَّبَه]

- ‌[الْمَسْلَكُ الثَّامِنُ الدَّوَرَانُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ التَّاسِعُ الطَّرْدُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الْعَاشِرُ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ]

- ‌[الِاعْتِرَاضَاتُ]

- ‌[الْأَوَّلُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ النَّقْضُ]

- ‌[الثَّانِي مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الْكَسْرُ]

- ‌[الثَّالِثُ مِنْ الِاعْتِرَاضَات عَدَمُ الْعَكْسِ]

- ‌[الرَّابِعُ مِنْ الِاعْتِرَاضَات عَدَمُ التَّأْثِيرِ]

- ‌[الْخَامِسُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الْقَلْبُ]

- ‌[حَقِيقَتِهِ الْقَلْبُ]

- ‌[اعْتِبَارِهِ الْقَلْب]

- ‌[هَلْ الْقَلْب قَادِحٌ أَمْ لَا]

- ‌[أَقْسَام الْقَلْبُ]

- ‌[السَّادِسُ مِنْ الِاعْتِرَاضَات الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ]

- ‌[السَّابِعُ مِنْ الِاعْتِرَاضَات الْفَرْقُ وَيُسَمَّى سُؤَالَ الْمُعَارَضَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ شُرُوط الْفَرْقِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي جَوَابِ الْفَرْقِ]

- ‌[الثَّامِنُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الِاسْتِفْسَارُ]

- ‌[التَّاسِعُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ]

- ‌[الْعَاشِرُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ فَسَادُ الْوَضْعِ]

- ‌[الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَات الْمَنْعُ]

- ‌[الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَات التَّقْسِيمُ]

- ‌[الثَّالِث عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَات اخْتِلَافُ الضَّابِطِ]

- ‌[الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ اخْتِلَافُ حُكْمَيْ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ]

- ‌[الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الْمُعَارَضَةِ]

- ‌[وُجُوهٍ الْمُعَارَضَةِ]

- ‌[السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ سُؤَالُ التَّعْدِيَةِ]

- ‌[فَصْلٌ تَرْتِيبِ الْأَسْئِلَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الِانْتِقَالِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْفَرْضِ وَالْبِنَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي حِيَلِ الْمُتَنَاظِرِينَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي التَّعَلُّقِ بِمُنَاقَضَاتِ الْخُصُومِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِالْمُخْتَلَفِ فِيهِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ]

الفصل: ‌[المسلك الثامن الدوران]

الْإِبْيَارِيُّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ: هَذَا شَيْءٌ غَامِضٌ وَلَمْ أَقِفْ فِيهِ عَلَى نَصٍّ، وَلَوْ قِيلَ بِهِ لَمْ يَبْعُدْ. انْتَهَى. وَقَدْ صَرَّحَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِالْمَنْعِ مِنْهُ، بِخِلَافِ الْمُنَاسِبِ، وَرَتَّبَ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ تَفْسِيرَيْهِ فِي الشَّبَهِ وَهُوَ أَنْ يُنَاسِبَ تَشَابُهَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ مُطْلَقًا فِي حُكْمٍ مُعَيَّنٍ، فَعَلَى هَذَا لَا يَتَحَقَّقُ الشَّبَهُ إلَّا بِأَصْلٍ. وَإِنْ قُلْنَا فِي تَفْسِيرِهِ: مَا يُوهِمُ مُنَاسَبَةً لِلْحُكْمِ الْخَاصِّ أَوْ مُلَاءَمَةً لِأَوْصَافٍ نَصَّ الشَّارِعُ عَلَيْهَا وَلَمْ تَظْهَرْ مُنَاسَبَتُهَا. أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ التَّفَاسِيرِ السَّابِقَةِ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ مُرْسَلًا.

[الْمَسْلَكُ الثَّامِنُ الدَّوَرَانُ]

ُ وَيُعَبِّرُ عَنْهُ الْأَقْدَمُونَ بِ " الْجَرَيَانِ " وَبِ " الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ " وَهُوَ: أَنْ يُوجَدَ الْحُكْمُ عِنْدَ وُجُودِ وَصْفٍ وَيَرْتَفِعُ عِنْدَ ارْتِفَاعِهِ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، كَالتَّحْرِيمِ مَعَ السُّكْرِ فِي الْعَصِيرِ، فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُسْكِرًا لَمْ يَكُنْ حَرَامًا، فَلَمَّا حَدَثَ السُّكْرُ فِيهِ وُجِدَتْ الْحُرْمَةُ ثُمَّ لَمَّا زَالَ السُّكْرُ بِصَيْرُورَتِهِ خَلًّا زَالَ التَّحْرِيمُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ " السُّكْرُ ".

وَأَمَّا فِي صُورَتَيْنِ، كَوُجُوبِ الزَّكَاةِ مَعَ مِلْكِ نِصَابٍ قَامَ فِي صُورَةِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ، وَعَدَمِهِ مَعَ عَدَمِ شَيْءٍ مِنْهَا، كَمَا فِي ثِيَابِ الْبِذْلَةِ حَيْثُ لَا تَجِبُ فِيهَا

ص: 308

الزَّكَاةُ لِفَقْدِ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ حِينَ اسْتَعْمَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «وَقَالَ: مَا بَالُنَا نَسْتَعْمِلُ أَقْوَامًا فَيَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا لِي، أَلَا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ إنْ كَانَ صَادِقًا» وَهَذَا إثْبَاتُ الْعِلَّةِ بِالدَّوَرَانِ، وَهُوَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ عِنْدَ ثُبُوتِ الْوَصْفِ وَانْتِفَاؤُهُ عِنْدَ انْتِفَائِهِ. وَاخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي إفَادَةِ الدَّوَرَانِ الْعِلِّيَّةَ عَلَى مَذَاهِبَ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُفِيدُ الْقَطْعَ بِالْعِلِّيَّةِ، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ وَرُبَّمَا قِيلَ: لَا دَلِيلَ فَوْقَهُ، حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُفِيدُ ظَنَّ الْعِلِّيَّةِ بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُزَاحِمِ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تُوجِبُ الْحُكْمَ بِذَاتِهَا وَإِنَّمَا هِيَ عَلَامَةٌ مَنْصُوبَةٌ، فَإِذَا دَارَ الْوَصْفُ مَعَ الْحُكْمِ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ كَوْنُهُ مُعَرِّفًا لَهُ وَيَنْزِلُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصْفِ الْمُومَأِ إلَيْهِ بِأَنْ يَكُونَ عِلَّةً وَإِنْ خَلَا عَنْ الْمُنَاسَبَةِ. وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، مِنْهُمْ (إمَامُ الْحَرَمَيْنِ) ، وَنَقَلَهُ عَنْ الْقَاضِي. وَمِمَّنْ حَكَاهُ عَنْ الْأَكْثَرِينَ إلْكِيَا.

وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا. قَالَ: وَلِأَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ شَغَفٌ بِهِ، وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: إنَّهُ الْمُخْتَارُ، وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: ذَهَبَ كُلُّ مَنْ يُعْزَى إلَى الْجَدَلِ إلَى أَنَّهُ

ص: 309

أَقْوَى مَا تَثْبُتُ بِهِ الْعِلَلُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ أَنَّ هَذَا الْمَسْلَكَ مِنْ أَقْوَى الْمَسَالِكِ وَكَادَ يَدَّعِي إفْضَاءَهُ إلَى الْقَطْعِ. وَإِنَّمَا سَمَّيْت هَذَا الشَّيْخَ لِغَشَيَانِهِ مَجْلِسَ الْقَاضِي مُدَّةً وَإِعْلَاقِهِ طَرَفًا مِنْ كَلَامِهِ، وَمَنْ عَدَاهُ حِيَالَهُ.

قُلْت: وَاَلَّذِي رَأَيْته فِي " شَرْحِ الْكِفَايَةِ " لِلْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ مَا لَفْظُهُ: وَأَمَّا الطَّرْدُ فَإِنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا، وَلَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى صِحَّتِهَا، وَلَا يَجُوزُ إذَا اطَّرَدَ مَعْنًى أَنْ يُحْكَمَ بِصِحَّتِهِ حَتَّى يَدُلَّ التَّأْثِيرُ أَوْ شَهَادَةُ الْأُصُولِ عَلَيْهِ. وَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " التَّبْصِرَةِ ": الطَّرْدُ وَالْجَرَيَانُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعِلَّةِ، وَلَيْسَ بِدَلِيلِ صِحَّتِهَا. وَقِيلَ: دَلِيلٌ عَلَى الصِّحَّةِ، وَبِهِ قَالَ الصَّيْرَفِيُّ، وَقَالَ: إذَا لَمْ يَرِدْ بِهَا نَصٌّ وَلَا أَصْلٌ دَلَّ عَلَى صِحَّتِهَا، وَكَذَا قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: هُوَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: الطَّرْدُ عِنْدَنَا شَرْطُ صِحَّةِ الْعِلَّةِ وَلَيْسَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّتِهَا. وَذَهَبَ بَعْضُ الْقُدَمَاءِ مِنَّا وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّتِهَا. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: الِاطِّرَادُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ لِصِحَّةِ الْعِلَّةِ وَلَكِنْ شَرْطٌ لِصِحَّتِهَا. وَأَمَّا الِانْعِكَاسُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْعِلَّةِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ قَالَ: وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ الِانْعِكَاسَ شَرْطٌ، فَإِذَا ثَبَتَ الْحُكْمُ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ وَلَمْ يَرْتَفِعْ بِارْتِفَاعِهَا بَطَلَتْ الْعِلَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ تَعَلُّقًا بِالْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ انْعِكَاسُهَا، فَكَذَلِكَ السَّمْعِيَّةُ. وَلَنَا أَنَّ الْعِلَّةَ مَنْصُوبَةٌ لِلْإِثْبَاتِ فَلَا تَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَدُلُّ بِمُجَرَّدِهِ لَا قَطْعًا وَلَا ظَنًّا. وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأُسْتَاذِ أَبِي مَنْصُورٍ وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ وَالْغَزَالِيِّ وَالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي كِتَابِ " الْحُدُودِ " إنَّهُ قَوْلُ الْمُحَصِّلِينَ. قَالَ إلْكِيَا: وَهُوَ الَّذِي يَمِيلُ إلَيْهِ الْقَاضِي، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْهُ أَيْضًا. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ مَعَ عَدَمِ الْعِلِّيَّةِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَيْهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْلُولَ دَائِرٌ مَعَ الْعِلَّةِ وُجُودًا وَعَدَمًا، مَعَ أَنَّ الْمَعْلُولَ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِعِلَّتِهِ

ص: 310

قَطْعًا، وَالْجَوْهَرُ وَالْعَرَضُ مُتَلَازِمَانِ مَعَ أَنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ بِعِلَّةٍ فِي الْآخَرِ اتِّفَاقًا، وَالْمُتَضَايِفَانِ - كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ - مُتَلَازِمَانِ وُجُودًا وَعَدَمًا، مَعَ أَنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ بِعِلَّةٍ فِي الْآخَرِ لِوُجُوبِ تَقَدُّمِ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ وَوُجُوبِ مُصَاحَبَةِ الْمُتَضَايِفَيْنِ وَإِلَّا لَمَا كَانَا مُتَضَايِفَيْنِ.

وَقَدْ ضُعِّفَ هَذَا الْقَوْلُ، أَعْنِي تَجْوِيزَ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ أَمْرًا وَرَاءَ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّ هَذَا لَوْ صَحَّ لَجَرَى فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ، كَالْإِيمَاءِ وَنَحْوِهِ. وَمِنْ الْعَجِيبِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ اعْتَرَفُوا بِصِحَّةِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ وَإِنْ لَمْ تَقْتَرِنْ بِهِ مُنَاسَبَةٌ، وَهُوَ رَاجِعٌ لِلطَّرْدِ، فَإِنَّ غَايَتَهُ أَنَّ الْأَوْصَافَ الْمُقَارِنَةَ لِلْحُكْمِ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى خُرُوجِ بَعْضِهَا عَنْ صَلَاحِيَةَ التَّعْلِيلِ، فَعُلِمَ صِحَّةُ التَّعْلِيلِ بِالْبَاقِي، وَلَا تَجِدُ النِّصْفَ الْبَاقِيَ سِوَى مُقَارَنَتِهِ الْحُكْمَ فِي الْوُجُودِ مَعَ انْتِقَاءِ الظَّفَرِ بِدَلِيلِ انْتِفَاءِ صَلَاحِيَتِهِ لِلتَّعْلِيلِ، وَذَلِكَ مُجَرَّدُ طَرْدٍ لَا عَكْسَ فِيهِ، وَاذَا كَانَ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى اقْتِرَانِ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ وُجُودًا عُلِمَ أَنَّ مَنْ أَخَذَ بِهِ وَأَنْكَرَ الطَّرْدَ وَالْعَكْسَ كَمَنْ أَخَذَ بِالْمُقَدِّمَةِ الْوَاحِدَةِ وَأَنْكَرَ دَلَالَةَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ، وَكَمَنْ أَخَذَ بِالْكَثْرَةِ فِي الْأَلْفِ وَأَنْكَرَهَا فِي الْأَلْفَيْنِ.

التَّفْرِيعُ:

إنْ اعْتَبَرْنَاهُ فَشَرَطَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي صِحَّتِهِ أَنْ يَصِحَّ اقْتِضَاؤُهُ مِنْ الْأَصْلِ، كَالشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ فِي الْخَمْرِ. قَالَ: وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إذَا لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ كَانَ لِأَجْلِهِ لَمْ يَكُنْ دَالًّا عَلَى صِحَّةِ الْعِلِّيَّةِ، لِأَنَّ الْعِلِّيَّةَ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلْحُكْمِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ دَالًّا عَلَى الْأَصْلِ. قَالَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ يَقُولُ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْجَرَيَانِ هَلْ هُوَ دَالٌّ عَلَى صِحَّةِ الْعِلِّيَّةِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَذَاهِبَ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ دَالٌّ عَلَيْهَا.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِانْفِرَادِهِ لَا يَكُونُ عِلَّةً حَتَّى لَا تَدْفَعَهُ الْأُصُولُ، فَإِنْ دَفَعَتْهُ لَمْ يَكُنْ عِلَّةً.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ عِلَّةٌ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّتِهِ. قَالَ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي.

ص: 311

وَقَالَ غَيْرُهُ: إنَّهُ يُفِيدُ ظَنَّ عِلِّيَّةِ الْمَدَارِ لِلدَّائِرِ بِشُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ:

الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَدَارُ مَقْطُوعًا بِعَدَمِ عِلِّيَّتِهِ، كَالرَّائِحَةِ الْفَائِحَةِ لِلْخَمْرِ، فَإِنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ عِلَّةً لِلْحُرْمَةِ.

الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَدَارُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الدَّائِرِ، بِحَيْثُ أَنْ يُقَالَ: وُجِدَ الدَّائِرُ فَحِينَئِذٍ لَا يَرِدُ دَوَرَانُ الْمُتَضَايِفَيْنِ وَلَا دَوَرَانُ الْوَصْفِ مَعَ الْحُكْمِ، لِأَنَّ أَحَدَ الْمُتَضَايِفَيْنِ لَيْسَ مُقَدَّمًا عَلَى الْآخَرِ، وَلَا الْحُكْمَ عَلَى الْوَصْفِ.

الثَّالِثُ: أَنْ لَا يُقْطَعَ بِوُجُودِ مُزَاحِمٍ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْمَدَارِ عِلَّةً إلْغَاؤُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَرُدُّ أَجْزَاءَ الْعِلَّةِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْمَعْلُولُ كَمَا دَارَ مَعَ الْعِلَّةِ دَارَ مَعَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا لَكِنَّ الْحُكْمَ بِأَيِّ جُزْءٍ كَانَ يُوجِبُ إلْغَاءَ سَائِرِ الْأَجْزَاءِ، أَوْ إلْغَاءَ الْمَجْمُوعِ بِالْكُلِّيَّةِ فَيُوجَدُ لِكُلِّ جُزْءٍ مُزَاحِمٌ يَمْنَعُ مِنْ الْحُكْمِ بِعِلِّيَّتِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَجْمُوعِ، فَإِنَّ كَوْنَ الْمَجْمُوعِ عِلَّةً لَيْسَ بِمُوجِبٍ إلْغَاءَ الْجُزْءِ بِالْكُلِّيَّةِ عَنْ اعْتِبَارِ الثَّانِي، بَلْ لِكُلِّ جُزْءٍ مَدْخَلٌ فِي التَّأْثِيرِ. وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ اعْتِبَارِهِ فَشَرَطُوا شَرْطَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ غَيْرَ مُنَاسِبٍ، فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ مُنَاسِبًا كَانَتْ الْعِلَّةُ صَحِيحَةً مِنْ جِهَةِ الْمُنَاسَبَةِ، صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ فِي " شِفَاءِ الْعَلِيلِ " وَإِلْكِيَا وَابْنُ بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُمْ. قُلْت: وَأَمَّا مَنْ يَدَّعِي الْقَطْعَ فِيهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَشْتَرِطُ ظُهُورَ الْمُنَاسَبَةِ، وَلَا يَكْتَفِي بِالدَّوَرَانِ بِمُجَرَّدِهِ، فَإِذَا انْضَمَّ الْمُنَاسَبَةُ ارْتَقَى إلَى الْقَطْعِ. ثُمَّ قَالَ إلْكِيَا: وَالْحَقُّ أَنَّ الْأَمَارَةَ لَا تَطَّرِدُ وَلَا تَنْعَكِسُ إلَّا إذَا كَانَتْ اجْتِمَاعَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ فِي مَقْصُودٍ خَاصٍّ فِي حُكْمٍ خَاصٍّ، فَإِنَّ الْأَحْكَامَ إذَا تَبَاعَدَ مَا حَدُّهَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ الْأَمَارَةُ الْوَاحِدَةُ جَارِيَةً فِيهَا عَلَى نَسَقِ الْإِطْرَادِ وَالِانْعِكَاسِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ فِي الطَّهَارَةِ: إنَّهَا وَظِيفَةٌ تُشَطَّرُ فِي وَقْتٍ فَافْتَقَرَتْ إلَى النِّيَّةِ، كَالصَّلَاةِ، فَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ انْعِكَاسُهُ، وَقَدْ تَطَّرِدُ وَتَنْعَكِسُ بَعْضُ الْأَمَارَاتِ فَإِنَّهَا مَجْرَى الْحُدُودِ الْعَقْلِيَّةِ.

ص: 312