الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الْكَلَامُ فِي شُرُوطِ حُكْمِ الْأَصْلِ]
الْكَلَامُ فِي شُرُوطِهِ [شُرُوطِ حُكْمِ الْأَصْلِ]
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الَّذِي أُرِيدَ تَعْدِيَتُهُ إلَى الْفَرْعِ ثَابِتًا فِي الْأَصْلِ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِيهِ بِأَنْ لَمْ يُشْرَعْ فِيهِ ابْتِدَاءً أَوْ شُرِعَ لَكِنْ نُسِخَ لَمْ يُمْكِنْ بِنَاءُ حُكْمِ الْفَرْعِ عَلَيْهِ. وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الشَّرْطِ أَنَّهُ لَا يُقَاسُ عَلَى حُكْمٍ مَنْسُوخٍ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْقِيَاسِ إثْبَاتُ مِثْلِ حُكْمِ الْقِيَاسِ فِي الْفَرْعِ، فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ غَيْرَ ثَابِتٍ بِالشَّرْعِ اسْتَحَالَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ مِثْلٌ بِالْقِيَاسِ، لِأَنَّ نَسْخَ الْحُكْمِ يُبَيِّنُ عَدَمَ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ لِلْوَصْفِ الْجَامِعِ حِينَئِذٍ، وَتَعْدِيَةُ الْحُكْمِ فَرْعٌ عَلَى اعْتِبَارِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ مَرَّ فِي بَابِ النَّسْخِ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ إنَّهُ إذَا نُسِخَ حُكْمُ الْأَصْلِ يَبْقَى حُكْمُ الْفَرْعِ، لَكِنْ حَيْثُ كَانَ الْأَصْلُ مَعْمُولًا بِهِ، ثُمَّ رَأَيْت هَذَا الْجَمْعَ لِشَارِحِ " اللُّمَعِ " فَقَالَ: الْمَذْكُورُ فِي النَّسْخِ هُوَ فِيمَا إذَا وَقَعَ نَسْخُ الْأَصْلِ بَعْدَ جَرَيَانِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ وَالْمَذْكُورُ فِي الْقِيَاسِ أَنْ نَقِيسَ عَلَى أَصْلٍ بَعْدَ النَّسْخِ فِي مَحَلِّ النَّسْخِ، كَمَا نَقِيسُ عَلَى وُجُوبِ صَوْمِ عَاشُورَاءَ بَعْدَ نَسْخِهِ وُجُوبَ صَوْمِ يَوْمٍ، بِخِلَافِ قِيَاسِ صَوْمِ رَمَضَانَ عَلَى عَاشُورَاءَ فِي عَدَمِ افْتِقَارِهِ إلَى النِّيَّةِ، فَإِنَّ مَنْ سَلَّمَ وُجُوبَهُ ابْتِدَاءً وَسَلَّمَ عَدَمَ افْتِقَارِهِ إلَى التَّبْيِيتِ لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَسْتَشْهِدَ بِهِ عَلَى رَمَضَانَ، فَإِنَّ الْمَنْسُوخَ الْوُجُوبُ، وَلَيْسَ الْقِيَاسُ فِي
الْوُجُوبِ، وَلَكِنَّهُ فِي عَدَمِ دَلَالَةِ الْوُجُوبِ إلَى الِافْتِقَارِ إلَى النِّيَّةِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: نَعَمْ هُنَا إشْكَالٌ فِي شَيْءٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا وَيَلْزَمُهُ مِنْ اللَّوَازِمِ الَّتِي لَا يَلْزَمُ ارْتِفَاعُهَا بِارْتِفَاعِ خُصُوصِ ذَلِكَ الْحُكْمِ، فَهَلْ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَى ذَلِكَ اللَّازِمِ أَمْ لَا؟ مِثَالُهُ صِحَّةُ صَوْمِ عَاشُورَاءَ إذَا كَانَ وَاجِبًا عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ ذَلِكَ بِنِيَّةٍ نَهَارِيَّةٍ، فَإِذَا نُسِخَ عَاشُورَاءُ بِخُصُوصِهِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ نَسْخُ اللَّازِمِ وَهُوَ صِحَّةُ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ بِنِيَّةٍ نَهَارِيَّةٍ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ صَوْمُ رَمَضَانَ الْوَاجِبُ فَيَصِحُّ بِنِيَّةٍ نَهَارِيَّةٍ؟ فِيهِ نَظَرٌ. انْتَهَى.
ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ شَرْعِيًّا لِيَخْرُجَ الْحُكْمُ الْعَقْلِيُّ وَاللُّغَوِيُّ، فَإِنَّا بِتَقْدِيرِ أَنْ يَجْرِيَ الْقِيَاسُ التَّمْثِيلِيُّ فِيهِمَا: قِيَاسًا شَرْعِيًّا بَلْ عَقْلِيًّا وَلُغَوِيًّا، وَكَلَامُنَا فِي الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ.
تَنْبِيهٌ
وَيَنْشَأُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْخِلَافُ فِي النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ الْبِنَاءُ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الشَّرْعِ، هَلْ يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ؟ وَهَذَا إذَا قُلْنَا: إنَّ نَفْيَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لَيْسَ حُكْمًا شَرْعِيًّا، أَمَّا مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ حُكْمٌ فَلَا إشْكَالَ عِنْدَهُ فِي صِحَّةِ إثْبَاتِهِ بِالْقِيَاسِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَفْيَ الْحُكْمِ لَيْسَ بِحُكْمٍ، فَقِيلَ: يَصِحُّ أَنْ يَتَلَقَّى مِنْ الْقِيَاسِ. وَقِيلَ: بِالْمَنْعِ. وَفَرَّقَ آخَرُونَ بَيْنَ النَّفْيِ الْمَسْبُوقِ بِالْإِثْبَاتِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ ثُبُوتُهُ
بِقِيَاسِ الْعِلَّةِ، وَالنَّفْيُ الْأَصْلِيُّ لَا يَثْبُتُ بِقِيَاسِ الْعِلَّةِ وَيَجُوزُ بِقِيَاسِ الدَّلَالَةِ.
قَالَ الْأَنْبَارِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ النَّفْيَ الْمَسْبُوقَ بِإِثْبَاتٍ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ أَدِلَّةَ الْإِثْبَاتِ تَتَأَخَّرُ عَنْ الدَّلَالَةِ فِي حَالَةِ مَنْ يُبْقِي تِلْكَ الْحَالَةَ عَلَى مَا قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ. وَمِثَالُهُ: أَنَّ الْخَمْرَ كَانَ تَحْرِيمُهَا مُنْتَفِيًا قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، فَلَمَّا جَاءَ الشَّرْعُ بِالتَّحْرِيمِ مَخْصُوصًا بِحَالَةِ الِاخْتِيَارِ فَبَقِيَ ثُبُوتُهَا فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الشَّرْعِ، وَهَذَا نَفْيٌ مَسْبُوقٌ بِإِثْبَاتٍ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِالْمَنْعِ فَمِنْ الشُّرُوطِ أَنْ لَا يَكُونَ نَفْيًا أَصْلِيًّا.
ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ إلَى مَعْرِفَتِهِ سَمْعِيًّا، لِأَنَّ مَا لَيْسَ طَرِيقُهُ بِسَمْعِيٍّ لَا يَكُونُ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ بَيَانُ طُرُقِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَهَذَا الشَّرْطُ عَلَى رَأْيِنَا ظَاهِرٌ. وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ فَاحْتَرَزُوا بِهِ عَنْ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الْعَقْلُ وَفِي " الْمَحْصُولِ ": هَذَا الشَّرْطُ عَلَى رَأْيِنَا، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ الْمُجَوِّزُونَ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِالْعَقْلِ فَفِيهِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ احْتِمَالٌ.
رَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِالنَّصِّ وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَيُعْرَفُ حُكْمُهُ بِالنَّصِّ وَالظَّاهِرِ وَالْعُمُومِ، فَأَمَّا مَا عُرِفَ الْحُكْمُ مِنْهُ بِالْمَفْهُومِ وَالْفَحْوَى فَهَلْ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ؟ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ، وَيَتَّجِهُ أَنْ يُقَالَ: إنْ قُلْنَا: إنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ النُّطْقِ فَوَاضِحٌ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ كَالْقِيَاسِ فَيَلْحَقُ بِهِ فِيمَا سَيَأْتِي. وَأَمَّا مَا ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ فَهَلْ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا، كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ: الْجَوَازُ، وَحَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُعْرَفْ النَّصُّ الَّذِي أَجْمَعُوا لِأَجْلِهِ، قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ أَصْلٌ فِي إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ كَالنَّصِّ، فَإِذَا جَازَ الْقِيَاسُ عَلَى الثَّابِتِ بِالنَّصِّ جَازَ عَلَى الثَّابِتِ بِالْإِجْمَاعِ.
قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَشُبْهَةُ الْمَانِعِ احْتِمَالُ كَوْنِ عِلَّةِ الْحُكْمِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ قَاصِرَةً لَا تَتَعَدَّى. وَجَوَابُهَا: إنَّمَا نُعَلِّلُ بِعِلَّةٍ مُتَعَدِّيَةٍ إلَى الْفَرْعِ، وَإِثْبَاتُ الْحُكْمِ بِعِلَّةٍ قَاصِرَةٍ وَمُتَعَدِّيَةٍ جَائِزٌ. وَهَذَا يَلْتَفِتُ إلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ إذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ وَعَلَى عِلَّتِهِ هَلْ يَجُوزُ تَعْلِيلُهُ أَمْ لَا؟ فَعِنْدَنَا: يَجُوزُ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى الْحُكْمِ لَا عَلَى الْعِلَّةِ، لِأَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ الْعَقْلِيَّاتِ وَهُوَ لَا يَثْبُتُ بِالْإِجْمَاعِ انْتَهَى. وَأَمَّا مَا يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ عَلَى غَيْرِهِ فَأَطْلَقَ الْآمِدِيُّ وَالرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ قِيَاسًا عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِأَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ الْأَصْلُ فَرْعًا لِأَصْلٍ آخَرَ. فَاحْتَجُّوا عَلَى الْمَنْعِ بِأَنَّ الْعِلَّةَ الْجَامِعَةَ بَيْنَ الْقِيَاسَيْنِ إنْ اتَّحَدَتْ كَانَ ذِكْرُ الْأَصْلِ الثَّانِي تَطْوِيلًا بِلَا فَائِدَةٍ لِأَنَّهُ يُسْتَغْنَى بِقِيَاسِ الْفَرْعِ الثَّانِي عَلَى الْأَصْلِ الْأَوَّلِ، فَلَا مَعْنَى لِقِيَاسِ الذُّرَةِ عَلَى الْأُرْزِ بِقِيَاسِ الْأُرْزِ عَلَى الْبُرِّ. وَإِنْ اخْتَلَفَتْ لَمْ يَنْعَقِدْ الْقِيَاسُ الثَّانِي، لِعَدَمِ اشْتِرَاكِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِيهِ فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ. لَكِنْ نَقَلَ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ مَنْعَ الْقِيَاسِ عَلَى الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْقِيَاسِ؛ قَالَ: وَيُسَاعِدُهُمْ مِنْ أَصْحَابِنَا أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ. وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا عَلَى الْجَوَازِ قَالَ: وَحَرْفُ الْمَسْأَلَةِ: جَوَازُ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ: قُلْت: وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي " الْأُمِّ " الْمَنْعُ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ مِنْ
اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ: إنَّ الْمُسَاقَاةَ عَلَى النَّخْلِ جَائِزَةٌ، وَالْمُزَارَعَةَ عَلَى الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ مُمْتَنِعَةٌ، وَإِنَّ مَنْ أَجَازَهَا قَاسَهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ، فَقَالَ مَا نَصُّهُ: وَهَذَا غَلَطٌ فِي الْقِيَاسِ، إنَّمَا أَجَزْنَا بِخَبَرِ الْمُضَارَبَةِ. وَقَدْ جَاءَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهَا كَانَتْ قِيَاسًا عَلَى الْمُعَامَلَةِ فِي النَّخْلِ فَكَانَتْ تَبَعًا قِيَاسًا، لَا مَتْبُوعًا مَقِيسًا عَلَيْهَا. انْتَهَى. وَأَمَّا الشَّيْخُ فِي " اللُّمَعِ " فَإِنَّهُ قَسَمَ الْمَسْأَلَةَ إلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَنْبِطَ مِنْ الثَّابِتِ بِالْقِيَاسِ نَفْسَ الْمَعْنَى الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ وَيُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. قَالَ: وَهَذَا لَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَسْتَنْبِطَ مِنْهُ مَعْنَى الَّذِي يَقِيسُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَيُقَاسُ غَيْرُهُ قَالَ: وَهَذَا فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ: الْجَوَازُ، وَنَصَرَهُ الشَّيْخُ فِي " التَّبْصِرَةِ ".
وَالثَّانِي: وَبِهِ قَالَ الْكَرْخِيّ: الْمَنْعُ. قَالَ الشَّيْخُ: وَهُوَ يَصِحُّ عِنْدِي الْآنَ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى إثْبَاتِ حُكْمٍ فِي الْفَرْعِ بِغَيْرِ عِلَّةِ الْأَصْلِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَكَذَا صَحَّحَهُ فِي الْقَوَاطِعِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْغَزَالِيُّ غَيْرَهُ. وَمِثَالُهُ قِيَاسُ الْأُرْزِ عَلَى الْبُرِّ بِعِلَّةِ الطُّعْمِ مَنْ يُسْتَخْرَجُ مِنْ الْأُرْزِ مَعْنًى لَا يُوجَدُ فِي الْبُرِّ وَيُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فِي الرِّبَا، كَمَا لَوْ اسْتَنْبَطَ مِنْهُ أَنَّهُ نَبْتٌ لَا يَنْقَطِعُ عَنْهُ الْمَاءُ ثُمَّ يُقَاسُ عَلَيْهِ النَّيْلُوفَرُ. فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ. وَقَدْ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ بِالْقِسْمَيْنِ فِي بَابِ الرِّبَا، وَاقْتَضَى كَلَامُهُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْأَوَّلِ، وَحَكَى الْوَجْهَيْنِ فِي الثَّانِي مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ وَقَالَ: وَأَصْلُهُمَا الْقَوْلُ بِالتَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ، فَمَنْ قَالَ بِالْمَنْعِ مَنَعَ هُنَا، وَمَنْ أَجَازَهُمَا أَجَازَ هَاهُنَا. لَكِنَّ قَوْلَهُ وَقَوْلَ الشَّيْخِ: لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ إلْحَاقِهِ رَدَّهُ تَعْلِيلُهُمْ بِأَنَّهُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْعِلَّةِ تَطْوِيلٌ بِلَا فَائِدَةٍ، وَعَلَى أَنَّ الْغَزَالِيَّ قَدْ صَرَّحَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِالْمَنْعِ، لِأَنَّ تَطْوِيلَ الطَّرِيقِ فِي ذَلِكَ عَيْبٌ فَلَمْ يَجُزْ، وَهَذَا هُوَ الْمُتَّجِهُ. ثُمَّ قَالَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِهِ: وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ
هُمَا الْوَجْهَانِ فِي قِيَاسِ الشَّبَهِ، لِأَنَّهُ يُرَجَّحُ بِمُجَرَّدِ الشَّبَهِ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ. وَفِيمَا ذَكَرَهُ نَظَرٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَلَّ هَذَا الشَّرْطِ مَا إذَا لَمْ يَظْهَرْ لِلْوَسَطِ فَائِدَةٌ، فَإِنْ ظَهَرَ فَلَا يَمْتَنِعُ قِيَاسُ الْفَرْعِ عَلَى الْفَرْعِ. وَكِتَابُ السِّلْسِلَةِ " لِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَبْنِيٌّ عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا كُلُّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّاظِرِ: أَمَّا الْمُنَاظِرُ فَبِحَسَبِ مَا يَصْطَلِحُونَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا أَرْبَابُ الْمَذَاهِبِ فَأَقْوَالُ مُقَلِّدِيهِمْ وَإِنْ كَانَتْ فُرُوعًا تُنَزَّلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُقَلِّدِينَ مَنْزِلَةَ أَقْوَالِ الشَّارِعِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِينَ، فَإِذَا حَفِظَ مِنْ إمَامِهِ فُتْيَا وَفَهِمَ مَعْنَاهَا جَازَ لَهُ أَنْ يُلْحِقَ بِهَا مَا يُشَابِهُهَا عَلَى الصَّحِيحِ، خِلَافًا لِمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ " بِالتَّخْرِيجِ " وَجَعَلَ إلْكِيَا مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي هَذَا فِيمَا لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ بِنَصٍّ أَوْ دَلِيلِ نَصٍّ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى مِثْلِهِ، وَيَكُونُ الْفَرْعُ الثَّانِي مِثْلًا، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ قَطْعًا كَمَا أَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَمَعَ ذَلِكَ يَمْتَنِعُ حَمْلُ الْفَرْعِ عَلَيْهِ بِعِلَّةٍ، فَرَجَعَ حَاصِلُ الْخِلَافِ إلَى أَنَّ الَّذِي ثَبَتَ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ أَصْلًا وَمَا لَا يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ مِنْ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ أَصْلًا إذَا كَانَ ثُبُوتُهُ بِعُمُومٍ أَوْ نَصٍّ أَوْ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ فَرْعًا ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ الْأُصُولِيِّينَ وَهُوَ يَسْتَدْعِي الْبِنَاءَ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ الْوَاحِدَ هَلْ يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِعِلَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: يَمْتَنِعُ، نَشَأَ مِنْهُ أَنَّ الْفَرْعَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ أَصْلًا لِفَرْعٍ آخَرَ.
تَنْبِيهٌ
إذَا مَنَعْنَا أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ قِيَاسًا، يُسْتَثْنَى مِنْهُ صُورَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: الْقِيَاسُ الَّذِي قَاسَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا جَوَّزْنَا لَهُ الِاجْتِهَادَ.
وَالثَّانِيَةُ: الَّتِي أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى إلْحَاقِهِ بِالْأَصْلِ، ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي مَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِ وَسَتَأْتِي.
خَامِسُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ دَلِيلُ حُكْمِهِ شَامِلًا لِحُكْمِ الْفَرْعِ، لِأَنَّهُ لَوْ عَمَّهُ لَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ فَرْعًا وَضَاعَ الْقِيَاسُ، لِخُلُوِّهِ عَنْ الْفَائِدَةِ بِالِاسْتِغْنَاءِ بِدَلِيلِ الْأَصْلِ عَنْهُ، وَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ جَعْلُ أَحَدِهِمَا أَصْلًا وَالْآخَرِ فَرْعًا أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ، وَقَدْ يُنَازَعُ فِيهِ. وَمِثَالُهُ: السَّفَرْجَلُ مَطْعُومٌ، فَيَجْرِي فِيهِ الرِّبَا قِيَاسًا عَلَى الْبُرِّ، ثُمَّ يُسْتَدَلُّ عَلَى عِلِّيَّةِ الطُّعْمِ بِقَوْلِهِ:«لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ» . وَجَوَّزَ آخَرُونَ ذَلِكَ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ إذَا ذَكَرَ دَلِيلًا لَهُ مَدْلُولَانِ وَتَمَسَّكَ بِأَحَدِ مَدْلُولَيْهِ عَلَى مَرَامِهِ لَا يَقْتَضِي الْحُكْمُ تَكْلِيفَهُ التَّمَسُّكَ بِمَدْلُولِهِ الْآخَرِ، كَمَا لَوْ كَانَ مَدْلُولُهُ الْآخَرُ غَيْرَ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى الْعِلَّةِ إنَّمَا تُرَادُ لِإِثْبَاتِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَالدَّلَالَةُ عَلَى ثُبُوتِهَا بِمَا يُغْنِي عَنْ ثُبُوتِهَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَدْلُولُ الْآخَرُ مَحَلَّ النِّزَاعِ وَقَدْ وَجَّهَ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَصْحَابِ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ فِي اشْتِرَاطِ الْحُلُولِ فِي زَكَاةِ الْمَعْدِنِ، بِالْقِيَاسِ عَلَى النَّقْدَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْمَعْدِنِ وَيُقَالُ عَلَيْهِ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَعْدِنِ وَغَيْرِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى
يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» فَإِنَّهُ يَشْمَلُ كُلَّ مَالٍ فَلِمَ جَعَلْتُمْ مَالَ الْمَعْدِنِ فَرْعًا؟
سَادِسُهَا: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ لَاحْتَاجَ الْقِيَاسُ إلَى ثُبُوتِهِ فَيَنْتَقِلُ مِنْ مَسْأَلَةٍ إلَى أُخْرَى. وَهَذَا الشَّرْطُ لَا يُغْنِي عَنْ قَوْلِهِمْ فِيمَا سَبَقَ: أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُهُ ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ. لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ مَعَ وُقُوعِ الْخِلَافِ فِيهِ. وَجَوَّزَ آخَرُونَ الْقِيَاسَ عَلَى الْأَصْلِ الْمَمْنُوعِ الْحُكْمِ مُطْلَقًا، لِأَنَّ الْقِيَاسَ فِي نَفْسِهِ لَا يَشْتَرِطُ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ فِي جَوَازِ التَّمَسُّكِ بِهِ، فَسُقُوطُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهِ أَوْلَى.
وَقِيلَ: يَجُوزُ إنْ كَانَ الْمَنْعُ خَفِيًّا.
وَقِيلَ: يَجُوزُ إنْ أَمْكَنَ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ يُثْبِتَانِ حُكْمَ الْأَصْلِ وَلَا يَتَنَاوَلَانِ مَحَلَّ النِّزَاعِ، فَإِذَا ثَبَتَ الْأَصْلُ اسْتَنْبَطَ مِنْهُ عِلَّةً عَدَّى بِهَا الْحُكْمَ إلَى الْفَرْعِ، فَلَا يَكُونُ حُكْمُ الْفَرْعِ ثَابِتًا بِمَا ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ الْأَصْلِ الْمَمْنُوعِ. فَيُقَالُ: كَانَ اسْتِعْمَالُ الْأَصْلِ حَشْوًا، وَلَا يَكُونُ حُكْمُ الْأَصْلِ الْمَمْنُوعِ مُخْتَصًّا فِي ثُبُوتِهِ بِمَا يَنْقَطِعُ بِهِ إلْحَاقُ الْفَرْعِ بِهِ. وَقِيلَ: يُبْنَى الْأَمْرُ عَلَى اصْطِلَاحِ
أَهْلِ الْعَصْرِ مِنْ غَيْرِ جُحُودٍ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْجَدَلِيِّينَ.
وَإِذَا قُلْنَا بِالْأَوَّلِ: فَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ: فَشَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَتَّفِقَ عَلَيْهِ الْخَصْمَانِ فَقَطْ لِتَنْضَبِطَ فَائِدَةُ الْمُنَاظَرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَاخْتَارَ فِي " الْمُنْتَهَى " أَنَّ الْمُعْتَرِضَ إنْ كَانَ مُقَلِّدًا لَمْ يُشْتَرَطْ الْإِجْمَاعُ إذْ لَيْسَ مَنْعُ مَا ثَبَتَ: مَذْهَبًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا اُشْتُرِطَ، لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَيْسَ مُرْتَبِطًا بِإِمَامٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ وَلَا مَنْصُوصًا عَلَيْهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ فِي الْأَصْلِ فَبَطَلَ الْقِيَاسُ أَوْ يُعَيِّنَ عِلَّةً لَا تَتَعَدَّى إلَى الْفَرْعِ. وَهَذَا تَفْصِيلٌ حَسَنٌ، لَكِنَّ وُقُوعَهُ بَعِيدٌ. ثُمَّ إذَا اتَّفَقَا عَلَى إثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ بِعِلَّتَيْنِ فَالْعِلَّةُ عِنْدَ الْخَصْمِ غَيْرُ الْعِلَّةِ عِنْدَ الْمُسْتَدِلِّ، فَهُوَ مُرَكَّبُ الْأَصْلِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ، أَيْ مَا جُعِلَ جَامِعًا، وَصْفَانِ يَصْلُحُ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ عِلَّةً، كَمَا فِي قِيَاسِ حُلِيِّ الْبَالِغَةِ عَلَى حُلِيِّ الصَّبِيَّةِ، فَإِنَّ عَدَمَ الْوُجُوبِ فِي حُلِيِّ الصَّبِيَّةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ لَكِنْ لِعِلَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، فَإِنَّهُ عِنْدَنَا لِعِلَّةِ كَوْنِهِ حُلِيًّا، وَعِنْدَهُمْ لِعِلَّةِ كَوْنِهِ مَالًا لِلصَّبِيَّةِ، وَالْمُعْتَرِضُ عَلَى أَحَدِ الْحُسْنَيَيْنِ لِأَنَّ عِلَّتَهُ إنْ كَانَتْ هِيَ الصَّحِيحَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ انْقَطَعَ قِيَاسُ خَصْمِهِ، وَإِنْ كَانَتْ عِلَّةُ الْمُعْتَرِضِ هِيَ الْبَاطِلَةُ مُنِعَ حُكْمُ الْأَصْلِ فَانْقَطَعَ الْقِيَاسُ أَيْضًا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يُسَمَّ مُرَكَّبًا لِاخْتِلَافِ الْحُكْمَيْنِ فِي عِلَّةِ حُكْمِ الْأَصْلِ فَقَطْ، كَمَا صَارَ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ، وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّ قِيَاسٍ اخْتَلَفَ فِي عِلَّةِ أَصْلِهِ مُرَكَّبًا، وَهُوَ بَاطِلٌ، بَلْ لِاخْتِلَافِ الْخَصْمِ فِي تَرْكِيبِ الْحُكْمِ عَلَى الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ فَإِنَّ الْمُسْتَدِلَّ. يَزْعُمُ أَنَّ الْعِلَّةَ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ وَهِيَ فَرْعٌ لَهُ، وَالْمُعْتَرِضُ يَزْعُمُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ فَرْعٌ عَلَى الْعِلَّةِ وَلَا طَرِيقَ إلَى إثْبَاتِهِ سِوَاهَا، وَلِذَلِكَ
يَمْتَنِعُ ثُبُوتُهُ عِنْدَ انْتِفَائِهَا وَبُطْلَانِهَا. وَإِنَّمَا سُمِّيَ تَرْكِيبَ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ نَظَرٌ فِي حُكْمِ الْأَصْلِ. وَإِنْ كَانَ لِعِلَّةٍ، وَلَكِنْ مَنَعَ الْخَصْمُ وُجُودَهَا فِي الْفَرْعِ فَيُسَمَّى مُرَكَّبَ الْوَصْفِ لِأَجْلِ اخْتِلَافِهِمْ فِي نَفْسِ الْوَصْفِ الْجَامِعِ هَلْ لَهُ وُجُودٌ فِي الْأَصْلِ أَمْ لَا؟ وَسُمِّيَ تَرْكِيبًا فِي الْوَصْفِ لِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي وَقَعَ التَّرْكِيبُ فِي عِلَّتِهِ وَقَعَ جَامِعًا فِي الْقِيَاسِ فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ وَصْفًا لِأَنَّ أَصْلَ الْجَمْعِ بِالْأَوْصَافِ. وَمِثَالُهُ اخْتِلَافُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ رضي الله عنهما فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى أَنَّ الْأَبَ لَا يُقْتَلُ بِالْوَلَدِ، فَإِذَا قَاسَ الشَّافِعِيُّ الْفَرْعَ بِالْأَصْلِ أَمْكَنَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِحُكْمٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ مُخْتَلَفٍ فِي عِلَّتِهِ، وَذَلِكَ الْحُكْمُ كَوْنُ الْمُسْلِمِ لَا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ إذَا قَتَلَهُ بِالْمُثَقَّلِ، يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يُقْتَلَ بِهِ إذَا قَتَلَهُ بِالْمُحَدَّدِ، لِأَنَّ الْأَبَ لَا يُقْتَلُ بِابْنِهِ بِاتِّفَاقِهِمَا مُحَدَّدًا أَوْ مُثَقَّلًا. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أُخِذَ مِنْ اجْتِمَاعِ الْحُكْمَيْنِ فِي الْأَبِ وَاسْتِوَائِهِمَا فِي حَقِّهِ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، لَكِنَّ الْعِلَّةَ مُخْتَلِفَةٌ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ بِالْمُثَقَّلِ: فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِكَوْنِهِ مُثَقَّلًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِعَدَمِ التَّكَافُؤِ. وَكَلَامُ الْهِنْدِيِّ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ بِالْأَوَّلِ فَلَمْ يُذْكَرْ هَذَا الثَّانِي، وَالْأَصَحُّ تَنَاوُلُهُ لِلْقِسْمَيْنِ جَمِيعًا، وَعَلَيْهِ جَرَى الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُمَا وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِمَا، فَقَبِلَهُمَا جَمَاعَةٌ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُمَا لَا يُقْبَلَانِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَا يُنْقَلُ عَنْ عَدَمِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ أَوْ مَنْعِ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَالثَّانِي لَا يُنْقَلُ عَنْ عَدَمِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ أَوْ مَنْعِ حُكْمِ الْأَصْلِ.
وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَانِ ": أَمَّا مُرَكَّبُ الْأَصْلِ فَمِنْهُ الشَّيْءُ الْمُتَفَاحِشُ وَمِنْهُ مَا لَا يَتَفَاحَشُ، كَقَوْلِهِ: أُنْثَى فَلَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا كَبِنْتِ خَمْسَ
عَشْرَةَ، فَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ طَوَائِفُ مِنْ الْجَدَلِيِّينَ أَنَّهُ صَحِيحٌ، وَحَاصِلُ خِلَافِهِمْ يُؤَوَّلُ إلَى أَنَّ الْحُكْمَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالْمُعَلِّلُ يَلْتَزِمُ إثْبَاتَ الْأُنُوثَةِ عِلَّةً، فَإِنْ أَثْبَتَهَا ثَبَتَ بِهِ أَنَّهَا الْعِلَّةُ، وَتَشَعُّبُ الْمَذَاهِبِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا أَصْلَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ الْمُعَلِّلُ مِنْ إثْبَاتِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْفَرْعِ عِلَّةً فِي الْأَصْلِ فَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ بَاطِلٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُرَكَّبًا. فَإِذَنْ لَا تَأْثِيرَ لِلتَّرْكِيبِ كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَإِنَّمَا الْمُتَّبَعُ إثْبَاتُ عِلَلِ الْأُصُولِ قَالَ: وَهَذَا بَاطِلٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، فَإِنَّ الْمُخَالِفَ يَقُولُ: ظَنَنْت الْخَمْسَ عَشْرَةَ صَغِيرَةً، وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَكَانَ الْقِيَاسُ عَلَى الصَّغِيرَةِ بَاطِلًا كَمَا تَقَدَّمَ إلْحَاقًا بِالْقِيَاسِ عَلَى مَأْلُوفٍ، قَالَ: وَأَمَّا التَّرْكِيبُ فِي الْوَصْفِ فَيَنْقَسِمُ كَذَلِكَ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ: قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ لَا يَسْتَوْجِبُ الْقِصَاصَ، كَقَتْلِ الْمُثَقَّلِ لَا يُوجِبُ قَتْلَ السَّيْفِ كَالْأَبِ فِي ابْنِهِ، وَصَحَّحَهُ بَعْضُ الْجَدَلِيِّينَ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ عِنْدَنَا. وَقَالَ إلْكِيَا فِي تَعْلِيقِهِ ": لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ فِي الْمُرَكَّبِ، لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَتَرَكَّبَ عَلَيْهِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ، وَلَوْ أَنَّ الْأَوَّلِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ يَتَعَرَّضُونَ لَهُ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ، وَنُقِلَ عَنْ الدَّارَكِيِّ أَنَّهُ قَالَ: التَّرْكِيبُ صَحِيحٌ لَكِنَّهُ يُمْكِنُ انْتِقَاضُهُ بِأَنْ يُعَارَضَ بِالتَّعْدِيَةِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: هَذَا غَفْلَةٌ مِنْهُ وَلَعَلَّهُ قَالَهُ فِي ضِيقِ النَّظَرِ فَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ سَلَّمَ لِخَصْمِهِ وُجُودَ عِلَّتِهِ وَهِيَ الْأُنُوثَةُ وَهُوَ لَمْ يُسَلِّمْ وُجُودَ عِلَّتِهِ وَهِيَ الصِّغَرُ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ عَلَّلَ وَعَدَّى إلَى فَرْعٍ لَمْ يَسْأَلْ عَنْهُ، وَالْمُسْتَدِلُّ عَلَّلَ وَعَدَّى فَتَكَاسَلَ عَنْهُ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَهَذَا مِنْ الْأَصْحَابِ غَيْرُ صَحِيحٍ،
وَالرَّجُلُ مَا قَالَ ذَلِكَ إلَّا عَنْ نَظَرٍ وَتَحْقِيقٍ. أَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ خَصْمُهُ وُجُودَ الصِّغَرِ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ قَدْ سَلَّمَ لَهُ وُجُودَ الْأُنُوثَةِ، فَلِهَذَا يُبْنَى عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ السَّائِلَ إذَا عَارَضَ الْمُسْتَدِلَّ مُعَارَضَتَهُ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَدُلَّ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الدَّلِيلِ، لِأَنَّهُ لَمَّا عَارَضَ فَقَدْ نَصَبَ نَفْسَهُ مُسْتَدِلًّا فَلَهُ إقَامَةُ الدَّلِيلِ. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ إذَا مُونِعَ وُجُودُ الصِّغَرِ ذَكَرَ عِلَّتَهُ وَيَكْفِيهِ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: الْقِيَاسُ الْمُرَكَّبُ بَاطِلٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَذَهَبَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا (الطَّرْدِيِّينَ) وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ إلَى أَنَّهُ صَحِيحٌ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِ نَتِيجَةَ الْعِلَّةِ وَتَكُونَ عِلَّةُ الْأَصْلِ مُخْتَلَفًا فِيهَا بِحَيْثُ لَوْ قَدَّرْنَا فَسَادَ تِلْكَ الْعِلَّةِ لَتَضَمَّنَ ذَلِكَ بُطْلَانَ الْحُكْمِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا مِنْ أَصْلٍ يُبْنَى عَلَيْهِ فَرْعٌ إلَّا وَيَكُونُ عِلَّةُ ذَلِكَ الْأَصْلِ مُخْتَلَفًا فِيهَا، فَبِمَ يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَقْيِسَةِ؟
قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ نَتِيجَةُ الْعِلَّةِ، وَفِي غَيْرِ الْمُرَكَّبِ تَكُونُ الْعِلَّةُ نَتِيجَةَ الْحُكْمِ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الْخِلَافَ فِي أَنَّ الْعِلَّةَ مَاذَا فِي الرِّبَا؟ هَلْ هِيَ الطُّعْمُ أَوْ الْكَيْلُ؟ وَحُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ نَتِيجَةَ الْعِلَّةِ، فَإِنَّهُمْ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ هَذِهِ الْعِلَلِ اتَّفَقُوا عَلَى الْحُكْمِ بِتَحْرِيمِ بَيْعِ الْبُرِّ بِالْبُرِّ إلَّا أَنَّهُمْ نَازَعُوا بَعْدَهُ فِي عِلَّةِ هَذَا الْحُكْمِ. وَلَوْ قَدَّرْنَا فَسَادَ هَذِهِ الْعِلَلِ بِأَسْرِهَا لَمْ يَبْطُلْ الْحُكْمُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ نَتِيجَةَ الْعِلَّةِ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ نَتِيجَةُ الْعِلَّةِ، فَلَوْ بَطَلَتْ الْعِلَّةُ بَطَلَ الْحُكْمُ، كَقَوْلِنَا فِي النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ: ابْنُ فُلَانٍ يَلِي عَقْدَ النِّكَاحِ قِيَاسًا عَلَى بِنْتِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَالْحُكْمُ فِي هَذَا الْقِيَاسِ نَتِيجَةُ الْعِلَّةِ، لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى الْبَحْثِ عَنْ هَذِهِ الْعِلَّةِ أَنَّ بِنْتَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً لَا تَلِي عَقْدَ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا صَارُوا إلَيْهِ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْهَا، وَلَوْ قَدَّرْنَا بُطْلَانَ هَذِهِ الْعِلَّةِ بَطَلَ هَذَا الْحُكْمُ.
الثَّانِي: أَنَّ التَّنَازُعَ فِي الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ يَقَعُ فِي وُجُودِ الْعِلَّةِ دُونَ الِاعْتِبَارِ، وَفِي غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَقْيِسَةِ يَقَعُ فِي الِاعْتِبَارِ دُونَ الْوُجُودِ. وَأَلْحَقَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ الْقِيَاسَ بِالطَّرْدِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ قَالَ: وَطَائِفَةٌ مِنْ الْجَدَلِيِّينَ يُصَحِّحُونَهُ وَيَقُولُونَ: الْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ، وَالْمُعَلِّلُ عَلَّلَ بِالْأُنُوثَةِ وَهِيَ تَعْلِيلٌ صَحِيحٌ وَقِيَاسٌ عَلَى أَصْلٍ مُسَلَّمٍ، فَاخْتِلَافُ الْمَذَاهِبِ لَا يَضُرُّ قَبْلَ هَذَا التَّعْلِيلِ. وَالدَّلِيلُ لَا يَرْضَى بِهِ مُحَقِّقٌ.
قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَاَلَّذِي يُوقِعُ فِي التَّرْكِيبِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - إنَّمَا هُوَ عِلْمُ الْمُرَكَّبِ أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْإِشْهَادِ عَلَى مَعْنَاهُ بِأَصْلِ الْعِلَّةِ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ الْمُرْسَلَ بَاطِلٌ فَيُحِيلُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ الْمُرْسَلِ بِصُورَةِ الْأَقْيِسَةِ فَيَتَخَلَّفُ أَيْضًا فِي كَوْنِهِ أَصْلًا فِيهِ وَهُوَ بِالْحَقِيقَةِ نَفْسُ الْفَرْعِ، وَهَذِهِ حِيَلٌ جَدَلِيَّةٌ لَا وَقْعَ لَهَا عِنْدَ طَالِبِ التَّحْقِيقِ، وَلَوْ سَلَّمَ الْخَصْمُ مَا جَعَلَهُ الْمُسْتَدِلُّ عِلَّةً فِي الْأَصْلِ فِيهِمَا، أَوْ أَثْبَتَ الْمُسْتَدِلُّ وُجُودَهَا فِي الْأَصْلِ، أَوْ سَلَّمَ النَّاظِرُ انْتَهَضَ الْمُسْتَدِلُّ عَلَى الْخَصْمِ، فَلَوْ لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى الْأَصْلِ وَلَكِنْ أَثْبَتَ الْمُسْتَدِلُّ بِأَصْلِ حُكْمِ الْأَصْلِ الْمُسْتَغْنَى عَنْهُ بِمُوَافَقَةِ الْحُكْمِ، ثُمَّ أَثْبَتَ الْعِلَّةَ بِطَرِيقِهَا، فَإِنَّهُ يَنْتَهِضُ دَلِيلُهُ عَلَى الْخَصْمِ الْمُجْتَهِدِ عَلَى الْأَصَحِّ وَيُقْبَلُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَتَعَلَّقُ بِالْعِلَّةِ فَذَكَرَ فِيهَا السَّبَبَ. وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى سِتَّةِ أَضْرُبٍ: مُرَكَّبِ الْأَصْلِ، وَمُرَكَّبِ الْفَرْعِ، وَمُرَكَّبِ الْوَصْفِ، وَمُرَكَّبِ الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ، وَمُرَكَّبِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَمُرَكَّبِ الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ وَالْفَرْعِ، وَزَادَ هُوَ قِسْمًا سَابِعًا وَهُوَ مُرَكَّبُ الْوَصْفِ وَالْفَرْعِ، وَالْمُسْتَعْمَلُ مِنْ هَذِهِ ثَلَاثَةٌ: مُرَكَّبُ الْأَصْلِ، وَمُرَكَّبُ الْوَصْفِ، وَمُرَكَّبُ الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ. مِثَالُ مُرَكَّبِ الْأَصْلِ تَعْلِيلُ أَصْحَابِنَا فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ أَنَّهُ مُسْلِمٌ قَتَلَ كَافِرًا فَلَمْ يُقْتَلْ بِهِ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ بِمُثَقَّلٍ، وَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْأَصْلِ أَنَّ الْقَتْلَ بِالْمُثَقَّلِ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ عِنْدَ الْمُخَالِفِ لِكَوْنِهِ قَتْلًا بِمُثَقَّلٍ، وَعِنْدَنَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ
بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ لِعَدَمِ التَّكَافُؤِ، فَالْأَصْلُ مُتَّفَقٌ عَلَى سُقُوطِ الْقِصَاصِ فِيهِ لَكِنْ مِنْ جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ.
وَمِثَالُ مُرَكَّبِ الْفَرْعِ أَنْ يُعَلِّلَ الشَّافِعِيُّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَيَفْرِضَ الْكَلَامَ فِيمَنْ لَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَيَقُولُ: مَنْ وَجَبَ الْعُشْرُ فِي زَرْعِهِ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِي مَالِهِ كَالْبَالِغِ، وَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْفَرْعِ أَنَّ الْمَفْرُوضَ فِيهِ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مُخْتَلَفٌ فِي بُلُوغِهِ، فَإِذَا أَرَادَ الْمُخَالِفُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِأَنْ يَقُولَ: الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، فَكَذَلِكَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِي مَسْأَلَتِنَا بِخِلَافِهِ قَالَ الْمُعَلِّلُ: لَا أُسَلِّمُ هَذَا.
وَمِثَالُ مُرَكَّبِ الْوَصْفِ أَنْ يُعَلِّلَ شَافِعِيٌّ لِلْمَنْعِ مِنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ بِأَنَّهُ لَوْ قَتَلَهُ بِمُثَقَّلٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، فَإِذَا قَتَلَهُ بِمُحَدَّدٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ مِنْ أَصْلِهِ إذَا كَانَ حَرْبِيًّا.
وَمِثَالُ مُرَكَّبِ الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ قَوْلُ أَصْحَابِنَا: فِي ثُبُوتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ حَالَةٌ يَصِحُّ إلْحَاقُ الزِّيَادَةِ فِيهَا بِالثَّمَنِ عِنْدَ الْمُخَالِفِ فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ فِيهَا الْخِيَارُ، كَمَا إذَا قَالَ: بِعْنِي، فَقَالَ: بِعْتُك. فَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْوَصْفِ أَنَّ إلْحَاقَ الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ يَجُوزُ قَبْلَ انْبِرَامِ الْعَقْدِ وَبَعْدَهُ، وَعِنْدَنَا يَجُوزُ لِثُبُوتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ. وَقَوْلُهُ:" حَالَةٌ يَجُوزُ الْإِلْحَاقُ لِلزِّيَادَةِ فِيهَا بِالثَّمَنِ " صَحِيحٌ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ، وَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْأَصْلِ أَنَّ الْخِيَارَ ثَبَتَ بِالْأَصْلِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ لَا يَتِمُّ عِنْدَ الْمُخَالِفِ حَتَّى يَنْضَمَّ إلَيْهِ قَوْلُ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْت، وَعِنْدَنَا قَدْ تَمَّ لَكِنْ لَمْ يَلْزَمْ لِأَجْلِ الْمَجْلِسِ فَثُبُوتُ الْخِيَارِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي عِلَّتِهِ.
وَمِثَالُ مُرَكَّبِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ: أَنْ يُعَلِّلَ الشَّافِعِيُّ مَنْعَ غُسْلِ الْجَنَابَةِ بِالْخَلِّ وَيَقُولَ: أَفْرِضُ الْكَلَامَ فِي غَسْلِ الثَّوْبِ بِالنَّبِيذِ وَأَقُولُ: مَائِعٌ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَلَا يُطَهِّرُ النَّجِسَ، كَالْمَاءِ الْمُزَالِ بِهِ النَّجَاسَةُ. فَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْفَرْعِ أَنَّ النَّبِيذَ عِنَبٌ. لَكِنْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ كَالْمَاءِ وَإِنَّمَا اسْتَبَاحَ بِهِ الصَّلَاةَ.
وَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْأَصْلِ أَنَّ الْمَاءَ الْمُزَالَ بِهِ النَّجَاسَةُ نَجِسٌ عِنْدَ الْمُخَالِفِ لَا يَجُوزُ غَسْلُ النَّجَاسَةِ بِهِ، وَعِنْدَنَا هُوَ طَاهِرٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ غَسْلُ النَّجَاسَةِ بِهِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا بِخِلَافِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا الْأَصْلُ وَلَا الْفَرْعُ مُسَلَّمٌ.
وَمِثَالُ مُرَكَّبِ الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ وَالْفَرْعِ أَنْ يُعَلِّلَ الشَّافِعِيُّ مَنْعَ غَسْلِ النَّجَاسَةِ بِالْخَلِّ وَيَقُولَ: أَفْرِضُ الْكَلَامَ فِي غَسْلِ النَّجَاسَةِ بِالنَّبِيذِ، فَأَقُولُ مَائِعٌ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَلَمْ يُرْفَعْ بِهِ حُكْمُ التَّطْهِيرِ كَالْمَاءِ الْمُزَالِ بِهِ النَّجَاسَةُ، فَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْفَرْعِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمُ التَّطْهِيرِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِكَوْنِهِ نَجِسًا، وَعِنْدَ الْمُخَالِفِ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ لَكِنْ يُسْتَبَاحُ بِهِ الصَّلَاةُ وَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْوَصْفِ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِنَجَاسَتِهِ، وَعِنْدَ الْمُخَالِفِ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ كَمَا يَرْفَعُهُ الْمَاءُ لَكِنْ يُسْتَبَاحُ بِهِ الصَّلَاةُ فِي السَّفَرِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ. وَوَجْهُ تَرْكِيبِ الْأَصْلِ أَنَّهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ وَعِنْدَ الْمُخَالِفِ نَجِسٌ.
وَمِثَالُ مُرَكَّبِ الْفَرْعِ وَالْوَصْفِ: أَنْ يُعَلِّلَ الشَّافِعِيُّ الْمَنْعَ مِنْ غَسْلِ النَّجَاسَةِ بِالْخَلِّ، وَيَفْرِضَ الْكَلَامَ فِي غَسْلِ النَّجَاسَةِ بِالنَّبِيذِ، فَيَقُولُ: مَائِعٌ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ كَالْمَاءِ النَّجِسِ.
سَابِعُهَا: أَنْ لَا نَكُونَ مُتَعَبَّدِينَ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ بِالْقَطْعِ، فَإِنْ تُعُبِّدْنَا بِالْقَطْعِ لَمْ يَجُزْ الْقِيَاسُ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ غَيْرَ الظَّنِّ فَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ، لِأَنَّ الْفَرْعَ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الْأَصْلِ وَحِينَئِذٍ يَتَعَذَّرُ الْقِيَاسُ، كَإِثْبَاتِ كَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً بِالْقِيَاسِ عَلَى قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَالْفَتْوَى عَلَى رَأْيِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ. وَذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ فِي جَدَلِهِ " وَالْهِنْدِيُّ فِي " النِّهَايَةِ " وَالْبُرْهَانُ الْمُطَرِّزِيُّ فِي " الْعُنْوَانِ " وَفِيهِ نَظَرٌ. إذْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ مَقْطُوعًا بِهِ تَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ بِجَامِعٍ شَبَهِيٍّ، فَيَكُونُ حُصُولُهُ فِي الْفَرْعِ مَظْنُونًا. وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْفَرْعِ مُسَاوِيًا لِحُكْمِ الْأَصْلِ إذْ قَدْ نَصُّوا عَلَى التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا وَأَنَّ حُكْمَ الْفَرْعِ تَارَةً يَكُونُ مُسَاوِيًا، وَتَارَةً أَقْوَى، وَتَارَةً
أَضْعَفُ. هَذَا إذَا كَانَ الْقِيَاسُ شَبِيهًا، فَإِنْ كَانَ قِيَاسَ الْعِلَّةِ فَنَحْنُ لَا نَقِيسُ إلَّا إذَا وُجِدَتْ عِلَّةُ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ، وَإِذَا وُجِدَتْ فِيهِ أَثَّرَتْ مِثْلَ حُكْمِ الْأَصْلِ فَيَكُونُ مَقْطُوعًا بِهِ أَيْضًا. وَكَذَلِكَ قِيَاسُ الدَّلَالَةِ لِأَنَّ الدَّلِيلَ يُفِيدُ وُجُودَ الْمَدْلُولِ، فَدَلَالَةُ عِلَّةِ الْأَصْلِ إذَا وُجِدَتْ فِي الْفَرْعِ دَلَّتْ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ قَطْعًا. وَكَانَ الْقِيَاسُ قَطْعًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ. وَقَدْ ضَعَّفَ الْإِبْيَارِيُّ الْقَوْلَ بِالْمَنْعِ. وَقَالَ: بَلْ مَا يَتَعَدَّ فِيهِ بِالْعِلْمِ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِالْقِيَاسِ الَّذِي يُفِيدُ الْعِلْمَ. وَقَدْ قَسَمَهُ الْمُحَقِّقُونَ إلَى:
مَا يُفِيدُ الْعِلْمَ: وَقَالُوا: إنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُنْسَخَ بِهِ النَّصُّ الْمُتَوَاتِرُ، وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ يُنْقَضُ قَضَاءُ الْقَاضِي إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ، فَأَجْرَوْهُ مَجْرَى الْمَقْطُوعِ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي " شَرْحِ الْعُنْوَانِ ": لَعَلَّ هَذَا الشَّرْطَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ دَلِيلَ الْقِيَاسِ ظَنِّيٌّ، وَإِلَّا إذَا عَلِمْنَا أَنَّهُ قَطْعِيٌّ وَعَلِمْنَا الْعِلَّةَ قَطْعًا وَوُجُودَهَا فِي الْفَرْعِ قَطْعًا فَقَدْ عَلِمْنَا الْحُكْمَ قَطْعًا. وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ: عِنْدِي أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ فِي الْجَوَازِ الشَّرْعِيِّ، فَإِنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ تَحْصِيلُ الْيَقِينِ بِعِلَّةِ الْحُكْمِ ثُمَّ تَحْصِيلُ الْيَقِينِ بِأَنَّ تِلْكَ الْعِلَّةَ حَاصِلَةٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَحَصَلَ الْعِلْمُ الْيَقِينِيُّ بِأَنَّ حُكْمَ الْفَرْعِ مِثْلُ حُكْمِ الْأَصْلِ. بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ الْبَحْثُ فِي أَنَّهُ يُمْكِنُ تَحْصِيلُ هَذَيْنِ الْيَقِينَيْنِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَمْ لَا؟ وَأَمَّا الَّذِي طَرِيقُهُ الظَّنُّ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ فِيهِ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: لَوْ حَصَلَ الْعِلْمُ بِالْمُقَدَّمَتَيْنِ عَلَى النُّدُورِ لَمْ يَمْتَنِعْ إثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ التَّمْثِيلِيِّ لِكَوْنِهِ لَا يَكُونُ قِيَاسًا شَرْعِيًّا مُخْتَلَفًا فِيهِ قَالَ: وَهَذَا يَسْتَقِيمُ إنْ أُرِيدَ بِهِ تَعْرِيفُ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ فِي الْقِيَاسِ الظَّنِّيِّ الَّذِي هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَأَمَّا إنْ أُرِيدَ بِهِ تَعْرِيفُ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ فِي الْقِيَاسِ كَيْفَ كَانَ، فَلَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ بَلْ يَجِبُ حَذْفُ قَيْدِ الْعِلْمِ عَنْهُ.
ثَامِنُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ قَاعِدَةِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ إثْبَاتَ الْقِيَاسِ مَعَهُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ مَعَ مُنَافِيهِ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِ الْفُقَهَاءِ: الْخَارِجُ عَنْ الْقِيَاسِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. وَهَذَا إطْلَاقٌ مُجْمَلٌ وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ. وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا الشَّرْطَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْآمِدِيُّ وَالرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُمَا، لَكِنْ أَطْلَقَ ابْنُ بَرْهَانٍ أَنَّ مَذْهَبَ أَصْحَابِنَا جَوَازُ الْقِيَاسِ عَلَى مَا عُدِلَ فِيهِ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ، وَمَثَّلَهُ بِمَا زَادَ عَلَى أَرْشِ الْمُوضِحَةِ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَمَا دُونَهُ هَلْ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ أَمْ لَا؟ فَعِنْدَنَا: تَحْمِلُهُ قِيَاسًا عَلَى أَرْشِهَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا تَحْمِلُهُ. وَهَكَذَا حَكَى إلْكِيَا عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ أَطْلَقُوا أَقْوَالَهُمْ بِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَجْرِي فِي الْمَعْدُولِ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ قَالَ: وَهَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ عِنْدَنَا فَذَكَرَهُ وَسَيَأْتِي، وَالْجَوَازُ هُنَا قَضِيَّةُ مَا سَبَقَ مِنْ جَرَيَانِ الْقِيَاسِ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالرُّخَصِ. وَقَالَ فِي " الْقَوَاطِعِ ": يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَى أَصْلٍ مُخَالِفٍ فِي نَفْسِهِ الْأُصُولَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ وَدَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَالْمَحْكِيُّ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ مَنَعُوهُ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْكَرْخِيّ وَمَنَعَ جَوَازَهُ إلَّا بِإِحْدَى خِلَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَا وَرَدَ بِخِلَافِ الْأُصُولِ قَدْ نَصَّ عَلَى عِلَّتِهِ كَقَوْلِهِ عليه السلام «إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ» لِأَنَّ النَّصَّ عَلَى الْعِلَّةِ كَالتَّصْرِيحِ بِوُجُوبِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ.
ثَانِيهَا: أَنْ تَكُونَ الْأُمَّةُ مُجْمِعَةً عَلَى تَعْلِيلِ مَا وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي عِلَّتِهِ.
ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الَّذِي وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ عَلَى بَعْضِ الْأُصُولِ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ كَالْخَبَرِ الْوَارِدِ بِالتَّحَالُفِ فِي الْمُتَبَايِعَيْنِ إذَا تَبَايَعَا، فَإِنَّهُ يُخَالِفُ قِيَاسَ الْأُصُولِ، وَيُقَاسُ عَلَيْهِ الْإِجَارَةُ، لِأَنَّهُ يُوَافِقُ بَعْضَ الْأُصُولِ، وَهُوَ أَنَّ مَا يُمْلَكُ عَلَى الْغَيْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ فِي أَنَّهُ أَيُّ شَيْءٍ مَلَكَ عَلَيْهِ، وَقَالُوا إذَا كَانَ فِي الشَّرْعِ أَصْلٌ يُنْتِجُ الْقِيَاسَ وَأَصْلٌ يَحْظُرُهُ، وَكَانَ الْأَصْلُ جَوَازَ الْقِيَاسِ وَجَبَ الْقِيَاسُ، وَقَالُوا أَيْضًا: يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَى الْأَصْلِ الْمَخْصُوصِ إذَا لَمْ يُفْصَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَخْصُوصِ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مَا خُصَّ مِنْ جُمْلَةِ الْقِيَاسِ كَجِمَاعِ النَّاسِي وَأَكْلِهِ.
وَقَالَ ابْنُ شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ مِنْ أَصْحَابِهِمْ: إذَا كَانَ الْخَبَرُ الْوَارِدُ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ غَيْرَ مَقْطُوعٍ بِهِ لَمْ يَجُزْ الْقِيَاسُ، فَاقْتَضَى قَوْلُهُ هَذَا إذَا كَانَ الْخَبَرُ مَقْطُوعًا بِهِ جَازَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ. لَنَا أَنَّ مَا وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ أَصْلٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، فَجَازَ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْهُ مَعْنًى وَيُقَاسَ عَلَيْهِ دَلِيلُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ، لِأَنَّهُ لَمَّا وَرَدَ فِيهِ الْخَبَرُ صَارَ أَصْلًا فِي نَفْسِهِ، فَالْقِيَاسُ عَلَيْهِ كَالْقِيَاسِ عَلَى بَاقِي الْأُصُولِ.
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَقَدْ يُمْنَعُ التَّعْلِيلُ بِنَصِّ كَلَامِ الشَّارِعِ عَلَى الِاقْتِصَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَالِصَةً لَكَ} [الأحزاب: 50] وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بُرْدَةَ: «وَلَنْ يُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك» وَقَوْلِهِ: «أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ» ، فَإِذَا امْتَنَعَ النَّصُّ عَلَى الْقِيَاسِ امْتَنَعَا. وَكَذَلِكَ لَوْ فُرِضَ إجْمَاعٌ عَلَى هَذَا النَّحْوِ كَالِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ لَا يَقْصُرُ، وَإِنْ سَاوَى الْمُسَافِرَ فِي الْفِطْرِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي بَعْضِ كُتُبِهِ: وَلَا يُقَاسُ عَلَى الْمَخْصُوصِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَأَوَّلَ فَيُقَالُ: إنَّهُ أَرَادَ بِهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الْقِيَاسُ فِيهِ. وَالْأَصْلُ فِيمَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ وَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْمَخْصُوصِ وَيَمْتَحِنَ، فَإِنْ كَانَ يَتَعَدَّى قِيسَ عَلَيْهِ، كَقِيَاسِ الْخِنْزِيرِ عَلَى الْكَلْبِ فِي الْوُلُوغِ، وَقِيَاسِ خُفِّ الْحَدِيدِ عَلَى الْأَدَمِ بِالْمَسْحِ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْمَخْصُوصِ وَصْفٌ يُمْكِنُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ امْتَنَعَ الْقِيَاسُ كَالْجَنِينِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ الشَّخْصُ الْمَلْفُوفُ فِي الثَّوْبِ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى فِي الْجَنِينِ يُقَاسُ عَلَيْهِ الْمَلْفُوفُ. أهـ.
وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: الْحُكْمُ الثَّابِتُ فِي الْأَصْلِ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا فَالْقَطْعِيُّ يَجُوزُ إلْحَاقُ الْغَيْرِ بِهِ وَالظَّنِّيُّ يَكُونُ الْفَرْعُ مِنْهُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ أَصْلَيْنِ:
أَصْلٌ يُوجِبُ إثْبَاتَ الْحُكْمِ فِيهِ، وَآخَرُ يَنْفِيهِ لِمُشَابَهَتِهِ لِلْمُسَمَّى وَغَيْرِهِ فَيَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ التَّرْجِيحُ بِدَلِيلٍ. وَالْكَلَامُ فِي هَذَا يَسْتَدْعِي تَعْرِيفَ مَا عُدِلَ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ مِنْ غَيْرِهِ. وَقَدْ بَيَّنَ إلْكِيَا ذَلِكَ بِأَقْسَامٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ قَاعِدَةً مُتَأَصِّلَةً فِي نَفْسِهَا مُخْتَصَّةً بِأَحْكَامِ غَيْرِهَا، فَلَا يُقَالُ لِهَذَا الْمَعْنَى إنَّهُ مُخَالِفٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَصْلٌ أَوْلَى بِهِ، كَقَوْلِهِمْ: النِّكَاحُ عَقْدٌ عَلَى الْمَنْفَعَةِ يَصِحُّ مَعَ جَهَالَةِ الْمُدَّةِ، فَصِحَّتُهُ مَعَ جَهَالَةِ الْمُدَّةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ مَا فِي النِّكَاحِ مِنْ الْمَقْصُودِ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِإِبْهَامِ الْمُدَّةِ
كَالتَّنَاسُلِ، فَالْإِبْهَامُ فِيهِ كَالْإِعْلَامِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: السَّلَمُ خَارِجٌ عَنْ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ مُعَامَلَةُ مَوْجُودٍ بِمَعْدُومٍ، وَكَذَا الْإِجَارَةُ. فَإِنَّا لَمْ نُجَوِّزْ الْمُعَامَلَةَ بِمَوْجُودٍ لِمَعْدُومٍ لِغَرَرٍ مُتَوَقَّعٍ، وَإِلَّا فَالْعَقْلُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ إذَا وُجِدَ الرِّضَا، وَلَكِنَّ الِاغْتِرَارَ مِمَّا يَجُرُّ نَدَمًا وَضَرَرًا، فَإِذَا ظَهَرَ لَنَا فِي السَّلَمِ أَنَّ الْحَالَةَ الدَّاعِيَةَ إلَى تَجْوِيزِهِ هِيَ الْغَرَرُ الْمَقْرُونُ بِالْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ الْوَزْنِ مَا يُخَالِفُ أَنَّهُ مُخَالِفُ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ الْأَصْلِيَّ هُوَ الرِّضَا وَيَعْتَدُّ بِهِ الشَّارِعُ لِلْمَصَالِحِ الْجُزْئِيَّةِ وَحَيْثُ لَا مَصْلَحَةَ فِي نَفْيِ الْغَرَرِ رُدَّ إلَى الْأَصْلِ، وَالْأَصْلُ الرِّضَا، فَغَلَّبْنَا مَصْلَحَةً عَلَى أُخْرَى.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ فِيهِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَلَقَّى مِنْ أَصْلٍ آخَرَ وَلَا يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ الْأَصْلِ الْمُنْتَقِلِ عَنْهُ، وَبِهِ يَتَمَيَّزُ هَذَا الْقِسْمُ مِمَّا قَبْلَهُ. وَنَظِيرُهُ أَنَّ الْوَالِدَ لَا يُقْتَلُ بِوَلَدِهِ مَعَ الْجَرِيمَةِ الظَّاهِرَةِ، وَلَكِنَّ الشَّرْعَ غَلَّبَ حُرْمَةَ الْأُبُوَّةِ فَقَالَ: لَا يُقْتَلُ بِهِ، فَهَذَا لَا يَظْهَرُ لَنَا وَجْهُ تَغْلِيبِهِ. بِخِلَافِ السَّلَمِ فَإِنَّهُ يَظْهَرُ لَنَا مِنْ قِيَاسِ الْأُصُولِ تَغْلِيبُ حَاجَةِ الْمُسْلِمِ، فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ لِمَعْنًى خَفِيٍّ.
وَمِنْهُ: الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَإِنَّهَا أُثْبِتَتْ عَلَى خِلَافِ قِيَاسِ الْمَضْمُونَاتِ، وَكُلُّ قِيَاسٍ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ هَذَا الِاخْتِصَاصِ مَرْدُودٌ، وَكُلُّ قِيَاسٍ يَتَضَمَّنُ تَقْرِيبًا مَقْبُولٌ، فَهُوَ عَلَى اعْتِبَارِ مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ بِمِقْدَارِ الْمُوضِحَةِ، وَتَحَمُّلُ الْعَاقِلَةِ. أُثْبِتَ بِاعْتِبَارِ الْجُزْئِيَّةِ حَتَّى يَهْتَدِيَ الْبَدَلُ وَتَتَعَاوَنَ عَلَى أَدَائِهِ، وَالْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ فِي هَذَا سَوَاءٌ وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي بَدَلِ الْعَبْدِ وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي إخْرَاجِ الصَّيْدِ مِنْ قِيمَتِهِ وَهَلْ هُوَ كَخِرَاجِ الْحُرِّ مِنْ دِيَتِهِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ مِنْ وَجْهِ اعْتِبَارِ قِيَاسِ الْغَرَامَاتِ، وَيَجُوزُ إجْرَاءُ الْقِيَاسِ فِيهِ عَلَى شَرْطِ الْتِزَامِ التَّقْرِيبِ بِحَيْثُ لَا يَلْتَزِمُ إبْطَالَ التَّخْصِيصِ أَوْ تَصَرُّفًا فِي غَيْبٍ وَالتَّقْرِيبُ الْخَاصُّ أَوْلَى مِنْ الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ الْمُخَيَّلِ، فَهَذَا هُوَ الْعُدُولُ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ، فَإِذَا لَمْ يَمْتَنِعْ ذَلِكَ فَهَاهُنَا أَوْلَى.
الثَّالِثُ: إذَا كَانَ أَصْلُهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَصْلَحَةٍ كُلِّيَّةٍ وَلَا جُزْئِيَّةٍ ظَاهِرَةٍ لَنَا، كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْعَرَايَا إنَّهُ مُخَالِفٌ لِقِيَاسِ الرِّبَا وَفِي الْعَرَايَا مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ وَلَا يُتَخَيَّلُ ذَلِكَ فِي الرِّبَا، وَلَكِنَّهُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ فِي الرِّبَا: وَإِنْ لَمْ نَطَّلِعْ عَلَى مَصْلَحَةٍ خَفِيَّةٍ كَمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهَا فِي رِبَا النَّسَاءِ، وَلَكِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى إنَّمَا حَرَّمَهُ لِأَنَّ التَّوَسُّعَ فِيهِ يَجُرُّ إلَى رِبَا النَّسَاءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَرَايَا مُخَالِفَةٌ لِهَذَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا: الْعَرَايَا مُخَالِفَةٌ لِقِيَاسِ الرِّبَا أَنَّهَا عَلَى مُخَالَفَةِ الْمَعْهُودِ مِنْ قِيَاسِ الرِّبَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْنَى الْمَصْلَحَةِ مَعْهُودًا لَنَا، وَإِذَا سَاغَ - دُونَ فَهْمِ الْمَعْنَى - إلْحَاقُ مَا عَدَا الْمَنْصُوصَ بِهِ سَاغَ تَقْدِيرُ مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ حَيْثُ امْتَنَعَ الِاعْتِبَارُ وَالتَّقْرِيبُ مِنْهُ، وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: إنَّ الْأَجَلَ وَالْخِيَارَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَصْلِ، مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ اتِّبَاعُ التَّرَاضِي وَهُوَ الْقِيَاسُ الْأَصْلِيُّ، فَإِنَّهُ لَا قِوَامَ لِلْعَالِمِ إلَّا بِهِ، وَتَجْوِيزُ الْخِيَارِ مِنْ تَفَاصِيلِ أَصْلِ الرِّضَا، فَصَحَّ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، لَكِنَّهُ خِلَافُ قِيَاسٍ هُوَ أَوْلَى بِهِ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ حَسَنٌ. وَأَقُولُ: هُوَ يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُرَدَّ ابْتِدَاءً غَيْرَ مُقْتَطَعٍ مِنْ أَصْلٍ، وَلَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ لِتَعَذُّرِ الْعِلَّةِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَيُسَمَّى هَذَا خَارِجًا عَنْ الْقِيَاسِ تَجَوُّزًا، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ مُنْقَاسًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْقِيَاسِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ. وَمِثَالُهُ الْمُقَدَّرَاتُ وَأَعْدَادُ الرَّكَعَاتِ وَنُصُبُ الزَّكَوَاتِ وَمَقَادِيرُ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ. أَمَّا أَصْلُ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ فَيَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا كَمَا سَبَقَ.
الثَّانِي: مَا شُرِعَ مُبْتَدَأً غَيْرَ مُقْتَطَعٍ مِنْ أَصْلٍ وَهُوَ مَعْقُولٌ لَكِنَّهُ عَدِيمُ النَّظِيرِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ لِتَعَذُّرِ الْفَرْعِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَتَسْمِيَتُهُ هَذَا بِالْخَارِجِ عَنْ الْقِيَاسِ بَعِيدَةٌ جِدًّا. قُلْت: فِيهِ التَّأْوِيلُ فِي الَّذِي قَبْلَهُ. وَمِثَالُهُ تَغْلِيظُ الْأَيْمَانِ وَالْقَسَامَةُ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا وُجُودُ الْبَهِيمَةِ فِي الْمَحَلَّةِ مَقْتُولَةً، وَكَذَا جَنِينُهَا لَا يُضْمَنُ، بِخِلَافِ جَنِينِ الْآدَمِيِّ، لِأَنَّ الثَّابِتَ فِي جَنِينِ الْآدَمِيِّ عَلَى خِلَافِ قِيَاسِ الْأُصُولِ.
وَمِنْهُ: رُخَصُ السَّفَرِ وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْمُضْطَرُّ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ جَوَّزَ الْجَمْعَ بِالْمَرَضِ قِيَاسًا عَلَى السَّفَرِ، وَعِنْدَ الْغَزَالِيِّ مِنْ هَذَا ضَرْبُ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَخَالَفَ إمَامَهُ فَإِنَّهُ جَعَلَهُ مِمَّا عُقِلَ مَعْنَاهُ، وَتَعَلُّقُ الْأَرْشِ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كَوْنِهِ لَمْ يَقِسْ الْأَرْشَ عَلَى الدِّيَةِ فِي الْعَقْلِ: وَلَا أَقِيسُ عَلَى الدِّيَةِ غَيْرَهَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْجَانِيَ أَوْلَى أَنْ يَغْرَمَ جِنَايَتَهُ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا يَغْرَمُهَا عَنْ الْخَطَأِ فِي الْجِرَاحِ، وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ عز وجل عَلَى الْقَاتِلِ خَطَأَ دِيَةٍ وَرَقَبَةٍ، فَزَعَمَتْ أَنَّ الرَّقَبَةَ فِي مَالِهِ لِأَنَّهَا مِنْ جِنَايَتِهِ، وَأَخْرَجَتْ الدِّيَةَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى اتِّبَاعًا انْتَهَى.
الثَّالِثُ: مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ وَثَبَتَ اخْتِصَاصُ الْمُسْتَثْنَى بِحُكْمِهِ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ فُهِمَ مِنْ الشَّرْعِ الِاخْتِصَاصُ بِالْمَحَلِّ الْمُسْتَثْنَى، وَفِي الْقِيَاسِ إبْطَالُ الِاخْتِصَاصِ بِهِ، سَوَاءٌ لَمْ يُعْقَلْ مَعْنَاهُ كَاخْتِصَاصِ خُزَيْمَةَ بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ وَحْدَهُ أَوْ عُقِلَ كَاخْتِصَاصِ أَبِي بُرْدَةَ بِالتَّضْحِيَةِ بِعَنَاقٍ نَظَرًا لِفَقْرِهِ، فَلَا يَلْتَحِقُ بِهِ غَيْرُهُ لِأَجْلِ صَرِيحِ الْمَنْعِ مِنْ الشَّارِعِ:«وَلَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك» ثُمَّ تَارَةً يُعْلَمُ الِاخْتِصَاصُ بِالتَّنْصِيصِ، وَتَارَةً بِغَيْرِهِ، كَقَبُولِ الْوَاحِدِ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ فَلَا يَلْتَحِقُ بِهِ ذُو الْحِجَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَكَاشْتِرَاطِ أَرْبَعَةٍ فِي الزِّنَى وَالثَّلَاثَةِ فِي الشَّهَادَةِ بِالْإِعْسَارِ عَلَى وَجْهٍ، لِأَجْلِ الْحَدِيثِ.
وَقَالَ إلْكِيَا: التَّخْصِيصُ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: تَخْصِيصُ عَيْنٍ، أَوْ مَكَان أَوْ حَالٍ. فَالْعَيْنُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{خَالِصَةً لَكَ} [الأحزاب: 50] وَالْمَكَانُ
كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ» وَالْحَالُ كَالْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ.
الرَّابِعُ: مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ لَكِنَّ الْمُسْتَثْنَى مَعْقُولُ الْمَعْنَى، كَبَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فِي الْعَرَايَا، فَإِنَّهُ عَلَى خِلَافِ قَاعِدَةِ الرِّبَا عِنْدَنَا وَاقْتَطَعَ عَنْهَا بِحَاجَةِ الْمَحَاوِيجِ وَقَاسَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا الْعِنَبَ عَلَى الرُّطَبِ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ. وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ وَيُشْبِهُ أَنْ يُخَرَّجَ فِيهِ قَوْلَانِ لِاخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِيمَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ هَلْ يُنَجِّسُ؟ إنَّمَا الدَّلِيلُ وَالْقِيَاسُ التَّنْجِيسُ، وَالْأَصَحُّ عَدَمُهُ قِيَاسًا عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّقْلُ فِي الذُّبَابِ الْخَارِجِ عَنْ الْقَاعِدَةِ الْمُمَهَّدَةِ. وَمِنْهُ: أَنَّ الْإِتْمَامَ أَصْلٌ وَالْقَصْرَ رُخْصَةٌ، ثُمَّ إنَّهُ وَرَدَ أَنَّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ سَبْعَ عَشْرَةَ أَوْ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ، فَهَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ أَمْ يَجُوزُ زَائِدًا؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَدْرَكَهُمَا هَذَا. وَمِنْهُ: أَنْ تَحْرُمَ الزِّيَادَةُ عَلَى أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ ثُمَّ إنَّهُ تَزَوَّجَ تِسْعًا، فَهَلْ يَنْحَصِرُ فِيهِنَّ أَوْ كَانَ يَجُوزُ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا؟ فِيهِ خِلَافٌ، لَكِنَّ الْأَرْجَحَ الْجَوَازُ هُنَا، وَفِي تِلْكَ الْمَنْعُ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِيهَا عَلَى مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَّا وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ مِنْهُمْ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ، إلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا يَعْنِي إذَا عُرِفَتْ عِلَّتُهُ وَنَسَبَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي التَّلْخِيصِ لِكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالَ: وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ، لَكِنَّ الْمُجَوِّزَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ لَا يُسَمِّيهِ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ.
وَالثَّانِي: الْمَنْعُ مُطْلَقًا وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَنَسَبَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ " لِلْجُمْهُورِ وَقَالَ: إنَّهُ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِمْ.
وَالثَّالِثُ: إنْ ثَبَتَ الْمُسْتَثْنَى بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ جَازَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ شِجَاعٍ الْبَلْخِيّ مِنْهُمْ كَمَا نَقَلَهُ الْقَاضِي فِي " الْمُلَخَّصِ "
وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ " وَعَبْدُ الْعَزِيزِ فِي " الْكَشْفِ " وَصَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " وَقَالَ: إنَّهُ الْأَصْوَبُ.
وَالرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ إلَّا بِأَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً وَأُجْمِعَ عَلَى تَعْلِيلِهِ أَوْ وَافَقَ بَعْضَ الْأُصُولِ، كَخَبَرِ التَّحَالُفِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعِينَ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِقِيَاسِ الْأُصُولِ - إذْ قِيَاسُ الْأُصُولِ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَوْلَ لِلْمُنْكِرِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ اشْتِغَالِ ذِمَّتِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ الْبَائِعُ مِنْ الْقَدْرِ الزَّائِدِ - لَكِنْ ثَمَّ قَوْلٌ آخَرُ يُوَافِقُهُ وَهُوَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ الْبَيْعَ عَلَيْهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ مَلَكَ عَلَيْهِ أَصْلَهُ، كَالشَّفِيعِ مَعَ الْمُشْتَرِي إذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ، فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَمْلِكُ عَلَيْهِ الشِّقْصَ، فَكَذَلِكَ يَتَأَتَّى التَّحَالُفُ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ، مَا عَدَا الْمَبِيعَ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالسَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْقِرَاضِ وَالْجَعَالَةِ وَالصُّلْحِ عَلَى الدَّمِ وَالْخُلْعِ وَالصَّدَاقِ وَالْكِتَابَةِ.
وَالْخَامِسُ: وَهُوَ رَأْيُ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى إنْ كَانَ دَلِيلُهُ مَقْطُوعًا بِهِ فَهُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ مُرَادَنَا بِالْأَصْلِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ إمْكَانُ الْقِيَاسِ عِلَّةً كَالْقِيَاسِ عَلَى غَيْرِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُرَجِّحَ الْمُجْتَهِدُونَ الْقِيَاسَ، مُؤَكَّدُهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَمْنَعْ الْعُمُومُ مِنْ قِيَاسٍ يَخُصُّهُ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ الْقِيَاسُ عَلَى الْعُمُومِ مَانِعًا مِنْ قِيَاسٍ يُخَالِفُهُ، لِأَنَّ الْعُمُومَ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى الْعُمُومِ وَقَدْ سَبَقَهُ إلَى هَذَا الِاخْتِيَارِ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ (قَالَ) وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْطُوعٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عِلَّةُ حُكْمِهِ مَنْصُوصَةً أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا كَانَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ أَقْوَى مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى الْأُصُولِ، فَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْقِيَاسَ عَلَى الْأُصُولِ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ
عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ عَلَى مَا طَرِيقُ حُكْمِهِ مَعْلُومٌ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى مَا طَرِيقُ حُكْمِهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ. وَإِنْ كَانَتْ مَنْصُوصَةً فَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ يَسْتَوِي الْقِيَاسَانِ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَخْتَصُّ بِأَنَّ طَرِيقَ حُكْمِهِ مَعْلُومٌ وَإِنْ كَانَ طَرِيقُ عِلَّتِهِ غَيْرَ مَعْلُومٍ، وَهَذَا الْقِيَاسُ طَرِيقُ حُكْمِهِ مَظْنُونٌ، وَطَرِيقُ عِلَّتِهِ مَعْلُومٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ اخْتَصَّ بِحَظٍّ مِنْ الْقُوَّةِ. هَذَا كَلَامُهُ فِي " الْمَحْصُولِ " وَاخْتَارَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَتْبَاعِهِ مِنْهُمْ الْبَيْضَاوِيُّ فِي " الْمَنْهَجِ ": وَالْحَقُّ أَنَّهُ يُطْلَبُ التَّرْجِيحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، اعْتَرَضَهُ الْهِنْدِيُّ فَقَالَ: فِيهِ نَظَرٌ:
أَمَّا (أَوَّلًا) فَلِأَنَّهُ إنْ عُنِيَ بِقَوْلِهِ: إنَّ مُرَادَنَا بِالْأَصْلِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ هُوَ اصْطِلَاحُ نَفْسِهِ فَلَا مُنَاقَشَةَ، لِأَنَّ الْخَصْمَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُ هَذَا الْأَصْلِ يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَيَمْنَعُ أَنَّ الْقِيَاسَ عَلَيْهِ كَالْقِيَاسِ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّ كُلَّ هَذَا مُصَادَرَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ:" مُؤَكَّدَةٌ " لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّ مَا سَبَقَهُ لَيْسَ دَلِيلًا حَتَّى يَكُونَ تَأْكِيدًا لَهُ، وَدَعْوَاهُ " إنَّ الْعُمُومَ إذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ قِيَاسٍ يَخُصُّهُ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ الْقِيَاسُ عَلَى الْعُمُومِ مَانِعًا مِنْ قِيَاسٍ يُخَالِفُهُ، لِأَنَّ الْمَفْهُومَ أَقْوَى مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى الْعُمُومِ " مَمْنُوعٌ، لِأَنَّ عُمُومَ الْقِيَاسِ أَقْوَى مِنْ الْعُمُومِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلتَّخْصِيصِ، بِنَاءً عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ. بِخِلَافِ الْعُمُومِ فَإِنَّهُ قَابِلٌ لِلتَّخْصِيصِ بِالِاتِّفَاقِ. وَإِنْ عُنِيَ بِهِ اصْطِلَاحُ الْمُخْتَلِفِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَمَمْنُوعٌ لِأَنَّ الْقِيَاسَ مَا يُقَاسُ، فَمَنْ مَنَعَ الْقِيَاسَ عَلَى الْمَعْدُولِ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ سَوَاءٌ أَثْبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ أَوْ غَيْرِ مَقْطُوعٍ كَيْفَ يَكُونُ هَذَا أَصْلًا عِنْدَهُ؟
وَأَمَّا (ثَانِيًا) فَدَعْوَاهُ التَّسَاوِي فِيمَا إذَا كَانَتْ عِلَّتُهُ مَنْصُوصَةً إنْ أَرَادَ
بِهِ ثُبُوتَ النَّصِّ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ فَتَسْتَحِيلُ الْمَسْأَلَةُ، لِأَنَّ كَوْنَ دَلِيلِ الْحُكْمِ ظَنِّيًّا مَعَ أَنَّ النَّصَّ الدَّالَّ عَلَى عِلَّتِهِ قَطْعِيٌّ مُحَالٌ ضَرُورَةً أَنَّهُ مَهْمَا عُلِمَ النَّصُّ الدَّالُّ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ كَانَ الْحُكْمُ مَعْلُومًا قَطْعًا فَدَلِيلُهُ قَطْعِيٌّ لَا مَحَالَةَ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ أَيْ سَوَاءٌ ثَبَتَ بِطَرِيقٍ قَطْعِيٍّ أَوْ ظَنِّيٍّ بَطَلَ قَوْلُهُ آخِرًا:" وَهَذَا الْقِيَاسُ طَرِيقُ حُكْمِهِ مَظْنُونٌ وَطَرِيقُ عِلَّتِهِ مَعْلُومٌ ".
(قَالَ) : وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ فِي الضَّابِطِ: مَا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْأُصُولِ وَعُقِلَ مَعْنَاهُ وَوُجِدَ فِي غَيْرِهِ جَازَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْ الشَّارِعِ قَصْدُ تَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِذَلِكَ الْمَحَلِّ وَمَا لَمْ يَتَرَجَّحْ قِيَاسُ الْأُصُولِ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَجَحَ بِمَا يَتَرَجَّحُ بِهِ بَعْضُ الْأَقْيِسَةِ عَلَى بَعْضٍ لَمْ يَجُزْ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ لِحُصُولِ الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ، لَا لِأَنَّهُ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ. وَحَكَى الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ " الْخِلَافَ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ: إذَا وَرَدَتْ قَاعِدَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ قِيَاسِ الْقَوَاعِدِ كَالْإِجَارَةِ وَالْكِتَابَةِ، قِيلَ: لَا يُقَاسُ عَلَى أَصْلِهَا وَلَا فَرْعِهَا، وَقِيلَ: يُقَاسُ فِي فُرُوعِهَا وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ أَصْلٌ آخَرُ (قَالَ) : وَالْمُخْتَارُ أَنَّ إطْلَاقَ الْأَمْرَيْنِ مُسْتَقِيمٌ، فَإِنَّ الْقَوَاعِدَ وَإِنْ تَبَايَنَتْ فِي خَوَاصِّهَا فَقَدْ تَلْتَقِي فِي أُمُورٍ جُمَلِيَّةٍ، لِمُلَاحَظَةِ الشَّرْعِ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ فِي كَوْنِهِ مُعَاوَضَةً.
وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ الْمَخْصُوصَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ، وَزَعَمُوا أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَأْبَى ذَلِكَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي الْحَضَرِ لِعُذْرٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوَّلَهُ وَقَالَ: الْمَخْصُوصُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مَخْصُوصٌ بِالْمَعْنَى، وَمَخْصُوصٌ بِالذِّكْرِ. وَالْأَوَّلُ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الثَّانِي، وَالشَّافِعِيُّ إنَّمَا أَطْلَقَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ " إذَا لَمْ أَجِدْ عِلَّةَ الْحُكْمِ فَلَمْ أَقِسْ عَلَيْهِ غَيْرَهَا ".
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: لَا يَقِيسُ عَلَى الْمَخْصُوصِ وَمَا يَرِدُ مِنْ الْأَخْبَارِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسِ الْأُصُولِ، وَشَبَّهُوهُ بِمَا قُلْنَا فِي مَسِّ الذَّكَرِ أَنَّا لَا نَقِيسُ عَلَيْهِ غَيْرَهُ.
وَهُوَ خَطَأٌ، لِأَنَّهُمْ لَا يُجَوِّزُونَ وُرُودَ الْأَخْبَارِ بِشَيْءٍ تُخَالِفُهُ الْأُصُولُ، لِأَنَّهَا أُصُولٌ فِي أَنْفُسِهَا فَقِيَاسٌ عَلَيْهَا حَيْثُ وُجِدَتْ الْعِلَّةُ، لِأَنَّهَا مُوجِبَةٌ لِلْحُكْمِ.
وَقَالَ إلْكِيَا: الْمَخْصُوصُ بِالذِّكْرِ قَدْ يَقَعُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ وَأَكْثَرُ الْقِيَاسِ كَذَلِكَ، وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَعْنَى لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ اخْتَصَّ بِمَعْنَاهُ فَلَمْ يُوجَدْ فِي غَيْرِهِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْجَامِعِ. ثُمَّ قَسَّمَهُ إلَى مَا سَبَقَ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: قَالَ أَصْحَابُنَا: الْمَخْصُوصُ بِالْمَعْنَى لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ خُصَّ الْحُكْمُ مَفْقُودٌ فِي غَيْرِ مَا وَرَدَ الْحُكْمُ فِيهِ، بِخِلَافِ الْمَخْصُوصِ بِالِاسْمِ فَقَطْ قَالَ الْأُسْتَاذُ: جُمْلَةُ مَا يَمْتَنِعُ الْقِيَاسُ فِي الْأُصُولِ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ:
أَحَدُهَا: تَخْصِيصُ غَيْرِهِ بِالذِّكْرِ وَإِفْرَادُهُ بِالْحُكْمِ خُصُوصًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] وَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ أَوْ بِلَا مَهْرٍ أَصْلًا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عليه السلام لِأَبِي بُرْدَةَ: «وَلَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك» .
الثَّانِي: تَخْصِيصُ مَكَان بِحُكْمٍ مَخْصُوصٍ كَقَوْلِهِ فِي مَكَّةَ: «أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا لِأَحَدٍ بَعْدِي» .
وَالثَّالِثُ: تَخْصِيصُ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ كَتَخْصِيصِ حَالِ الضَّرُورَةِ بِإِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ:
الرَّابِعُ: وُقُوعُ التَّغْلِيظِ فِي جِنْسٍ مِنْ الْأَحْكَامِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ تَخْصِيصًا بِهِ وَحْدَهُ، كَتَغْلِيظِ الْأَيْمَانِ فِي الْقَسَامَةِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا التُّهْمَةُ فِي قَتْلِ الْبَهِيمَةِ.
الْخَامِسُ: الرُّخَصُ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ الْمَسْحُ عَلَى الْبُرْقُعِ وَالْقُفَّازَيْنِ، وَكَالِاسْتِنْجَاءِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ أَثَرُ النَّجَاسَةِ عَلَى الثَّوْبِ فَهَذِهِ الْخَمْسَةُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا الْقِيَاسُ عِنْدَنَا قَالَ: وَأَمَّا فِي الْمَخْصُوصِ مِنْ الْعَامِّ، فَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ جَازَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ، كَالْأَمَةِ فِي تَنْصِيفِ حَدِّهَا قِيسَ عَلَيْهَا الْعَبْدُ بِعِلَّةِ الرِّقِّ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَعْنًى لَمْ يَجُزْ كَإِيجَابِ الْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ، لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ الْمَلْفُوفُ.
قَالَ: وَهَذَا تَفْصِيلُ أَصْحَابِنَا فِي الْقِيَاسِ الْمَخْصُوصِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنَّ الْمَخْصُوصَ بِالْأَثَرِ مِنْ جُمْلَةِ قِيَاسِ الْأُصُولِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَثَرُ مُعَلَّلًا، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ، أَوْ يَتَّفِقَ الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ نَظَائِرُهُ وَإِنْ خَالَفَ قِيَاسَ الْأُصُولِ كَقَوْلِهِمْ فِي الْوُضُوءِ مِنْ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ: إنَّ قِيَاسَ الْأُصُولِ أَنَّ مَا كَانَ حَدَثًا فِي الصَّلَاةِ كَانَ حَدَثًا فِي غَيْرِهَا إلَّا أَنَّ الْقِيَاسَ فِي ذَلِكَ مَتْرُوكٌ بِالْخَبَرِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهَا الْقَهْقَهَةُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَفِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي خَصَّهُمَا مِنْ جُمْلَةِ الْقِيَاسِ إنَّمَا وَرَدَ فِي صَلَاةٍ لَهَا رُكُوعٌ وَسُجُودٌ.
وَقَالَ صَاحِبُ " الْبَيَانِ " فِي كِتَابِ الْحَجِّ: الْمَنْصُوصُ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: مَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ فَلَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ، كَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ وَأَرْكَانِهَا، وَكَذَلِكَ لَمْ يُقَسْ عَلَيْهَا وُجُوبُ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ، وَالثَّانِي: مَا عُقِلَ مَعْنَاهُ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي غَيْرِهِ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْحَاجَةُ إلَى لُبْسِهِ، وَالْمَشَقَّةُ فِي نَزْعِهِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْعِمَامَةِ وَالْقُفَّازَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْمُتَحَلِّلُ مِنْ الْإِحْرَامِ لِأَجْلِ الْإِحْصَارِ بِالْعَدُوِّ عُقِلَ مَعْنَاهُ وَهُوَ التَّخَلُّفُ مِنْ الْعَدُوِّ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْمَرَضِ، وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الرِّبَا فِي النَّقْدَيْنِ عُقِلَ مَعْنَاهُ وَهُوَ قِيمَةُ الْأَشْيَاءِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي غَيْرِهَا، فَلَمْ يُقَسْ عَلَيْهَا الْحَدِيدُ وَالرُّصَاصُ. وَالثَّالِثُ: مَا عُقِلَ وَوُجِدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي غَيْرِهِ فَيَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ كَتَحْرِيمِ الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ. تَنْبِيهٌ يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ مِنْ الشُّرُوطِ أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ فِيهِ تَغْلِيظًا لَكِنَّ كَلَامَ أَصْحَابِنَا يُخَالِفُ هَذَا فَإِنَّهُمْ أَلْحَقُوا عَرَقَ الْكَلْبِ وَرَوَثَهُ وَجَمِيعَ أَجْزَائِهِ بِسُؤْرِهِ وَجَعَلُوهُ كَإِلْحَاقِ الْأَمَةِ بِالْعَبْدِ، وَلَنَا وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ وَمَأْخَذُهُ مَا ذَكَرْنَا.