المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الأول من الاعتراضات النقض] - البحر المحيط في أصول الفقه - ط الكتبي - جـ ٧

[بدر الدين الزركشي]

فهرس الكتاب

- ‌[كِتَابُ الْقِيَاسِ] [

- ‌الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي حَقِيقَة الْقِيَاس]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ فِي نَظَرِ الْأُصُولِيِّينَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ اشْتِمَالُ النُّصُوصِ عَلَى الْفُرُوعِ الْمُلْحَقَةِ بِالْقِيَاسِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ مُظْهِرٌ لَا مُثْبِتٌ]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي فِي مَوْضُوعِ الْقِيَاسِ]

- ‌[الْبَابُ الثَّالِثُ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ]

- ‌[مَسْأَلَة الْقِيَاسُ يُعْمَلُ بِهِ قَطْعًا]

- ‌[مَسْأَلَة التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ نَصُّ الشَّارِعِ عَلَى الْحُكْمِ وَالْعِلَّةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ اسْتِعْمَال الْقِيَاسُ إذَا عُدِمَ النَّصُّ]

- ‌[مَسْأَلَة الْمُرْسَلُ وَالضَّعِيفُ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ]

- ‌[الْبَابُ الرَّابِعُ فِي أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ]

- ‌[أَقْسَامُ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ]

- ‌[أَقْسَامُ الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ]

- ‌[الْبَابُ الْخَامِسُ مَا يَجْرِي فِيهِ الْقِيَاسُ]

- ‌[أَمْثِلَةٌ لِلْقِيَاسِ فِي الرُّخَصِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ جَرَيَانُ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ فِي الْعَقْلِيَّاتِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ جَرَيَانُ الْقِيَاسِ فِي اللُّغَاتِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ فِي الْأَسْبَابِ]

- ‌[الْبَابُ السَّادِسُ فِي أَرْكَانِ الْقِيَاس] [

- ‌الرُّكْن الْأَوَّل الْأَصْلِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَأْثِيرُ الْأَصْلِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ]

- ‌[الْكَلَامُ فِي شُرُوطِ حُكْمِ الْأَصْلِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَا يَمْتَنِعُ فِيهِ الْقِيَاسُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ الْأَصْلِ]

- ‌[الرُّكْنُ الثَّالِثُ الْفَرْعُ]

- ‌[الرُّكْنُ الرَّابِعُ الْعِلَّةُ]

- ‌[مَسْأَلَة الْمَعْلُولُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَقَدُّمُ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَا بُدَّ لِلْحُكْمِ مِنْ عِلَّةٍ]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ شُرُوطِ الْعِلَّةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ اقْتِصَارُ الشَّارِعِ عَلَى أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ فِي الْعِلَّة]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ أُمُورٍ اُشْتُرِطَتْ فِي الْعِلَّةِ]

- ‌[فَائِدَةٌ الْعِلَّةُ إذَا كَثُرَتْ أَوْصَافُهَا فِي الْقِيَاسِ]

- ‌[مَسَالِكُ الْعِلَّةِ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ الْإِجْمَاعُ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً]

- ‌[الْمَسْلَكُ الثَّانِي النَّصُّ عَلَى الْعِلَّةِ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ الْإِيمَاءُ وَالتَّنْبِيهُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الرَّابِعُ الِاسْتِدْلَال عَلَى عِلِّيَّةِ الْحُكْمِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الْمَسْلَكُ الْخَامِسُ فِي إثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ الْمُنَاسَبَةُ]

- ‌[تَقْسِيمُ الْمُنَاسِبِ]

- ‌[أَقْسَامُ الْمُنَاسِبِ مِنْ حَيْثُ الْيَقِينِ وَالظَّنِّ]

- ‌[أَقْسَامُ الْمُنَاسِبِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةِ وَالْإِقْنَاعِ]

- ‌[تَقْسِيمُ الْمُنَاسَبَةِ مِنْ حَيْثُ التَّأْثِيرُ وَالْمُلَاءَمَةُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ السَّادِسُ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ السَّابِعُ الشَّبَهُ]

- ‌[حُكْم قِيَاس الشَّبَه]

- ‌[الْمَسْلَكُ الثَّامِنُ الدَّوَرَانُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ التَّاسِعُ الطَّرْدُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الْعَاشِرُ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ]

- ‌[الِاعْتِرَاضَاتُ]

- ‌[الْأَوَّلُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ النَّقْضُ]

- ‌[الثَّانِي مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الْكَسْرُ]

- ‌[الثَّالِثُ مِنْ الِاعْتِرَاضَات عَدَمُ الْعَكْسِ]

- ‌[الرَّابِعُ مِنْ الِاعْتِرَاضَات عَدَمُ التَّأْثِيرِ]

- ‌[الْخَامِسُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الْقَلْبُ]

- ‌[حَقِيقَتِهِ الْقَلْبُ]

- ‌[اعْتِبَارِهِ الْقَلْب]

- ‌[هَلْ الْقَلْب قَادِحٌ أَمْ لَا]

- ‌[أَقْسَام الْقَلْبُ]

- ‌[السَّادِسُ مِنْ الِاعْتِرَاضَات الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ]

- ‌[السَّابِعُ مِنْ الِاعْتِرَاضَات الْفَرْقُ وَيُسَمَّى سُؤَالَ الْمُعَارَضَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ شُرُوط الْفَرْقِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي جَوَابِ الْفَرْقِ]

- ‌[الثَّامِنُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الِاسْتِفْسَارُ]

- ‌[التَّاسِعُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ]

- ‌[الْعَاشِرُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ فَسَادُ الْوَضْعِ]

- ‌[الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَات الْمَنْعُ]

- ‌[الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَات التَّقْسِيمُ]

- ‌[الثَّالِث عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَات اخْتِلَافُ الضَّابِطِ]

- ‌[الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ اخْتِلَافُ حُكْمَيْ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ]

- ‌[الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الْمُعَارَضَةِ]

- ‌[وُجُوهٍ الْمُعَارَضَةِ]

- ‌[السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ سُؤَالُ التَّعْدِيَةِ]

- ‌[فَصْلٌ تَرْتِيبِ الْأَسْئِلَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الِانْتِقَالِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْفَرْضِ وَالْبِنَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي حِيَلِ الْمُتَنَاظِرِينَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي التَّعَلُّقِ بِمُنَاقَضَاتِ الْخُصُومِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِالْمُخْتَلَفِ فِيهِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ]

الفصل: ‌[الأول من الاعتراضات النقض]

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ وُرُودِهَا عَلَى الْقِيَاسِ أَنَّهَا تَرِدُ عَلَى كُلِّ قِيَاسٍ، لِأَنَّ مِنْ الْأَقْيِسَةِ مَا لَا يَرِدُ عَلَيْهِ بَعْضُهَا، كَالْقِيَاسِ مَعَ عَدَمِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، لَا يَتَّجِهُ عَلَيْهِ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ إلَّا مِنْ ظَاهِرِيٍّ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ يُنْكِرُ الْقِيَاسَ، وَاللَّفْظُ الْبَيِّنُ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ الِاسْتِفْسَارُ، وَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ تَخَلُّفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَسْئِلَةِ عَلَى الْبَدَلِ عَنْ بَعْضِ الْأَقْيِسَةِ. وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ الْوَارِدَةَ عَلَى الْقِيَاسِ لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الطُّرُقِ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ أَهْلِ التَّصْرِيفِ: إنَّ حُرُوفَ الزِّيَادَةِ هِيَ سَأَلْتُمُونِيهَا، عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْحُرُوفَ الزَّائِدَةَ عَلَى أُصُولِ مَوَادِّ الْكَلِمَةِ لَا تَزِيدُ عَلَى هَذِهِ، لَا أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ حَيْثُ وَقَعَتْ كَانَتْ زَائِدَةً، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهَا وَقَعَ أُصُولًا، فَاعْرِفْهُ

وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ انْقِسَامِهَا إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ، ذَكَرَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ، وَقَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ: تَرْجِعُ إلَى اثْنَيْنِ: الْمَنْعِ، وَالْمُعَارَضَةِ، لِأَنَّهُ مَتَى حَصَلَ الْجَوَابُ عَنْ الْمَنْعِ وَالْمُعَارَضَةِ تَمَّ الدَّلِيلُ وَلَمْ يَبْقَ لِلْمُعْتَرِضِ مَجَالٌ.

فَإِنْ قِيلَ: الْقَوْلُ بِرُجُوعِهَا إلَى الْمَنْعِ وَالْمُعَارَضَةِ مَمْنُوعٌ، لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ مِنْ جُمْلَةِ الِاعْتِرَاضَاتِ، فَيُؤَدِّي إلَى انْقِسَامِ الشَّيْءِ إلَى نَفْسِهِ وَإِلَى غَيْرِهِ، وَإِلَى أَنَّ الشَّيْءَ يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ نَفْسِهِ ضَرُورَةَ لُزُومِ انْدِرَاجِ الْمُعَارَضَةِ تَحْتَ الْمُعَارَضَةِ. قُلْنَا: إذَا كَانَ الْمُنْقَسِمُ إلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ هُوَ مُطْلَقُ الْمُعَارَضَةِ وَمُطْلَقُ الْمَنْعِ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَعَمَّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ.

[الْأَوَّلُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ النَّقْضُ]

الْأَوَّلُ النَّقْضُ

وَقَدَّمْنَاهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ آخِرِ الْأَسْئِلَةِ لِكَثْرَةِ جَرَيَانِهِ فِي الْمُنَاظَرَاتِ، وَبِالْجَوَابِ عَنْهُ يَبِينُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَضَادَّةِ وَيَنْدَفِعُ تَعَارُضُهَا وَهُوَ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ وَلَوْ فِي صُورَةٍ. فَإِنْ كَانَ فِي الْمُنَاظَرَةِ اُشْتُرِطَ فِي صِحَّتِهِ

ص: 329

اعْتِرَافُ الْمُسْتَدِلِّ بِذَلِكَ. وَتَسْمِيَتُهُ نَقْضًا صَحِيحٌ عِنْدَ مَنْ رَآهُ قَادِحًا. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَرَهُ قَدْحًا فَلَا يُسَمِّيهِ نَقْضًا بَلْ يَقُولُ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ. وَقَدْ بَالَغَ أَبُو زَيْدٍ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يُسَمِّيه نَقْضًا، كَقَوْلِنَا فِيمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ النِّيَّةَ: صَوْمٌ تَعَرَّى أَوَّلُهُ عَنْ النِّيَّةِ فَلَا يَصِحُّ، فَيُقَالُ: فَيَنْتَقِضُ بِصَوْمِ التَّطَوُّعِ. وَاعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الْعِلَّةَ إمَّا مَنْصُوصَةٌ قَطْعًا أَوْ ظَنًّا أَوْ مُسْتَنْبَطَةٌ وَتَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْهَا إمَّا لِمَانِعٍ أَوْ فَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ دُونَهُمَا. فَصَارَتْ الصُّوَرُ تِسْعًا، مِنْ ضَرْبِ ثَلَاثَةٍ فِي ثَلَاثَةٍ وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى بِضْعَةَ عَشَرَ مَذْهَبًا: طَرَفَانِ، وَالْبَاقِي أَوْسَاطٌ.

أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَقْدَحُ فِي الْوَصْفِ الْمُدَّعَى عِلِّيَّتُهُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَتْ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً أَوْ مُسْتَنْبَطَةً، وَسَوَاءٌ كَانَ الْحُكْمُ لِمَانِعٍ أَوْ لَا لِمَانِعٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْهُمْ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ كَمَا حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَالْإِمَامِ الرَّازِيَّ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا، وَنَسَبُوهُ إلَى الشَّافِعِيِّ، وَرَجَّحُوا أَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّ عِلَلَهُ سَلِيمَةٌ عَنْ الِانْتِقَاضِ جَارِيَةٌ عَلَى مُقْتَضَاهَا، وَأَنَّ النَّقْضَ يُشْبِهُ تَجْرِيحَ الْبَيِّنَةِ الْمُعَدَّلَةِ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِيَانِ أَبُو بَكْرٍ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ.

وَالثَّانِي: لَا يَقْدَحُ مُطْلَقًا فِي كَوْنِهَا عِلَّةً فِيمَا وَرَاءَ مَحَلِّ النَّقْضِ، وَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ مَانِعٍ أَوْ تَخَلُّفُ شَرْطٍ. وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ.

ص: 330

وَقَالَ الْبَاجِيُّ: حَكَاهُ الْقَاضِي وَالشَّافِعِيَّةُ عَنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا أَقَرَّ بِهِ وَلَا نَصَرَهُ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْعِلَّةَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَحَالِّهَا وَمَوَارِدِهَا كَالْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَوْضُوعَاتِهَا، فَكَمَا جَازَ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ وَإِخْرَاجُ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ فَكَذَلِكَ فِي الْعِلَّةِ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَامِّ بِأَنَّ الْعِلَّةَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْمَعْلُولِ، إذْ هُوَ مَعْنَاهَا، فَإِذَا انْتَفَى الِاسْتِلْزَامُ فَقَدْ انْتَفَى لَازِمُ الْعِلَّةِ فَتَنْتَفِي الْعِلِّيَّةُ. وَهَذَا مُفَارِقٌ الْعَامَّ، لِأَنَّ الْعَامَّ إمَّا أَنْ يُنْظَرَ فِيهِ إلَى الدَّلَالَةِ الْوَضْعِيَّةِ وَتِلْكَ لَا تَنْتَفِي بِالتَّخْصِيصِ، وَإِمَّا أَنْ يُنْظَرَ فِيهِ إلَى الْإِرَادَةِ لِلْبَاقِي.

وَالثَّالِثُ: لَا يَقْدَحَ فِي الْمَنْصُوصَةِ، وَيَقْدَحُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ. وَاخْتَارَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَحَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الْمُعْظَمِ فَقَالَ: ذَهَبَ مُعْظَمُ الْأُصُولِيِّينَ إلَى أَنَّ النَّقْضَ يُبْطِلُ الْعِلَّةَ الْمُسْتَنْبَطَةَ. ثُمَّ قَالَ: مَسْأَلَةُ: عِلَّةِ الشَّارِعِ هَلْ يَرِدُ عَلَيْهَا مَا يُخَالِفُ طَرْدَهَا؟ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، لِأَنَّهُ لَا يَعْرِضُ لَهُ فِي التَّخْصِيصِ بِخِلَافِ الْمُسْتَنْبَطَةِ، فَإِنَّ مُسْتَنَدَهُ ظَنِّيٌّ. وَإِذَا تَبَاعَدَ مَا اسْتَنْبَطَهُ عَنْ الْجَرَيَانِ ضَعُفَتْ مَسَالِكُ ظَنِّهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ. وَقَالَ فِي " الْمَحْصُولِ ": زَعَمَ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ عِلِّيَّةَ الْوَصْفِ إذَا ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ لَمْ يَقْدَحْ التَّخْصِيصُ فِي عِلِّيَّتِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْمَنْصُوصَةِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ أَنْ تَكُونَ مَنْصُوصَةً بِالصَّرِيحِ أَوْ بِالْإِيمَاءِ أَوْ بِالْإِجْمَاعِ، كَمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ " التَّنْقِيحِ " وَحَكَى بَعْضُ الْمُنَاظِرِينَ قَوْلًا أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي الْمَنْصُوصَةِ بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ وَيَقْدَحُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ.

وَالرَّابِعُ: يُبْطِلُ الْمَنْصُوصَةَ دُونَ الْمُسْتَنْبَطَةِ، عَكْسُ مَا قَبْلَهُ. حَكَاهُ ابْنُ رَحَّالٍ فِي " شَرْحِ الْمُقْتَرَحِ ". وَيَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلَى الْمَنْصُوصَةِ بِغَيْرِ قَطْعِيٍّ.

وَالْخَامِسُ: لَا يَقْدَحُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ إذَا كَانَ لِمَانِعٍ أَوْ شَرْطٍ، وَيَقْدَحُ فِي الْمَنْصُوصَةِ حَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ. وَقَدْ أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ وَقَالُوا: لَعَلَّهُ فُهِمَ مِنْ كَلَامِ الْآمِدِيَّ، وَعِنْدَ التَّأَمُّلِ يَنْدَفِعُ مِنْ كَلَامِهِ وَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ رَحَّالٍ أَيْضًا فِي " شَرْحِ الْمُقْتَرَحِ ".

ص: 331

وَالسَّادِسُ: لَا يَقْدَحُ حَيْثُ وُجِدَ مَانِعٌ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَتْ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً أَوْ مُسْتَنْبَطَةً. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَانِعٌ قَدَحَ. وَاخْتَارَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَالْهِنْدِيُّ. وَفَقْدُ الشَّرْطِ مُلْحَقٌ بِالْمَانِعِ.

وَالسَّابِعُ: يَجُوزُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ فِي صُورَتَيْنِ وَلَا يَقْدَحُ فِيهِمَا، وَهُمَا مَا إذَا كَانَ التَّخَلُّفُ لِمَانِعٍ أَوْ انْتِفَاءِ شَرْطٍ، وَلَا يَجُوزُ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَقْدَحُ فِيهَا، وَهِيَ مَا إذَا كَانَ التَّخَلُّفُ دُونَهُمَا. وَأَمَّا الْمَنْصُوصَةُ فَإِنْ كَانَ النَّصُّ ظَنِّيًّا وَقُدِّرَ مَانِعٌ أَوْ فَوَاتُ شَرْطٍ جَازَ. وَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا لَمْ يَجُزْ، أَيْ لَمْ يُمْكِنْ وُقُوعُهُ، لِأَنَّ الْحُكْمَ لَوْ تَخَلَّفَ لَتَخَلَّفَ الدَّلِيلُ، وَهُوَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا، لِاسْتِحَالَةِ تَعَارُضِ الْقَطْعِيَّيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا لَا ظَنِّيًّا، لِأَنَّ الظَّنِّيَّ لَا يُعَارِضُ الْقَطْعِيَّ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ الْحَاجِبِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ تَفْصِيلِ الْآمِدِيَّ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي الْمَنْصُوصَةِ إلَّا بِظَاهِرٍ عَامٍّ، وَلَا فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ إلَّا لِمَانِعٍ أَوْ فَقْدِ شَرْطٍ، وَالْمَنْعُ ظَاهِرٌ فِي النَّصِّ الْقَطْعِيِّ إذَا لَمْ يَكُنْ مَانِعٌ وَلَا فَوَاتُ شَرْطٍ، فَإِنْ كَانَ فَلَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْمَانِعُ أَوْ الشَّرْطُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُخَصِّصًا لِلنَّصِّ الْقَطْعِيِّ إلَّا أَنْ يُقَدِّرُوا أَنَّ دَلَالَةَ النَّصِّ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِهِ قَطْعِيَّةٌ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُ التَّخَلُّفُ.

وَالثَّامِنُ: حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ، أَنَّهُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ عِلَّةِ الْحِلِّ وَالْوُجُوبِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا يَكُونُ حَظْرًا (قَالَ) : وَحَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: لَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ عَنْ قَبِيحٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى قَبِيحٍ، وَيَصِحُّ الْإِقْدَامُ عَلَى عِبَادَةٍ مَعَ تَرْكِ أُخْرَى.

وَالتَّاسِعُ: إنْ انْتَقَضَتْ عَلَى أَصْلٍ مَنْ نَصَبَ عِلِّيَّتَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ بِهَا الْحُكْمُ، وَإِنْ اطَّرَدَتْ عَلَى أَصْلِ مَنْ أَوْرَدَهَا أُلْزِمَ حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ (قَالَ) : وَهُوَ حَشْوٌ مِنْ الْكَلَامِ لَوْلَا أَنَّهُ أَوْدَعَ كِتَابًا مُسْتَعْمَلًا لَكَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى.

ص: 332

وَالْعَاشِرُ: أَنَّهُ يَمْنَعُ الْمُسْتَدِلَّ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْمَنْقُوضِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ يَكُونُ صَحِيحًا وَيَنْقُضُهُ الْمُسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَكُونُ انْتِقَاضُهُ عَلَى أَصْلِهِ دَلِيلًا عَلَى فَسَادِ دَلِيلِهِ فِي نَفْسِهِ. حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ.

وَالْحَادِيَ عَشَرَ: إنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مُؤَثِّرَةً لَمْ يَرِدْ النَّقْضُ عَلَيْهَا، لِأَنَّ تَأْثِيرَهَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ. وَمِثْلُهُ لَا يُنْقَضُ، وَإِنَّمَا تَجِيءُ الْمُنَاقَضَةُ عَلَى الطَّرْدِ. حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ أَبِي زَيْدٍ، وَرَدَّهُ بِأَنَّ النَّقْضَ يُثِيرُ فَقْدَ تَأْثِيرِ الْعِلَّةِ.

وَالثَّانِي عَشَرَ: وَهُوَ اخْتِيَارُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ: إنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مُسْتَنْبَطَةً، فَإِنْ اتَّجَهَ فَرْقٌ بَيْنَ مَحَلِّ التَّعْلِيلِ وَبَيْنَ صُورَةِ النَّقْضِ بَطَلَتْ عِلِّيَّتُهُ، لِكَوْنِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا جُزْءًا مِنْ الْعِلَّةِ وَلَيْسَتْ عِلَّةً تَامَّةً. وَإِنْ لَمْ يَتَّجِهْ فَرْقٌ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ أَوْ ثَابِتًا بِمَسْلَكٍ قَاطِعٍ سَمْعِيٍّ بَطَلَتْ عِلِّيَّتُهُ أَيْضًا فَإِنَّهُ مُنَاقَضٌ بِهَا وَتَارِكٌ لِلْوَفَاءِ بِحُكْمِ الْعِلَّةِ. وَإِنْ طَرَدَ مَسْأَلَةً إجْمَاعِيَّةً لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَحَلِّ الْعِلَّةِ فَهُوَ مَوْضِعُ التَّوَقُّفِ، فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ فِيهَا عَلَى مُنَاقَضَةِ عِلِّيَّةِ الْعِلَلِ تَعَلُّلًا بِعِلَّةٍ مَعْنَوِيَّةٍ جَارِيَةٍ فَوُرُودُهَا يَنْقُضُ الْعِلَّةَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مَنَعَتْ الْعِلَّةَ مِنْ الْجَرَيَانِ وَعَارَضَهَا تَقْصِيرٌ، وَهِيَ آكِدٌ فِي الْإِبْطَالِ مِنْ الْمُعَارَضَةِ، فَإِنَّ عِلَّةَ الْمُعَارَضَةِ لَا تَعْرِضُ لِعِلَّةِ الْمُسْتَدِلِّ وَهَذِهِ مُتَعَرِّضَةٌ لَهَا. هَذَا رَأْيُهُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ النَّقْضَ قَادِحٌ فِيمَا إذَا لَمْ يَقْدَحْ فَرْقٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ فِي الصُّورَةِ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا بِقَطْعِيٍّ، أَوْ كَانَ ثَابِتًا بِإِجْمَاعٍ وَفِي مَحَلِّ النَّقْضِ يَعْنِي تَعَارُضَ الْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُسْتَدِلُّ وَمَنَعَهَا مِنْ الْجَرَيَانِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَالتَّوَقُّفُ. وَقَالَ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ فِي " مُخْتَصَرِ الْبُرْهَانِ ": الصَّوَابُ فِي هَذَا أَنْ يَنْظُرَ: فَإِنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ الْمُعَارِضَةُ لِعِلَّةِ الْمُعَلِّلِ فِي الصُّورَةِ الْمُنَاقِضَةِ أَقْوَى فِي الْمُنَاسَبَةِ لَمْ تَبْطُلْ عِلَّتُهُ، لِأَنَّ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ لِعَارِضٍ رَاجِحٌ. وَإِنْ كَانَتْ أَدْنَى بَطَلَتْ، وَإِنْ تَسَاوَتَا فَالْوَقْفُ (انْتَهَى) .

ص: 333

وَأَمَّا الْمَنْصُوصَةُ فَإِنْ كَانَتْ بِنَصٍّ ظَاهِرٍ فَيَظْهَرُ بِمَا أَوْرَدَهُ الْمُعْتَرِضُ أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُرِدْ التَّعْلِيلَ بِأَنْ ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْ مُقْتَضَى لَفْظِهِ، فَتَخْصِيصُ الظَّاهِرِ وَإِنْ كَانَ بِنَصٍّ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ فَإِنْ عَمَّ بِصِيغَةٍ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا تَخْصِيصٌ فَلَا مَطْمَعَ فِي تَخْصِيصِهَا، لِقِيَامِ الْقَطْعِ عَلَى الْعِلِّيَّةِ وَجَرَيَانِهَا عَلَى اطِّرَادٍ، وَنَصُّ الشَّارِعِ لَا يُصَادِمُ، وَإِنْ نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى شَيْءٍ وَعَلَى تَخْصِيصِهِ فِي كَوْنِهِ عِلَّةً لِمَسَائِلَ مَعْدُودَةٍ فَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ.

وَقَالَ إلْكِيَا: مَيْلُ الْإِمَامِ إلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يَتَّجِهُ فِي صُورَةِ النَّقْضِ مَعْنًى أَمْكَنَ تَقْدِيرُ مُشَابَهَةِ مَحَلِّ النِّزَاعِ إيَّاهَا فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى فَلَا يُعَدُّ نَقْضًا، فَإِنَّ مَنْشَأَ النَّقْضِ عِنْدَهُ أَنْ يُبَيِّنَ كَوْنَ مَحَلِّ النِّزَاعِ نَازِعًا إلَى أَصْلَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ. فَإِنَّهُ إذَا كَانَتْ شَهَادَةُ الْأَصْلِ مُتَأَيِّدَةً بِالْمَعْنَى فَلَا شَهَادَةَ بِصُورَةِ النَّقْضِ مِنْ حَيْثُ لَا مُشَابَهَةَ فَاعْتِبَارُ وَجْهِ الشَّهَادَةِ أَوْلَى. قَالَ إلْكِيَا: وَهَذَا حَسَنٌ بَيِّنٌ، فَلَوْ كَانَ يَتَّجِهُ مَعَهُ وَلَوْ عَلَى بُعْدٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يُعَدُّ نَقْضًا. وَحَاصِلُهُ أَنَّ النَّقْضَ لَا يُبْطِلُ أَصْلَ الدَّلَالَةِ وَلَكِنْ يَقْدَحُ فِي ثُبُوتِهَا فَلَا يَتَبَيَّنُ بِهِ انْعِدَامُهُ. قَالَ إلْكِيَا: وَاَلَّذِي عِنْدَنَا أَنَّ مَا لَا يُبَيَّنُ بِهِ مُعَيَّنٌ وَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ وَجْهُ تَشْبِيهٍ فَهُوَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ ظُهُورِ اسْتِثْنَاءٍ فِي مَقْصُودِ الشَّرْعِ. هَذَا فِي الْعِلَلِ الْمُخَيَّلَةِ، أَمَّا الْأَشْبَاهُ فَسَتَأْتِي مَرَاتِبُهَا. ثُمَّ قَالَ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ شَهَادَةَ الْعِلَّةِ إنْ تَرَجَّحَتْ قَطْعًا عَلَى شَهَادَةِ صُورَةِ النَّقْضِ لِمَحَلِّ النِّزَاعِ فَلَا نَقْضَ بِهِ. فَعَلَى هَذَا النَّقْضُ لَيْسَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ وَلَكِنْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمُعَارَضَةِ، وَفِيهَا مَزِيدُ قُوَّةٍ لِمَا تَقَدَّمَ.

وَالثَّالِثَ عَشَرَ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ فَقَالَ: تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْ الْعِلَّةِ لَهُ ثَلَاثُ صُوَرٍ:

إحْدَاهَا: أَنْ يَعْرِضَ فِي جَرَيَانِ الْعِلَّةِ مَا يَقْتَضِي عَدَمَ اطِّرَادِهَا، وَهُوَ

ص: 334

يَنْقَسِمُ إلَى: مَا يَظْهَرُ أَنَّهُ وَرَدَ مُسْتَثْنًى عَنْ الْقِيَاسِ مَعَ اسْتِيفَاءِ قَاعِدَةِ الْقِيَاسِ، فَلَا يُفْسِدُ الْعِلَّةَ بَلْ يُخَصِّصُهَا بِمَا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى، فَيَكُونُ عِلَّةً فِي غَيْرِ مَحَلِّ الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَرِدَ عَلَى عِلَّةٍ مَقْطُوعَةٍ، كَإِيجَابِ صَاعٍ مِنْ التَّمْرِ فِي الْمُصَرَّاةِ وَضَرْبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، أَوْ مَظْنُونَةٍ، كَالْعَرَايَا، فَإِنَّهَا لَا تَقْتَضِي التَّعْلِيلَ بِالطُّعْمِ إذْ فُهِمَ أَنَّ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءٌ لِرُخْصَةِ الْحَاجَةِ وَلَمْ يَرِدْ وُرُودَ النَّسْخِ لِلرِّبَا. وَدَلِيلُ كَوْنِهِ يُسْتَثْنَى أَنَّهُ يَرِدُ عَلَى كُلِّ عِلَّةٍ، كَالْكَيْلِ وَغَيْرِهِ.

وَأَمَّا إذَا لَمْ يَرِدْ مَوْرِدَ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنْ كَانَتْ مَنْصُوصَةً قَدَحَ، لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بَعْدَ النَّقْضِ أَنَّ النَّصَّ إنَّمَا فِيهِ بَعْضُ الْعِلَّةِ وَجُزْؤُهَا، فَإِنْ قَيَّدَهُ فِي الْعِلَّةِ تَمَّتْ، كَقَوْلِنَا: خَارِجٌ فَتَنْتَقِضُ الطَّهَارَةُ، أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ:(الْوُضُوءُ مِمَّا خَرَجَ) ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَتَوَضَّأْ عَنْ الْحِجَامَةِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ الْعِلَّةَ بِتَمَامِهَا لَمْ تُذْكَرْ فِي الْحَدِيثِ وَأَنَّ الْعِلَّةَ إنَّمَا هِيَ الْخَارِجُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ فَكَانَ مُطْلَقُ الْخُرُوجِ بَعْضَ الْعِلَّةِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَجَبَ تَأْوِيلُ التَّعْلِيلِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} [الحشر: 2] ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13] وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُشَاقِقْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّهُ يُعَذَّبُ فَتَكُونُ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ عِلَّةٌ فِي حَقِّهِمْ خَاصَّةً لِأَنَّهُ يُعَدُّ تَهَافُتًا فِي الْكَلَامِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّلَ بِذَلِكَ لَيْسَ هُوَ التَّخْرِيبُ الْمَذْكُورُ، بَلْ هُوَ لَازِمُهُ أَوْ جُزْؤُهُ الْأَعَمُّ، وَهُوَ كَوْنُهُ عَذَابًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُشَاقِقْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّهُ يُعَذَّبُ بِخَرَابِ الْبَيْتِ أَوْ بِغَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مُسْتَنْبَطَةً فَإِنْ انْقَدَحَ جَوَابٌ عَنْ مَحَلِّ النَّقْضِ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ لَيْسَ تَمَامَ الْعِلَّةِ. وَإِنْ لَمْ يَنْقَدِحْ جَوَابٌ مُنَاسِبٌ وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ

ص: 335

النَّقْضُ دَلِيلًا عَلَى فَسَادِ الْعِلَّةِ وَأَنْ يَكُونَ مُعَرِّفًا لِتَخْصِيصِهَا، فَهَذَا يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بَيْنَهُمْ فِي الْجَدَلِ لِلْمُنَاظِرِ. وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ الْمُنَاظِرُ فَيُحْتَمَلُ إلْحَاقُهُ بِهِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ اعْتِقَادُ فَسَادِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعْتَقِدَ اسْتِنَادَهُ رُخْصَةً.

الثَّانِيَةُ: أَنْ تَنْتَفِيَ الْعِلَّةُ، لَا لِخَلَلٍ فِي نَفْسِهَا، لَكِنْ يَنْدَفِعُ الْحُكْمُ عَنْهُ بِمُعَارَضَةِ عِلَّةٍ أُخْرَى، فَهَذَا لَا يَرِدُ نَقْضًا لِأَنَّ الْحُكْمَ حَاصِلٌ فِيهِ تَقْدِيرًا. كَقَوْلِنَا: إنَّ عِلَّةَ رِقِّ الْوَلَدِ مِلْكُ الْأُمِّ ثُمَّ وَجَدْنَا الْمَغْرُورَ بِحُرِّيَّةِ أُمِّهِ يَنْعَقِدُ وَلَدُهُ حُرًّا، فَقَدْ وُجِدَ رِقُّ الْأُمِّ وَانْتَفَى رِقُّ الْوَلَدِ. لَكِنْ عَارَضَتْهُ عِلَّةٌ أُخْرَى وَهِيَ وُجُوبُ الْغُرْمِ عَلَى الْمَغْرُورِ، وَلَوْلَا أَنَّ الرِّقَّ فِي حُكْمِ الْحَاصِلِ الْمُنْدَفِعِ لَمْ تَجِبْ قِيمَةُ الْوَلَدِ.

الثَّالِثَةُ: أَنْ يَمِيلَ النَّقْضُ عَنْ صَوْبِ جَرَيَانِ الْعِلَّةِ وَيَتَخَلَّفُ الْحُكْمُ لَا لِخَلَلٍ فِي رُكْنِ الْعِلَّةِ لَكِنْ لِعَدَمِ مُصَادَفَتِهَا مَحَلَّهَا وَشَرْطَهَا وَأَهْلَهَا. كَقَوْلِنَا: السَّرِقَةُ عِلَّةُ الْقَطْعِ، وَقَدْ وُجِدَتْ فِي حَقِّ النَّبَّاشِ، فَيَنْتَقِضُ بِسَرِقَةِ الصَّبِيِّ وَنَحْوِهِ، أَوْ دُونَ النِّصَابِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ. فَهَذَا لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ، لِأَنَّ نَظَرَهُ فِي تَحْقِيقِ الْعِلَّةِ دُونَ شَرْطِهَا وَمَحَلِّهَا، فَهُوَ مَائِلٌ عَنْ صَوْبِ نَظَرِهِ. أَمَّا الْمُنَاظِرُ فَهَلْ يَلْزَمُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ أَمْ يُقْبَلُ مِنْهُ الْعُذْرُ بِأَنَّ هَذَا مُنْحَرِفٌ عَنْ مَقْصِدِ النَّظَرِ، وَلَيْسَ الْبَحْثُ عَنْ الْمَحَلِّ وَالشَّرْطِ. وَاخْتَلَفَ فِيهِ الْجَدَلِيُّونَ، وَالْخَطْبُ فِيهِ سَهْلٌ، وَتَكْلِيفُ الِاحْتِرَازِ جَمْعٌ لِنَشْرِ الْكَلَامِ، وَهُوَ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ.

وَقَسَّمَ ابْنُ الْقَطَّانِ النَّقْضَ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مُنْتَقَضَةً عَلَى أَصْلِ السَّائِلِ وَالْمَسْئُولِ، فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلسَّائِلِ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهَا، لِأَنَّهُمَا قَدْ اتَّفَقَا عَلَى إبْطَالِهَا.

ثَانِيهَا: أَنْ تَكُونَ صَحِيحَةً عَلَى أَصْلِهِمَا جَمِيعًا، فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمَسْئُولَ الْمَصِيرُ إلَيْهَا، إلَّا أَنْ يَدْفَعَهَا بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْإِبْطَالِ. كَقَوْلِ الْعِرَاقِيِّ

ص: 336

يَسْأَلُ الشَّافِعِيُّ عَنْ الْمُتَكَلِّمِ فِي الصَّلَاةِ سَاهِيًا فَقَالَ: لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ قِيَاسًا عَلَى مَنْ وَطِئَ فِي حَجِّهِ نَاسِيًا. لِأَنَّا قَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى بُطْلَانِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ تَعَمَّدَ بَطَلَ. فَلِلشَّافِعِيِّ أَنْ يَقُولَ: هَذَا لَا يَلْزَمُ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَلَى أَصْلِيَ، لِأَنَّ مِنْ أَصْلِيَ أَنَّ مَنْ وَطِئَ فِي صَوْمِهِ وَأَكَلَ نَاسِيًا لَمْ يَبْطُلْ. وَلَوْ وَطِئَ عَامِدًا يَبْطُلْ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ غَيْرَ هَذِهِ الْعِلَّةِ. فَإِنْ قَالَ السَّائِلُ: إنِّي أَلْزَمْتُك هَذَا لِتَقُولَ بِهِ فِي كُلِّ فُرُوعِك، فَلِلْمَسْئُولِ أَنْ يَقُولَ: لَا يَلْزَمُنِي - لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ السَّائِلِ أَنْ يُسَلِّمَ لِلْمَسْئُولِ أُصُولَهُ كُلَّهَا مَا خَلَا الْمَسْأَلَةَ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا.

وَثَالِثُهَا: أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ جَارِيَةً عَلَى أَصْلِ الْمَسْئُولِ مُنْتَقَضَةً عَلَى أَصْلِ السَّائِلِ، كَالْعِرَاقِيِّ يَسْأَلُ الشَّافِعِيَّ عَنْ الْحَائِضِ إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا هَلْ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَقْرَبَهَا؟ فَقَالَ: لَا. فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: لِمَ قُلْت بِالْجَوَازِ؟ وَيَكُونُ دَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّا قَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنْ يَجُوزَ لِزَوْجِهَا أَنْ يَقْرَبَهَا، وَكَانَ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ جَوَازَ الصَّوْمِ لَهَا، وَكُلُّ مَنْ جَازَ لَهُ الصَّوْمُ جَازَ لَهُ الْقُرْبَانُ. فَلِلشَّافِعِيِّ أَنْ يَقُولَ: لَا يَلْزَمُ، لِأَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً عَلَى أَصْلِي فَهِيَ بَاطِلَةٌ عَلَى أَصْلِك فَلَا يَجُوزُ لَك إلْزَامُهَا. وَذَلِكَ أَنَّ دَمَهَا لَوْ انْقَطَعَ دُونَ الْعَشْرِ عِنْدَك لَجَازَ لَهَا أَنْ تَصُومَ وَلَمْ يَجُزْ لِزَوْجِهَا أَنْ يَقْرَبَهَا. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ: لَا يَجُوزُ لِلْمَسْئُولِ أَنْ يَنْقُضَ عِلَّةَ السَّائِلِ بِأَصْلِ نَفْسِهِ، وَأَجَازَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَانَ الْجُرْجَانِيُّ مِنْهُمْ يَسْتَعْمِلُهُ. وَذَكَرَهُ فِي تَصْنِيفِهِ الْمُسَمَّى بِ " التَّهْذِيبِ ". قَالَ الْقَاضِي: وَسَأَلْت الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ الْأَشْعَرِيَّ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَهُ وَجْهٌ فِي الِاحْتِمَالِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: مَهْرُ الْمِثْلِ يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، لِأَنَّهُ يَسْتَقِرُّ بِالدُّخُولِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَصَّفَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَهُ أَصْلُهُ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، فَيَقُولُ الْمَسْئُولُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: هَذَا يَنْتَقِضُ عَلَى أَصْلِيَ بِالْمُسَمَّى بَعْدَ الْعَقْدِ، فَإِنَّهُ يَسْتَقِرُّ بِالْوَطْءِ وَلَا يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَهُ وَإِنَّمَا يَسْقُطُ جَمِيعُهُ كَمَا يَسْقُطُ جَمِيعُ مَهْرِ الْمِثْلِ. أَوْ يَقُولُ الْمُخَالِفُ: لَا يَجِبُ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا السُّكْنَى، لِأَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا، قِيَاسًا عَلَى الْمُعْتَدَّةِ مِنْ وَطْءِ الشُّبْهَةِ، فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: هَذَا يَنْتَقِضُ بِالْمُطَلَّقَةِ الْبَائِنِ الْحَائِلِ، فَإِنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَيَجِبُ السُّكْنَى.

ص: 337

تَنْبِيهَاتٌ:

الْأَوَّلُ: كَمَا يَجْرِي الْخِلَافُ فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ فَكَذَلِكَ يَجْرِي فِي الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ، وَأَنَّهُ يَتَخَلَّفُ عَنْهَا مَعْلُولُهَا، فَأَجَازَهُ الْفَلَاسِفَةُ وَمَنَعَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ. حَكَاهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ رحمه الله. لَكِنَّ الْأُسْتَاذَ حَكَى إجْمَاعَ الْجَدَلِيِّينَ عَلَى أَنَّ الدَّلِيلَ الْعَقْلِيَّ لَا يُخَصَّصُ، وَعَلَى أَنَّ تَخْصِيصَهُ نَقْضٌ لَهُ، وَعَلَى أَنَّ نَقْضَهُ يَمْنَعُ عَنْ التَّعَلُّقِ بِهِ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: الْعِلَلُ الْعَقْلِيَّةُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا بِلَا خِلَافٍ.

الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ فُرُوعِ الْقَوْلِ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ، فَإِنْ جَوَّزْنَا تَخْصِيصَهَا لَمْ يَتَّجِهْ الْقَدْحُ بِالنَّقْضِ، وَإِلَّا اتَّجَهَ.

الثَّالِثُ: ادَّعَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَانِ " أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ لَا مَعْنَوِيٌّ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَالْبَيْضَاوِيِّ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ الْغَزَالِيُّ. وَأَنَّهُ يُلْتَفَتُ إلَى تَفْسِيرِ الْعِلَّةِ بِمَاذَا؟ إنْ فُسِّرَتْ بِالْمُوجِبَةِ فَلَا تُتَصَوَّرُ عِلِّيَّتُهَا مَعَ الِانْتِقَاضِ، أَوْ الْمُعَرِّفَةِ فَتُصُوِّرَتْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ الْخِلَافُ بِلَفْظِيٍّ. وَلَهُ فَوَائِدُ:(إحْدَاهَا) جَوَازُ التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ أَمْ لَا (الثَّانِيَةُ) أَنَّ مَنْ مَنَعَ التَّخْصِيصَ لَا يُجَوِّزُ أَصْلًا تَطَرُّقُهُ إلَى نَصِّ الشَّارِعِ عَلَى التَّعْلِيلِ بِهِ. وَإِنْ أُومِئَ إلَيْهِ تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إيمَاءً إلَى التَّعْلِيلِ لِوُرُودِ التَّخْصِيصِ. وَالْمُجَوِّزُ لِلتَّخْصِيصِ يَقُولُ: يَبْقَى ذَلِكَ عِلَّةً فِي مَحَلِّهِ. ذَكَرَهَا الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ ". (الثَّالِثَةُ) : انْقِطَاعُ الْمُسْتَدِلِّ، إنْ قُلْنَا: يُقْدَحُ، وَعَدَمُ انْقِطَاعِهِ إنْ مَنَعْنَاهُ.

الرَّابِعُ: هَلْ يُسْمَعُ مِنْ الْجَدَلِيِّ قَوْلُنَا: أَرَدْت بِالْعُمُومِ الْخُصُوصَ أَوْ لَا؟ فَالْقَائِلُونَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ يَسْمَعُونَهُ، وَالْمَانِعُونَ لَا يَسْمَعُونَهُ. وَقَدْ نَقَلَ

ص: 338

إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " تَدْرِيسِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ " عَلَّقَهُ عَنْهُ بَعْضُ تَلَامِذَتِهِ، أَنَّ الْأُسْتَاذَ أَبَا إِسْحَاقَ قَالَ: إطْلَاقُ اللَّفْظِ الْعَامِّ وَالْمُرَادُ بِهِ الْبَعْضُ سَائِغٌ. وَأَمَّا الْمُعَلِّلُ بِلَفْظٍ عَامٍّ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ إذَا نُقِضَ عَلَيْهِ كَلَامُهُ وَقَالَ: إنَّمَا أَرَدْت كَذَا، إذْ لَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَمَا تُصُوِّرَ إبْطَالُ عِلَّةٍ أَصْلًا. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا إنَّمَا يُخَاطِبُ لِيُفْهِمَ صَاحِبَهُ وَيَفْهَمَ عَنْهُ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ لَهُ أَنْ يُبَيِّنَ وَيُؤَخِّرَ الْبَيَانَ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ وَيُخَاطِبَ بِمُحْتَمَلٍ، وَلَا يَجُوزُ لِوَاحِدٍ مِنَّا أَنْ يُعَلِّلَ الْعِلَّةَ مُجْمَلَةً وَيُفَسِّرَهَا. (قَالَ) : وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ (قَالَ) : وَمُجَوِّزُهُ لَا يُمَيِّزُ. انْتَهَى.

وَهَذَا الَّذِي نَقَلَهُ عَنْ الْأُسْتَاذِ قَدْ يَسْتَشْكِلُ بِمَا حَكَاهُ فِي " الْبُرْهَانِ " عَنْ الْأُسْتَاذِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ فِي عِلَّةِ الشَّارِعِ: يَجِبُ اطِّرَادُهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ عَلَيْهَا مَا يُخَالِفُ طَرْدَهَا. وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ وُرُودَهَا فِي كَلَامِ الشَّارِعِ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ مَحَلَّ النَّقْضِ وَأَنَّهُ إنَّمَا جَعَلَهَا عِلَّةً فِيمَا وَرَاءَهُ، وَذَلِكَ مَقْبُولٌ مِنْهُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يُسْمَعُ مِنْهُ قَوْلُهُ بَعْدَ الْإِطْلَاقِ: إنَّمَا أَرَدْت أَنَّهَا عِلَّةٌ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ الْمُخْرَجِ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يُسْمَعُ لِأَنَّهُ كَالدَّعْوَى بَعْدَ الْإِقْرَارِ.

وَقَالَ صَاحِبُ " الْمَحْصُولِ ": قَوْلُهُمْ: إنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ مَرْدُودٌ، لِأَنَّهُ إذَا فَسَّرْنَا الْعِلَّةَ بِالدَّاعِي أَوْ بِالْمُوجِبِ لَمْ نَجْعَلْ الْعَدَمَ جُزْءًا مِنْ الْعِلَّةِ، بَلْ كَاشِفًا عَنْ حُدُوثِ الْعِلَّةِ، وَمَنْ يُجَوِّزُ التَّخْصِيصَ لَا يَقُولُ بِذَلِكَ. وَإِنْ فَسَّرْنَا بِالْأَمَارَةِ ظَهَرَ الْخِلَافُ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَنْ أَثْبَتَ الْعِلَّةَ بِالْمُنَاسَبَةِ بَحَثَ عَنْ ذَلِكَ الْقَيْدِ الْعَدَمِيِّ، فَإِنْ وَجَدَ فِيهِ مُنَاسَبَةً صَحَّحَ الْعِلَّةَ وَإِلَّا أَبْطَلَهَا. وَمَنْ يُجَوِّزُ التَّخْصِيصَ لَا يَطْلُبُ الْمُنَاسَبَةَ أَلْبَتَّةَ مِنْ هَذَا الْقَيْدِ. وَمَا ذَكَرُوا مِنْ تَكَرُّرِ وُجُودِ الْغَيْمِ وَلَا مَطَرَ مَعَ أَنَّ كَوْنَهَا أَمَارَةً لَمْ يَزُلْ، قَدْ رَدَّهُ

ص: 339

ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فَقَالَ: الْأَمَارَةُ وَإِنْ لَمْ تَزُلْ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ تَضْعُفَ، وَلَا بُدَّ فِي الْأَمَارَةِ مِنْ تَوَفُّرِ الْقُوَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لِأَنَّ هَذَا ظَنٌّ يُثِيرُ حُكْمًا شَرْعِيًّا، فَلَا بُدَّ مِنْ بُلُوغِهِ نِهَايَةَ الْقُوَّةِ، وَأَنْ لَا يُتَوَهَّمَ قُوَّةٌ مِنْ الظَّنِّ وَرَاءَ قُوَّتِهِ حَتَّى يُعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ، وَذَلِكَ لِوُجُودِ الِاطِّرَادِ حَتَّى لَا تَتَخَلَّفَ هَذِهِ الْأَمَارَةُ فِي مَوْضِعٍ مَا، فَإِذَا تَخَلَّفَتْ لَمْ تَتَوَفَّرْ الْقُوَّةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ (قَالَ) : وَهَذَا جَوَابٌ حَسَنٌ اعْتَمَدْتُهُ، وَهُوَ مَحَلُّ الِاعْتِمَادِ.

الْخَامِسُ: إذَا ذَكَرَ عِلَّةً فَنُقِضَ عَلَيْهِ بِمَا خَصَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَهَلْ يَلْزَمُ ذَلِكَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ.

أَحَدُهُمَا: لَا، لِأَنَّ الْمَخْصُوصَ فِي حُكْمِ الْمَنْسُوخِ فَلَا تُنْقَضُ الْعِلَّةُ بِهِ.

وَالثَّانِي: نَعَمْ، لِأَنَّ نَقْضَ الْعِلَّةِ بِحُكْمٍ فِي الشَّرْعِ، فَأَشْبَهَ النَّقْضَ بِمَا لَا يُخَصُّ بِهِ.

ص: 340

فَصْلٌ

إذَا فَرَّعْنَا عَلَى أَنَّ التَّخَلُّفَ لَا يَقْدَحُ فِي الْعِلِّيَّةِ فَوَاضِحٌ، وَطَرِيقُهُ فِي الدَّفْعِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ صُورَةَ النَّقْضِ مُسْتَثْنَاةٌ بِالنَّصِّ أَوْ بِالْإِجْمَاعِ، أَوْ يُظْهِرُ الْمُعَلِّلُ مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، كَمَا لَوْ قَالَ: يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْمُثْقَلِ قِيَاسًا عَلَى الْمُحَدَّدِ، فَإِنْ نُقِضَ بِقَتْلِ الْوَالِدِ فَإِنَّ الْوَصْفَ فِيهِ مَعَ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ، قُلْنَا: تَخَلَّفَ لِمَانِعٍ، وَهُوَ أَنَّ الْوَالِدَ سَبَبٌ لِوُجُودِ الْوَلَدِ، فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِانْعِدَامِهِ. وَإِنْ فَرَّعْنَا عَلَى أَنَّهُ يَقْدَحُ فَلَا بُدَّ مِنْ مَنْعِهِ، وَلَهُ طُرُقٌ:

أَحَدُهَا: - مَنْعُ وُجُودِ الْعِلَّةِ بِتَمَامِهَا فِي صُورَةِ النَّقْضِ، لَا عِنَادًا، بَلْ بِنَاءً عَلَى وُجُودِ قَيْدٍ مُنَاسِبٍ أَوْ مُؤَثِّرٍ فِي الْعِلَّةِ، وَهُوَ غَيْرُ حَاصِلٍ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، كَقَوْلِنَا: طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ فَشَرْطٌ فِيهَا النِّيَّةُ، كَالتَّيَمُّمِ. فَإِنْ نُقِضَ بِالطَّهَارَةِ عَنْ النَّجَاسَةِ، قُلْنَا: لَيْسَ الْحَدَثُ كَالنَّجَاسَةِ. وَقَوْلُنَا فِيمَنْ لَمْ يَنْوِ فِي رَمَضَانَ لَيْلًا: تَعَرَّى أَوَّلَ صَوْمِهِ عَنْ النِّيَّةِ فَلَا يَصِحُّ. فَإِنْ نُقِضَ بِالتَّطَوُّعِ قُلْنَا: الْعِلَّةُ عَدَا أَوَّلُ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ لَا مُطْلَقُ الصَّوْمِ.

وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: سَأَلْت بَعْضَ شُيُوخِ الشَّافِعِيَّةِ عَنْ التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ، فَقَالَ: لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَرْجِعُ إلَى شَطْرِهَا لِعُذْرٍ فَكَانَ التَّرْتِيبُ مِنْ شَرْطِهَا. أَصْلُهُ الصَّلَاةُ. فَيَنْقُضُهُ بِغُسْلِ الْجَنَابَةِ، فَقَالَ: إنَّمَا عَلَّلْتُ لِإِلْحَاقِ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ بِالْآخَرِ، وَهُوَ نَوْعُ طَهَارَةِ الْحَدَثِ بِنَوْعِ الصَّلَاةِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي طَهَارَةٍ فِيهَا تَرْتِيبٌ وَاجِبٌ. فَأَمَّا تَعْيِينُ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ فَلَمْ أَقْصِدْ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا قَالَ الْمُعْتَرِضُ: مَا ذَكَرْت مِنْ الْعِلَّةِ مَنْقُوضٌ بِكَذَا فَلِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ، وَيُطَالِبَهُ بِالدَّلِيلِ عَلَى وُجُودِهَا فِي مَحَلِّ النَّقْضِ. وَهَذِهِ الْمُطَالَبَةُ مَمْنُوعَةٌ بِالِاتِّفَاقِ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إمَّا أَنْ يَكُونَ وُجُودُهَا فِي صُورَةِ النَّقْضِ ظَاهِرًا أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَ كَقَوْلِهِمْ: طَهَارَةٌ تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ،

ص: 341

فَإِنَّ تَحَقُّقَ الطَّهَارَةِ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ مَعْلُومٌ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي صُورَةِ التَّخَلُّفِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَقَوْلِهِ: الطُّعْمُ عِلَّةُ الرِّبَا، فَيَقُولُ: هُوَ مَنْقُوضٌ بِالطِّينِ أَوْ الْمَاءِ، فَيَمْنَعُ الْمُعَلِّلُ وُجُودَ الطُّعْمِ فِي الْمَاءِ فَهَلْ لِلْمُعْتَرِضِ الِاسْتِدْلَال عَلَى وُجُودِهَا؟ قَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ مَسْأَلَةٍ قَبْلَ تَمَامِهَا إلَى أُخْرَى، لِأَنَّهُ انْتَقَلَ مِنْ دَعْوَى وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ إلَى دَعْوَى وُجُودِ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ، وَلِأَنَّ فِيهِ قَلْبَ الْقَاعِدَةِ، إذْ يَصِيرُ الْمُعْتَرِضُ مُسْتَدِلًّا وَالْمُسْتَدِلُّ مُعْتَرِضًا. وَقِيلَ: يُمْكِنُ مِنْهُ تَحْقِيقًا لِلنَّقْضِ.

وَقَالَ الْآمِدِيُّ: إنْ تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِلْمُعْتَرِضِ فِي هَدْمِ كَلَامِ الْمُسْتَدِلِّ وَجَبَ قَبُولُهُ مِنْهُ، تَحْقِيقًا لِفَائِدَةِ الْمُنَاظَرَةِ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ الْقَدَحُ بِطَرِيقٍ آخَرَ فَلَا يُمَكَّنُ الْمُعْتَرِضُ مَا لَمْ تَكُنْ الْعِلَّةُ حُكْمًا شَرْعِيًّا. كَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ. وَقَالَ الْقُطْبُ الشِّيرَازِيُّ: لَمْ أَجِدْهُ فِي سِوَاهُ. وَتَبِعَهُ الشَّارِحُونَ، وَهُوَ عَجَبٌ، فَلَمْ يَذْكُرْ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَرَوِيِّ تِلْمِيذُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى فِي كِتَابِهِ " الْمُقْتَرَحِ " غَيْرَهُ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الشَّرْعِيِّ وَغَيْرِهِ بِنَشْرِ الْكَلَامِ فِيهِ جِدًّا بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَبِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ قَرِيبٌ.

وَجَزَمَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ بِالْمَنْعِ ثُمَّ قَالَ: لَكِنْ إذَا أَرَادَ كَشْفَهُ عَنْ أَصْلِ الْعِلَلِ يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَجُزْ لِلْمُعَلِّلِ مَنْعَهُ. وَ [أَوْرَدَ] الْأَصْفَهَانِيُّ شَارِحُ الْمَحْصُولِ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ ثُمَّ قَالَ: وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ بِانْتِقَالٍ (قَالَ) : وَيَعُودُ مَنَاطُ الْخِلَافِ إلَى أَنَّ وُجُودَ الْعِلَّةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ: هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ الدَّلِيلِ أَمْ لَا؟ وَيُلْزَمُ الْقَائِلُ بِأَنَّهُ لَا يَسْمَعُ إثْبَاتَ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ بِالدَّلِيلِ أَنْ لَا يَسْمَعَ مِنْ الْمُعَلِّلِ إثْبَاتَ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ بِالدَّلِيلِ، فَإِنْ قَالَ: أَقُولُهُ وَلَا أَسْمَعُ مِثْلَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْجَدَلِيِّينَ، فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَا لَا يُسْمَعُ اقْتِرَاحًا لَا يَقُولُهُ اسْتِدْلَالًا، فَلَوْ قَالَ الْمُعْتَرِضُ: مَا ذَكَرْت مِنْ

ص: 342

الدَّلِيلِ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ دَالٌّ بِعَيْنِهِ عَلَى وُجُودِهَا فِي مَحَلِّ النَّقْضِ فَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ نَقْضٍ لِلْعِلَّةِ إلَى نَقْضِ دَلِيلِهَا فَلَا يُسْمَعُ، وَبِهِ جَزَمَ الْآمِدِيُّ. وَقِيلَ: يُسْمَعُ، لِأَنَّ نَقْضَ دَلِيلِ الْعِلَّةِ نَقْضُ الْعِلَّةِ نَعَمْ لَوْ قَالَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً وَقَالَ يَلْزَمُك إمَّا نَقْضُ الْعِلَّةِ أَوْ نَقْضُ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى وُجُودِهَا فِي الْفَرْعِ كَانَ مَسْمُوعًا يَحْتَاجُ الْمُسْتَدِلُّ إلَى الْجَوَابِ عَنْهُ.

مَسْأَلَةٌ

قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: لَا يُشْتَرَطُ فِي الْقَيْدِ الدَّافِعِ لِلنَّقْضِ أَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا، بَلْ غَيْرُ الْمُنَاسِبِ مَقْبُولٌ مَسْمُوعٌ اتِّفَاقًا، وَالْمَانِعُونَ مِنْ التَّعْلِيلِ بِالشَّبَهِ يُوَافِقُونَ عَلَى ذَلِكَ.

وَقَالَ فِي " الْمَحْصُولِ ": هَلْ يَجُوزُ دَفْعُ النَّقْضِ بِقَيْدٍ طَرْدِيٍّ؟ أَمَّا الطَّارِدُونَ فَقَدْ جَوَّزُوهُ، وَأَمَّا مُنْكِرُو الطَّرْدِ فَمِنْهُمْ مِنْ جَوَّزَهُ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ أَحَدَ أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُؤَثِّرًا لَمْ يَكُنْ مَجْمُوعُ الْعِلَّةِ مُؤَثِّرًا، وَكَذَا حَكَى الْخِلَافَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَانِ " ثُمَّ اخْتَارَ التَّفْصِيلَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْقَيْدُ الطَّرْدِيُّ يُشِيرُ إلَى مَسْأَلَةٍ تُفَارِقُ مَسْأَلَةَ النِّزَاعِ بِفِقْهٍ فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ الْعِلَّةِ، وَإِلَّا فَلَا يُفِيدُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ (قَالَ) : وَلَوْ فُرِضَ التَّقْيِيدُ بِاسْمٍ غَيْرِ مُشْعِرٍ بِفِقْهٍ وَلَكِنَّ مُبَايَنَةَ الْمُسَمَّى بِهِ لِمَا عَدَاهُ مَشْهُورٌ بَيْنَ النُّظَّارِ، فَهَلْ يَكُونُ التَّقْيِيدُ بِمِثْلِهِ تَخْصِيصًا لِلْعِلَّةِ؟ اخْتَلَفَ فِيهِ الْجَدَلِيُّونَ، وَالْأَقْرَبُ تَصْحِيحُهُ لِأَنَّهُ اصْطِلَاحٌ.

[الطَّرِيقُ] الثَّانِي: مَنْعُ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْ الْعِلَّةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ وَيَدَّعِي ثُبُوتَهُ فِيهَا. وَهُوَ إمَّا تَحْقِيقِيٌّ مِثْلُ: السَّلَمِ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّأْجِيلُ، كَالْبَيْعِ، فَإِنْ نُقِضَ بِالْإِجَارَةِ قُلْنَا: الْأَجَلُ لَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّةِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ وَإِنَّمَا جَاءَ فِيهَا لِتَقْرِيرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الِانْتِفَاعُ بِالْعَيْنِ. أَوْ

ص: 343

تَقْدِيرِيٌّ، وَهُوَ دَافِعٌ لِلنَّقْضِ عَلَى الْأَظْهَرِ، تَنْزِيلًا لِلْمُقَدَّرِ مَنْزِلَةَ الْمُحَقَّقِ، كَقَوْلِنَا: رِقُّ الْأُمِّ عِلَّةٌ لِرِقِّ الْوَلَدِ، فَيَكُونُ هَذَا الْوَلَدُ رَقِيقًا. فَإِنْ نُقِضَ بِوَلَدِ الْمَغْرُورِ بِحُرِّيَّةِ أُمِّهِ حَيْثُ كَانَ رِقُّ الْأُمِّ مَوْجُودًا مَعَ انْعِقَادِ الْوَلَدِ حُرًّا، قُلْنَا: رِقُّ الْأُمِّ مَوْجُودٌ، وَتَقْدِيرُ وُجُودِهِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ رَقِيقًا ثُمَّ يَعْتِقُ عَلَى الْمَغْرُورِ، إذْ لَا قِيمَةَ لِلْحُرِّ.

قَالَ فِي " الْمَحْصُولِ ": وَالتَّحْقِيقِيُّ دَافِعٌ لِلنَّقْضِ إذَا كَانَ الْحُكْمُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْتَدِلِّ وَخَصْمِهِ، أَوْ كَانَ مَذْهَبًا لِلْمُسْتَدِلِّ فَقَطْ، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَفِ بِطَرْدِ عِلَّتِهِ فَلَأَنْ لَا يَجِبَ عَلَى غَيْرِهِ أَوْلَى، فَإِنْ كَانَ مَذْهَبًا لِخَصْمِهِ فَقَطْ لَمْ يَتَوَجَّهْ لِأَنَّ خِلَافَهُ كَخِلَافِهِ فِي الصُّورَةِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا. وَلَوْ مُنِعَ الْمُسْتَدِلُّ تَخَلَّفَ الْحُكْمُ فَفِي تَمْكِينِ الْمُعْتَرِضِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي مَنْعِ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ.

وَهُنَا فَرْعٌ حَسَنٌ: لَوْ نَقَضَ الْمُعْتَرِضُ فَقَالَ الْمُسْتَدِلُّ الْمُنْتَصِرُ لِمَذْهَبِ إمَامٍ: لَا أَعْرِفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَصًّا، وَلَا يَلْزَمُنِي النَّقْضُ، فَهَلْ يُدْفَعُ بِذَلِكَ النَّقْضِ؟ ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " الْمُلَخَّصِ فِي الْجَدَلِ ". وَمَثَّلَهُ بِاسْتِدْلَالِ الْحَنَفِيِّ عَلَى الْقَارِنِ أَنَّهُ إذَا قَتَلَ صَيْدًا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ جَزَاءَانِ، لِأَنَّهُ أَدْخَلَ النَّقْضَ عَلَى إحْرَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلَزِمَهُ جَزَاءَانِ، كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَقَتَلَ صَيْدًا، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فَقَتَلَ صَيْدًا. فَقَالَ لَهُ: هَذَا يَنْتَقِضُ بِمَا إذَا أَحْرَمَ الْمُتَمَتِّعُ بِالْعُمْرَةِ فَجَرَحَ صَيْدًا، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَجَرَحَهُ ثُمَّ مَاتَ، فَإِنَّهُ أَدْخَلَ النَّقْضَ عَلَى إحْرَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ثُمَّ لَا يَلْزَمُهُ جَزَاءَانِ. فَيَقُولُ الْمُخَالِفُ: لَا أَعْرِفُ نَصًّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

ثُمَّ قَالَ: رَأَيْت الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبَ يَقُولُ فِي مِثْلِ هَذَا: إذَا جَوَّزْتَ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُكَ عَلَى مَا أَلْزَمْتُهُ وَجَبَ أَنْ لَا يُحْتَجَّ بِهَذَا الْقِيَاسِ، قَالَ: وَعِنْدِي

ص: 344

أَنَّهُ يَلْزَمُهُ النَّقْضُ، لِأَنَّهُ وَإِنْ احْتَمَلَ مَا قَالَهُ إلَّا أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ كَفَّارَتَانِ فَيُعْمَلُ بِهِ مَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ، كَالْعُمُومِ قَبْلَ ظُهُورِ الْمُخَصِّصِ. انْتَهَى.

وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُعَلِّلَ لَهُ أَنْ يُلْزَمَ بِصُورَةِ النَّقْضِ عِنْدَ الشَّيْخِ، وَعِنْدَ الْقَاضِي لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ مَذْهَبَ إمَامِهِ، وَهُوَ أَمْرٌ رَاجِعٌ إلَيْهِ فِي نَفْسِهِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي مِنْهُ بِأَنْ يَقُولَ: لَا أَعْرِفُ نَصًّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنْ الْحَنَابِلَةِ جَوَابَيْنِ آخَرَيْنِ عَنْ النَّقْضِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَفْسَ اللَّفْظِ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ لِيَظْهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُ مَا ظَنَّهُ الْمُعْتَرِضُ فَأَوْرَدَ نَقْضًا.

الثَّانِي: أَنْ يُبَيِّنَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ: عُضْوٌ سَقَطَ فِي التَّيَمُّمِ فَجَازَ الْمَسْحُ عَلَى حَائِلٍ كَالْقَدَمِ، فَيَقُولُ الْخَصْمُ: هَذَا يَنْتَقِضُ بِغُسْلِ الْجَنَابَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ فِيهَا مَعَ أَنَّهُ يَسْقُطُ فِي التَّيَمُّمِ، فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: إنَّمَا تَعَذَّرَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ وَقَدْ اتَّفَقَا فِي حُكْمِ الْجَنَابَةِ. قُلْت: وَيَنْبَغِي الْبُدَاءَةُ بِمَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا فِي تَرْتِيبِ الْأَجْوِبَةِ. وَيُزَادُ جَوَابٌ (خَامِسٌ) : وَهُوَ أَنْ نُسَلِّمَ وُرُودَ النَّقْضِ وَنَتَعَذَّرُ عَنْهُ بِإِبْدَاءِ أَمْرٍ فِي صُورَةِ النَّقْضِ يَصْلُحُ اسْتِنَادُ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ إلَيْهِ، لِيَبْقَى دَلِيلُ ثُبُوتِ الْعِلَّةِ سَلِيمًا عَنْ مُعَارِضٍ.

مَسْأَلَةٌ

إذَا أُلْزِمَ النَّقْضَ فَزَادَ فِي الْعِلَّةِ وَصْفًا، فَهَلْ يُقْبَلُ مِنْهُ؟ فِيهِ أَقْوَالٌ:

أَحَدُهَا: نَعَمْ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ.

ص: 345

وَالثَّانِي: لَا يُقْبَلُ، وَعَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وَالْبَاجِيُّ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: إنَّهُ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى إسْقَاطِ النَّقْضِ بِمَا شَاءَ.

وَالثَّالِثُ: وَحَكَاهُ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي جَدَلِهِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا - إنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مَعْهُودَةً بَيْنَ الْمُنَاظِرِينَ كَالْجِنْسِ الْمَضْمُومِ إلَى الْوَصْفِ الْآخَرِ فِي عِلَّةِ الرِّبَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْصَافِ الْمَعْرُوفَةِ قُبِلَ مِنْهُ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْهُودَةً فَلَا. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَعْهُودَةَ كَالْمَذْكُورَةِ، فَيُسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهَا بِالْعَهْدِ فِيهَا. وَحَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ وَالْبَاجِيُّ أَيْضًا ثُمَّ ضَعَّفَاهُ بِأَنَّهُ لَا عَهْدَ، وَاللَّفْظُ ظَاهِرٌ فِي التَّعْمِيمِ. وَقَالَ فِي " الْمَنْخُولِ " إذَا أَرَادَ الْمُعَلِّلُ وَصْفًا يَسْتَقِلُّ الْحُكْمُ بِدُونِهِ وَلَكِنَّهُ رَامَ بِهِ دَرْءَ النَّقْضِ فَقَدْ يُطْرَحُ إذَا لَمْ يُبَيِّنْ كَوْنَهُ عِلَّةً فِي الْأَصْلِ.

مَسْأَلَةٌ

قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ النَّقْضِ لَا يُقْبَلُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: هَذَا يَقُولُهُ الْمُتَفَقِّهَةُ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ هُوَ مَقْبُولٌ، وَإِنَّمَا شَرْطُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِفَرْقٍ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا، كَقَوْلِهِ فِي الْإِجَارَةِ: لَا تَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ، لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ، فَلَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ مَعَ سَلَامَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. فَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ فَرْقٌ بَيْنَ مَسْأَلَةِ النَّقْضِ وَبَيْنَ مَوْضِعِ الْخِلَافِ، وَهُوَ صَحِيحٌ. فَأَمَّا إذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ بَانَ عَدَمُ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ، بَلْ بِعِلَّةٍ أُخْرَى.

مَسْأَلَةٌ

الْقَائِلُونَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ ابْتِدَاءً

ص: 346

التَّعَرُّضُ لِنَفْيِ الْمَانِعِ، بِأَنْ يَذْكُرَ قَيْدًا يُخْرِجُ بِهِ مَحَلَّ النَّقْضِ؟ فِيهِ مَذَاهِبُ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ مُطْلَقًا، لِئَلَّا تُنْقَضَ الْعِلَّةُ.

وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ مُطْلَقًا، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَنَقَلَهُ الْهِنْدِيُّ فِي " النِّهَايَةِ " عَنْ الْأَكْثَرِينَ. وَقَالَ: إنَّهُ الْحَقُّ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمَعَارِضِ.

وَالثَّالِثُ: إنْ كَانَ سَبَبًا، وَهُوَ مَا يَرِدُ عَلَى كُلِّ عِلَّةٍ، كَالْعَرَايَا، لَمْ يَلْزَمْهُ، وَإِلَّا كَالتَّطَوُّعِ فِي مَسْأَلَةِ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ لَزِمَهُ، إذْ لَا يَبْقَى إلَّا الدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةُ فِي خُرُوجِهِ عَنْ الْقَاعِدَةِ. وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ فِي " شِفَاءِ الْعَلِيلِ " وَلَمْ يَقِفْ ابْنُ دَقِيقٍ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ فَقَالَ: لَوْ قِيلَ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَجْهٌ.

الرَّابِعُ: إنْ كَانَ مُنَاظِرًا وَجَبَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَ نَاظِرًا مُجْتَهِدًا فَكَذَلِكَ، إلَّا فِيمَا اشْتَهَرَ مِنْ الْمُسْتَثْنَيَاتِ فَصَارَ كَالْمَذْكُورَةِ. وَقَالَ فِي " شِفَاءِ الْعَلِيلِ ": أَنَّهُ إذَا لَمْ يَسْتَثْنِ وَجَبَ عَلَى النَّاظِرِ. وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَهَلْ يَنْقَطِعُ ظَنُّهُ عَنْ الْعِلَّةِ الَّتِي ظَنَّهَا؟ وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى الظَّنُّ مَعَ وُرُودِ النَّقْضِ؟ تَرَدَّدَ الْقَاضِي فِي هَذَا، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِبُطْلَانِ الْعِلَّةِ بِمِثْلِ هَذَا النَّقْضِ، هَلْ هُوَ مَعْلُومٌ أَوْ مَظْنُونٌ؟ قَالَ: وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي: إنْ قَدَحَ الِاعْتِذَارُ عَنْ مَسْأَلَةِ النَّقْضِ بِفَرْقٍ فِقْهِيٍّ، فَلَا شَكَّ فِي انْقِطَاعِ الظَّنِّ، وَإِنْ لَمْ يَقْدَحْ عُذْرٌ فَفِي انْقِطَاعِ الظَّنِّ نَظَرٌ. تَنْبِيهٌ:

الْمُرَادُ بِالِاحْتِرَازِ عَنْهُ ذِكْرُهُ إمَّا فِي أَوَّلِ الدَّلِيلِ، أَوْ بَعْدَ تَوَجُّهِ النَّقْضِ عَلَيْهِ، وَلَا يُعَدُّ مُنْقَطِعًا. هَذَا اصْطِلَاحُ مُتَأَخِّرِي الْجَدَلِيِّينَ. وَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْهُمْ فَاعْتَبَرُوهُ أَوَّلَ الدَّلِيلِ، وَقَالُوا: إنْ أُخِذَ الْقَيْدُ لِلنَّقْضِ فِي الدَّلِيلِ أَوَّلًا قُبِلَ

ص: 347

مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُ أَوَّلًا وَأَوْرَدَهُ عَلَيْهِ فَأَخَذَهُ قَيْدًا لَمْ يُقْبَلْ، وَيُعَدُّ مُنْقَطِعًا، وَعَلَيْهِ جَرَى فِي " الْمُسْتَصْفَى " وَبِهِ تَصِيرُ الْمَذَاهِبُ خَمْسَةً، وَصَاحِبُ " الْمَحْصُولِ " حَكَى الْخِلَافَ فِي الِاحْتِرَازِ عَنْهُ فِي الدَّلِيلِ قَوْلَيْنِ وَلَمْ يُرَجِّحْ شَيْئًا، ثُمَّ حَكَاهُ أَيْضًا فِي الْوَارِدِ اسْتِثْنَاءً فَقَالَ: وَهَلْ يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فِي اللَّفْظِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَالْأَوْلَى الِاحْتِرَازُ. انْتَهَى.

وَقَالَ صَاحِبُ " الْمُقْتَرَحِ ": يَضُرُّهُ الِاحْتِرَازُ، لِأَنَّهُ يَكُونُ اعْتِرَافًا مِنْهُ بِأَنَّ النَّقْضَ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْلِيلِ. وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ، لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنْ تَعَرَّضَ لِمَا يَلْزَمُ، وَنَبَّهَ الْمُعْتَرِضَ عَلَى أَنَّ النَّقْضَ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِرَافِهِ.

فَرْعٌ:

ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ بُطْلَانَ الْعِلَّةِ بِالنَّقْضِ مِنْ الْقَطْعِيَّاتِ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عِنْدِي، بَلْ هِيَ مِنْ الْمُجْتَهَدَاتِ. وَكُلُّ مَأْمُورٍ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ. وَجَعَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بَعْضَهُ قَطْعِيًّا وَبَعْضَهُ ظَنِّيًّا بِنَاءً عَلَى تَفْصِيلِهِ السَّابِقِ.

مَسْأَلَةٌ

قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ "، وَتَبِعَهُ فِي " الْمَحْصُولِ ": اعْلَمْ أَنَّ نَقْضَ الْعِلَّةِ أَنْ يُوجَدَ فِي مَوْضِعٍ دُونَ حُكْمِهَا، وَحُكْمُهَا ضَرْبَانِ: مُجْمَلٌ وَمُفَصَّلٌ، وَالْمُجْمَلُ ضَرْبَانِ: إثْبَاتٌ وَنَفْيٌ، فَالْإِثْبَاتُ الْمُجْمَلُ لَا يَنْتَقِضُ بِنَفْيِ مُفَصَّلٍ، وَالنَّفْيُ الْمُجْمَلُ يَنْتَقِضُ بِإِثْبَاتِ مُفَصَّلٍ.

ص: 348