الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِي السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ]
قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: السُّؤَالُ إمَّا اسْتِفْهَامٌ مُجَرَّدٌ وَهُوَ الِاسْتِخْبَارُ عَنْ الْمَذْهَبِ أَوْ الْعِلَّةِ، وَإِمَّا اسْتِفْهَامٌ عَنْ الدَّلَالَةِ، أَيْ الْتِمَاسُ وَجْهِ دَلَالَةِ الْبُرْهَانِ ثُمَّ الْمُطَالَبَةُ بِنُفُوذِ الدَّلِيلِ وَجَرَيَانِهِ. وَسَبِيلُ الْجَوَابِ: هَكَذَا أَخْتَارُ: مُجَرَّدٌ، ثُمَّ الِاعْتِلَالُ، ثُمَّ طَرْدُ الدَّلِيلِ. ثُمَّ السَّائِلُ فِي الِابْتِدَاءِ إمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَالِمٍ بِمَذْهَبِ مَنْ يَسْأَلُهُ أَوْ يَكُونَ عَالِمًا بِهِ. ثُمَّ إمَّا أَنْ لَا يَعْلَمَ صِحَّتَهُ فَسُؤَالُهُ لَا مَعْنَى لَهُ. وَإِمَّا أَنْ يَعْلَمَ فَسُؤَالُهُ رَاجِعٌ إلَى الدَّلِيلِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ الْأَصْلَ الَّذِي يَسْتَشْهِدُ بِهِ الْمُجِيبُ فَسُؤَالُهُ عَنْهُ أَوْلَى، لِأَنَّ الَّذِي أَحْوَجَهُ إلَى الْمَسْأَلَةِ الْخِلَافُ، فَإِذَا كَانَ الْخِلَافُ فِي الشَّاهِدِ فَالسُّؤَالُ عَنْهُ أَوْلَى.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَيَنْبَغِي لِلسَّائِلِ أَنْ لَا يَسْأَلَ الْمُنَاظَرَةَ إلَّا بَعْدَ فَهْمِ مَا يَسْأَلُ عَنْهُ. وَكَذَا لَا يَنْبَغِي لِلْمُجِيبِ أَنْ يُجِيبَ عَنْ شَيْءٍ حَتَّى يَعْلَمَهُ، وَبِسَبَبِ هَذَا يَقَعُ الْخَبْطُ فِي الْمُنَاظَرَاتِ. وَلَيْسَ لِلْمُجِيبِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى السَّائِلِ بِالْجَوَابِ قَبْلَ أَنْ يُجِيبَ هُوَ أَوْ يَعْتَرِفَ بِالْعَجْزِ عَنْهُ أَوْ يُضْرِبَ عَنْهُ. فَإِنْ سَأَلَ السَّائِلُ الْجَوَابَ أَجَابَ. فَإِنْ قِيلَ لَهُ: هَذَا يَلْزَمُك فِي مَذْهَبِك كَمَا سَأَلْت، فَإِنَّ هَذَا رُبَّمَا فُعِلَ لِلْحِيلَةِ، فَالْوَجْهُ أَنْ يَقُولَ السَّائِلُ: عَنْ حُجَّتِك لِنَفْسِك ثُمَّ إنْ شِئْت فَعُدْ بَعْدَ ذَلِكَ سَائِلًا، فَإِمَّا أَنْ تُجِيبَ أَوْ تَعْتَرِفَ بِأَنْ لَا جَوَابَ. ثُمَّ تَقْبَلُ سُؤَالَهُ إنْ شِئْت. وَإِنْ كَانَ إذَا سُئِلْت عَنْ شَيْءٍ يَرْجِعُ عَلَى خَصْمِك فَقُلْ: إنَّمَا أُجِيبُك عَنْ هَذَا بِشَرْطِ أَنْ تَصْبِرَ لِقَلْبِنَا عَلَيْك السُّؤَالَ، فَإِنَّ سُؤَالَك رَاجِعٌ عَلَيْك فَهُوَ كَمَا تَسْأَلُ عَنْ نَفْسِك. وَلَا يَتْرُكُ الْجَوَابَ عَمَّا يُسْأَلَ وَيَرْجِعُ سَائِلًا إلَّا أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إمَّا جَاهِلٌ
يَجِدُ السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ فَلَا يُنَاظِرُ، أَوْ يَقْدِرُ أَنْ يَحْتَالَ عَلَى خَصْمِهِ مِنْ أَنْ يُظْهِرَ الِانْقِطَاعَ أَوْ الْعَجْزَ عَنْ الْجَوَابِ. فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ غَبِيٌّ. وَلْيَحْذَرْ الْمُجِيبُ تَكْرَارَ اللَّفْظِ الْمُخْتَلِفِ عَلَى الْمَعْنَى الْوَاحِدِ، فَرُبَّمَا ظَنَّهُ بَعْضُهُمْ زِيَادَةً.
(قَالَ) : وَمَا رَأَيْت أَحْسَنَ مِنْ صَبْرِ الْخَصْمِ عَلَى الْخَصْمِ حَتَّى إذَا فَرَغَ مِنْ هَذَيَانِهِ قَالَ لَهُ: لَمْ أَفْهَمْ مَا كُنْت فِيهِ فَأَعِدْ عَلَيَّ كَلَامَك فِي مَهْلٍ وَأَرِنِي مَوْضِعَ النُّكْتَةِ لِأَفْهَمَهَا عَنْك وَأُفْهِمَك الْجَوَابَ، فَهَذَا أَقْطَعُ مِنْ الْحَدِيدِ لِلْخُصُومِ. وَإِيَّاكَ أَنْ تَسْتَصْغِرَ خَصْمًا، فَإِنْ اسْتَصْغَرْته فَالْوَجْهُ أَنْ لَا تُكَلِّمَهُ، فَلَرُبَّمَا هَجَمَ مِنْ اسْتِصْغَارِهِ الِانْقِطَاعُ لِقِلَّةِ التَّحَفُّظِ مِنْهُ وَالِاهْتِمَامِ بِهِ، فَقَدْ رَأَيْت ذَلِكَ مُشَاهَدَةً. وَإِنْ كُنْت فِي مَحْفِلٍ فِيهِ عَامَّةٌ فَمَتَى ذَهَبْتَ تُرَاعِيهِمْ بَطَلَ مَا يَحْتَاجُ إلَى تَدَبُّرِهِ وَتَفَهُّمِهِ، وَلَا يَغُرَّنَّكَ مَيْلُ بَعْضِ النَّاسِ إلَى الْخَصْمِ، أَوْ تَفْضِيلُ الْعَامَّةِ لِصِيَاحِ الْخَصْمِ فَالْعَمَلُ عَلَى أَهْلِ التَّمْيِيزِ. وَمَتَى سَبَقَتْ مِنْك كَلِمَةٌ لَيْسَتْ بِصَوَابٍ فَلَا تَقِفْ عَلَيْهَا وَاعْتَرِفْ بِهَا، فَإِنَّهَا سَبْقُ لِسَانٍ، فَإِنَّك إنْ أَخَذْت فِي تَصْحِيحِهَا ذَهَبَ عَنْك صَحِيحُ الْكَلَامِ. وَاعْتَرِفْ بِالْحَقِّ إذَا وَضَحَ، فَإِنْ لَمْ يُضَحْ فَالْزَمْ بِالْبُرْهَانِ، فَإِنَّهُ عَسِرٌ جِدًّا. وَامْنَعْ خَصْمَك مِنْ الْإِقْبَالِ عَلَى غَيْرِك إذَا كَانَ مُنَاظِرًا وَاسْتَعْمِلْ مِثْلَهُ مَعَهُ وَلَا يَكُنْ هَمُّك إلَّا مَا قَامَ بِهِ مَذْهَبُك وَلَا تَشْتَغِلْ بِسِوَاهُ. وَلَا يَعْطِفَنَّكَ أُنَاسٌ مِنْ خَاطِرٍ، فَرُبَّمَا بَانَ وَجَاءَ وَأَنْتَ فِي حَالِ الْفِكْرِ وَهَذَا عَلَامَةُ الطَّبْعِ الْجَيِّدِ. وَلَا تَتَكَلَّمْ فِي مَوْضِعِ الْعَصَبِيَّةِ عَلَيْك، أَوْ فِي مَجْلِسٍ تَخَافُ مِنْهُ صَاحِبَهُ فَإِنَّهُ يُمِيتُ الْفِكْرَ.
وَلَا تُخَاطِبْ مَنْ لَا يَفْهَمُ عَنْك إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرْشِدًا وَهَذِهِ سِيَاسَةٌ فَاسْتَوْصِ بِهَا. (انْتَهَى) .
وَعَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ: كُلُّ خَاطِرٍ يَجِيئُك بَعْدَ الْمُنَاظَرَةِ فَاحْبِسْ عَلَيْهِ، حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي " الرِّحْلَةِ " وَكَانَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى إذَا أَفْحَمَهُ خَصْمُهُ فِي الْمُنَاظَرَةِ قَالَ: مَا أَلْزَمْت لَازِمٌ، فَأَنَا فِيهِ نَاظِرٌ {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]
فَائِدَةٌ:
إذَا قُلْت لِلْمُسْتَدِلِّ: " قَوْلُك لَا يَصِحُّ " احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) الْحُكْمُ بِعَدَمِ الصِّحَّةِ وَ (الثَّانِي) أَنَّك لَا تَحْكُمُ بِالصِّحَّةِ. وَفَرْقٌ بَيْنَ الْحُكْمِ بِعَدَمِ الشَّيْءِ وَبَيْنَ عَدَمِ الْحُكْمِ بِالشَّيْءِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْعَدَمِ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ عَالِمٍ بِذَلِكَ الْعَدَمِ، وَعَدَمُ الْحُكْمِ بِالشَّيْءِ يَكُونُ مِنْ الشَّاكِّ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ وَالْمُتَرَدِّدِ فِيهِ. فَتَفَطَّنْ بِمَعَانِي الْعِبَارَاتِ.