المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

كَقَوْلِهِ فِي شُهُودِ الْقِصَاصِ. تَسَبَّبُوا لِلْقَتْلِ عَمْدًا فَلَزِمَهُمْ الْقِصَاصُ زَجْرًا - البحر المحيط في أصول الفقه - ط الكتبي - جـ ٧

[بدر الدين الزركشي]

فهرس الكتاب

- ‌[كِتَابُ الْقِيَاسِ] [

- ‌الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي حَقِيقَة الْقِيَاس]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ فِي نَظَرِ الْأُصُولِيِّينَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ اشْتِمَالُ النُّصُوصِ عَلَى الْفُرُوعِ الْمُلْحَقَةِ بِالْقِيَاسِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ مُظْهِرٌ لَا مُثْبِتٌ]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي فِي مَوْضُوعِ الْقِيَاسِ]

- ‌[الْبَابُ الثَّالِثُ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ]

- ‌[مَسْأَلَة الْقِيَاسُ يُعْمَلُ بِهِ قَطْعًا]

- ‌[مَسْأَلَة التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ نَصُّ الشَّارِعِ عَلَى الْحُكْمِ وَالْعِلَّةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ اسْتِعْمَال الْقِيَاسُ إذَا عُدِمَ النَّصُّ]

- ‌[مَسْأَلَة الْمُرْسَلُ وَالضَّعِيفُ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ]

- ‌[الْبَابُ الرَّابِعُ فِي أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ]

- ‌[أَقْسَامُ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ]

- ‌[أَقْسَامُ الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ]

- ‌[الْبَابُ الْخَامِسُ مَا يَجْرِي فِيهِ الْقِيَاسُ]

- ‌[أَمْثِلَةٌ لِلْقِيَاسِ فِي الرُّخَصِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ جَرَيَانُ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ فِي الْعَقْلِيَّاتِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ جَرَيَانُ الْقِيَاسِ فِي اللُّغَاتِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ فِي الْأَسْبَابِ]

- ‌[الْبَابُ السَّادِسُ فِي أَرْكَانِ الْقِيَاس] [

- ‌الرُّكْن الْأَوَّل الْأَصْلِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَأْثِيرُ الْأَصْلِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ]

- ‌[الْكَلَامُ فِي شُرُوطِ حُكْمِ الْأَصْلِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَا يَمْتَنِعُ فِيهِ الْقِيَاسُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ الْأَصْلِ]

- ‌[الرُّكْنُ الثَّالِثُ الْفَرْعُ]

- ‌[الرُّكْنُ الرَّابِعُ الْعِلَّةُ]

- ‌[مَسْأَلَة الْمَعْلُولُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَقَدُّمُ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَا بُدَّ لِلْحُكْمِ مِنْ عِلَّةٍ]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ شُرُوطِ الْعِلَّةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ اقْتِصَارُ الشَّارِعِ عَلَى أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ فِي الْعِلَّة]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ أُمُورٍ اُشْتُرِطَتْ فِي الْعِلَّةِ]

- ‌[فَائِدَةٌ الْعِلَّةُ إذَا كَثُرَتْ أَوْصَافُهَا فِي الْقِيَاسِ]

- ‌[مَسَالِكُ الْعِلَّةِ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ الْإِجْمَاعُ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً]

- ‌[الْمَسْلَكُ الثَّانِي النَّصُّ عَلَى الْعِلَّةِ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ الْإِيمَاءُ وَالتَّنْبِيهُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الرَّابِعُ الِاسْتِدْلَال عَلَى عِلِّيَّةِ الْحُكْمِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الْمَسْلَكُ الْخَامِسُ فِي إثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ الْمُنَاسَبَةُ]

- ‌[تَقْسِيمُ الْمُنَاسِبِ]

- ‌[أَقْسَامُ الْمُنَاسِبِ مِنْ حَيْثُ الْيَقِينِ وَالظَّنِّ]

- ‌[أَقْسَامُ الْمُنَاسِبِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةِ وَالْإِقْنَاعِ]

- ‌[تَقْسِيمُ الْمُنَاسَبَةِ مِنْ حَيْثُ التَّأْثِيرُ وَالْمُلَاءَمَةُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ السَّادِسُ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ السَّابِعُ الشَّبَهُ]

- ‌[حُكْم قِيَاس الشَّبَه]

- ‌[الْمَسْلَكُ الثَّامِنُ الدَّوَرَانُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ التَّاسِعُ الطَّرْدُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الْعَاشِرُ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ]

- ‌[الِاعْتِرَاضَاتُ]

- ‌[الْأَوَّلُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ النَّقْضُ]

- ‌[الثَّانِي مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الْكَسْرُ]

- ‌[الثَّالِثُ مِنْ الِاعْتِرَاضَات عَدَمُ الْعَكْسِ]

- ‌[الرَّابِعُ مِنْ الِاعْتِرَاضَات عَدَمُ التَّأْثِيرِ]

- ‌[الْخَامِسُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الْقَلْبُ]

- ‌[حَقِيقَتِهِ الْقَلْبُ]

- ‌[اعْتِبَارِهِ الْقَلْب]

- ‌[هَلْ الْقَلْب قَادِحٌ أَمْ لَا]

- ‌[أَقْسَام الْقَلْبُ]

- ‌[السَّادِسُ مِنْ الِاعْتِرَاضَات الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ]

- ‌[السَّابِعُ مِنْ الِاعْتِرَاضَات الْفَرْقُ وَيُسَمَّى سُؤَالَ الْمُعَارَضَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ شُرُوط الْفَرْقِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي جَوَابِ الْفَرْقِ]

- ‌[الثَّامِنُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الِاسْتِفْسَارُ]

- ‌[التَّاسِعُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ]

- ‌[الْعَاشِرُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ فَسَادُ الْوَضْعِ]

- ‌[الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَات الْمَنْعُ]

- ‌[الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَات التَّقْسِيمُ]

- ‌[الثَّالِث عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَات اخْتِلَافُ الضَّابِطِ]

- ‌[الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ اخْتِلَافُ حُكْمَيْ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ]

- ‌[الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الْمُعَارَضَةِ]

- ‌[وُجُوهٍ الْمُعَارَضَةِ]

- ‌[السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ سُؤَالُ التَّعْدِيَةِ]

- ‌[فَصْلٌ تَرْتِيبِ الْأَسْئِلَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الِانْتِقَالِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْفَرْضِ وَالْبِنَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي حِيَلِ الْمُتَنَاظِرِينَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي التَّعَلُّقِ بِمُنَاقَضَاتِ الْخُصُومِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِالْمُخْتَلَفِ فِيهِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ]

الفصل: كَقَوْلِهِ فِي شُهُودِ الْقِصَاصِ. تَسَبَّبُوا لِلْقَتْلِ عَمْدًا فَلَزِمَهُمْ الْقِصَاصُ زَجْرًا

كَقَوْلِهِ فِي شُهُودِ الْقِصَاصِ. تَسَبَّبُوا لِلْقَتْلِ عَمْدًا فَلَزِمَهُمْ الْقِصَاصُ زَجْرًا لَهُمْ عَنْ السَّبَبِ، كَالْمُكْرَهِ. فَالْمُشْتَرِكُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إنَّمَا هِيَ الْحِكْمَةُ وَهِيَ الزَّجْرُ. وَالضَّابِطُ فِي الْفَرْعِ الشَّهَادَةُ، وَفِي الْأَصْلِ الْإِكْرَاهُ، وَلَا يُمْكِنُ التَّعْدِيَةُ بِالْحِكْمَةِ وَحْدَهَا. وَضَابِطُ الْفَرْعِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِضَابِطِ الْأَصْلِ فِي الْإِفْضَاءِ إلَى الْمَقْصُودِ وَأَنْ لَا يَكُونَ. وَجَوَابُهُ بِأَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا مِنْ السَّبَبِ الْمَضْبُوطِ عُرْفًا، أَوْ يُبَيِّنَ الْمُسَاوَاةَ فِي الضَّابِطِ، أَوْ إفْضَاءَ الضَّابِطِ فِي الْفَرْعِ أَكْثَرُ.

[الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ اخْتِلَافُ حُكْمَيْ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ]

الرَّابِعَ عَشَرَ: اخْتِلَافُ حُكْمَيْ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ قِيلَ: إنَّهُ قَادِحٌ، لِأَنَّ شَرْطَ الْقِيَاسِ مُمَاثَلَةُ الْفَرْعِ الْأَصْلَ فِي عِلَّتِهِ وَحُكْمِهِ. فَإِذَا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْمُسَاوَاةُ. وَقِيلَ: لَا، لِأَنَّ الْحُكْمَيْنِ وَإِنْ اخْتَلَفَ فِي الْخُصُوصِ فَقَدْ يَشْتَرِكَانِ فِي أَمْرٍ عَامٍّ وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ إثْبَاتَ ذَلِكَ الْعَامِّ وَالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا وَتَكُونُ الْعِلَّةُ تُنَاسِبُ ذَلِكَ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ، وَهُوَ كَإِثْبَاتِ الْوِلَايَةِ عَلَى الصَّغِيرَةِ فِي نِكَاحِهَا، قِيَاسًا عَلَى الْوِلَايَةِ فِي مَالِهَا.

[الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الْمُعَارَضَةِ]

[وُجُوهٍ الْمُعَارَضَةِ]

الْخَامِسَ عَشَرَ: الْمُعَارَضَةُ وَهِيَ مِنْ أَقْوَى الِاعْتِرَاضَاتِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَقِيلَ: هِيَ إلْزَامُ الْجَمْعِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا. وَقِيلَ: إلْزَامُ الْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ قَوْلًا قَالَ بِنَظِيرِهِ

ص: 414

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُنَاقَضَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلًّا نَقْضُ مُعَارَضَةٍ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ. وَأَيْضًا فَالنَّقْضُ لَا يَكُونُ بِالدَّلِيلِ، وَالْمُعَارَضَةُ بِالدَّلِيلِ عَلَى الدَّلِيلِ صَحِيحَةٌ (قَالَ) : وَهِيَ تَرْجِعُ إلَى الِاسْتِفْهَامِ (قَالَ) وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهَا: فَأَثْبَتَهَا أَكْثَرُ أَهْلِ النَّظَرِ، وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِسُؤَالٍ صَحِيحٍ. وَاخْتَلَفَ مَثْبُوتُهَا فِي الثَّابِتِ مِنْهَا، فَقِيلَ: إنَّهَا تَصِحُّ مُعَارَضَةُ الدَّلَالَةِ بِالدَّلَالَةِ وَالْعِلَّةِ، وَلَا تَجُوزُ مُعَارَضَةُ الدَّعْوَى بِالدَّعْوَى. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي هَاشِمِ بْنِ الْجُبَّائِيُّ، وَحَكَاهُ أَصْحَابُهُ عَنْ الْجُبَّائِيُّ، وَوَجَدْنَا فِي كِتَابِهِ خِلَافَهُ. وَذَكَرَ الْكَعْبِيُّ فِي جَدَلِهِ " جَوَازَ مُعَارَضَةِ الدَّعْوَى بِالدَّعْوَى.

وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ: الْمُعَارَضَةُ إظْهَارُ عِلَّةٍ مُعَارِضَةٍ لِعِلَّةٍ، أَوْ لِعِلَلٍ، فِي نَقِيضِ مُقْتَضَاهَا. هَذَا أَصْلُ الْبَابِ، وَلَا يَجْرِي إلَّا فِي الظَّنِّيَّاتِ ثُمَّ يُرَجَّحُ أَحَدُ الظَّنَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ. وَكَذَلِكَ الْمُعَارَضَةُ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ كُلِّ اعْتِرَاضٍ قَدَّمْنَاهُ، فَإِنَّ فَسَادَ الْوَضْعِ وَالْمَنْعِ لَا يَصْلُحُ عَلَى حِيَالِهِ اقْتِضَاءُ الْحُكْمِ حَتَّى يُعَارَضَ بِهِ. وَإِنَّمَا الْمُعَارَضَةُ حَيْثُ لَوْ لَمْ يَقْدِرْ لَاسْتَقَلَّتْ الْعِلَّةُ فِي نَفْسِهَا أَوْ جِنْسِهَا بِاقْتِضَاءِ الْحُكْمِ لِوُجُودِ أَصْلِ الظَّنِّ الْمُعْتَبَرِ، وَلَكِنَّ الْمُعَارِضَ مَنَعَ اعْتِبَارَهَا دُونَ تَرْجِيحٍ. فَالْحَرْفُ: الْمُعَارَضَةُ تُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةٍ عَلَى أَصْلِ الظَّنِّ الْمُعْتَبَرِ فِي هَذَا الْمَجَالِ عَلَى الْخُصُوصِ. وَاحْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ عَلَى عِلَّةِ صِحَّةِ الْحِجَاجِ بِالْمُعَارَضَةِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَهَا عَلَى الْكُفَّارِ فَقَالَ: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا} [الإسراء: 42] يَعْنِي أَنَّ بُطْلَانَ الْوُصُولِ إلَى ذِي الْعَرْشِ عِلَّةُ عَجْزِهِمْ، وَمَنْ صَحَّ عَجْزُهُ ثَبَتَ نَقْصُهُ وَاسْتَحَالَ وَصْفُهُ بِمَا وَصَفْتُمْ.

ص: 415

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعَارَضَةَ إمَّا فِي الْأَصْلِ أَوْ فِي الْفَرْعِ أَوْ فِي الْوَصْفِ: أَمَّا الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ فَإِنْ ذَكَرَ عِلَّةً أُخْرَى فِي الْأَصْلِ سِوَى عِلَّةِ الْمُعَلِّلِ وَتَكُونُ تِلْكَ الْعِلَّةُ مَعْدُومَةً فِي الْفَرْعِ، وَنَقُولُ: إنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ نَشَأَ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْتَهَا لَا بِالْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْحَنَفِيُّ فِي تَبْيِيتِ النِّيَّةِ: صَوْمُ عَيْنٍ فَتَأَدَّى بِالنِّيَّةِ قَبْلَ الزَّوَالِ، كَالنَّفْلِ. فَيُقَالُ: لَيْسَ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ مَا ذَكَرْت، بَلْ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ النَّفَلَ مِنْ عَمَلِ السُّهُولَةِ وَالْخِفَّةِ، فَجَازَ أَدَاؤُهُ بِنِيَّةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عَنْ الشُّرُوعِ، بِخِلَافِ الْفَرْضِ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَالصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَهَذَا هُوَ سُؤَالُ الْفَرْقِ، فَسَيَأْتِي فِيهِ مَا سَبَقَ وَذَكَرَهُ غَيْرُهُمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ يُبْدِيهَا الْمُعْتَرِضُ مُسْتَقِلَّةً بِالْحُكْمِ كَمُعَارَضَةِ الْكَيْلِ بِالطُّعْمِ، أَوْ غَيْرَ مُسْتَقِلَّةٍ عَلَى أَنَّهَا جُزْءُ الْعِلَّةِ، كَزِيَادَةِ الْجَارِحِ إلَى الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ فِي مَسْأَلَةِ الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْجَدَلِيُّونَ فِي قَبُولِهِ، فَقِيلَ: لَا يُقْبَلُ، بِنَاءً عَلَى مَنْعِ التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَسْأَلَةً وَلَا جَوَابًا، وَبِهِ جَزَمَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَلْعَمِيُّ الْحَنَفِيُّ فِي كِتَابِهِ الْغَرَرِ فِي الْأُصُولِ " قَالَ: لِأَنَّ لِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَقُولَ: لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا، بَلْ أَقُولُ بِالْعِلَّتَيْنِ جَمِيعًا. قَالَ: وَلَيْسَتْ مُنَاقَضَةً لِأَنَّهَا سَدُّ مَجْرَى الْعِلَّةِ وَلَمْ يَسُدَّ عَلَيْهِ الْمُجِيبُ مُنَاقَضَةً مِنْ الْعِلَّةِ. وَقِيلَ: يُقْبَلُ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الْقَطَّانِ وَغَيْرُهُ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْجَدَلِيِّينَ (قَالُوا) لِأَنَّهُ إذَا ظَهَرَ فِي الْأَصْلِ وَصْفَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَالِحٌ لِلِاسْتِقْلَالِ فَإِنَّهُ يَتَعَارَضُ عِنْدَ النَّظَرِ ثَلَاثَةُ احْتِمَالَاتٍ:

أَحَدُهَا - أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ وَصْفَ الْمُسْتَدِلِّ خَاصَّةً.

وَالثَّانِي - أَنْ تَكُونَ وَصْفَ الْمُعْتَرِضِ خَاصَّةً.

وَالثَّالِثُ - أَنْ تَكُونَ مَجْمُوعَ الْوَصْفَيْنِ. وَإِذَا تَعَارَضَتْ الِاحْتِمَالَاتُ فَالْقَوْلُ بِتَعْيِينِ وَاحِدٍ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ تَحَكُّمٌ

ص: 416

مَحْضٌ، وَهَلْ يَقْتَضِي إبْطَالَ الدَّلِيلِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ - حَكَاهُمَا الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِ التَّرْتِيبِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّهُ يَتِمُّ دَلِيلُ الْمَسْئُولِ بِالْمُعَارَضَةِ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ صَحِيحًا فَمَا يُعَارِضُهُ بِهِ خَصْمُهُ يَسْتَحِيلُ دَلِيلًا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَرَى الْمُسْتَدِلُّ فَسَادَهُ. فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ بَانَ عَجْزُهُ.

وَالثَّانِي - أَنَّهُ مَا لَمْ يُفْسِدْ الْمَسْئُولُ تِلْكَ الْمُعَارَضَةَ لَا يَتِمُّ دَلِيلُهُ - لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْمُعَارَضَةُ هِيَ الصَّحِيحَةُ وَدَلِيلُ الْمَسْئُولِ يُشْبِهُهُ، غَيْرَ أَنَّ السَّائِلَ عَجَزَ عَنْ إيرَادِ مَا يُفْسِدُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ بِنَاءَ الْخِلَافِ فِي قَبُولِ هَذَا السُّؤَالِ وَرَدِّهِ عَلَى تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ. فَإِنْ جَوَّزْنَا لَمْ يُقْبَلْ، وَإِلَّا قُبِلَ: ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَانِ " وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ، وَنَازَعَهُ شَارِحُهُ ابْنُ الْمُنِيرِ فَقَالَ: نَحْنُ وَإِنْ فَرَضْنَا جَوَازَ اجْتِمَاعِ الْعِلَلِ الْمُسْتَقِلَّةِ فَإِنَّهُ يَتَّجِهُ ذَلِكَ إذَا شَهِدَتْ الْأُصُولُ بِالِاسْتِقْلَالِ وَالتَّعْدَادِ. وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا شَهِدَ لِكُلِّ عِلَّةٍ أَصْلٌ انْفَرَدَتْ فِيهِ ثُمَّ اجْتَمَعَتْ فِي مَحَلٍّ آخَرَ، كَاجْتِمَاعِ الْحَيْضِ وَالْإِحْرَامِ، فَإِنَّ اسْتِقْلَالَ كُلٍّ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ عِلَّتِهِ حَيْثُ يَنْفَرِدُ ثُمَّ يَقَعُ الْآخَرُ حَيْثُ يَجْتَمِعُ، فَقَائِلٌ يَقُولُ: أَجْمَعْنَا عَلَى الْحُكْمِ الْوَاحِدِ، وَآخَرُ يَقُولُ: لِكُلِّ حُكْمٍ عِلَّةٌ فَاجْتَمَعَ عِلَّتَانِ وَحُكْمَانِ. أَمَّا إذَا فَرَضْنَا إبْدَاءَ السُّؤَالِ عِلَّةً، فَعَارَضَهُ السَّائِلُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى فَفَرْضُهُمَا عِلَّتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ يَسْتَدْعِي انْفِرَادَ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي أَصْلٍ سِوَى مَحَلِّ الِاجْتِمَاعِ، فَإِذَا لَمْ يَظْفَرْ الِانْفِرَادُ فَالْمُعَارَضَةُ وَارِدَةٌ، بِنَاءً عَلَى خَلَلِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ، لِأَنَّ الْمَسْئُولَ إنْ قَالَ: الْبَاعِثُ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي أَبْدَيْتُهُ قَالَ السَّائِلُ: الْبَاعِثُ مَعْنَاهُ، أَوْ الْأَمْرَانِ مَعًا، بِحَيْثُ يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا جُزْءَ عِلَّةٍ. فَهَذِهِ احْتِمَالَاتٌ

ص: 417

مُتَسَاوِيَةٌ، وَالْمُسْتَدِلُّ فِي تَعْيِينِ مَقْصُودِهِ بِالدَّعْوَى مُتَحَكِّمٌ. وَلِهَذَا لَوْ لَمْ نَعْتَبِرْ شَهَادَةَ الْأُصُولِ وَأَجَزْنَا الْمُرْسَلَاتِ لَمْ يَرِدْ هَذَا السُّؤَالُ. وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَرِضِ بَيَانُ انْتِفَاءِ الْوَصْفِ الَّذِي عَارَضَ بِهِ الْأَصْلَ عَنْ الْفَرْعِ؟ فِيهِ مَذَاهِبُ:

(أَحَدُهَا) وَهُوَ الْمُخْتَارُ، أَنَّهُ لَا يَجِبُ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ فِي الْفَرْعِ افْتَقَرَ الْمُسْتَدِلُّ إلَى بَيَانِهِ فِيهِ لِيَصِحَّ الْإِلْحَاقُ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ بَطَلَ الْجَمْعُ.

وَ (الثَّانِي) يَجِبُ نَفْيُهُ، لِأَنَّ الْفَرْقَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِذَلِكَ.

وَ (الثَّالِثُ) وَبِهِ أَجَابَ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ، إنْ قَصَدَ الْفَرْقَ فَلَا بُدَّ مِنْ نَفْيِهِ، وَإِلَّا فَلَا، لِأَنَّهُ يَقُولُ: إنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِيهِ فَهُوَ فَرْقٌ، وَإِلَّا فَالْمُسْتَدِلُّ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا بَعْضَ الْعِلَّةِ. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ إشْكَالٍ. هَذَا إذَا كَانَ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ أَصْلًا وَاحِدًا، فَإِنْ كَانَ أُصُولًا فَقِيلَ: لَا يَرِدُ، لِأَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِأَصْلٍ آخَرَ عَنْ هَذَا حَاصِلٌ. وَقِيلَ: يَرِدُ، لِأَنَّهُ أَقْوَى فِي إفَادَةِ الظَّنِّ. وَالْقَائِلُونَ بِالرَّدِّ اخْتَلَفُوا فِي الِاقْتِصَارِ فِي الْمُعَارَضَةِ عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، فَقِيلَ: يَكْفِي لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ قَصَدَ جَمْعَ الْأُصُولِ، فَإِذَا ذَهَبَ وَاحِدٌ ذَهَبَ غَرَضُهُ وَقِيلَ: لَا بُدَّ مِنْ الْجَمْعِ لِأَنَّ الْمُسْتَقِلَّ يَكْتَفِي بِأَصْلٍ وَاحِدٍ. وَالْقَائِلُونَ بِالتَّعْمِيمِ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ اتِّحَادَ الْمُعَارِضِ فِي الْكُلِّ، دَفْعًا لِانْتِشَارِ الْكَلَامِ، وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُ، لِجَوَازِ أَنْ لَا يُسَاعِدَهُ فِي الْكُلِّ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ. ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ، فَقِيلَ: يَقْتَصِرُ الْمُسْتَدِلُّ فِي الْجَوَابِ عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ بِهِ يَتِمُّ مَقْصُودُهُ. وَقِيلَ: لَا بُدَّ مِنْ الْجَوَابِ عَنْ الْكُلِّ، لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْقِيَاسَ عَلَى الْكُلِّ.

ص: 418

وَجَوَابُ الْمُعَارَضَةِ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهُمَا - مَنْعُ وُجُودِ الْوَصْفِ الْمُعَارَضِ بِهِ، بِأَنْ يَقُولَ: لَا أُسَلِّمُ وُجُودَ الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ.

(الثَّانِي) - مَنْعُ الْمُنَاسَبَةِ، أَوْ مَنْعُ الشَّبَهِ إنْ أَثْبَتَهُ بِهِمَا لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْمُعَارِضِ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِلتَّعْلِيلِ، وَلَا يَصْلُحُ إلَّا إذَا كَانَ مُنَاسِبًا أَوْ شِبْهًا، إذْ لَوْ كَانَ طَرْدًا لَمْ يَكُنْ صَالِحًا. وَإِنَّمَا لَمْ يُكْتَفَ مِنْ الْمُعْتَرِضِ بِالْوَصْفِ الشَّبَهِيِّ فِي قِيَاسِ الْإِخَالَةِ، لِأَنَّ الْوَصْفَ الشَّبَهِيَّ أَدْنَى مِنْ الْمُنَاسِبِ، فَلَا يُعَارِضُهُ. فَإِنْ كَانَ أَثْبَتَهُ بِطَرِيقِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْمُعْتَرِضَ بِالتَّأْثِيرِ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ الِاحْتِمَالَاتِ كَافٍ، فَمَنْ دَفَعَ السَّبْرَ فَعَلَيْهِ دَفْعُهُ لِيَتِمَّ لَهُ طَرِيقُ السَّبْرِ.

الثَّالِثُ، وَالرَّابِعُ - أَنْ يَقُولَ: مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْوَصْفِ خَفِيٌّ فَلَا يُعَلَّلُ بِهِ أَمْرٌ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ أَوْ غَيْرُ ظَاهِرٍ أَوْ غَيْرُ وُجُودِيٍّ وَنَحْوُهُ مِنْ قَوَادِحِ الْعِلَّةِ. كَذَا ذَكَرَهُ الْجَدَلِيُّونَ. قَالَ ابْنُ رَحَّالٍ: وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الظُّهُورَ وَالِانْضِبَاطَ إنَّمَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ نَصْبِهِ أَمَارَةً، أَمَّا فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ لِأَجْلِهِ فَلَا، لِأَنَّ الْحُكْمَ يَصِحُّ ثُبُوتُهُ لِلْخَفِيِّ وَالْمُضْطَرِبِ، وَلَكِنْ إذَا أُرِيدَ نَصْبُهُ أَمَارَةً تَعَيَّنَ النَّظَرُ إلَى مَظِنَّتِهِ. وَالْمُعَارِضُ هَاهُنَا لَيْسَ مَقْصُودُهُ نَصْبَ الْأَمَارَةِ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ مَا ثَبَتَ الْحُكْمُ لِأَجْلِهِ، فَلَا مَعْنَى لِتَكْلِيفِهِ إثْبَاتَ الظُّهُورِ وَالِانْضِبَاطِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ جَعَلْتُمْ مِنْ الْأَسْئِلَةِ النِّزَاعَ فِي ظُهُورِ الْوَصْفِ وَانْضِبَاطِهِ، وَإِذَا صَحَّتْ مُطَالَبَةُ الْمُسْتَدِلِّ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ التَّعْلِيلِ صَحَّتْ مُطَالَبَةُ الْمُعْتَرِضِ بِهِ، قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ جَمَعَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِوَصْفٍ ادَّعَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ أَمَارَةً، فَظُهُورُهُ وَانْضِبَاطُهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ نَصْبِهِ أَمَارَةً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُعْتَرِضُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدَّعِ الْأَمَارَةَ وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ طَرِيقُ الْإِجْمَالِ لِشَهَادَةِ الْأَصْلِ مِمَّا ثَبَتَ الْحُكْمُ لِأَجْلِهِ، وَالظُّهُورُ وَالِانْضِبَاطُ لَيْسَ شَرْطًا فِي ذَلِكَ، فَافْتَرَقَا.

ص: 419

الْخَامِسُ - بَيَانُ أَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى عَدَمِ وَصْفٍ مَوْجُودٍ فِي الْفَرْعِ، لَا إلَى ثُبُوتِ مُعَارِضٍ فِي الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهَذَا إنَّمَا يَكْفِي إذَا قُلْنَا: لَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِالْعَدَمِ، فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ لَمْ يَكْفِ هَذَا فِي الْجَوَابِ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَقْدَحَ فِيهِ لِوَجْهٍ آخَرَ غَيْرِ كَوْنِهِ عَدَمًا. هَذَا كُلُّهُ إذَا تَحَقَّقَ أَنَّ الْوَصْفَ عَدَمٌ فِي الْأَصْلِ ثُبُوتٌ فِي الْفَرْعِ.

السَّادِسُ - إلْغَاءُ الْوَصْفِ الَّذِي وَقَعَتْ بِهِ الْمُعَارَضَةُ وَقَدْ اسْتَشْكَلَ هَذَا بِأَنَّ الْإِلْغَاءَ ضَرْبَانِ: (أَحَدُهُمَا) إلْغَاءٌ بِإِيمَاءِ النَّصِّ. وَ (الثَّانِي) إلْغَاءٌ بِتَبْدِيلِ الْأَصْلِ.

فَالْأَوَّلُ فِيهِ انْتِقَالٌ مِنْ مَسْلَكٍ اجْتِهَادِيٍّ إلَى مَسْلَكٍ نَقْلِيٍّ، وَالِانْتِقَالُ مِنْ أَقْبَحِ الِانْقِطَاعِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ اسْتَدَلَّ بِإِيمَاءِ النَّصِّ أَوَّلًا لَأَغْنَاهُ ذَلِكَ عَنْ الْمَسَالِكِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذَا التَّطْوِيلِ؟ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْبَلَ اسْتِدْلَالُهُ أَوَّلًا. كَمَا قَالُوا فِيمَا إذَا اسْتَدَلَّ بِقِيَاسٍ عَلَى وَجْهٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ التَّرْجِيحِ بِالنَّصِّ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَفِيهِ انْتِقَالٌ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ، مَعَ بَقَاءِ مَسْلَكِ الْمُنَاسَبَةِ وَالِاقْتِرَانِ، مَعَ أَنَّ فِي [ذَلِكَ] تَطْوِيلَ الطَّرِيقِ بِلَا فَائِدَةٍ. إذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَالْإِلْغَاءُ ضَرْبَانِ:

أَحَدُهُمَا: بِإِيمَاءِ النَّصِّ، وَهُوَ قِسْمَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا لَا يُتَصَوَّرُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ، لِقِيَامِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ غَيْرُ مُرَكَّبَةٍ، بَلْ لَا يَكُونُ إلَّا وَصْفًا وَاحِدًا، كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ مِنْ الْقِثَّاءِ وَالْبِطِّيخِ إنَّهُ يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا، لِأَنَّهُ مَطْعُومٌ، فَالْتَحَقَ بِالْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ. فَعَارَضَ الْحَنَفِيُّ فِي الْأَصْلِ بِالْكَيْلِ. فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: وَصْفُ الْكَيْلِ مُلْغًى بِإِيمَاءِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ

ص: 420

بِالطَّعَامِ، إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ» فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَتَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمُشْتَقِّ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً. فَإِنْ قِيلَ لِلشَّافِعِيِّ: تَرَكْتَ النَّصَّ أَوَّلًا: فَلَمْ تَسْتَدِلَّ بِهِ، وَاسْتَدْلَلْتَ بِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا بُدَّ لَك مَعَهُ مِنْ النَّصِّ، وَهَذَا تَطْوِيلٌ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَوْ اسْتَدَلَّ أَوَّلًا بِالنَّصِّ لَاحْتَاجَ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّ الِاسْمَ الْمُفْرَدَ يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى فَكَانَ الْأَقْرَبُ إلَى مَقْصُودِهِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِغَيْرِ النَّصِّ وَيَدَّخِرَ النَّصَّ لِمَقْصُودِهِ الْإِلْغَاءَ، وَهَذَا مَقْصُودٌ صَحِيحٌ. فَإِنْ كَانَ هَذَا الْعُذْرُ مُطَّرِدًا فِي جَمِيعِ صُوَرِ الْإِلْغَاءِ كَانَ السُّؤَالُ السَّابِقُ مُنْدَفَعًا.

وَثَانِيهِمَا مَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ، كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُرْتَدَّةِ: يَجِبُ قَتْلُهَا، لِأَنَّهُ شَخْصٌ كَفَرَ بَعْدَ إيمَانِهِ، كَالرَّجُلِ. فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: أُعَارِضُ فِي الْأَصْلِ: الْوَصْفُ فِي الرُّجُولِيَّةِ فَإِنَّهُ مُنَاسِبٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ النَّاجِزِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ مَفْقُودٌ فِي الْمَرْأَةِ. فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: وَصْفُ الرُّجُولِيَّةِ مُلْغًى بِإِيمَاءِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى قَتْلِ جَمِيعِ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ جِهَةِ تَعْلِيقِهِ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ بِوَصْفِ (التَّبْدِيلِ) .

الثَّانِي: إلْغَاءٌ بِتَبْدِيلِ الْأَصْلِ: وَصُورَتُهُ أَنْ يُبَيِّنَ الْمُسْتَدِلُّ صُورَةً ثَالِثَةً يُثْبِتُ فِيهَا الْحُكْمَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى وَفْقِ عِلَّتِهِ بِدُونِ مَا عَارَضَ بِهِ الْمُعْتَرِضُ فِي الْأَصْلِ الثَّانِي، إذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبِرًا فِيهِ مَعَ كَوْنِهِ مَعْدُومًا. وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ فِي الْفَرْعِ: فَهِيَ أَنْ يُعَارِضَ حُكْمَ الْفَرْعِ بِمَا يَقْتَضِي نَقِيضَهُ أَوْ ضِدَّهُ، بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ، أَوْ بِوُجُودِ مَانِعٍ، أَوْ بِفَوَاتِ شَرْطٍ. فَيَقُولُ: مَا ذَكَرْت مِنْ الْوَصْفِ وَإِنْ اقْتَضَى ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ فَعِنْدِي وَصْفٌ آخَرُ يَقْتَضِي نَقِيضَهُ، فَتَوَقَّفَ دَلِيلُك. مِثَالُ النَّقِيضِ: إذَا بَاعَ الْجَارِيَةَ إلَّا

ص: 421

حَمْلَهَا صَحَّ فِي وَجْهٍ، كَمَا لَوْ بَاعَ هَذِهِ الصِّيعَانَ إلَّا صَاعًا. فَنَقُولُ: لَا يَصِحُّ، كَمَا لَوْ بَاعَ الْجَارِيَةَ إلَّا يَدَهَا. وَمِثَالُ الضِّدِّ: الْوِتْرُ وَاجِبٌ، قِيَاسًا عَلَى التَّشَهُّدِ فِي الصَّلَاةِ، بِجَامِعِ مُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَنَقُولُ: فَيُسْتَحَبُّ قِيَاسًا عَلَى الْفَجْرِ، بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُفْعَلُ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لِفَرْضٍ مُعَيَّنٍ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْوِتْرَ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرَ فِي وَقْتِ الصُّبْحِ، وَلَمْ يُعْهَدْ مِنْ الشَّرْعِ وَضْعُ صَلَاتَيْ فَرْضٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.

وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: أَمَّا الْمُعَارَضَةُ فِي حُكْمِ الْفَرْعِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا ذَكَرَ الْمُعَلِّلُ عِلَّةً فِي إثْبَاتِ حُكْمِ الْفَرْعِ وَنَفْيِ حُكْمِهِ، فَيُعَارِضُهُ خَصْمُهُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى تُوجِبُ مَا تُوجِبُهُ عِلَّةُ الْمُعَلِّلِ، فَتَعَارَضَ الْعِلَّتَانِ فَتَمْنَعَانِ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا بِتَرْجِيحِ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي قَبُولِ هَذَا الِاعْتِرَاضِ: فَرَدَّهُ بَعْضُهُمْ لَا سِيَّمَا الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الْجَدَلِيِّينَ، مُحْتَجِّينَ بِأَنَّ دَلَالَةَ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى مَا ادَّعَاهُ قَدْ تَمَّتْ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَهُوَ ظَاهِرٌ إلَّا فِيمَا إذَا كَانَتْ الْمُعَارَضَةُ بِفَوَاتِ الشَّرْطِ فَإِنَّا نُبَيِّنُ عَدَمَ تَمَامِ دَلَالَتِهِ إذْ ذَاكَ، وَإِذَا تَمَّتْ دَلَالَتُهُ فَقَدْ وَفَى بِمَا الْتَزَمَ فِي الِاسْتِدْلَالِ، فَهُوَ بَعْدَ ذَلِكَ مُخَيَّرٌ: إنْ شَاءَ سَمِعَ الْمُعَارَضَةَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَسْمَعْ - كَاسْتِدْلَالِ مُسْتَأْنِفٍ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ حَقَّ الْمُعْتَرِضِ أَنْ يَكُونَ هَادِمًا لَا بَانِيًا، وَالْمُعَارَضَةُ فِي حُكْمِ الْفَرْعِ بِنَاءٌ لَا هَدْمٌ، بِخِلَافِ الْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ، فَإِنَّ حَاصِلَهَا يَرْجِعُ إلَى مَنْعِ الْمُقَدِّمَةِ، وَهِيَ كَوْنُ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِمَا ذُكِرَ مِنْ الْوَصْفِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ قَبُولِهَا ثُمَّ قَبُولِهَا هُنَا. وَقَبِلَهُ الْأَكْثَرُونَ، لِقِيَامِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الدَّلِيلَ مَعَ وُجُودِ الْمُعَارِضِ عُطْلٌ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ عِنْدَ وُرُودِهَا مُتَحَكِّمٌ، وَالتَّحَكُّمُ بَاطِلٌ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُ طَرِيقٌ لِلْهَدْمِ، وَقَدْ يَتَعَيَّنُ طَرِيقًا لِلْهَدْمِ، فَلَوْ لَمْ يُقْبَلْ لَبَطَلَ مَقْصُودُ الْمُنَاظَرَةِ وَالْبَحْثِ وَالِاجْتِهَادِ، وَلِأَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ غَصْبًا لِمَنْصِبِ التَّعْلِيلِ أَنْ لَوْ ذَكَرَهَا

ص: 422

الْمُعْتَرِضُ لِإِثْبَاتِ مَذْهَبِهِ. وَهُوَ لَا يَذْكُرُهَا لِذَلِكَ، لِاتِّفَاقِ دَلِيلِ خَصْمِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ صَحَّحَهُ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ " وَقَدْ رَأَيْتَ ابْنَ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " نَقَلَ عَنْهُ إبْطَالَ الْمُعَارَضَةِ ثُمَّ رَأَيْت إلْكِيَا الطَّبَرِيَّ سَبَقَهُ إلَى نَقْلِ ذَلِكَ عَنْهُ فَقَالَ فِي كِتَابِ " التَّلْوِيحِ ": صَارَ الْغَزَالِيُّ إلَى بُطْلَانِ الْمُعَارَضَةِ عَلَى مَا سَمِعْنَا الْإِمَامَ يَنْقُلُهُ عَنْهُ وَكَانَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ امْتِنَاعَ التَّنَاقُضِ فِي أَدِلَّةِ الشَّرْعِ، فَإِذَا اعْتَرَفَ السَّائِلُ بِصِحَّةِ عِلَّةِ الْمُعَلِّلِ وَاسْتِقْلَالِهَا بِالْحُكْمِ، وَالْمَسْئُولُ يُنْكِرُ صِحَّةَ تَعْلِيلِهِ. وَإِنْ هُوَ أَرَادَ إظْهَارَهُ فَقَدْ تَنَاقَضَ وَقَالَ بِتَعَارُضِ النُّصُوصِ، وَلِأَنَّ حَقَّ السَّائِلِ أَنْ يَكُونَ هَادِمًا غَيْرَ بَانٍ، وَالْمُعَارَضَةُ تَقْتَضِي الْبِنَاءَ إنْ كَانَ التَّرْجِيحُ لِتَعْلِيلِ السَّائِلِ أَوْ سَاقِطَةٌ إنْ كَانَ التَّرْجِيحُ لِعِلَّةِ الْمَسْئُولِ، فَلَا يَخْلُو مِنْ طَرَفَيْ نَقِيضٍ وَوَجْهَيْ فَسَادٍ.

وَنَحْنُ نَقُولُ: السَّائِلُ لَمْ يَقْصِدْ الْبِنَاءَ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُ الْهَدْمَ، فَإِنَّ مَقْصُودَهُ إعَانَةُ الْمَسْئُولِ عَلَى إتْمَامِ غَرَضِهِ بِإِيضَاحِ التَّرْجِيحِ، وَلَا يَنَالُ هَذِهِ إلَّا بِالْمُعَارَضَةِ. (قَالَ) : وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُعَلِّلَ لَوْ اسْتَدَلَّ بِظَاهِرٍ فَلِلسَّائِلِ أَنْ يُؤَوِّلَ وَيَعْتَضِدَ بِالْقِيَاسِ، وَإِذَا صَحَّتْ الْمُعَارَضَةُ فَالسَّائِلُ لَا يُرَجِّحُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بَانِيًا، هَذَا إذَا أَمْكَنَهُ قَطْعُ التَّرْجِيحِ عَنْ الدَّلِيلِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ الدَّلِيلُ فِي وَضْعِهِ أَرْجَحَ فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَبِلَ الْمُعَارَضَةَ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا لَا يَجِدُ غَيْرَهُ. فَإِنْ رَجَّحَ الْمَسْئُولُ مُكِّنَ السَّائِلُ مِنْ مُعَارَضَةِ التَّرْجِيحِ (انْتَهَى) . ثُمَّ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَرِضِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ مَا عَارَضَ بِهِ مُسَاوٍ لِدَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ، بَلْ يَكْفِي مِنْهُ بَيَانُ مُطْلَقِ الْمُعَارِضِ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسْتَدِلِّ فَإِنَّهُ لَا يُكْتَفَى مِنْهُ فِي دَفْعِهَا إلَّا بِبَيَانِ أَنَّ دَلِيلَهُ رَاجِحٌ عَلَى مَا عَارَضَ بِهِ الْمُعْتَرِضُ، لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ مُدَّعٍ لِاسْتِقْلَالِ دَلِيلِهِ بِالْحُكْمِ، وَالْمُعَارِضُ مُنْكِرٌ لَهُ، وَالْمُنْكِرُ يَكْفِيهِ مُطْلَقُ الْإِنْكَارِ، بِخِلَافِ الْمُدَّعِي.

ص: 423

وَإِذَا تَمَّتْ الْمُعَارَضَةُ مِنْ السَّائِلِ فَهَلْ يَنْقَطِعُ الْمُسْتَدِلُّ أَمْ يُسْمَعُ مِنْهُ التَّرْجِيحَ؟ فَقِيلَ: يَنْقَطِعُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ إنْ عَجَزَ عَنْ تَرْجِيحِ دَلِيلِهِ. وَجَوَابُهُ بِالْقَدْحِ بِمَا يَرُدُّ عَلَى ذَلِكَ إنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَدِلِّ.

وَاخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَتَيْنِ:

إحْدَاهُمَا: فِي دَفْعِهِ بِالتَّرْجِيحِ بِمُرَجِّحٍ أَقْوَى مِنْ مُرَجِّحِهِ: فَقِيلَ: يُمْنَعُ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا فَلَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ اعْتِرَاضًا وَالْمُخْتَارُ - وَرَجَّحَهُ الْمُحَقِّقُونَ - جَوَازُهُ لِأَنَّهُ مَوْطِنُ تَعَارُضٍ، وَقَدْ لَا يَجِدُ السَّائِلُ غَيْرَهُ مُرَجِّحًا. وَقَضِيَّةُ كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ السَّائِلَ إذَا عَارَضَ الْمُسْتَدِلَّ بِتَرْجِيحٍ أَقْوَى، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى تَرْجِيحٍ مُسَاوٍ فَقَدْ تَعَدَّى. وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ لَهُ الْمُعَارَضَةُ بِالْأَقْوَى مَعَ وُجُودِ الْمُسَاوِي، لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْأَقْوَى مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ أَقْوَى، بَلْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُعَارِضًا، وَمَزِيَّةُ الْقُوَّةِ مُصَادَفَةٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: الْأَوْلَى أَنْ يَذْكُرَ الْأَقْوَى، لِأَنَّهُ إذَا سَاغَ لَهُ التَّرْجِيحُ الْمُسَاوِي فَالْأَقْوَى أَوْلَى. وَفِيهِ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ يُوقَفُ الْمُسْتَدِلُّ عَنْ نَوْبَةٍ أُخْرَى مِنْ التَّرْجِيحِ، لِأَنَّهُ قَدْ اخْتَلَفَ مِثْلُهَا، فَيَحْتَاجُ الْمُسْتَدِلُّ حِينَئِذٍ إلَى تَرْجِيحَيْنِ أَوْ تَرْجِيحٍ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ الْأَقْوَى فَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ نِطَاقُ الْكَلَامِ وَهُوَ غَرَضُ الْمُنَاظَرَةِ وَفِي ذِكْرِ الْأَقْوَى اخْتِصَارٌ (انْتَهَى) . وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ قَابَلَ تَرْجِيحَ الْمُسْتَدِلِّ لَا يُقْبَلُ الِاسْتِغْنَاءَ بِهِ عَنْ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّ فِي الْوَاحِدِ كِفَايَةً، وَالزِّيَادَةُ تُوجِبُ الْإِثْبَاتَ، لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَنْصِبِهِ.

الثَّانِيَةُ: هَلْ يُقْبَلُ مُعَارَضَةُ الْمُعَارَضَةِ بِدَلِيلٍ مُسْتَقِلٍّ؟ اخْتَلَفُوا عَلَى مَذَاهِبَ:

أَحَدُهَا: نَعَمْ، لِأَنَّهُ دَلِيلٌ كَالْأَوَّلِ، فَجَازَ أَنْ يُعَارِضَ. وَعَلَى هَذَا يَتَسَاقَطَانِ وَيُسَلَّمُ الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ مِنْ الْمُعَارِضِ، قَالَ الْمُقْتَرِحُ: وَكَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي تَعَارُضِ النَّصَّيْنِ يَقْتَضِي اخْتِيَارَهُ.

ص: 424

وَالثَّانِي: لَا يُقْبَلُ وَإِنْ قَبِلْنَا أَصْلَ الْمُعَارَضَةِ، لِانْتِشَارِ الْكَلَامِ وَأَدَائِهِ إلَى الِانْتِقَالِ، وَإِذَا قَبِلْنَا تَرْجِيحَ الْمُسْتَدِلِّ لِدَلِيلِهِ عَلَى مَا عَارَضَ بِهِ السَّائِلَ، فَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَنْشَأُ التَّرْجِيحِ مَذْكُورًا فِي الدَّلِيلِ؟ قِيلَ: يَجِبُ، لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ أَوَّلًا لَكَانَ ذَاكِرًا لِبَعْضِ الدَّلِيلِ. وَقِيلَ: لَا يَجِبُ، لِأَنَّ مَرَاتِبَ الْمُعَارَضَةِ لَا يَعْرِفُهَا الْمُسْتَدِلُّ فِي بَدْءِ اسْتِدْلَالِهِ، فَيُؤَدِّي إلَى الْمَشَقَّةِ، بِخِلَافِ الِاحْتِرَازِ لِدَفْعِ النَّقْضِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ النَّصَّانِ سُمِعَ التَّرْجِيحُ مِنْ الْمُسْتَدِلِّ بِالِاتِّفَاقِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي نَصِّ الْمُسْتَدِلِّ مَا يُشِيرُ إلَى التَّرْجِيحِ.

وَالثَّالِثُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْآمِدِيَّ التَّفْصِيلُ: فَإِنْ كَانَ التَّفْصِيلُ وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ تَعَيَّنَ ذِكْرُهُ، وَإِلَّا فَلَا، لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِكَمَالِ الدَّلِيلِ، وَالتَّرْجِيحُ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ.

تَنْبِيهٌ: قَسَّمَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ الْمُعَارَضَةَ إلَى مَا تَكُونُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى، وَإِلَى مَا هِيَ بِعِلَّةِ الْمُعَلِّلِ بِعَيْنِهَا، فَالْمُعَارَضَةُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى تَارَةً تَكُونُ فِي حُكْمِ الْفَرْعِ، وَتَارَةً فِي عِلَّةِ الْأَصْلِ - وَقَدْ سَبَقَا - وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ بِعِلَلِ الْمُعَلِّلِ فَتُسَمَّى (قَلْبًا) وَقَدْ سَبَقَ حُكْمُهُ.

وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ: قَسَّمَ الْجَدَلِيُّونَ الْمُعَارَضَةَ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مُعَارَضَةُ الدَّعْوَى بِالدَّعْوَى وَالْخَبَرِ بِالْخَبَرِ، وَالْقِيَاسِ بِالْقِيَاسِ: - فَأَمَّا مُعَارَضَةُ الدَّعْوَى بِالدَّعْوَى فَلَا مَعْنَى لَهَا إلَّا عَلَى تَقْدِيرِ وَقَعَ التَّشْنِيعُ. - وَأَمَّا مُعَارَضَةُ الْخَبَرِ بِالْخَبَرِ فَصَحِيحَةٌ، مِثْلُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، فَيَقُولُ: لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ:

ص: 425

«مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا» الْحَدِيثَ، فَيَرْجِعُ الْكَلَامُ بَعْدَهُ إلَى التَّرْجِيحِ. - وَأَمَّا مُعَارَضَةُ الْمَعْنَى بِالْمَعْنَى فَعَلَى قِسْمَيْنِ:(أَحَدُهُمَا) بَيْنَ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. وَ (الثَّانِي) مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ. ثُمَّ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) فِي ضِدِّ حُكْمِهِ فَيَكُونُ مُعَارَضَةً صَحِيحَةً وَ (الثَّانِي) فِي عَيْنِ حُكْمِهِ وَلَكِنْ يَتَعَذَّرُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. - فَمَا كَانَ بَيْنَ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْمُعَارَضَاتِ. مِثَالُهُ: طَهَارَةُ الْوُضُوءِ حُكْمِيَّةٌ فَتَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ، قِيَاسًا عَلَى التَّيَمُّمِ. فَيَقُولُ الْمُعَارِضُ: طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ فَلَا تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ، قِيَاسًا عَلَى إزَالَةِ النَّجَاسَةِ فَلَا بُدَّ عِنْدَ ذَلِكَ مِنْ التَّرْجِيحِ. - وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ عَلَى الضِّدِّ فَضَرْبَانِ:(أَحَدُهُمَا) أَنْ يَجْعَلَ الْأَصْلَ الْوَاحِدَ بَيْنَهُمَا مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. وَ (الثَّانِي) أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَ مَا عَلَّلَ بِهِ مَعْنًى لَهُ. فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ: لَمَّا كَانَ عَدَدُ الْأَقْرَاءِ مُعْتَبَرًا بِالْمَرْأَةِ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ بِهَا عَدَدُ الطَّلَاقِ، لِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِهَا. فَيُعَارِضُهُ بِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ بِالْفَاعِلِ قِيَاسًا عَلَى الْعِدَّةِ. وَفِي الثَّانِي يَقُولُ: نَفْسُ هَذَا الْمَعْنَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْفَاعِلِ، كَالْعِدَّةِ.

ص: 426