الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِي الْفَرْضِ وَالْبِنَاءِ]
اعْلَمْ أَنَّ لِلْمَسْئُولِ فِي الدَّلَالَةِ ثَلَاثَةَ طُرُقٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَفْرِضَ الدَّلَالَةَ فِي بَعْضِ شُعَبِهَا وَفُصُولِهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَبْنِيَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى غَيْرِهَا، فَإِنْ اسْتَدَلَّ عَلَيْهَا بِعَيْنِهَا فَوَاضِحٌ. وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَفْرِضَ الْكَلَامَ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهَا جَازَ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْخِلَافُ فِي الْكُلِّ وَثَبَتَ الدَّلِيلُ فِي بَعْضِهَا ثَبَتَ الْبَاقِي بِالْإِجْمَاعِ. وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَفْرِضَ الدَّلَالَةَ فِي غَيْرِ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَسْأَلَةِ لَمْ يَجُزْ. وَأَمَّا إذَا أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى غَيْرِهَا فَيَجُوزُ، لِأَنَّهُ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْمَسْأَلَةِ. وَإِمَّا أَنْ يَبْنِيَهَا عَلَى مَسْأَلَةٍ أُصُولِيَّةٍ، كَقَوْلِ الظَّاهِرِيِّ فِي الْغُسْلِ لَا. بِنَاءً عَلَى مَنْعِ الْقِيَاسِ، وَإِمَّا أَنْ يَبْنِيَهَا عَلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى فَرْعِيَّةٍ، كَالْخِلَافِ فِي الشَّعْرِ هَلْ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ؟ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ هَلْ تَحِلُّهُ الْحَيَاةُ أَمْ لَا؟ هَذَا إذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا. فَإِنْ اخْتَلَفَ لَمْ يَجُزْ بِنَاءُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ. كَمَا لَوْ سُئِلَ الْحَنَفِيُّ عَنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ فَقَالَ: أَنَا أَبْنِيهِ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ، فَهَذَا لَا يَصِحُّ فِيهِ الْبِنَاءُ، لِأَنَّهُمَا مَسْأَلَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ كَثُرَ فِي عِبَارَاتِهِمْ (وَالْفَرْضُ وَالْبِنَاءُ) مِنْ غَيْرِ تَحْقِيقٍ. وَمَعْنَاهُ: أَنْ يَسْأَلَ الْمُسْتَدِلُّ عَامًّا فَيُجِيبُهُ خَاصًّا، مِثْلُ أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ ذَاتَ صُوَرٍ، فَيَسْأَلُ السَّائِلُ عَنْهُ سُؤَالًا لَا يَقْتَضِي الْجَوَابَ عَلَى جَمِيعِ صُوَرِهَا، فَيُجِيبُ الْمُسْتَدِلُّ عَنْ صُورَةٍ أَوْ صُورَتَيْنِ مِنْهَا، لِأَنَّ الْفَرْضَ هُوَ الْقَطْعُ
وَالتَّقْدِيرُ، فَكَأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ اقْتَطَعَ تِلْكَ الصُّورَةَ عَنْ أَخَوَاتِهَا فَأَجَابَ عَنْهَا. وَهُوَ إمَّا فَرْضٌ فِي الْفَتْوَى، كَمَا لَوْ سُئِلَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، هَلْ يَنْعَقِدُ أَمْ لَا؟ فَيَقُولُ: لَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، لِوُرُودِ النَّهْيِ، فَإِنَّ بَيْعَ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ مِنْ صُوَرِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَا عَيْنِهِ. وَإِمَّا فَرْضٌ فِي الدَّلِيلِ بِأَنْ يَبْنِيَ عَامًّا وَيَدُلَّ خَاصًّا، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ الْفَاسِدُ، لِأَنَّهُ «صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ» . وَالضَّابِطُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَدِلُّ يُسَاعِدُهُ الدَّلِيلُ عَلَيْهَا، فَإِذَا تَمَّ لَهُ فِيهَا الدَّلِيلُ بَنَى الْبَاقِيَ مِنْ الصُّوَرِ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ يُسَمَّى الْفَرْضُ وَالْبِنَاءُ. وَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي جَوَازِهِ: فَذَهَبَ ابْنُ فُورَكٍ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ حَقَّ الْجَوَابِ أَنْ يُطَابِقَ السُّؤَالَ. وَذَهَبَ غَيْرُهُ مِنْ الْجَدَلِيِّينَ إلَى الْجَوَازِ، لِأَنَّ الْمَسْئُولَ قَدْ لَا يَجِدُ دَلِيلًا إلَّا عَلَى بَعْضِ صُوَرِ السُّؤَالِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَرِدُ عَلَى جَوَابِهِ الْعَامِّ إشْكَالٌ لَا يَنْدَفِعُ، فَيَتَخَلَّصُ مِنْهُ بِالْفَرْضِ الْخَاصِّ.
وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَتْ عِلَّةُ الْفَرْضِ شَامِلَةً لِسَائِرِ الْأَطْرَافِ. (قَالَ) : وَالْمُسْتَحْسَنُ مِنْهُ هُوَ الْوَاقِعُ فِي طَرَفٍ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ عُمُومُ سُؤَالِ السَّائِلِ، وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى اسْتِشْعَارِ انْتِشَارِ الْكَلَامِ فِي جَمِيعِ الْأَطْرَافِ وَعَدَمِ وَفَاءِ مَجْلِسٍ وَاحِدٍ بِاسْتِتْمَامِ الْكَلَامِ فِيهَا. وَحَاصِلُهُ: إنْ ظَهَرَ انْتِظَامُ الْعِلَّةِ الْعَامَّةِ فِي الصُّورَتَيْنِ كَانَ مُسْتَحْسَنًا وَإِلَّا كَانَ مُسْتَهْجَنًا. وَفَائِدَتُهُ كَوْنُ الْعِلَّةِ قَدْ تَخْفَى فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَفِي بَعْضِهَا أَظْهَرُ. فَالتَّفَاوُتُ بِالْأَوْلَوِيَّةِ خَاصَّةً وَالْعِلَّةُ وَاحِدَةٌ. وَهَذَا بِمَثَابَةِ تَوَجُّهِ النَّهْيِ
إلَى جَمِيعِ أَذِيَّاتِ الْأَبِ إلَى التَّأْفِيفِ. وَيُشْبِهُ الْفَرْقَ بَيْنَ التَّوَاطُؤِ وَالْمُشْتَرَكِ، فَإِنَّ نِسْبَةَ الْآحَادِ إلَى التَّوَاطُؤِ مُتَسَاوِيَةٌ، بِخِلَافِ الْمُشْكِلِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَأَعْجَبَنِي مِنْ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ كَلَامٌ أَوْرَدَهُ فِي اسْتِبْعَادِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الْوَصِيَّةِ بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ، أَوْ سَهْمٍ، فَإِنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ حَمَلَ الْوَصِيَّةَ عَلَى الْأَقَلِّ: فَمَهْمَا سَلَّمَهُ الْوَرَثَةُ خَرَجُوا بِهِ عَنْ الْعُهْدَةِ. فَكَانَ يَسْتَبْعِدُ هَذَا وَيَفْرِضُ فِيمَا لَوْ اُحْتُضِرَ مُتَمَوِّلٌ وَاسِعُ الْمَالِ فَعَطَفَهُ الْحَاضِرُونَ عَلَى وَلَدِ وَلَدٍ تُوُفِّيَ فِي حَيَاتِهِ وَقِيلَ لَهُ: إنَّ وَلَدَ وَلَدِك لَا مِيرَاثَ لَهُ مَعَ غَيْرِهِ، فَلَوْ وَصَلْتَ رَحِمَهُ وَأَغْنَيْتَ فَقْرَهُ بَعْدَك بِأَنْ تُوصِيَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِك لِيَكُونَ لَهُ مَعَ وَلَدِك مَدْخَلٌ. فَقَالَ الْمُحْتَضَرُ: قَدْ أَوْصَيْت لَهُ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِي، وَأَوْصَى عَمُّهُ بِهِ حِينَ تُوُفِّيَ هَذَا الْمُحْتَضَرُ، فَعَمَدَ وَلَدُهُ إلَى سَفَرْجَلَةٍ أَوْ تَمْرَةٍ فَسَلَّمَهَا لِوَلَدِ الْوَلَدِ زَاعِمًا أَنَّ هَذَا مُرَادُ أَبِيهِ لِقَطْعِ كُلِّ عَاقِلٍ بِأَنَّ هَذَا الْوَارِثَ مُدَافِعٌ لِلْوَصِيَّةِ مُرَادٌ. وَكَانَ الشَّيْخُ يَسْتَصْوِبُ مَذْهَبَ مَالِكٍ فِي حَمْلِهِ (السَّهْمَ) عَلَى إلْحَاقِ الْمُوصَى لَهُ بِسُهْمَانِ الْوَرَثَةَ. لَكِنْ يَرْجِعُ إلَى أَقَلِّهِمْ سَهْمًا فَيُعْطَى مِثْلَهُ جَمْعًا بَيْنَ الْمُعَرَّفِ وَبَيْنَ الْأَصْلِ فِي الْحَمْلِ عَلَى الْأَقَلِّ. وَمِثْلُ هَذَا الْفَرْضِ يُسْتَحْسَنُ لَا بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْعِلَلِ، وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ تَمَكُّنِ الصُّورَةِ الْمَفْرُوضَةِ مِنْ الدَّلِيلِ وَإِنْ كَانَ شَامِلًا لِلْجَمِيعِ وَلَكِنْ شُمُولًا مُتَفَاوِتًا.
قَالَ: ثُمَّ وَقَعَ لِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الشَّيْخَ فِي فَرْضِهِ إيقَافٌ لِلْأَذْهَانِ فِي مُبَادِيهَا، وَإِذَا تُؤُمِّلَ انْدَفَعَ التَّشْنِيعُ مِنْ الْفَقِيهِ الْمُفْتِي بِأَقَلِّ شُمُولٍ لَا الْمُوصِي الَّذِي هُوَ الْحَقِيقُ بِاللَّوْمِ وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُوصِيَ لَوْ قَالَ فِي السِّيَاقِ الْمَذْكُورِ: ادْفَعُوا لَهُ أَقَلَّ مُتَمَوَّلٍ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ قَبُولِ السَّفَرْجَلَةِ وَنَحْوِهَا عَلَى سَائِرِ الْمَذَاهِبِ. وَكَذَا لَوْ صَرَّحَ بِهَا، وَلَا لَوْمَ عَلَى الْفَقِيهِ إذَا قَالَ: لَا يَسْتَحِقُّ الْمُوصَى بِهِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ إذَا عَدَلَ الْمُوصِي عَنْ التَّعْيِينِ وَقَالَ: ادْفَعُوا لَهُ سَهْمًا أَوْ جُزْءًا. وَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ (الْأَكْثَرَ) لَا يَنْضَبِطُ. وَكَذَلِكَ
الْأَوْسَطُ) لِتَعَدُّدِ حَالِ الْوَسَائِطِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ الْأَطْرَافِ الثَّلَاثَةِ إلَّا (الْأَقَلُّ) فَكَانَ كَمَا لَوْ صَرَّحَ، فَاللَّائِمَةُ حِينَئِذٍ عَلَى الْمُوصِي لَا عَلَى الْمُفْتِي. وَاعْلَمْ أَنَّ بِنَاءَ مَسْأَلَةٍ عَلَى أُخْرَى إنْ كَانَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الِاسْتِدْلَالِ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَإِنْ ابْتَدَأَ الدَّلَالَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ يُرِيدُ الْبِنَاءَ فَلَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأُصُولِ، كَاسْتِدْلَالِ الْمَالِكِيِّ عَلَى الْحَنَفِيِّ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْأَذَانِ. فَإِنْ سَلَّمَ الْحَنَفِيُّ تَسْلِيمًا جَدَلِيًّا عَدَلَ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَسْئِلَةِ، وَإِلَّا قَالَ لَهُ الْمَسْئُولُ: هَذَا أَصْلٌ مِنْ أُصُولِي، وَأَنَا أَبْنِي فَرْعِي عَلَى أَصْلِي، فَإِنْ سَلَّمْت وَإِلَّا نَقَلْت الْكَلَامَ، فَإِنْ نَقَلَ جَازَ، وَإِنْ قَالَ: لَا أُسَلِّمُ وَلَا أَنْقُلُ الْكَلَامَ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ فَرْعًا يُمَانِعُهُ السَّائِلُ، فَإِنْ أَرَادَ نَقْلَ الْكَلَامِ إلَى مَسْأَلَةِ الْبِنَاءِ فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ: لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي، اعْتِبَارًا بِبِنَائِهَا عَلَى أَصْلٍ مِنْ الْأُصُولِ الظَّاهِرَةِ.