المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الباب الثالث في وجوب العمل بالقياس] - البحر المحيط في أصول الفقه - ط الكتبي - جـ ٧

[بدر الدين الزركشي]

فهرس الكتاب

- ‌[كِتَابُ الْقِيَاسِ] [

- ‌الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي حَقِيقَة الْقِيَاس]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ فِي نَظَرِ الْأُصُولِيِّينَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ اشْتِمَالُ النُّصُوصِ عَلَى الْفُرُوعِ الْمُلْحَقَةِ بِالْقِيَاسِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ مُظْهِرٌ لَا مُثْبِتٌ]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي فِي مَوْضُوعِ الْقِيَاسِ]

- ‌[الْبَابُ الثَّالِثُ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ]

- ‌[مَسْأَلَة الْقِيَاسُ يُعْمَلُ بِهِ قَطْعًا]

- ‌[مَسْأَلَة التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ نَصُّ الشَّارِعِ عَلَى الْحُكْمِ وَالْعِلَّةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ اسْتِعْمَال الْقِيَاسُ إذَا عُدِمَ النَّصُّ]

- ‌[مَسْأَلَة الْمُرْسَلُ وَالضَّعِيفُ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ]

- ‌[الْبَابُ الرَّابِعُ فِي أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ]

- ‌[أَقْسَامُ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ]

- ‌[أَقْسَامُ الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ]

- ‌[الْبَابُ الْخَامِسُ مَا يَجْرِي فِيهِ الْقِيَاسُ]

- ‌[أَمْثِلَةٌ لِلْقِيَاسِ فِي الرُّخَصِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ جَرَيَانُ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ فِي الْعَقْلِيَّاتِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ جَرَيَانُ الْقِيَاسِ فِي اللُّغَاتِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ فِي الْأَسْبَابِ]

- ‌[الْبَابُ السَّادِسُ فِي أَرْكَانِ الْقِيَاس] [

- ‌الرُّكْن الْأَوَّل الْأَصْلِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَأْثِيرُ الْأَصْلِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ]

- ‌[الْكَلَامُ فِي شُرُوطِ حُكْمِ الْأَصْلِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَا يَمْتَنِعُ فِيهِ الْقِيَاسُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ الْأَصْلِ]

- ‌[الرُّكْنُ الثَّالِثُ الْفَرْعُ]

- ‌[الرُّكْنُ الرَّابِعُ الْعِلَّةُ]

- ‌[مَسْأَلَة الْمَعْلُولُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَقَدُّمُ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَا بُدَّ لِلْحُكْمِ مِنْ عِلَّةٍ]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ شُرُوطِ الْعِلَّةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ اقْتِصَارُ الشَّارِعِ عَلَى أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ فِي الْعِلَّة]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ أُمُورٍ اُشْتُرِطَتْ فِي الْعِلَّةِ]

- ‌[فَائِدَةٌ الْعِلَّةُ إذَا كَثُرَتْ أَوْصَافُهَا فِي الْقِيَاسِ]

- ‌[مَسَالِكُ الْعِلَّةِ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ الْإِجْمَاعُ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً]

- ‌[الْمَسْلَكُ الثَّانِي النَّصُّ عَلَى الْعِلَّةِ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ الْإِيمَاءُ وَالتَّنْبِيهُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الرَّابِعُ الِاسْتِدْلَال عَلَى عِلِّيَّةِ الْحُكْمِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الْمَسْلَكُ الْخَامِسُ فِي إثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ الْمُنَاسَبَةُ]

- ‌[تَقْسِيمُ الْمُنَاسِبِ]

- ‌[أَقْسَامُ الْمُنَاسِبِ مِنْ حَيْثُ الْيَقِينِ وَالظَّنِّ]

- ‌[أَقْسَامُ الْمُنَاسِبِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةِ وَالْإِقْنَاعِ]

- ‌[تَقْسِيمُ الْمُنَاسَبَةِ مِنْ حَيْثُ التَّأْثِيرُ وَالْمُلَاءَمَةُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ السَّادِسُ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ السَّابِعُ الشَّبَهُ]

- ‌[حُكْم قِيَاس الشَّبَه]

- ‌[الْمَسْلَكُ الثَّامِنُ الدَّوَرَانُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ التَّاسِعُ الطَّرْدُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الْعَاشِرُ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ]

- ‌[الِاعْتِرَاضَاتُ]

- ‌[الْأَوَّلُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ النَّقْضُ]

- ‌[الثَّانِي مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الْكَسْرُ]

- ‌[الثَّالِثُ مِنْ الِاعْتِرَاضَات عَدَمُ الْعَكْسِ]

- ‌[الرَّابِعُ مِنْ الِاعْتِرَاضَات عَدَمُ التَّأْثِيرِ]

- ‌[الْخَامِسُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الْقَلْبُ]

- ‌[حَقِيقَتِهِ الْقَلْبُ]

- ‌[اعْتِبَارِهِ الْقَلْب]

- ‌[هَلْ الْقَلْب قَادِحٌ أَمْ لَا]

- ‌[أَقْسَام الْقَلْبُ]

- ‌[السَّادِسُ مِنْ الِاعْتِرَاضَات الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ]

- ‌[السَّابِعُ مِنْ الِاعْتِرَاضَات الْفَرْقُ وَيُسَمَّى سُؤَالَ الْمُعَارَضَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ شُرُوط الْفَرْقِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي جَوَابِ الْفَرْقِ]

- ‌[الثَّامِنُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الِاسْتِفْسَارُ]

- ‌[التَّاسِعُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ]

- ‌[الْعَاشِرُ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ فَسَادُ الْوَضْعِ]

- ‌[الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَات الْمَنْعُ]

- ‌[الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَات التَّقْسِيمُ]

- ‌[الثَّالِث عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَات اخْتِلَافُ الضَّابِطِ]

- ‌[الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ اخْتِلَافُ حُكْمَيْ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ]

- ‌[الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الْمُعَارَضَةِ]

- ‌[وُجُوهٍ الْمُعَارَضَةِ]

- ‌[السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ سُؤَالُ التَّعْدِيَةِ]

- ‌[فَصْلٌ تَرْتِيبِ الْأَسْئِلَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الِانْتِقَالِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْفَرْضِ وَالْبِنَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي حِيَلِ الْمُتَنَاظِرِينَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي التَّعَلُّقِ بِمُنَاقَضَاتِ الْخُصُومِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِالْمُخْتَلَفِ فِيهِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ]

الفصل: ‌[الباب الثالث في وجوب العمل بالقياس]

[الْبَابُ الثَّالِثُ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ]

الْبَابُ الثَّالِثُ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ

وَهُوَ حُجَّةٌ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ بِالِاتِّفَاقِ. قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ: كَمَا فِي الْأَدْوِيَةِ وَالْأَغْذِيَةِ وَالْأَسْعَارِ. وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ الصَّادِرُ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم بِالِاتِّفَاقِ، قَالَ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ: لِأَنَّ مُقَدِّمَاتِهِ قَطْعِيَّةٌ لِوُجُوبِ عِلْمِ وُقُوعِهِ قَالَ: وَإِنَّمَا النِّزَاعُ مِنَّا وَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ إذَا عُدِمَ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ. وَقَالَ صَاحِبُ " الْقَوَاطِعِ ": ذَهَبَ كَافَّةُ الْأَئِمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّ الْقِيَاسَ الشَّرْعِيَّ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْأَحْكَامِ الَّتِي لَمْ يَرِدْ بِهَا السَّمْعُ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَا يَسْتَغْنِي أَحَدٌ عَنْ الْقِيَاسِ.

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَالْمُثْبِتُونَ لِلْقِيَاسِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ:

أَحَدُهَا: ثُبُوتُهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالشَّرْعِيَّاتِ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَأَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ.

ص: 19

وَالثَّانِي: ثُبُوتُهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ دُونَ الشَّرْعِيَّاتِ، وَبِهِ قَالَ النَّظَّامُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ.

وَالثَّالِثُ: نَفْيُهُ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ، وَثُبُوتُهُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ، وَبِهِ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمَعَارِفَ ضَرُورِيَّةٌ.

وَالرَّابِعُ: نَفْيُهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالشَّرْعِيَّاتِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُد الْأَصْفَهَانِيُّ قَالَ: وَالْمُثْبِتُونَ لَهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالشَّرْعِيَّاتِ أَوْجَبُوهُ فِي الْحَوَادِثِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَأَجَازُوهُ فِيمَا فِيهِ أَحَدُ هَذِهِ الْأُصُولِ إذَا لَمْ يُرَدَّ إلَى خِلَافِهَا، انْتَهَى. ثُمَّ الْمُثْبِتُونَ لَهُ اخْتَلَفُوا فِي مَوَاضِعَ:

أَحَدُهَا: فِي طَرِيقِ إثْبَاتِهِ: فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: هُوَ دَلِيلٌ بِالشَّرْعِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي " الرِّسَالَةِ " فَقَالَ: وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَإِنَّمَا أَخَذْنَاهُ اسْتِدْلَالًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: هُوَ دَلِيلٌ بِالْعَقْلِ، وَالْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ وَرَدَتْ مُؤَكِّدَةً لَهُ وَلَوْ قَدَّرْنَا عَدَمَ وُجُودِهَا لَتَوَصَّلْنَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ إلَى انْتِصَابِ الْأَقْيِسَةِ عِلَلًا فِي الْأَحْكَامِ. وَقَالَ الدَّقَّاقُ: يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ بِالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ، حَكَاهُ فِي " اللُّمَعِ "، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الرَّوْضَةِ " وَجَعَلَهُ مَذْهَبَ أَحْمَدَ لِقَوْلِهِ: لَا يَسْتَغْنِي أَحَدٌ عَنْ الْقِيَاسِ قَالَ: وَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ وَالنَّظَّامُ إلَى امْتِنَاعِهِ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَإِلَيْهِ مَالَ أَحْمَدُ فِي قَوْلِهِ: يَجْتَنِبُ الْمُتَكَلِّمُ فِي الْفِقْهِ الْمُجْمَلَ وَالْقِيَاسَ، وَقَدْ تَأَوَّلَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى عَلَى مَا إذَا كَانَ الْقِيَاسُ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ مُخَالِفًا لَهُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ فَاسِدَ الِاعْتِبَارِ.

وَثَانِيهَا: هَلْ دَلَالَةُ السَّمْعِ عَلَيْهِ قَطْعِيَّةٌ أَوْ ظَنِّيَّةٌ؟ وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ، وَبِالثَّانِي قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ وَالْآمِدِيَّ.

وَثَالِثُهَا: قِيلَ: إنَّمَا يُعْمَلُ بِهِ إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً أَوْ

ص: 20

بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَالْجُمْهُورُ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ مُطْلَقًا.

وَأَمَّا الْمُنْكِرُونَ لِلْقِيَاسِ، فَأَوَّلُ مَنْ بَاحَ بِإِنْكَارِهِ النَّظَّامُ، وَتَابَعَهُ قَوْمٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ كَجَعْفَرِ بْنِ حَرْبٍ وَجَعْفَرِ بْنِ مُبَشِّرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْإِسْكَافِيِّ، وَتَابَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى نَفْيِهِ فِي الْأَحْكَامِ دَاوُد الظَّاهِرِيُّ. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ الشَّافِعِيُّ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابٍ فِي الْقِيَاسِ، مِمَّا حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ جَامِعِ الْعِلْمِ ": مَا عَلِمْت أَحَدًا سَبَقَ النَّظَّامَ إلَى الْقَوْلِ بِنَفْيِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَخَالَفَ أَبُو الْهُذَيْلِ فِيهِ وَرَدَّهُ عَلَيْهِ " انْتَهَى ". وَقَرَّرَ النَّاقِلُونَ بَحْثَ الظَّاهِرِيَّةِ فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ " الْعِلْمِ ": لَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي نَفْيِ

ص: 21

الْقِيَاسِ فِي التَّوْحِيدِ وَإِثْبَاتِهِ فِي الْأَحْكَامِ إلَّا دَاوُد فَإِنَّهُ نَفَاهُ فِيهِمَا جَمِيعًا قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهُ فِي التَّوْحِيدِ وَنَفَاهُ فِي الْأَحْكَامِ. وَأَطْلَقَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ دَاوُد وَالنَّهْرَوَانِيّ وَالْمَغْرِبِيِّ وَالْقَاشَانِيِّ أَنَّ الْقِيَاسَ مُحَرَّمٌ بِالشَّرْعِ.

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: فَأَمَّا دَاوُد فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنْ لَا حَادِثَةَ إلَّا وَفِيهَا حُكْمٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِفَحْوَى النَّصِّ وَدَلِيلِهِ، وَذَلِكَ مُغْنٍ عَنْ الْقِيَاسِ. فَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ مُفَصَّلًا، وَمِنْهَا مَا أَجْمَلَ ذِكْرَهُ فِي الْقُرْآنِ وَأَمَرَ نَبِيَّهُ عليه الصلاة والسلام بِالتَّفْصِيلِ وَالْبَيَانِ، وَمِنْهَا مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ. وَمَا لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ فَحُكْمُهُ الْإِبَاحَةُ بِعَفْوِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَنْ ذِكْرِهِ، وَتَرْكُهُ النَّصَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، أَوْ بِإِخْبَارٍ عَنْ فَاعِلٍ فَعَلَهُ مِنْ غَيْرِ ذَمٍّ لَهُ عَلَى فِعْلِهِ، أَوْ تُورَدُ الرِّوَايَةُ عَمَّا فَعَلَ بِحَضْرَتِهِ عليه السلام فَلَمْ يُنْكِرْهُ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: ذَهَبَ دَاوُد وَأَتْبَاعُهُ إلَى أَنَّ الْقِيَاسَ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى بَاطِلٌ وَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: ذَهَبَ دَاوُد الْأَصْفَهَانِيُّ وَغَيْرُهُ إلَى أَنَّ التَّعَبُّدَ بِالْقِيَاسِ جَائِزٌ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَرِدْ، وَأَنَّ الْقَوْلَ بِهِ وَالْمَصِيرَ إلَيْهِ غَيْرُ جَائِزٍ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَعَبَّدَنَا بِهِ. وَكَذَا نَقَلَ الشَّيْخُ فِي " اللُّمَعِ " أَنَّهُ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ عَقْلًا إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي " الْإِحْكَامِ ": ذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ إلَى إبْطَالِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ جُمْلَةً وَهُوَ قَوْلُنَا الَّذِي نَدِينُ اللَّهَ تَعَالَى بِهِ وَالْقَوْلُ بِالْعِلَلِ بَاطِلٌ قَالَ: وَذَهَبَ بَعْضُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ إلَى أَنَّ الشَّارِعَ إذَا جَعَلَ شَيْئًا مَا عِلَّةً لِحُكْمٍ

ص: 22

فَحَيْثُمَا وُجِدَ ذَلِكَ وَجَبَ ذَلِكَ الْحُكْمُ، كَنَهْيِهِ عَنْ الذَّبْحِ بِالسِّنِّ. قَالَ: وَإِنَّمَا السِّنُّ عَظْمٌ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ عَظْمٍ لَا يُذْبَحُ بِهِ. قَالَ: وَهَذَا لَا يَقُولُ بِهِ دَاوُد وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُ قَوْمٍ لَا يُعْتَدُّ بِهِمْ مِنْ جُمْلَتِنَا كَالْقَاشَانِيِّ وَضُرَبَائِهِ، وَقَالُوا: أَمَّا مَا لَا نَصَّ فِيهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ هَذَا لِسَبَبِ كَذَا. وَقَالَ دَاوُد وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِ: لَا يَفْعَلُ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ الْأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا لِعِلَّةٍ أَصْلًا، وَإِذَا نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى أَنَّهُ لِكَذَا، أَوْ بِسَبَبِ كَذَا، أَوْ لِأَنَّهُ، فَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَهُ سَبَبًا لِتِلْكَ الْأَحْكَامِ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي جَاءَ النَّصُّ فِيهَا وَلَا تُوجِبُ تِلْكَ الْأَشْيَاءُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَحْكَامِ وَغَيْرِ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ الْمُبَيَّنَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَلَسْنَا نُنْكِرُ وُجُودَ بَعْضِ أَسْبَابِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بَلْ نُثْبِتُهَا وَنَقُولُ بِهَا لَكِنْ نَقُولُ: إنَّهَا لَا تَكُونُ أَسْبَابًا إلَّا حَيْثُ جَعَلَهَا اللَّهُ أَسْبَابًا وَلَا يَتَعَدَّى بِهَا الْمَوْضِعُ الْمَنْصُوصُ عَلَى أَنَّهَا أَسْبَابٌ لَهُ انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَقَدْ عُرِفَ بِهِ مَذْهَبُ الظَّاهِرِيَّةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَأَنَّ دَاوُد وَأَصْحَابَهُ لَا يَقُولُونَ بِالْقِيَاسِ، وَلَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً، وَإِنَّمَا الْقَائِلُ بِهِ الْقَاشَانِيُّ وَضُرَبَاؤُهُ. وَنَقَلَ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ عَنْ الْقَاشَانِيِّ وَالنَّهْرَوَانِيّ الْقَوْلَ بِهِ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً أُومِئَ إلَيْهَا فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَسْبَابِ،

ص: 23

كَرَجْمِ مَاعِزٍ لِزِنَاهُ، وَالْمُعَلَّقِ بِاسْمٍ مُشْتَقٍّ كَالسَّارِقِ، وَكَأَنَّهُمَا يَعْنِيَانِ بِهَذَا الْقِسْمِ تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ. وَقَالَ الْقَاضِي: وَاخْتُلِفَ هَلْ هُمَا بِهَذَا مِنْ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ أَمْ لَا؟ وَنَقَلَ الْآمِدِيُّ عَنْهُمَا الْقَوْلَ بِهِ فِي الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ دُونَ مَا إذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ أَوْلَى بِهِ مِنْ الْأَصْلِ. وَنَقَلَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ الْقَاشَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ حُكْمٍ وَقَعَ فِي شَخْصٍ لِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى حُكْمِ كُلِّ مَا وُجِدَ فِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ السَّبَبِ إنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ. وَنُقِلَ عَنْ النِّهْرَوَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: اُسْتُدِلَّ عَلَى الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ عَلَى السِّنَّوْرِ إذَا وَقَعَ قَالَ: وَهَذَا مِنْهُمَا اعْتِرَافٌ بِالْقِيَاسِ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي " أُصُولِهِ ": الْمُنْكِرُونَ لِلْقِيَاسِ كَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا التَّسْمِيَةَ وَإِلَّا فَهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِهِ، وَهُوَ الْمَغْرِبِيُّ وَأَبُو سَعِيدٍ النَّهْرَوَانِيُّ وَالْقَاشَانِيُّ. أَمَّا الْقَاشَانِيُّ فَإِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَسْتَدِلُّ بِأَنَّ الْكَلَامَ إذَا شَرَعَ عَلَى سَبَبٍ فِي شَخْصٍ، فَالْحُكْمُ لِلسَّبَبِ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ الشَّخْصَ وَأَنَّهُ يُسَاوِيهِ، فَإِنْ جَرَى عُلِمَ صِحَّتُهُ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ عُلِمَ بُطْلَانُهُ، وَيَدَّعِي أَنَّهُ يُبْطِلُ الْقِيَاسَ، فَهَلْ قَالَ أَصْحَابُ الْقِيَاسِ شَيْئًا غَيْرَ هَذَا؟ وَأَمَّا النَّهْرَوَانِيُّ فَإِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِالْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ عَلَى السِّنَّوْرِ، وَزَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ النَّجَاسَةُ ثُمَّ سَلَكَا فِي النَّفَقَاتِ وَالْأَشْيَاءِ الظَّاهِرَةِ الْجَلِيَّةِ أَنَّهَا مَعْقُولَةٌ عَنْ الْخِطَابِ وَمَعْلُومَةٌ بِالْعَادَةِ. فَهَؤُلَاءِ مَا اهْتَدَوْا قَطُّ لِنَفْيِ الْقِيَاسِ. وَلَمْ يَنْفِ الْقِيَاسَ قَطُّ فِي الْأَحْكَامِ غَيْرُ إبْرَاهِيمَ (يَعْنِي النَّظَّامَ) مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَتْبَاعِهِ، وَمِنْ الْفُقَهَاءِ دَاوُد وَمَنْ بَعْدَهُ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ لَنَا: حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِأَنَّهَا حُلْوَةٌ لَمْ يَحْرُمْ غَيْرُهَا مِنْ كُلِّ حُلْوٍ، وَسَوَاءٌ عَلَيْهِ قَالَ: لِأَنَّهُ حُلْوٌ أَوْ لَمْ يَقُلْ. انْتَهَى.

وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَقَدْ نُقِلَ عَنْ النَّظَّامِ إنْكَارُ الْقِيَاسِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ

ص: 24

قَالَ إنَّ الشَّيْءَ إذَا تَقَدَّمَتْ إبَاحَتُهُ فِي الْجُمْلَةِ وَاحْتَاجَ إلَى الْعِبْرَةِ اُعْتُبِرَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَنَصَّ عَلَى إيجَابِ النَّفَقَاتِ لِلْأَزْوَاجِ وَأَنَّهُ اُعْتُبِرَ بِنَظَائِرِهَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَالَهُ الْقِيَاسِيُّونَ: إنَّ الْقِيَاسَ لَا يُوجِبُ ابْتِدَاءَ الْحِكَمِ وَوَضْعَهَا، فَإِذَا وُضِعَتْ الْأُصُولُ وَاحْتِيجَ إلَى تَمْيِيزِهَا وَالتَّنْفِيذِ لِلْحُكْمِ اُسْتُدِلَّ بِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ كَمَا ذَكَرَ هَذَا الرَّجُلُ فِي النَّفَقَاتِ انْتَهَى.

وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: النَّافِي لِلْقِيَاسِ قَائِلٌ بِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ، فَمِنْهُ رَجْمُ الزَّانِي قِيَاسًا عَلَى مَاعِزٍ، وَإِرَاقَةُ الزَّبَدِ الْمُتَنَجِّسِ قِيَاسًا عَلَى السَّمْنِ، وَجَوَازُ الْخَرْصِ وَالْمُسَاقَاةِ قِيَاسًا عَلَى الْكَرْمِ، وَمَنْعُ التَّضْحِيَةِ بِالْعَمْيَاءِ قِيَاسًا عَلَى الْعَوْرَاءِ، وَأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ وَهُوَ يُدَافِعُ الْأَخْبَثَيْنِ مَكْرُوهٌ قِيَاسًا عَلَى الْغَضَبِ.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ " جَامِعِ الْعِلْمِ ": وَدَاوُد وَإِنْ أَنْكَرَ الْقِيَاسَ فَقَدْ قَالَ بِفَحْوَى الْخِطَابِ وَقَدْ جَعَلَهُ قَوْمٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ فِي " أَدَبِ الْجَدَلِ " لَهُ: كُلُّ مَنْ مَنَعَ كَوْنَ الْقِيَاسِ حُجَّةً فَإِنَّهُ يَسْتَدِلُّ بِهِ ثُمَّ يُسَمِّيهِ بِاسْمِ الِاسْتِدْلَالِ وَالِاسْتِنْبَاطِ أَوْ الِاجْتِهَادِ أَوْ دَلِيلِ الشَّرْعِ أَوْ غَيْرِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ النَّظَّامَ إنَّمَا أَنْكَرَ الْقِيَاسَ فِي شَرِيعَتِنَا خَاصَّةً، وَلَمْ يُنْكِرْ الْقِيَاسَ الْعَقْلِيَّ وَلَا الشَّرْعِيَّ السَّالِفَ. ثُمَّ الْمُنْكِرُونَ لِلْقِيَاسِ اخْتَلَفُوا فِي طَرِيقِ نَفْيِهِ: فَقِيلَ: يُنْفَى بِالْعَقْلِ وَحْدَهُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا: فَقِيلَ: إنَّ الْخَوْضَ فِيهِ قَبِيحٌ

ص: 25

لِعَيْنِهِ، وَقِيلَ: يَجِبُ أَنْ يَصْطَلِحَ لِعِبَادِهِ فَيَنُصُّ عَلَى الْأَحْكَامِ كُلِّهَا، حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ.

وَقِيلَ: لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ طَرِيقُهَا الْمَصَالِحُ وَلَا يَعْرِفُ الْمَصَالِحَ إلَّا صَاحِبُ الشَّرْعِ فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا إلَّا مِنْ جِهَةِ التَّوْقِيفِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا جُعِلَتْ عَلَى وُجُوهٍ لَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهَا قِيَاسًا، كَتَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ الدِّيَةَ، وَإِيجَابِهِ الْقَسَامَةَ بِاللَّوْثِ، وَالْحُكْمَ بِالشُّفْعَةِ، وَالْفَرْقَ بَيْنَ الْمُخَابَرَةِ وَالْمُسَاقَاةِ، وَجَمَعَتْ الشَّرِيعَةُ بَيْنَ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ، وَفَرَّقَتْ بَيْنَ أَشْيَاءَ مُتَّفِقَةٍ، فَلِذَلِكَ امْتَنَعَ الْقِيَاسُ، وَلَا وَجْهَ إلَّا امْتِنَاعُ النَّصِّ. وَقِيلَ: لِأَنَّ الْمَعَارِفَ ضَرُورِيَّةٌ وَهُوَ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ حَكَاهُمَا الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ. وَقِيلَ: لِأَنَّ التَّعَبُّدَ بِالشَّرْعِيَّاتِ حَصَلَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَصِحُّ مَعَهُ الْقِيَاسُ فَلَوْ وَقَعَ عَلَى خِلَافِهِ صَحَّ.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى أَدْنَى طُرُقِ الْبَيَانِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَعْلَاهَا، وَلَا يُعَلِّقُ عِبَادَتَهُ بِالظَّنِّ الَّذِي يُخْطِئُ دُونَ الْعِلْمِ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى التَّضَادِّ فِي الْأَحْكَامِ، وَحَكَاهُمَا ابْنُ فُورَكٍ، وَقِيلَ لِضَعْفِ الْبَيَانِ الْحَاصِلِ بِهِ، حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ.

وَقِيلَ: بَلْ يُنْفَى بِالشَّرْعِ، وَالْعَقْلُ يَقْتَضِي جَوَازَهُ، لَكِنَّ الشَّرْعَ مَنَعَ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ عَنْ دَاوُد. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: إنَّهُ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الظَّاهِرِيَّةِ كَدَاوُد وَالْقَاشَانِيِّ وَالْمَغْرِبِيِّ وَأَبِي سَعِيدٍ النِّهْرَوَانِيِّ ثُمَّ إنَّ الْقَاشَانِيَّ وَالنَّهْرَوَانِيّ نَاقَضَا، فَقَالَ الْقَاشَانِيُّ:" كُلُّ حُكْمٍ وَقَعَ. . . " وَنَقَلَ إلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ وَعَنْ صَاحِبِهِ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا دَاوُد الْأَصْفَهَانِيُّ وَالنَّظَّامُ فَأَسْرَفَا، فَقَالَ دَاوُد: لَوْ قِيلَ لَنَا حَرُمَ السُّكَّرُ لِأَنَّهُ حُلْوٌ لَمْ يَدُلَّ عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ حُلْوٍ،

ص: 26

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ. وَالْفِرَقُ الْمُبْطِلَةُ ثَلَاثَةٌ: الْمُحِيلَةُ لَهُ عَقْلًا، وَالْمُوجِبَةُ لَهُ عَقْلًا، وَالْحَاظِرَةُ لَهُ شَرْعًا.

قُلْت: وَالْمَانِعُونَ لَهُ سَمْعًا افْتَرَقُوا فِرْقَتَيْنِ:

فِرْقَةٌ قَالَتْ: نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَدْ وَفَتْ وَأَثْبَتَتْ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقِيَاسِ وَهُوَ رَأْيُ ابْنِ حَزْمٍ.

وَفِرْقَةٌ قَالَتْ: بَلْ حَرُمَ الْقَوْلُ بِالْقِيَاسِ. وَلَوْ صَحَّ مَا قَالَهُ الظَّاهِرِيُّ مِنْ أَنَّ النُّصُوصَ وَافِيَةٌ بِحُكْمِ الْحَوَادِثِ لِمَا افْتَقَرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْحَوَادِثِ إلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَأَدِلَّةِ الْعَقْلِ.

وَقَالَ الدَّبُوسِيُّ: نُفَاةُ الْقِيَاسِ أَرْبَعَةٌ: مِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَى دَلِيلَ الْعَقْلِ حُجَّةً وَالْقِيَاسُ مِنْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَاهُ حُجَّةً إلَّا فِي مُوجِبَاتِ الْعُقُولِ وَالْقِيَاسُ لَيْسَ مِنْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَاهُ حُجَّةً لِأَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَاهُ حُجَّةً فِيهَا إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ لِأَنَّا نَحْكُمُ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ بِاسْتِصْحَابِ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ حُجَّةٌ أَصْلِيَّةٌ لَا حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ. وَذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ إلَى قَوْلٍ غَرِيبٍ لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ غَيْرُهُ فِيمَا أَظُنُّ وَهُوَ أَنَّ التَّعَبُّدَ بِالْقِيَاسِ كَانَ جَائِزًا قَبْلَ نُزُولِ قَوْله تَعَالَى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقَوْله تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وَأَمَّا بَعْدَهُمَا فَلَا يَجُوزُ أَلْبَتَّةَ لِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، فَحَاصِلُهُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ وَهُوَ بِدَعٌ مِنْ الْقَوْلِ.

ص: 27

وَهَذِهِ الْمَذَاهِبُ كُلُّهَا مَهْجُورَةٌ وَهُوَ خِلَافٌ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَ الْإِجْمَاعُ بِإِثْبَاتِ الْقِيَاسِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ قَوْلًا وَعَمَلًا، قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَمَنْ ذَهَبَ إلَى رَدِّ الْقِيَاسِ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِخَطَئِهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ، مَحْكُومٌ بِكَوْنِهِ مَأْثُومًا. قَالَ الْقَاضِي: وَلَسْت أَعُدُّ مَنْ ذَهَبَ إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّرْعِ وَلَا أُبَالِي بِخِلَافِهِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: " وَهُوَ كَمَا قَالَ ". وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي شَرْحِهِ ": ذَكَرَ الْقَاضِي بَكْرُ بْنُ الْعَلَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْقَاضِيَ إسْمَاعِيلَ أَمَرَ بِدَاوُد مُنْكِرِ الْقِيَاسِ فَصُفِعَ فِي مَجْلِسِهِ بِالنِّعَالِ وَحَمَلَهُ إلَى الْمُوَفَّقِ بِالْبَصْرَةِ لِيَضْرِبَ عُنُقَهُ، لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ جَحَدَ أَمْرًا ضَرُورِيًّا مِنْ الشَّرِيعَةِ فِي رِعَايَةِ مَصَالِحِ الْخَلْقِ وَالْجَلَّادُ فِي هَؤُلَاءِ أَنْفَعُ مِنْ الْجِدَالِ. انْتَهَى.

وَأَمَّا الْأَدِلَّةُ فَلَنَا مَسَالِكُ:

الْأَوَّلُ: دَلَالَةُ الْقُرْآنِ: وَمِنْ أَشْهَرِهَا قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وَقَدْ سُئِلَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى ثَعْلَبٌ وَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ اللِّسَانِ عَنْ " الِاعْتِبَارِ " فَقَالَ: أَنْ يَعْقِلَ الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ فَيَعْقِلُ مِثْلَهُ. فَقِيلَ: أَخْبِرْنَا عَمَّنْ رَدَّ حُكْمَ حَادِثَةٍ إلَى نَظِيرِهَا أَيَكُونُ مُعْتَبَرًا؟ قَالَ: نَعَمْ هُوَ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. حَكَاهُ الْبَلْعَمِيُّ فِي كِتَابِ " الْغَرَرِ فِي الْأُصُولِ " وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْت الْقَاشَانِيُّ وَابْنَ سُرَيْجٍ قَدْ صَنَّفَا فِي الْقِيَاسِ نَحْوَ أَلْفِ وَرَقَةٍ، هَذَا فِي نَفْيِهِ، وَهَذَا فِي إثْبَاتِهِ. اعْتَمَدَ

ص: 28

الْقَاشَانِيُّ فِيهِ عَلَى قَوْلِهِ: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51] وَاعْتَمَدَ ابْنُ سُرَيْجٍ فِي إثْبَاتِهِ عَلَى قَوْلِهِ: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " اتِّفَاقَ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ اسْمٌ يَتَنَاوَلُ تَمْثِيلَ الشَّيْءِ بِغَيْرِهِ، وَاعْتِبَارَهُ بِهِ، وَإِجْرَاءَ حُكْمِهِ عَلَيْهِ، وَالتَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ الِاتِّعَاظُ وَالْفِكْرُ اعْتِبَارًا؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَمْرِ وَمِثْلِهِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ بِحُكْمِ نَظِيرِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ الِاتِّعَاظُ وَالِازْدِجَارُ عَنْ الذَّنْبِ بِنُزُولِ الْعَذَابِ وَالِانْتِقَامِ بِأَهْلِ الْخِلَافِ وَالشِّقَاقِ، ثُمَّ حُكِيَ مَا سَبَقَ عَنْ ثَعْلَبٍ. وَزَعَمَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاعْتِبَارِ التَّعَجُّبُ بِدَلِيلِ سِيَاقِ الْآيَةِ، وَافَقَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فَقَالَ فِي " الْقَوَاعِدِ ": مِنْ الْعَجِيبِ اسْتِدْلَالُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ مَعَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْآيَةِ يُرَادُ بِهِ الِاتِّعَاظُ وَالِازْدِجَارُ، وَالْمُطْلَقُ إذَا عُمِلَ بِهِ فِي صُورَةٍ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً فِي غَيْرِهَا بِالِاتِّفَاقِ قَالَ: وَهَذَا تَحْرِيفٌ لِكَلَامِ اللَّهِ عز وجل عَنْ مُرَادِهِ إلَى غَيْرِ مُرَادِهِ، ثُمَّ كَيْفَ يَنْتَظِمُ الْكَلَامُ مَعَ كَوْنِهِ وَاعِظًا بِمَا أَصَابَ بَنِي النَّضِيرِ مِنْ الْجَلَاءِ أَنْ يَقْرِنَ ذَلِكَ الْأَمْرَ بِقِيَاسِ الدُّخْنِ عَلَى الْبُرِّ وَالْحِمَّصِ عَلَى الشَّعِيرِ، فَإِنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِهَذَا لَكَانَ مِنْ رَكِيكِ الْكَلَامِ وَإِدْرَاجًا لَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَقِرَانًا بَيْنَ الْمُنَافَرَاتِ انْتَهَى. وَالْعَجَبُ مِنْ الشَّيْخِ، فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، فَإِنْ مُنِعَ قُلْنَا: هَذَا يَرْجِعُ إلَى قِيَاسِ الْعِلَّةِ لِأَنَّ إخْرَاجَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَتَعْذِيبَهُمْ قَدْ رُتِّبَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَالْمَعْصِيَةُ عِلَّةٌ لِوُقُوعِ الْعَذَابِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: تَقَعُوا فِي الْمَعْصِيَةِ فَيَقَعُ بِكُمْ الْعَذَابُ، قِيَاسًا عَلَى أُولَئِكَ، فَهُوَ قِيَاسُ نَهْيٍ عَلَى نَهْيٍ، بِعِلَّةِ الْعَذَابِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَفِي الِاعْتِبَارِ وَجْهَانِ:

ص: 29

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْعُبُورِ، وَهُوَ يُجَاوِزُ الْمَذْكُورَ إلَى غَيْرِ الْمَذْكُورِ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ. وَالثَّانِي: مِنْ الْعِبْرَةِ وَهُوَ اعْتِبَارُ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ، وَمِنْهُ عَبْرُ الْخَرَاجِ أَيْ قِيَاسُ خَرَاجِ عَامٍ بِخَرَاجِ غَيْرِهِ فِي الْمُمَاثَلَةِ. وَفِي كِلَا الْوَجْهَيْنِ دَلِيلُ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالشَّيْءِ عَلَى نَظِيرِهِ، وَبِالشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ.

وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي " الرِّسَالَةِ " بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] وَقَالَ: فَهَذَا تَمْثِيلُ الشَّيْءِ بِعَدْلِهِ وَقَالَ: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] وَأَوْجَبَ الْمِثْلَ وَلَمْ يَقُلْ أَيَّ مِثْلٍ فَوَكَلَ ذَلِكَ إلَى اجْتِهَادِنَا، وَأَمَرَنَا بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْقِبْلَةِ بِالِاسْتِدْلَالِ فَقَالَ:{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] وَاحْتَجَّ ابْنُ سُرَيْجٍ فِي الْوَدَائِعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] فَأُولُو الْأَمْرِ هُمْ الْعُلَمَاءُ، وَالِاسْتِنْبَاطُ هُوَ الْقِيَاسُ. فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَالنَّصِّ فِي إثْبَاتِهِ. وقَوْله تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26] الْآيَةَ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ تَشْبِيهُ الشَّيْءِ فَإِذَا جَازَ مِنْ فِعْلِ مَنْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ لِيُرِيَكُمْ وَجْهَ مَا تَعْلَمُونَ فَهُوَ مِمَّنْ لَا يَخْلُو مِنْ الْجَهَالَةِ وَالنَّقْصِ أَجْوَزُ.

وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78]{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] فَهَذَا صَرِيحٌ فِي إثْبَاتِ الْإِعَادَةِ قِيَاسًا. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] قَالَ: وَالِاسْتِنْبَاطُ مُخْتَصٌّ بِإِخْرَاجِ الْمَعَانِي مِنْ أَلْفَاظِ النُّصُوصِ، مَأْخُوذٌ مِنْ اسْتِنْبَاطِ الْمَاءِ: إذَا اُسْتُخْرِجَ مِنْ مَعْدِنِهِ، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِلْأَحْكَامِ أَعْلَامًا

ص: 30

مِنْ الْأَسْمَاءِ، وَالْمَعَانِي بِالْأَلْفَاظِ ظَاهِرَةٌ، وَالْمَعَانِي عِلَلٌ بَاطِنَةٌ، فَيَكُونُ بِالِاسْمِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ وَبِالْمَعْنَى مُتَعَدِّيًا. فَصَارَ مَعْنَى الِاسْمِ أَخَصَّ بِالْحُكْمِ مِنْ الِاسْمِ، فَعُمُومُ الْمَعْنَى بِالتَّعَدِّي، وَخُصُوصُ الِاسْمِ بِالتَّوْقِيفِ وَإِنْ كَانَتْ تَابِعَةً لِلْأَسْمَاءِ لِأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ فِيهَا، فَالْأَسْمَاءُ تَابِعَةٌ لِمَعَانِيهَا لِتَعَدِّيهَا إلَى غَيْرِهَا. وَاحْتَجَّ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90] وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعَدْلَ: هُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ مِثْلَيْنِ فِي الْحُكْمِ فَيَتَنَاوَلُهُ عُمُومُ الْآيَةِ.

الثَّانِي دَلَالَةُ السُّنَّةِ:

كَحَدِيثِ مُعَاذٍ " أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي وَلَا آلُو "، وَقَالَ النَّبِيُّ فِي خَبَرِ الْمَرْأَةِ:«أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ» ، «وَقَالَ لِرَجُلٍ سَأَلَهُ أَيَقْضِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيُؤْجَرُ عَلَيْهِ؟ قَالَ أَرَأَيْت لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ فَكَذَلِكَ إذَا وَضَعَهَا فِي حَلَالٍ كَانَ لَهُ أَجْرٌ» ، «وَقَالَ لِرَجُلٍ مِنْ فَزَارَةَ أَنْكَرَ وَلَدَهُ لَمَّا جَاءَتْ بِهِ أَسْوَدَ هَلْ لَك مِنْ إبِلٍ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ؟ قَالَ: لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ قَالَ: وَهَذَا لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ» . قَالَ الْمُزَنِيّ: فَأَبَانَ لَهُ بِمَا يَعْرِفُ أَنَّ الْحُمْرَ مِنْ الْإِبِلِ تُنْتِجُ الْأَوْرَقَ فَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ

ص: 31

الْبَيْضَاءُ تَلِدُ الْأَسْوَدَ، فَقَاسَ أَحَدَ نَوْعَيْ الْحَيَوَانِ عَلَى الْآخَرِ، وَهُوَ قِيَاسٌ فِي الطَّبِيعِيَّاتِ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَيْسَ فِيهِ نَسَبٌ حَتَّى نَقُولَ قِيَاسٌ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ، «وَقَالَ لِعُمَرَ، وَقَدْ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ صَائِمٌ فَقَالَ: أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت وَمَجَجْته؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ فَقَالَ: فَفِيمَ؟» قَالَ الْمُزَنِيّ: فَبَيَّنَ لَهُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا لَا شَيْءَ فِي الْمَضْمَضَةِ، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مُحَرِّمُ الْحَلَالَ كَمُحَلِّلِ الْحَرَامَ» وَهُوَ كَثِيرٌ.

وَصَنَّفَ النَّاصِحُ الْحَنْبَلِيُّ جُزْءًا فِي أَقْيِسَةِ النَّبِيِّ. وَثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ كَقَوْلِ عُمَرَ لِأَبِي مُوسَى: وَاعْرِفْ الْأَشْبَاهَ وَالْأَمْثَالَ وَقِسْ الْأُمُورَ عِنْدَك. وَقَدْ تَكَلَّمَ الصَّحَابَةُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ فِي

ص: 32

الْعِلَلِ، فَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى لَمَّا نَهَى عَنْ تَحْرِيمِ الْحُمُرِ يَوْمَ خَيْبَرَ قَالَ فَتَحَدَّثْنَا أَنَّهُ إنَّمَا نَهَى عَنْهَا لِأَنَّهَا لَمْ تُخَمَّسْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ نَهَى عَنْهَا أَلْبَتَّةَ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ.

الثَّالِثُ: إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ: فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْهُمْ قَوْلًا وَفِعْلًا.

قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيُّ: وَقَدْ بَلَغَ التَّوَاتُرُ الْمَعْنَوِيُّ عَنْ الصَّحَابَةِ بِاسْتِعْمَالِهِ، وَهُوَ قَطْعِيٌّ.

وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: دَلِيلُ الْإِجْمَاعِ هُوَ الْمُعَوِّلُ عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: عِنْدِي أَنَّ الْمُعْتَمَدَ اشْتِهَارُ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ شَرْقًا وَغَرْبًا قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ إلَّا عِنْدَ شُذُوذِ مُتَأَخِّرِينَ قَالَ: وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: أَوْجَزَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْعِبَادَةَ فَقَالَ: انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ التَّعَبُّدَ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِدَلِيلِهِ جَائِزٌ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ التَّعَبُّدُ بِالْقِيَاسِ الْمَظْنُونِ دَلِيلُهُ.

الرَّابِعُ: طَرِيقُ الْعَقْلِ. وَهُوَ أَنَّ النُّصُوصَ لَا تَفِي بِالْأَحْكَامِ لِأَنَّهَا مُتَنَاهِيَةٌ وَالْحَوَادِثُ غَيْرُ

ص: 33

مُتَنَاهِيَةٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ شَرْعِيٍّ يُضَافُ إلَيْهِ، لَكِنَّ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا تَنَاهِي النُّصُوصِ فَإِنَّ الْمَعْنَى إذَا ظَهَرَ تَنَاوَلَ ذَلِكَ الْفَرْعَ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ الْأَذْهَانِ، فَإِنَّ أَفْرَادَ الْعُمُومِ لَا تَتَنَاهَى، فَإِذَا تُصُوِّرَ عَدَمُ التَّنَاهِي فِي الْأَلْفَاظِ فَفِي الْمَعَانِي أَوْلَى، قَالَ الْقَفَّالُ: وَلِأَنَّهُ لَا حَادِثَةَ إلَّا وَلِلَّهِ فِيهَا حُكْمٌ اشْتَمَلَ الْقُرْآنُ عَلَى بَيَانِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] وَرَأَيْنَا الْمَنْصُوصَ لَمْ يُحِطْ بِجَمِيعِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّا مَأْمُورُونَ بِالِاعْتِبَارِ وَالْقِيَاسِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْمُزَنِيّ فِي كِتَابِ " إثْبَاتِ الْقِيَاسِ ": لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلنَّظِيرِ حُكْمُ نَظِيرِهِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لَبَطَلَ الْقِيَاسُ، وَلَمَا جَازَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ إلَّا بِنَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَكَانَ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مُهْمَلًا لَا حُكْمَ لَهُ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ.

قَالَ الْمُزَنِيّ فِي كِتَابِ " إثْبَاتِ الْقِيَاسِ ": تَعَلَّقَ الْمَانِعُونَ بِآثَارٍ وَرَدَتْ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا هِيَ عِنْدَمَا رَأَى أَهْلُ الْبِدَعِ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا فِي الدِّينِ رَأْيًا وَسَمَّوْا فُرُوعَهُ قِيَاسًا، وَأَغْفَلُوا كَشْفَ الْقَوْلِ فِي الرَّأْيِ الْمُوَافِقِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالتَّمْثِيلِ عَلَيْهِمَا، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ لَطِيفًا دَقِيقًا يَحْتَاجُ إلَى حِدَّةِ الْعُقُولِ وَمَعْرِفَةِ مَعَانِي الْأُصُولِ، «كَتَقْرِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُعَاذًا عَلَى الِاجْتِهَادِ عَلَى أَصْلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ» ، وَقَوْلِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه فِي قَضِيَّةِ الطَّاعُونِ: أَرَأَيْت لَوْ كَانَتْ لَك إبِلٌ فَهَبَطَتْ وَادِيًا.

وَعَلَى الْمَذْمُومِ يُحْمَلُ

ص: 34

قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ أَوْلَى مِنْ تَعْطِيلِ بَعْضِهَا.

قَالَ ابْنُ الْقَفَّالِ: وَقَدْ قِيلَ: إنَّ دَاوُد سَأَلَ الْمُزَنِيّ عَنْ الْقِيَاسِ أَهُوَ أَصْلٌ أَمْ الْفَرْعُ فَأَجَابَهُ الْمُزَنِيّ: إنْ قُلْت الْقِيَاسُ أَصْلٌ أَوْ فَرْعٌ، أَوْ أَصْلٌ وَفَرْعٌ، أَوْ لَا أَصْلٌ وَلَا فَرْعٌ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى شَيْءٍ، وَإِنَّمَا عَنَى بِهِ أَنَّهُ أَصْلٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهِ.

قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: هُوَ فَرْعٌ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَبَّهَ عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ، وَهُوَ أَصْلٌ وَفَرْعٌ بِاعْتِبَارَيْنِ لَمَّا عَرَفْت أَنَّهُ فَرْعٌ لِغَيْرِهِ الَّذِي عُرِفَ مِنْهُ وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ " لَا أَصْلٌ وَلَا فَرْعٌ " أَنَّهُ فِعْلُ الْقَائِسِ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ: سَأَلَ دَاوُد الْقَائِسِينَ سُؤَالًا دَلَّ عَلَى جَهْلِهِ بِمَعْنَى الْقِيَاسِ فَقَالَ: خَبِّرُونِي عَنْ الْقِيَاسِ أَصْلٌ هُوَ أَمْ فَرْعٌ؟ فَإِنْ كَانَ أَصْلًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ فِيهِ خِلَافٌ، وَإِنْ كَانَ فَرْعًا فَفَرْعٌ عَلَى أَيِّ أَصْلٍ. قَالَ الرَّازِيَّ: وَالْقِيَاسُ إنَّمَا هُوَ فِعْلُ الْقَائِسِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِفِعْلِ الْقَائِسِ: إنَّهُ أَصْلٌ أَوْ فَرْعٌ. وَإِنَّمَا وَجْهُ تَصْحِيحِ السُّؤَالِ أَنْ يَقُولَ: خَبِّرُونِي عَنْ وُجُوبِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ، أَوْ الْحُكْمِ بِجَوَازِ الْقِيَاسِ أَهُوَ أَصْلٌ أَمْ فَرْعٌ؟ فَيَكُونُ الْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الْقِيَاسَ أَصْلٌ بِمَا بُنِيَ عَلَيْهِ، وَفَرْعٌ عَلَى مَا بُنِيَ عَلَيْهِ، فَأَصْلُهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، وَفَرْعُهُ سَائِرُ الْحَوَادِثِ الْقِيَاسِيَّةِ الَّتِي لَا تَوْقِيفَ فِيهَا وَلَا إجْمَاعَ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: فِي كِتَابِ " إثْبَاتِ الْقِيَاسِ " قَالَ بَعْضُهُمْ: خَبِّرُونَا عَنْ الْقِيَاسِ فَرْضٌ هُوَ أَوْ نَدْبٌ، فَإِنْ قُلْتُمْ نَدْبٌ فَقَدْ أَوْجَبْتُمْ التَّشْرِيعَ فِي الدِّينِ، وَإِنْ قُلْتُمْ فَرْضٌ فَمَا وَجَدْنَا ذَلِكَ. قُلْنَا: بَلْ فَرْضٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالنَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجَةِ وَبِالْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ عَلَى قَاتِلِ الصَّيْدِ وَبِقَبُولِ الْجِزْيَةِ وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ فَوَجَبَ النَّظَرُ فِيهِ قَالَ: وَحَقِيقَةُ الْقِيَاسِ فِعْلُ أَمْرِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ بِهِ فِي وَقْتٍ كَمَا أَمَرَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ فِي وَقْتٍ، فَلَا يُسَمَّى الْقِيَاسُ أَصْلًا وَلَا فَرْعًا لِذَلِكَ.

ص: 35

تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ

حَرَّرَ الْهِنْدِيُّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ فَقَالَ: إذَا عَلِمْنَا أَنَّ الْحُكْمَ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ مُعَلَّلٌ بِكَذَا، أَوْ عَلِمْنَا حُصُولَ الْوَصْفِ مَعَ جَمِيعِ مَا يُعْتَبَرُ فِي إفْضَائِهِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ عَلِمْنَا حُصُولَ مِثْلِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْقِيَاسِ مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ بَلْ الْكُلُّ أَطْبَقُوا عَلَى حُجِّيَّتِهِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ هَاتَانِ الْمُقَدِّمَتَانِ ظَنِّيَّتَيْنِ، أَوْ إحْدَاهُمَا ظَنِّيَّةً، كَانَ حُصُولُ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ ظَنًّا لَا مَحَالَةَ. وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ وَالْخَبَرَ بِالنَّتِيجَةِ، بَلْ إنْ كَانَ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ.

وَأَمَّا فِي الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ فَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ أَنَّ هَذَا مَحَلُّ الْخِلَافِ، وَكَلَامُ الْغَزَالِيِّ يَقْتَضِي التَّفْصِيلَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَتَا ظَنِّيَّتَيْنِ فَكَذَلِكَ، أَوْ إحْدَاهُمَا ظَنِّيَّةً وَالْأُخْرَى قَطْعِيَّةً، فَلَيْسَ مِنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ أَيْضًا عَلَى مَعْنَى مَا إذَا كَانَتْ الْأُولَى قَطْعِيَّةً، أَعْنِي كَوْنَ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِكَذَا، وَالثَّانِيَةُ، أَعْنِي تَحْقِيقَهَا فِي صُورَةِ النِّزَاعِ ظَنِّيَّةٌ، فَهَذَا مَحَلُّ وِفَاقٍ. أَمَّا إذَا كَانَتْ هِيَ ظَنِّيَّةً سَوَاءٌ كَانَتْ الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ قَطْعِيَّةً أَوْ ظَنِّيَّةً فَإِنَّهُ مِنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ، وَكَلَامُ الْإِمَامِ يَقْتَضِي أَنَّ الْكُلَّ مِنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ.

الثَّانِي: أَفْرَطَ فِي الْقِيَاسِ فِرْقَتَانِ: الْمُنْكِرُ لَهُ، وَالْمُسْتَرْسِلُ فِيهِ، كَغُلَاةِ أَهْلِ

ص: 36