الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
المقالة الأولى في هذا الكتاب كتبها فتى في العشرين من عمره اسمه علي الطنطاوي، والأخيرة فيه كتبها شاب في السادسة والعشرين يحمل الاسم ذاته، وبين عشرين وست وعشرين كتب علي الطنطاوي ونشر سائرَ مقالات هذا الكتاب. هذه أولى الحقائق التي أرجو أن يذكرها قارئ هذا الكتاب وهو يطوي صفحاته ويتنقّل بين مقالاته، والثانية: أن هذه المقالات قد كُتبت ونُشرت كلها أيامَ الانتداب الفرنسي على الشام، يوم كان الأمر والنهي للفرنسيين وبيد مفوَّضهم السامي الحكم والسلطان.
فمن الأولى جاء ما سترونه في مقالات هذا الكتاب من حدّة وشدّة، وهما صفتان غالبتان في سن الشباب، ومن الثانية تولدت تلك الروح الوطنية الوثّابة التي تملأ مادة الكتاب كله. ومن ثالثة سواهما: الشجاعة التي كانت من صفات علي الطنطاوي الظاهرة، شجاعة كثيراً ما وصلت إلى درجة التهور، من هذه الثالثة جاء ما تجدونه من صراحة وجَراءة قد يُعَجِّبُ كثيراً من الناس صدورُهما عن شاب في مثل تلك السن وفي مثل هاتيك الظروف.
ومن علة رابعة، من النشأة الأولى التي وفّقه الله إليها حين أنشأه في بيئة علم ودين، جاء ما تحفل به عامة مقالات الكتاب من عاطفة إسلامية فَيّاضة وحماسة دينية فَوّراة. أما ما تفيض به
كثير من المقالات من اعتزاز بالعربية وغَيرة عليها واستماتة في الدفاع عنها فقد نشأ عن علة خامسة غير كل ما ذُكر، عن حادثة جليلة مما لا يمرّ في أعمار الأمم الطويلة إلا مرات معدودات، فأي شيء هذا؟
* * *
في يوم الثلاثاء، السابع والعشرين من نيسان (أبريل) سنة 1909 (السادس من ربيع الثاني 1327)، خلع الاتحاديون السلطان عبد الحميد الثاني، وبذلك انتهت أيام الخلافة العثمانية وبدأ عهد الاتحاديين. وبعد ستة وأربعين يوماً من ذلك اليوم المشؤوم -الذي آذن بنهاية آخر إمبراطورية إسلامية في التاريخ المشهود- وُلد علي الطنطاوي، فقُدِّر له أن يعيش سني طفولته المبكرة تحت سلطة الاتحاديين الذين سعوا إلى «تَتْريك» الممالك الإسلامية غير التركية، من عربية وغيرها، والذين قذفوا الدولة العثمانية المريضة في محرقةِ حربٍ لا ناقة لها فيها ولا بعير، فأجهزوا عليها، وسقطت أراضيها كلها -إلا قليلاً- في أيدي المستعمرين الأوربيين.
لقد كانت تلك سنوات عجافاً، عانى فيها الناس في الشام من عسف الاتحاديين ودفعوا من أرواحهم وأقواتهم ثمناً لسياستهم الخرقاء. وحين أرادوا تتريك الولايات العربية التي كانوا يحكمونها أعلنوا الحرب على اللغة العربية، فَثَمَّ نشأ في نفس علي الطنطاوي هذا الحرص الغريب عليها والحميّة الشديدة لها. قال في مقالة له اسمها «عام 1960» (وهي منشورة في كتاب «هتاف المجد»): "كنّا ونحن صغار نرى الحكّام كلهم من الترك، لهم السيادة ولهم التكرمة ولهم النعيم، ولغتهم التركية هي اللغة الرسمية،
فمَن كلّمهم بالعربية ازدرَوه واحتقروه، ودروس المدرسة تُلقَى بالتركية، فمن لم يعرفها ويفهم بها عاقبوه وأسقطوه! وكنا نسمع بآذاننا احتقار «ابن العرب» وسبّه وتقديم التركي وتعظيمه! كنا من حكم الاتحاديين المارقين في ظلام، فأصبحنا يوماً فإذا الظلام قد انقشع، وإذا العلم الأحمر الذي كان يرفرف على بناية السُّوَيْقات، حيث كان الشباب يُساقون إلى الموت في سبيل الألمان وكان الأموات من الجوع مرميين في الطرقات، إذا هذا العَلَم قد اختفى وعُلِّق مكانه علمٌ جديد له أربعة ألوان، وإذا الهتاف الذي كنا نُلزَم به كل صباح قد خفت وانقطع وارتفع مكانه هتافٌ جديد ما سمعنا بمثله من قبل: الهتاف بحياة الاستقلال العربي". (1)
* * *
(1) الذين يذمّهم علي الطنطاوي هنا هم الاتحاديون الذين تنكروا للعربية وعادَوا الإسلام، لا الأتراك العثمانيون الذين عاشت الشام في سلطانهم من قبل لعدة قرون؛ قال:"ما يسمّيه السفهاء منا «الاستعمار العثماني» لم يكُن استعماراً، لأن حكم المسلم (ولو كان تركياً) لبلد مسلم (ولو كان عربياً) لا يسمّى في شرعنا حكماً أجنبياً، والمسلم لا يكون أبداً أجنبياً في ديار الإسلام. ونحن ما كرهنا الاتحاديين لأنهم أتراك، بل لأنهم حادوا عن جادة الإسلام فأساؤوا للمسلمين جميعاً، من عرب وأتراك"(انظر الحلقة الحادية عشرة في الجزء الأول من «الذكريات»). وقال: "ما كان الترك العثمانيون الأوَّلون أمةَ سوء، ولقد تسلموا الحكم والأرضُ الإسلامية مِزَق مرقَّعة ورُقَع ممزَّقة، في كل مدينة مَلِكٌ وعلى كل رابية عَلَم، مماليكها ملوكها وعبيدها سادتها، فأقاموا للإسلام دولة كانت ثالثة الدولتين الكبيرتين: الأموية والعباسية في صدر تاريخها، وكان منها أولَ الأمر ملوكٌ صالحون كبار، ثم =
وبعد، فهذه هي المرة الأولى التي أُخرج فيها كتاباً لعلي الطنطاوي رحمه الله لا جامعة تجمع مقالاته إلا الزمن، ولا رابطة تربط بينها إلا سِنُّه يومَ نشرَها أولَ مرة. ولكنها ليست المرة الأولى التي يقرأ فيها القرّاء مقالات قديمة له؛ فقد نشر في أول حياته كتباً ثلاثة أودع فيها بواكير مقالاته، فأصدر «الهيثميات» سنة 1930، ثم أصدر «في بلاد العرب» سنة 1939 و «من التاريخ الإسلامي» في السنة التي بعدها. هذه الكتب ضمت عشرات من المقالات التي نشرها في تلك السنوات المبكرة من حياته، ورغم أنها قد نفدت نسخُها واختفت من الأسواق من عهد بعيد ولم يُعِدْ طباعتها قط، إلا أن مادتها لم تَضِعْ، فأكثر ما فيها من مقالات انتقل إلى الكتب التي أخرجها لاحقاً والتي ما زالت تُنشَر ويتداولها الناس؛ ولو أنكم فتحتم كتاب «من حديث النفس» مثلاً وراجعتم مقالاته لوجدتم أن نصفها قد كُتب بين سنتَي 1931 و1939، وقريبٌ من ذلك كتاب «فِكَر ومباحث» ، أما كتاب «قصص من التاريخ» فتكاد تكون مادته كلها مما نُشر في تلك الأيام. بل إني قد أحصيت في الكتب المنشورة أكثرَ من مئة وعشرٍ
= خالف آخرُها سيرةَ أولها، ودبّ الفساد إليها من يوم تركت قوانين الإسلام الذي كان به وحدَه عزُّها وأخذت قوانين أعدائها، حتى كان عهد الاتحاديين، فكانوا قوماً كفَرَة فجَرَة لا يرضى بحكمهم مسلمٌ تركي، بَلْهَ المسلم العربي الذي حرصوا على تجريده من عربيّته كما حرصوا على إخراجه من إسلامه" (انظر مقالة «مكتب عنبر» في كتاب «دمشق»). وانظر أيضاً مقالة «رقم مكسور» في كتاب «صور وخواطر»، وفي آخرها يقول: "الاتحاديون الذين شوّهوا اسم السلطان عبد الحميد هم الذين أساؤوا إلينا وإلى الترك على السواء".
من المقالات التي نشرها علي الطنطاوي في الجرائد والمجلات قبل نهاية عام 1939.
لقد وجدَتْ كثيرٌ من بواكير علي الطنطاوي طريقَها إلى الكتب التي نُشرت وقرأها الناس، وبقيت في يدي بقية مما لم يُنشَر في كتاب قط، فلما عزمت على جمعها وإخراجها في هذا الكتاب أردت أن أضمّ إليها ما أستطيع الوصول إليه مما نُشر من قديم ثم ضاع فلم يبق له أصل، فانتدبت مَنْ تكرّم مشكوراً بمراجعة قسم الدوريات القديمة في مكتبة الأسد بدمشق، وأمضى فيها أسابيع طويلة غارقاً في سجلاتها المحفوظة حتى استخرج منها طائفة من المقالات لم تكن في يدي، فاشتغلت فيها وفيما كان معي من قبل، ومن هذه وتلك جاء هذا الكتاب.
على أني لم أنشر كل ما وصلت إليه من «البواكير» ، بل إن الذي طويته يزيد على ما أنشره منها اليومَ في هذا الكتاب؛ فقد وجدت أن مقالاتٍ كثيرةً منها كانت مرتبطة بحوادث عابرة أو بقضايا يوميّة، وأمثالُ هذه المقالات قصيرة العمر وأكثرها من النوع السياسي الذي يعالج مشكلات وقتيّة، ثم تنقضي الحادثة وتنتهي القضية فلا تبقى للمقالة قيمة، ولا يبقى بعد هذه السنين الطويلة من يذكر الحادثة أو يهتم بها أو يفهم الإشارة إليها.
وأخيراً واجهت مشكلة ترتيب مقالات الكتاب، فهممت حيناً بأن أرتبها حسب موضوعاتها، ثم وجدت أن الموضوع لم يكن هو الأساس الذي بُني عليه الكتاب فأعرضت عن هذا الخاطر، وفكرت حيناً آخر بترتيبها اعتماداً على الجريدة التي نُشرت فيها، فأضم مقالات «القبس» بعضها إلى بعض وأجمع
مقالات «فتى العرب» معاً، وهكذا، لكني أعرضت عن هذا الخاطر أيضاً. ثم انتهيت إلى ترتيبها في الكتاب كترتيب نشرها، فما دام الجامع الذي جمع هذه المقالات معاً وأنشأ منها هذا الكتاب هو الزمان الذي نُشرت فيه فليكن أساس ترتيب المقالات هو الزمان، وكذلك كان.
وقد بدأت الكتاب بأقدم «البواكير» نشراً، وكلما مضى القارئ في الكتاب قُدُماً سيتقدم في السنوات. ثم اجتهدت فعملت في هذا الكتاب ما لم أعمله في سواه مما نشرته من قبل، وهو أنني حرصت على أن أثبت في أول كل مقالة موضعَ نشرها وتاريخَه، فذكرت اسم الجريدة التي نُشرت فيها وتاريخ نشرها باليوم والشهر والسنة، وإنما حملني على ذلك أنني ما زلت أحس -وأنا أشتغل بهذا الكتاب- أنني أقدم فيه تاريخ علي الطنطاوي نفسه، وليس فقط سجلاً لكتاباته في تلك السنوات المبكرة من حياته!
* * *
لقد ظن جدي رحمه الله أن إنجاز هذا العمل من المستحيلات، لكن الله ذلل الصعب وجعل -بفضله- المستحيلَ ممكناً. قال في أول الحلقة السادسة والثلاثين من «الذكريات»: "في الأشهر الخمسة التي لازمت فيها «فتى العرب» كنت أكتب كل يوم مقالة، منها سلسلة كان عنوانها «أحاديث ومشاهدات»
…
هذه المقالات ضاعت مني، ما بقي لديّ منها إلاّ أربع. ولو كان يتحقق في الدنيا المستحيل وخطر على بال أحد يوماً (بعد موتي) أن يطبع كل ما كُتب، واستطاع أن يجد مجموعة أعداد «فتى العرب» لوجدها فيها".
على أنه لم يَتَمَنَّ فقط صدور هذا الكتاب، بل اختار له العنوان أيضاً؛ قال في أول الحلقة الثانية والستين من «الذكريات»:"المقالات التي كتبتها في هذه المدة كثيرة جداً، لكنْ لا تسألوني عن عددها لأني لم أجمعها كلها، فهل يأتي -يوماً- من يكون أحرصَ على جمعها مني أنا صاحبها، فيبحث في مجموعات الصحف الشامية: فتى العرب، والمقتبس، والقبس، وألف باء، والجزيرة، والناقد، فيأخذ ما كتبته فيها فيجعل منه المجموعة الكاملة «لبواكير» كتاباتي؟ ".
ثم شاء الله أن يكتب لمقدمة هذا الكتاب كلمةَ الختام! فقد وجدت بخطه كلمات كتبها على حاشية دفتر مخطوط ضم بعض المقالات القديمة، فكأنه ما كتبها إلا لأضعها في هذا الموضع! قال فيها:"هذا شيء قليل جداً من كثير جداً كتبته في تلك الأيام، ولو جمعت كل الذي كتبته لكان لي إلى الآن أكثر من ستين كتاباً. على أني إذا ربحت منه قليلاً من ثواب أو سبّبَ لي دعوة صالحة تنفعني في آخرتي فذاك، وإلا فهو سراب، وكل الذي فوق التراب تراب إذا لم ينفع صاحبَه يومَ الحساب. اللهُمَّ حُسْنَ الخاتمة والمغفرة. علي الطنطاوي: مكة المكرمة، آخر سنة 1389".
وبعد كتابة هذه الكلمات بأربعين سنة وشهور جئت أنا لأثنّي فأقول: اللهُمَّ آمين، اللهُمَّ اغفر له وارحمه، وارحم معه اللهُمَّ حفيدَه الذي جمع مادة هذا الكتاب، وصهرَه الذي ينشره اليوم على الناس.
مجاهد مأمون ديرانية
جدة: جمادى الآخرة 1430