الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لماذا أنا مسلم
؟
نشرت سنة 1930 (1)
الحمد لله على نِعَمه التي لا تُحصى ونعمة الإسلام، والصلاة والسلام على رسله وأنبيائه ومحمد خاتم الرسل وسيد الأنام، وعلى آله وصحبه وكل متمسك بما جاء به. اللهم أزح بنور هُداك ظلامَ ضلالنا، وبدّد بشمس توفيقك دُجى حيرتنا، واهدنا إلى الصراط المستقيم والطريق القويم، واجعلنا في زمن الفساد من أهل الصلاح، وفي وسط الشاكّين من ذوي اليقين، وثبِّتْنا على الهدى حتى نلقاك يا رب العالمين.
وبعد، فإني أستخير الله وأستهديه فيما انبعث له عزمي
(1) نُشرت هذه الرسالة سنة 1349 وفي صدرها عبارة: «كتاب كبير في بيان حقيقة الإسلام ومحاسنه يصدر متتالياً في هذه الرسائل، بقلم: أبي الهيثم، محمد علي الطنطاوي» . إلا أن الذي صدر منه قد اقتصر على هذه الرسالة المفرَدة. قال في أول كتاب «تعريف عام بدين الإسلام» : "ثم صحَّ العزمُ منّي على إصدار كتاب في هذا الموضوع، وجعلتُ عنوانه: «لماذا أنا مسلم؟»، وأعددت فصوله وأعلنت عنه، ونشرت مقدمته في رسائل «سيف الإسلام» التي كنت أصدرها يومئذ، ولكنْ تعذر الطبع وضاعت الأصول ولم يصدر الكتاب"(مجاهد).
من تأليف كتاب في الدين يفهمه الناشئون من أبناء المسلمين، فيفهمون حقيقة هذا الدين التي طالما جهلوها وسَخِروا منها لِمَا أنشأتهم عليه مدارس الشيطان من ازدرائه والتهاون به. وإنني دَعِيٌّ في المؤلفين دخيل على المصنِّفين، وإن دون بلوغي هذه المنزلة مراحل ومحطات، ولكنّي برزت ولمّا أنضج وتزبَّبْتُ ولمّا أتحصرم (1) خشيةَ أن يستفحل الداء ويعم البلاء فلا يبقى الحصرم ولا الزبيب!
وإن ذلك لَكائنٌ ما دامت هذه المدارس جادَّة في تكفير الأبناء، مستفيدة من غفلة الآباء، والعلماءُ الذين هم ورثة الأنبياء قد أصبح أكثرهم بعاجل حظه مَشْغوفاً، وصار يرى المعروف منكَراً والمُنكَر معروفاً، فلا يأمر ولا ينهى، حتى ظلّ عَلَم الدين مندرساً ومنار الهدى في أقطار الأرض منطمساً، وأحكام الله تعطَّل جهاراً وحدوده تُتجاوَز علناً. مدارس التبشير تَجِدّ في التبشير، ومدارس البلاد تسوق إلى الإلحاد، وأبناء المسلمين بين مَيّال إلى النصرانية وجاحد بالكليّة، وللأوقاف الإسلامية مالٌ لو صُرف في سبيله لكان لنا منه عشرات الجامعات ومئات
(1) العنب يكون أول ما يكون حصرماً حامضاً، ثم يصير عنباً حلواً، فإذا تُرك جفَّ ماؤه وذبلت قشرته وصار زبيباً. إن التدرج من مرحلة إلى أخرى سنة من سنن الوجود، وليس الإنسان استثناء منها، فهو كذلك لا بد له أن يمر بالبدايات ليصل إلى النهايات، فإذا تخطاها وقفز من فوره إلى النهاية ضربوا له هذا المثل فقالوا:«تزبَّبَ قبل أن يتحصرم» . وما أكثر المتزبِّبين ولمّا يتحَصْرَموا في عالمنا، أولئك أنصافُ العلماء وأرباعُ العلماء الذين هم شرٌّ من الجَهَلة والأمّيين! (مجاهد).
المؤسسات، وللشريعة الإسلامية أحكام لو تمسَّكْنا بها لكنا خير أمة أُخرجت للناس وأقوى شعب عاش تحت الشمس، وللنجاح طريق معبَّدة وسبيل واضحة سلكها أجدادنا فكانوا سادة الأرض، وتنكّبناها فصرنا عبيدها، تلك هي سبيل الدين.
* * *
كان العرب في جاهليتهم أهل إبل وشاة ومضارب وخيام، ليس لهم حضارة الروم ولا عظمة فارس ولا عِلْم يونان، قَطْر السماء أقصى سعادة يرونها، والكفاف من العيش أبعد غاية يؤملونها، وكانوا منشَقّين على أنفسهم متباينين في قبائلهم ومساكنهم، يثيرون الحرب الزَّبون من أجل ناقة لَبون، ويحملون شقاء الدهر لإدراك الثأر، لا ملك يقودهم ولا راية تجمعهم ولا حكومة تنظم أمورهم، حكمهم لسيوفهم وظفرهم برماحهم، آلهتهم شتى وأربابهم أصنام، يخشون كسرى ويرجون قيصر، قبعوا في باديتهم وقنعوا بجزيرتهم، لا يطمحون إلى تاج ولا يطمعون في سرير، إذا فارقوا صحراءهم وغادروا جزيرتهم بَدَوا ضعافاً وكانوا خاضعين لمن يعرض لهم من الملوك والخَواقين.
لبثوا على تلك الحال ما شاء الله أن يلبثوا، وغَبَرت دهورٌ وهم على شأنهم لم يتحولوا، ثم كان أمر وكانت عشيّة أو ضحاها، فإذا الافتراق اتحاد والضعف قوة والبداوة حضارة، وإذا هذا الشعب الجاهل خير الشعوب وأفضل العالَمين.
ماذا حدث؟ وكيف كان؟ من هو ذلك الرجل العظيم الذي هَزَّ هذه الصحراء الجَدْباء فأخرج منها أمة عالمة قوية مهذبة؟ من
هو ذلك العظيم الذي صاح في بطحاء مكة، فرنَّتْ صيحته في أنحاء الجزيرة فهَبَّت كلها تسير تحت لوائه؟
طأطئوا الرؤوس وقفوا خاشعين، فإنه محمد بن عبد الله، سيد العالم ورسول رب العالمين، صلى الله عليه. جاء محمد بالقرآن هدى من الله ونبراساً، فاهتدى العرب بهديه وساروا على سَننه، فأعزهم الله به ونصرهم، فكانوا ظاهرين. حملوه في صدورهم ووعوه في قلوبهم، ثم خرجوا من الجزيرة ليجاهدوا في سبيل الله كسرى وقيصر العظيمَين الجليلين، فمكّنهم الله منهما، فثَلّوا عرشيهما وهوت على أقدامهم تيجانهما، وخَلَفوهما في دارهما.
بالقرآن حاربوا، وبالإيمان جاهدوا، وبهما ظفروا وبهما انتصروا. انتصروا فلم يبيدوا الحضارة ولم يبدّدوا العلم، لأن دينهم دين الحضارة وشريعتهم شريعة العلم، فأقبلوا على نشرهما وترقيتهما، جاعلين الدين لهما مقياساً والشريعة ميزاناً، فلم يَمُرّ زمن حتى مكّنَ الله لهم في الأرض، فأصبحوا ملوكها وسادتها.
امتدت دولتهم ما بين مونبلْيِه في قلب فرنسا والتُّبَّت في قلب الصين، وخفقت رايتهم على العالم كله فخفقت لها القلوب وارتجَّت منها الدنيا، وكانت عاصمتهم بغداد منار الهدى وموئل العلماء ودار العمران، والكلمةُ تخرج من قصر خليفتهم فيكون لها في آفاق الأرض دويّ الرعد في آفاق السماء، فلا يبقى من عظيم إلا ويخضع لها، ولا جبار إلا ويهلع قلبه لجلالها.
كان قائدهم يجاهد في سبيل الله حتى يبلغ البحر ولا يرى أمامه من سبيل، فيخوضه بفرسه فيلامس الماء بطنها، ثم يقول:
اللهمّ لولا هذا البحر لمضيت مجاهداً في سبيلك حتى أفتح العالم أو أفارقه إلى جنانك! وكان ملكهم -على عظمه وجلاله- يقف بين يدي القاضي مع أحطّ السُّوقَة وأقل الناس، فلا يناديه إلا باسمه ولا يحكم عليه إلا بالحق، لأن الحق فوق الملك، والله فوق الجميع، والله أكبر. وكان الواعظ يدخل على أمير المؤمنين، فلا يزال يعظه ويخوّفه من الله حتى تقطر دموعه من لحيته، ثم ينصرف عنه لا يرزؤه من ماله شيئاً، لأنه دخل لله ولا يبتغي الجزاء إلا من الله.
كان إسلامٌ، فكان عزٌّ، وكان ظفر.
ثم مالوا عن السَّنَن القويم وتنكبوا الطريق المستقيم، فأمر الله الفلك فدار دورته، فإذا العزّ ذل والقوة ضعف، والأسياد خدم والملوك خَوَل! وإذ كل شيء قد ذهب، كأنه سطور خُطَّت على الماء ثم ماج الماء موجةً فمحا كل شيء.
* * *
ألا إن كل ذلك هَيِّن على أمة تشعر وتحس، أما إذا فقدت حسّها وشعورها فقد فقدت كل أمل بنجاحها. وهذا ما كان، وهذا ما تسعى له مدارسنا، وقد نجحت في سعيها فتمّ -أو كاد يتم- صرف أبنائنا جميعاً عن الدين! أضعنا المجد فصبرنا، وخسرنا العز فسكتنا، فإذا كانت الثالثة وفُجعنا بأبنائنا متنا ولم نجد من يندبنا أو يترحّم علينا.
نحن وسط الحريق ولكنّا نائمون، نحن بين الضواري من الوحوش ولكنّا غافلون، نحن على شفا الجحيم ولكنّا ضاحكون لاعبون!
نحن ندعو ونصيح ولكن قومنا صُمٌّ لا يسمعون، فلنعمل إذن وحدنا، ولنجاهد ما استطعنا. وهذا الكتاب عملي، أسأل الله أن يجعله خالصاً له نافعاً لعباده، وأن يوقظ به قومي من نومهم، وينبّههم من غفلتهم، ويعلّمهم أنْ لا صلاح لآخِر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ولا نجاح لها إلا من طريق دينها. ودينُها شامل لكل نافع جامع لكل ما فيه المصلحة، ما ترك شيئاً ولا غادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
اللهمّ أعدنا إلى دينك وأمِتْنا عليه، ووفِّقْ وأثِبْ وثَبِّتْ، وصلِّ على محمد.
* * *
رسائل التعليم في دمشق (1)
قضية التجهيز: أسبابها ونتائجها
نشرت سنة 1930 (1349)
[لا يَغُرَّنّ أسيادَنا المعلّمين ظَفَرُ باطلهم على حقنا، فإن للباطل جولة ثم يزهق، وإن للحق الظفر ولو بعد حين، وإن القوة للحق وإن حسبوا الحق للقوة.]
نوديت أمس، وأنا في شارع بغداد في طريقي إلى الدار، فتلفَّتُّ فإذا أنا بستة من إخواننا الطلاب، وإذا أحدهم يبتدرني قائلاً: كيف تزعم أن تعلم الجغرافيا حرام؟ وكيف
…
- انتظر قليلاً وأخبرني: متى زعمتُ هذا؟
- إنه في كتاب «الهيثميات» !
- وهل رأيته أنت؟
- لا، وإنما حدثني بهذا فلان، الطالب في المعهد الطبي.
- إذن فاقرأه من فضلك، لتعلم أن من روى لك ذلك كاذب أو أنه لا يفهم ما يقرأ.
سقت لك هذه القصة لتعلم مبلغ انقياد الرأي العام إلى الخطأ وتتصور الأثر الذي ستحدثه رسالتي هذه. لا أعني الأثر الذي تتركه في نفس قارئها، ولا أخافه، بل أعني ما يكون في نفس من لم يقرأها! وستسمع غداً قائلاً يقول لرفيقه: أعلمت؟ الطنطاوي أخرج رسالة يسبّ فيها معلّمي «التجهيز» ووزارة المعارف!
ويزيد هذا القائل في نبأ ذلك السبّ الموهوم ويضخّمه، ثم يحمله إلى شخص آخر، وهكذا دواليك، فيستفحل الأمر ويعظم وأكون مؤاخَذاً في نظر الناس بجريرة لم آتِ بها! وأنا أطلب سلفاً إلى كل من يبلغه أمر هذه الرسالة أو غيرها مما أكتبه (أو يكتبه غيري في هذا الموضوع أو في غيره) أن لا يتعجل في الحكم حتى يقرأ ما يتحدث عنه بنفسه ويمعن فيه، أما أن يتلقى حكمه من أفواه الناس فليس هذا من العقل في شيء.
وعجيب أن أضطر إلى هذا التنبيه، وأعجب منه أن أضطر إلى الكتابة في موضوع كهذا، موضوع طلب حق صريح ودفع ظلم واضح! وأعجب من ذا وذا أن يُسَدّ في وجه الطلاب كل سبيل إلى حقهم، ويوصَد دونهم كل باب للمراجعة، وتُصَمّ عن سماع شَكاتهم كل أذن!
وأعجب ما في الأمر (وكل ما في الأمر عجيب) أن يقضى على مستقبل ثلاثمئة طالب وتنهار آمال ثلاثمئة أسرة، ويبقى ذوو الكراسي في كراسيهم يلهون ويلعبون، وذوو الأعمال في أعمالهم يغدون ويروحون لا يبالون، كأن شيئاً لم يكن وكارثة لم تقع!
ولقد كان كل ذاك، فاسمع أقصص عليك ما كان: لبثت «التجهيز» عشرات السنين وهي خير معهد علمي في سوريا كلها (1)، حتى ابتلاها الله برجال لا يعرفون إلا الرواتب ونيلها وأولي الأمر وإطاعتهم، ولا يدرون ما هو الواجب وما هو الوجدان، فكان من بركة قدومهم عليها أن استحال تقدمها تأخراً، وازدهارها خموداً، ونجاحها فشلاً، وكانت نتيجة هذا القدوم
(1) مدرسة التجهيز هي الثانوية الرسمية يومئذ، وهي المعروفة باسم «مكتب عنبر» ، وفيها درس جدي رحمه الله وأمضى بعضاً من أخصب أيامه وأثراها وأبقاها أثراً في حياته الطويلة من بعد؛ قال:"لقد عشت في هذا المكتب ستّ سنين كانت أحفل سِني حياتي بالعواطف وأغناها بالذكريات، وكانت لنفسي كأيام البناء في تاريخ الدار، لو عاشت الدار بعدها ألف سنة لكانت كلها تَبَعاً لهذه الأيام التي يُرسَم فيها المخطَّط وتُحدَّد الغرف ويُرسى الأساس"(الذكريات 1/ 141). وانظر أخباره فيها في الحلقات 13 - 16 في الجزء الأول من «الذكريات» ، وانظر أيضاً فصل «مكتب عنبر» في'آخر كتاب «دمشق: صور من جمالها وعِبَر من نضالها» وفيه يقول: "لقد عاش مكتب عنبر من أواخر القرن الذي مضى إلى أوائل الحرب الثانية وهو يضم جمهرة المتعلمين في هذا البلد؛ كان هو الثانوية الرسمية المفردة في دمشق، فكان يمرّ عليه كل شاب في دمشق، يدخل إليه ثم يخرج منه، فيعلو في مدارج الحياة أو يغوص في أوحالها، حتى ما تكاد تجد اليوم كبيراً في دمشق ولا صاحب اسم ولا ذا منزلة إلا وقد جاز يوماً بمكتب عنبر". وقد أنشئت التجهيز في «مكتب عنبر» سنة 1305 هجرية (نحو سنة 1888 ميلادية)، وهو مبنى قديم كبير في دمشق القديمة شرق الأموي، ثم نُقلت سنة 1932 إلى المبنى الجديد قرب زقاق الصخر وسميت مدرسة «جودت الهاشمي» (مجاهد).
المبارك سقوط ثمانين في المئة من طلاب هذا المعهد الممتاز!
هل في الدنيا كلها رجل واحد وَهَبَه الله عقلاً راجحاً وفهماً مستقيماً، يقول بأن هذا السقوط ناشئ عن قصور التلاميذ؟ دعني من أولئك الذين باعوا ضمائرهم وعقولهم بخمسين ليرة سورية وأصبحوا لا يستحيون بعد قبضها أن يتكلموا بغير منطق، دعني من هؤلاء وقل لي: هل تعتقد أن كراسي المناصب ومنصّات التدريس تسدل على الباطل ثوباً أبيض، ثم تخدع الناس جميعاً عن أبصارهم فلا يرونه إلا حقاً؟ هل تؤمن بأن الوزير إذا قال شيئاً صدّقه الناس وأمّنوا على كلامه، ولو خالف ما يدلّون على صحته بألف دليل ودليل؟
تقول: «لا» ، وهذا ما أنتظره منك، فأصغِ إليّ: يقول أساطين التربية وكبار علمائها إن الصف إذا سقط أكثر من نصف طلابه كان سبب هذا السقوط عجز المعلمين لا قصور الطلاب. وتقول الوزارة ومديرية المدرسة إن الصف إذا سقط ثلاثة أرباعه أو أربعة أخماسه كان سبب السقوط كسل الطلاب، وأما المعلمون فمبرَّؤون من كل ذنب وخالون من كل عيب، حرسهم الله!
فهل علم التربية باطل وأساطينه كاذبون؟ إذا كان كذباً فكيف تدرّسه الوزارة في مدارسها؟ وإذا كان حقاً فهل يكون نقيض الحق إلا الباطل، وهل يكون عكس الصدق إلا الكذب؟
* * *
هذه واحدة، وأخرى: أليس من حق الطلاب مراجعة الإدارة وطلب الأوراق إذا اعتقدوا أنهم مظلومون؟ أليس هذا
الحق ممنوحاً لهم بنصّ القانون؟ فلماذا إذن تخالفون القانون؟ أم تقولون إنكم لا تخالفونه؟ حسناً، هذا ما نبتغيه، إذن هاتوا أوراقنا كلها لأننا نشك في صحة الفحص، ونبني هذا الشك على الأسباب الآتية:
1 -
كانت السنّة المتَّبَعة قديماً في «التجهيز» دعوة مميِّزين من خارج المدرسة يشاركون المدرّس في وضع العلامات، وكانت سنّة حسنة، ولكنها تُركت وأصبح المدرّس وبيده وحده مقدَّرات التلاميذ، يلعب بها كما شاء وشاء له هواه ورؤساؤه الذين يعبدهم من دون الله!
2 -
علمنا أن كثيرين من المعلمين هددوا الطلاب بالفحص جَهاراً وأنبؤوهم أنهم سيثأرون فيه منهم لأحقاد في نفوسهم وأغراض يبتغونها من وراء إسقاطهم، ثم اتضحت هذه الأغراض حينما دعا بعضُ المدرسين بعضَ التلاميذ إلى دروس خاصة يتلقونها عليهم بأجور باهظة حتى يضمنوا لهم النجاح.
3 -
لم تتغير اللجنة الفاحصة طول السنة، ومع هذا فقد كانت مقاييس الفحوص تختلف جداً في آخر السنة عنها في وسط السنة، حتى بلغ الاختلاف حداً جعل الطالب الذي كان مجلّياً (أولياً) في الفحوص الأولى راسباً في الأخيرة، وحتى إن صفّاً برمته (هو الصف السادس، ويتجاوز مجموع طلابه الستين) لم ينجح منه إلا طالب واحد! وكان سبب هذا الاختلاف بلاغ الوزير إلى المعلمين، ذلك البلاغ الذي يأمرهم بتشديد الفحوص ووضع العثرات في سبيل نجاح الطلاب. لماذا؟ لأن الميزانية -كما يقول معالي الوزير في بلاغه- لم تعد تساعد على تكثير عدد الطلاب!
4 -
كان المدرّسون يسألون الطلاب في الفحص عمّا لم يدرسوه وما ليس مقرراً عليهم، فتكون النتيجة سقوط أكثر الصف.
5 -
بقيت «التجهيز» أكثرَ من ثلاثين سنة والنجاح فيها مستمر، فهل كانت كل تلك الفحوص باطلة؟ طبعاً لا، إذن هذا الفحص باطل. إما هذه وإما هذه، أما أن يجتمع الأمران فلا.
وأخيراً فإن في الساقطين من طلاب «التجهيز» من يستطيع أن ينازل في الفحص معلّمي المدارس الأخرى التي نجح طلابها، فضلاً عن الطلاب أنفسهم! فكيف يكون هذا الاختلاف في مقاييس الفحوص في بلدة واحدة ومدارس من درجة واحدة؟
هذا بعض ما لنا من حجج على فساد مقاييس الفحص، وإنّ لنا لَغيرها، ولكنّا آثرنا إهمالها هذه المرة حفظاً لحرمة المدير والأساتذة، وسنظلّ مُهمليها حتى يَضِح لنا أنْ لا حرمة لهم وأنهم لا يؤثرون على الراتب الوجدانَ وعلى الإطاعة الواجبَ، وإذن ننشرها في الناس ونقول للمدير وللمدرّس: ذُقْ إنك أنت العزيز الكريم!
* * *
هذه هي أدلتنا أيها الناس، فهل فيها دليل باطل؟ وهل فيها غير الحق؟ فكيف إذن يضيع الحق في رابعة النهار، وفي مجتمع فيه -كما يقولون-عدل وإنصاف؟
كأني بك أيها القارئ تقول: ولِمَ يحملون على «التجهيز» ؟ وماذا يريدون منها؟ وأنا أجيبك: إنهم يريدون منها أن تموت. تموت؟ نعم. ولماذا؟ لأنها مدرسة إسلامية ولأن فيها روحاً عربية!
نعم، يريدون أن تموت، وليست هذه الإرادة فكرة جديدة، بل هي برنامج واسع الأطراف طويل الذيول، بُدئ بتنفيذه -فيما أحسب- منذ ذلك اليوم الذي زار فيه المفوض السامي السابق مدرسة التجهيز. هل تذكر ذلك الموقف الذي وقفَته «التجهيز» أمامه؟ هل تذكر ذلك الخطاب الذي ألقاه أحد أبنائها يومئذ؟ (1)
(1) في كتاب «هُتاف المجد» مقالة عنوانها «عام 1960» قال فيها: "وقف مكتب عنبر موقفاً لا يُنسى لما جاء المفوض السامي جوفنيل يزور المدرسة، فاتفق الطلاب سرّاً على عدم استقباله، فدخل من الباب ومعه أركان الحكومة، ودعونا إلى الصف فما تحرك أحدٌ ولذنا بالجدران، فدخل مرتجفاً، فخطب أحد الطلاب بالفرنسية خطبة زلزلت أركانه، فقطع الزيارة ورجع من فوره! وكان التحقيق، فكانت الإدارة والطلاّب جميعاً على قلب رجل واحد، ما استطاعوا أن يعرفوا من دبّر الأمر ومن كان السبب فيه". وفي كتاب «دمشق» إشارة إلى هذه القصة وتفصيل لها، قال:"ومن مناقبه (أي الأستاذ جودة الهاشمي، مدير مكتب عنبر في ذلك الوقت) أنهم فتحوا باب تحقيق واسع إثر زيارة المسيو جوفنيل، وأعدوا أسئلة يسألونها التلاميذ ليعرفوا من دبّر الأمر ومن تولى كبره، واستدعوا التلاميذ كلهم واحداً بعد واحد ليجيب عليها. وكنت فيمن دُعي، فلما صرت في غرفة المدير وأخذت القلم لأكتب اقترب مني وقال لي هامساً: ما بتعرف شيء، مو هيك؟ قلت: نعم يا سيدي. وكتبت تحت كل سؤال: «لا أدري». وتبين أن التلاميذ كلهم أجابوا بـ «لا أدري»، وكان ذلك بتوجيه الأستاذ الهاشمي. ومرّ الحادث -على جلاله وعظمه- بسلام ولم ينل أحداً من التلاميذ كبيرُ سوء، ولو كان المدير غيرَه لقُوِّضت المدرسة على رؤوس مَن فيها"(دمشق، ص195 من الطبعة الجديدة)(مجاهد).
هذا الموقف وهذا الخطاب هما سبب انتباههم للتجهيز وإرادتهم القضاء عليها، أو على هذه الروح، فأكثروا من الموظفين الأجانب فيها، ورفعوا دروس الفقه والتوحيد منها، ووضعوا فيها نوّاباً يتحكمون في التلاميذ كما يشاؤون.
ولكنهم وجدوا كل ذلك لم يُفِدْهم شيئاً، فأتوها بالكارثة الكبرى، بحادث الفحص الأخير، فنجح قصدهم وتَمّ لهم مرادهم، واستحالت قضيةُ «التجهيز» قضيةَ مستقبل الأمة. ولا يُبنى المستقبل إلا على العلم، ولا يُشاد صرحه إلا على عواتق الطلاب المبرّزين في دروسهم المخلصين لأمتهم وبلادهم، فإذا عدمت أمة مدارسها الوطنية وقذفت بأبنائها في هذه المدارس الأجنبية أضاعت أمانيّها وخسرت آمالها.
وإن هذه المدارس لم تُنشَأ للتثقيف والتعليم، بل أُنشئت لتكفّر الأبناء بدين الآباء، وتعيدهم إليهم هازئين بقوميتهم، ساخرين من تاريخهم، تاركين للغتهم، جاهلين بسِيَر عظمائهم وجَلال ماضيهم
…
فهل يرضيكم أيها الناس أن تكون هذه المدارس هي العاملة على تربية أبنائكم؟ وهل يسرّكم أن تفتحوا لها بأيديكم قلوبَهم لتستعمرَها بسمومها وخبائثها؟ وإن استعمار القلوب لأنكى من استعمار البلاد، وإن سلاح العلم المزيف لأقطع في جسم استقلالنا من سلاح الجيوش والمدمرات، فمن منكم يرضى بهذا؟ من منكم أيها الناس يرضى بما سيكون من انتقال ثلاثمئة من أبناء «التجهيز» المسلمين إلى مدارس الفرير والعازارية واللاييك؟ لقد أصبح هذا الانتقال في حكم الواقع إذا لم يُعَد لهؤلاء فحصهم، وإذا لم يُرجَع إليهم حقهم. ثلاثمئة بين
الإسلام والكفر، بين الوفاء والخيانة، فهل تتقاعسون عن الأخذ بيدهم، وتقفون مكتوفين لتنظروا إليهم وهم يَهوون في هاوية مدارس التنصير السحيقة؟
من منكم أيها الناس يستطيع أن يمر بهذه الحوادث دون أن يتقطع قلبه حزناً ويتشقق كبده أسفاً؟ الدين والتمسك به، والعروبة والوفاء لها! فإذا خسرناهما فلا مرحباً بالعلم ولا أهلاً به! العلم سلاح ذو حدّين، يضرّ وينفع ويؤذي ويفيد، فعليه لعنة الله إذا كان سبباً في خسراننا دينَنا وعروبتنا.
أيها الناس: تداركوا أبناءكم، تداركوا مستقبلكم. وأنتم أيها المعلمون: لِيُهْنِكم أنكم أرضيتم ولاة أموركم وأسخطتم ربكم وواجبكم ووجدانكم، فبورك لكم فيما صنعتم. وأنتم أيها الطلاب: لا تَنُوا في المطالبة بحقكم والسعي وراءه، فلن يضيع الحق ولن يموت مهما طال خذلانه.
ولننتظر ما سيطلع به علينا الغد، فإن غداً لناظره قريب.
* * *
رسائل التعليم في دمشق (2)
الأدب القومي
نشرت سنة 1930 (1349)
الأديب في الأمة هو لسانها الناطق بمحاسنها الذائد عن حماها، وقائدها إلى مواطن فخرها وذرى مجدها، فهو ذخر لها لا يعدله ذخر، وقصيدةٌ أو مقالة تحرّرها أنملة أديب بليغ -مؤمن بما يقول مخلص لما يدعو إليه- أنفع للأمة المظلومة وأَعْوَن على نيلها حقَّها من مئة جندي مدجَّج بالسلاح! فهل عندنا من أمثال هذا الأديب أحد؟
هل عندنا الأديب الذي عرف آلام الأمة وآمالها، وبحث فيما يسرّها وما يسيئها، ثم انتدب نفسه لتصوير آلامها والسعي لإبلاغها آمالها؟ هل عندنا الأديب الذي قتل التاريخ علماً، وغاص على خفاياه ومعضلاته فأحاط بها فهماً، ثم عمد إلى مواطن الفخر ومواقف الأسى فصاغها قصيدة عصماء، تكون كل قطرة من المداد أريقت على صفحتها بمثابة قطرة من الدم أُهرقت على مذبح الحرية والاستقلال؟ هل عندنا الأديب الذي آمن بعقيدة سامية فيها مصلحة الوطن وفائدته، ثم وقف نفسَه على الدفاع عنها وتأييدها؟ هل عندنا الأديب «الأديب» الذي ترفّع
بنفسه عن أقوال الناس، فلا يثيره مدح ولا ذم ولا يستفزّه نقد ولا تقريظ، ما دام سالكاً الصراط المستقيم ومتبعاً الطريق القويم؟
كنا نأمل أن ينشأ فينا هذا الأديب، وكان يقوّي هذا الأملَ ما نراه من الشبان المبرزين في الأدب المخلصين للوطن، ولبث ينمو ويزداد ثباتاً حتى فاجأنا صوتٌ يقول لأدبائنا: دعوا الوطن وشأنه، لا تسخّروا أدبكم له ولا تتعبوا أنفسكم من أجله، بل الهُوا والعبوا، فما الأدب إلا أُلْهِيَّة!
هذا ما قاله الأستاذ جبري لتلاميذه في الكلية، وأفهمهم أن هذه الكلية لم تنشأ لمثل ما أنشئت له كلية الحقوق وكلية الطب من تخريج رجال عاملين لمنفعة الأمة، بل لإخراج أناس يدركون جمال هذا العالم! قال الأستاذ ما نصه:"إن الثقافة الأدبية لا تكون غايتها الكسب (وزد أنت: ولا منفعة الأمة!) فلا يدرس الإنسان الأدب ليعيش به (وزد أنت: أو لتعيش به أمته) كما يدرس الطب مثلاً، وإنما يحصل الأدب لِلَذَّته، وما ينبغي للأدب أن يكون إلا أُلْهِيَّة يتلاهى بها العقل"!
فالأستاذ يدعو إلى أدب مجرَّد يُدرَك به جمال العالم، ويستمد من النفس عواطفها وميولها وآلامها وآمالها، ومن الطبيعة جمالها وجلالها وحبها وإلهامها، ولا يعنيه أخلاق ولا عادات ولا يهمّه أمة ولا وطن، فهو ليس إلا ألهيّة، شأنها شأن الملاهي الأخرى، وإن قال إنها ألهيّة شريفة!
وهو يريد من شبّاننا الأدباء أن لا يروا الحياة إلا وسيلة من وسائل اللهو واللعب، وأن يسعوا للذتهم فيها ويفتشوا على
الجمال أين يقع منها، ويمضوا في طريقهم هذا دون أن يلتفتوا لأمتهم الملقاة على جانبه تئنّ وتشتكي، ودون أن يمدوا إليها يداً بمساعدة، وإنهم على مساعدتها لقديرون. وهو يريد من شباننا أن يستغنوا بوصف أحزان نفوسهم وأشجانها عن وصف شقاء الأمة وعذابها، وأن يصبّوا شعرهم ومواهبهم على قدمَي فتاة يعشقونها (أو يتخيلون أنهم يعشقونها) وربما كانت ساقطة أو بغيّاً، عن أن يصبوا بعضها على قاعدة بنيان الوطنية العظيم!
وهو يرى أن هذه الأمة قد بلغت من كل شيء ما تريد وأصبح لها كيانها واستقلالها، ولم يبق عليها إلا أن تلهو وتلعب، فهو يدلها على هذه الألهيّة الشريفة! بل هو يريد أن يُحِلّ هذا النوع من الأدب (وما هو إلا اتباع الهوى) محل الدين ووحي السماء! فيقول في محاضرته الأولى نقلاً عن أحد العلوج:"لقد ضَعُفَ الدين في كثير من رجال العصر وبَعُدَ أفق العلم عن كثير من الناس، فالأدب وحده (هذا الأدب الذي ذكره وحده من غير دين ولا علم!) هو الذي ينزع بنا عن الأثَرة الضيقة التي تغرس فينا غرائز الحيوانية".
* * *
على رسلك أيها الأستاذ، واعلم أننا في حرب، في نضال مستمر، في جهاد على البقاء وكفاح على الحياة، وأدباؤنا قادتنا، فماذا تكون الحال في جيش تركه قادتُه تحت أزيز الرصاص ودويّ القنابل، وراحوا يفتشون عن الجمال في بقعة الحرب ليلهوا ويلعبوا ويفرّجوا عن أنفسهم غمَّ هذه المعركة وهمّها؟
هؤلاء قادتنا، فيجب أن يَدَعوا اللعب واللهو جانباً، ويشمّروا
عن ساعد الجِدّ والعمل، ويلقوا بأنفسهم في غمرات هذه الحرب الزَّبون، متخذين من أدبهم عدّة لأمتهم قوية ولواء لها مرفوعاً، ومثيراً لها وشادّاً من عزمها، لا مخدِّراً لأعصابها وصارفاً لها عن سبيل نجاحها كما فعلت أنت بأدبك! حتى إذا ما انجلى الغبار وآبوا بالنصر، وعُقد على جبينهم غار الظفر وأصبح لهم في الدنيا كيان ووجود، حُقَّ لهم أن يلعبوا ما شاؤوا ويتلهّوا ما أرادوا.
هؤلاء قادتنا، فيجب أن يتولى كل واحد منهم ثغراً من الثغور، ثم يرابط فيه حتى لا ينفذ البلاء من جهته إلا على جثته.
* * *
ألا إن أدباً تكون غايته الجمال واللذة لَهو أدب زائف لا يليق بأمة تريد أن تَجِدّ وتكافح وتريد أن تتبوأ تحت الشمس مكاناً لها سامياً، وهو -فوق هذا- أدب مضطرب مزعزع لأن الجمال واللذة شيء لا قاعدة له ولا مقياس، بل إن مقياسه الذوق، والذوق يتبدل بتبدل الأزمان والأمكنة والأفراد والأمم.
وهَبْ أن الفن يؤيد الأستاذ فيما دعا إليه ويقول به، فما هو هذا الفن؟ ولماذا ندرسه ونحترمه إذا كنا لا نريد به صلاح أمرنا وخدمة قضيتنا؟ أندرسه للهو واللعب؟ أنحترمه لأنه يخدّر أعصابنا ويقعد بنا عن العمل حتى ينزل الدمار برؤوسنا وتقع الخطوب على عواتقنا؟
ومن يقيس الأديب الذي يصور آلام الفرد بالذي يصور آلام الأمة، ومَن يستمد إلهامه من ذكرياته بمَن يستمده من ماضي الأمة الجليل، ومن يفكر في مستقبله مع حبيبته بمن يفكر في مصير
الأمة، ومن يجثو بين يدي امرأة ويصب عقله في كأس من الخمر بمن يسير على رأس أمة عظيمة في حومة حرب ضروس إلى قمة الظفر وذروة الانتصار؟
أنلهو وأيّامنا تذهبُ
…
ونلعبُ والدهر لا يلعبُ؟
* * *
لقد طغى الأدب الفرنسي على طائفة من أدبائنا وأغراهم به ما فيه من لذة ومتعة، فأقبلوا عليه وغاصوا على جواهره ولآلئه، وأصبحوا يتفاخرون بما لديهم منه وما عندهم من معرفة بمذاهبه وفنونه، فكان من ذلك ما نشكوه اليوم من ضعف العزة العربية في نفوسهم وهوان القضية الوطنية عليهم، وكان من ثمرة ذلك احتقارهم الأدب العربي وازدراؤهم إياه.
وأنا لا أنكر أن الأدب الفرنسي خليق بالدرس، ولا أنكر أنه لذيذ وممتع وأننا في حاجة إليه لنقوّي فينا ملكة الوصف ونتعلم فن القصة. أنا لا أنكر شيئاً من هذا، ولكني أنكر على أدبائنا أن يؤمنوا ببعض منه ويكفروا ببعض! إنهم يأتمّون بلامارتين ويَقْفون أثره في هذا الأدب المجرد، ناسين أن لامارتين نفسه يقول إن من يعيش في عالم الأحلام ويحيا في الخيال وغيرُه يسعى ويعمل إنما هو أضحوكة من أضاحيك الحياة خُلقت ليتسلى بها العقلاء العاملون! هذا في أمة بلغت في الميدان الاجتماعي مبلغاً جعل لها مكانتها السامية وقوتها العظيمة، فما قولك بأمة تعمل على أن يكون لها في الدنيا وجود كالوجود؟
* * *
ألا إن الأدب لا يجدي إذ لم يكن أدب الحياة، ولا يكون أدب الحياة حتى يتصل بها ويداخلها، فيعرف أمكنة ضعفها ومحالّ فسادها ويسعى لإصلاحها وتقويتها. ألا إن الأديب الذي يلهو بنفسه ويقنع بأحلامه -والأمة أحوج إلى أدبه في حياتها ونمائها- لَهو خائن بعهد الأمة كافر بدينها. ألا إن هذا الأدب المجرد، أدب الألهيّة الشريفة، ضرر علينا، وفي دعوتنا إليه عقوق وطننا، بل طعنة في صدره. فلنتركه غيرَ مأسوف عليه، ولننفض عن أنفسنا غبار الكسل ولندخل في دَور العمل.
إن الغلالة الرقيقة من الحرير لا تُلبَس يوم المعركة، فلنستبدل بها درعاً ولامة! إن درس الأدب للتلهّي سمّ زعاف تبثّه فينا أيدٌ معادية لتقعد بنا عن الجهاد وتسوقنا إلى الهلاك. ألا إن أخذنا بهذا المذهب، ونحن أبناء شعب في دَور التكوين والنضال لأجل الحياة، قتلٌ لشعبنا وقضاء على مستقبلنا.
إن الأدب المنتِج هو الأدب الذي يخدم القضية الوطنية الكبرى، ويربط ماضي الأمة بحاضرها ويعينها على النجاح في مستقبلها. فإن كان هذا، وإلا فسلام على أدب لا يُقصَد منه إلا التلهّي واللذة، وسلام على أصحابه المخلصين العاملين! (1)
* * *
(1) اقرأ مع هذه المقالة المقالةَ الأخرى: «الأستاذ شفيق جبري والوظيفة» ، وهي في الصفحة 308 في هذا الكتاب، وانظر الحاشية في آخرها (مجاهد).